الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب أدب القاضي
قال المصنف رحمه الله: (ينبغي أن يكون قوياً من غير عُنفٍ، ليناً من غير ضَعفٍ، حليماً ذا أناةٍ وفطنةٍ، بصيراً بأحكام الحكام قبله، ورعاً عفيفاً).
أما كون القاضي ينبغي أن يكون قوياً؛ فلئلا يطمع المُبطل في باطله، ولذلك قال عمر:«لأعزلن أبا مريم عن القضاء ولأستعملن رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه» .
وأما كون ذلك من غير عنف؛ فلأنه إذا كان ذا عنف ربما أيسَ الضعيف من حقه.
وأما كونه ليناً؛ فلئلا يخاف منه صاحب الحق فيترك حقه.
وأما كون ذلك من غير ضعف؛ فلأن اللين إذا كان لضعفٍ طمع المبطل في القاضي فلا يُقر بالحق.
وأما كونه حليماً؛ فلأنه ربما يغضب من كلام الخصوم فيمنعه ذلك من الحكم بينهم.
وأما كونه ذا أناة؛ فلئلا يؤتى من عجلته.
وأما كونه ذا فطنة؛ فلئلا يخدع بغيره.
وأما كونه بصيراً بأحكام الحكام قبله؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيًا حتى يكونَ فيه خمس خصال: عفيفٌ، حليمٌ، عالمٌ بما كان قبله، يستشيرُ ذوي الألباب، ولا يخافُ في اللهِ لومةَ لائم» (1).
وأما كونه ورعاً؛ فليؤمن منه مع ذلك أخذ الرشا.
وأما كونه عفيفاً؛ فلما تقدم من قول علي رضي الله عنه.
(1) لم أقف عليه من قول عليّ. وقد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من قول عمر بن عبدالعزيز 10: 110 كتاب آداب القاضي، باب مشاروة الوالي والقاضي في الأمر.
ولأنه إذا كان كذلك كان بعيداً من الطمع قريباً من النزاهة لا يطمع أحد في ميله معه بغير حق.
قال: (وإذا وُلّي في غير بلده سأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول. ويُنفذُ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله ليتلقَّوه، ويدخل البلد يوم الاثنين أو الخميس أو السبت لابساً أجملَ ثيابه. فيأتي الجامع فيصلي فيه ركعتين ويستقبل القبلة. فإذا اجتمع الناس أمرَ بعهده فقرئ عليهم، وأمر من ينادي: من له حاجةٌ فليحضر يوم كذا ثم يمضي إلى منزله. ويُنفذُ فيتسلم ديوان الحكم من الذي كان قبله. ثم يخرج اليوم الذي وعدَ بالجلوسِ فيه على أعدل أحواله غير غضبان، ولا جائع، ولا شبعان، ولا حاقن، ولا مهموم بأمرٍ يشغلُه عن الفهمِ، فيسلّم على من يمر به ثم على من في مجلسه، ويصلي تحية المسجد إن كان في مسجد).
أما كون القاضي إذا وُلّيَ في غير بلده يسأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول؛ فليعرف حالهم حتى يشاور من يصلح للمشاورة، ويقبلَ شهادةَ من هو أهل للعدالة.
وأما كونه يُنفذُ من يعلمهم يوم دخوله؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من قوله: ليتلقَّوه؛ لأن في تلقِّيه تعظيماً له، وذلك طريقٌ لقبول قوله ونفوذِ أمره.
وأما كونه يدخل البلد يوم الاثنين أو الخميس أو السبت (1).
وأما كونه يأمرُ بعهده فيقرأ على من في بلد ولايته؛ فليعلموا ولايته وصفتها وعلامَ وُلِّي.
وأما كونه يأمر من ينادي: من له حاجة فليحضر يوم كذا؛ فليعلم صاحب الحاجة يوم جلوس القاضي فيقصد حضوره؛ لقضاء حاجته.
وأما كونه يمضي بعد ذلك إلى منزله؛ فليستريح حتى إذا خرج لفصل الخصومات يكون على أعدل أحواله.
(1) بياض في د مقدار نصف سطر.
وأما كونه ينبغي له أن ينفذَ فيتسلم ديوان الحكم من الحاكم قبله؛ فلأن ذلك كان في يد الحاكم قبله بحكم الولاية، وقد صارت إليه. فوجب أن ينتقل ذلك إليه.
وأما كونه يخرج اليوم الذي وعدَ بالجلوس فيه؛ فليحصل الوفاء بما نادى مُناديه.
وأما كونه على أعدل أحواله؛ فلأن حال القاضي ينبغي أن يكون أكمل الأحوال.
وأما كونه غير غضبان، ولا جائع، ولا شبعان، ولا حاقن، ولا مهموم بأمرٍ يشغله عن الفهم؛ فلأن القاضي متى كان به خصلة واحدة من الخصلات المذكورة ربما شَغلت فكره فأدّت إلى خطئه. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يقضِي القاضي بين اثنين وهو غضبان» (1). صرَّحَ بالغضب، وقيس عليه ما في معناه من سائر ما ذكر.
وأما كونه يسلّم على من يمرُ به وعلى من في مجلسه؛ فلأن السنة سلامُ المارّ على الممرور به، وسلام الداخل على من في المجلس.
وأما كونه يصلي ركعتين تحية المسجد إن كان في مسجد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلَ أحدكم المسجد فلا يجلسْ حتى يصلي ركعتين» (2).
قال: (ويجلس على بساطٍ ويستعينُ بالله ويتوكلُ عليه، ويدعو سراً أن يعصمهُ من الزللِ ويوفقهُ للصواب، ولما يرضيه من القول والعمل. ويجعلُ مجلسه في مكان فسيحٍ؛ كالجامعِ والفضاءِ والدارِ الواسعةِ في وسط البلد إن أمكن).
أما كون القاضي يجلس على بساطٍ؛ فلأنه أبلغُ في هيبته، وأوقع في نفس الخصوم، وأعظم لحرمة الشرع.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6739) 6: 2616 كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1717) 3: 1342 كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1110) 1: 391 أبواب التطوع، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى.
وأما كونه يستعينُ بالله ويتوكلُ عليه؛ فلأن ذلك ينبغي لكل واحدٍ. فلأن ينبغي للقاضي بطريق الأولى.
وأما كونه يدعو سراً أن يعصمه من الزللِ ويوفقه للصوابِ وما يرضيهِ من القولِ والعملِ؛ فلأن ذلك مطلوب مطلقاً لا سيما في أوقات الحاجة، والقاضي من أشد الناس حاجةً إلى ما ذكر.
وأما كونه يجعلُ مجلسهُ في مكان فسيح كالجامعِ والفضاءِ والدارِ الواسعةِ؛ فليكون ذلك واسعاً على الخصوم وأصحاب المسائل.
وأما كونه يجعلهُ في وسط البلد إن أمكن ذلك؛ فلأنه أقرب للعدل وأمكنُ للخصوم.
قال: (ولا يتخذُ حاجباً ولا بواباً إلا في غير مجلس الحكم إن شاء).
أما كون القاضي لا يتخذُ حاجباً ولا بواباً في مجلس الحكم؛ فلما روي عن أبي مريم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من وليَ من أمور الناس شيئاً وحجبَ دون حاجتهمْ وفاقتهمْ احتجبَ اللهُ عنهُ دونَ حاجتهِ وفاقتهِ وفقره» (1). رواه الترمذي.
ولأن حاجبه ربما قدّم المتأخر وأخّر المتقدم؛ لغرض له، وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم.
وأما كونه يتخذُ ذلك في غير مجلس الحكم إن شاء؛ فلأنه قد تدعو حاجته إلى ذلك، ولا مضرة على الخصوم في ذلك؛ لأنه ليس بوقتٍ للحكومة.
قال: (ويعرضُ القصَصَ فيبدأ بالأول فالأول. ولا يقدمُ السابقَ في أكثر من حكومة واحدة. فإن حضروا دفعة واحدة وتشاحوا قدم أحدهم بالقرعة).
أما كون القاضي يعرض القَصص؛ فليقضي حوائج أصحابها.
وأما كونه يبدأ بالأول فالأول؛ فلأن الأول سابق والسبق له أثر في التقديم. دليله: ما لو سبق رجل إلى شيء من المباحات فإنه يكون أحق به.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2948) 3: 135 كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنه.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1332) 3: 619 كتاب الأحكام، باب ما جاء في إمام الرعية.
وأما كونه لا يقدّمُ السابق في أكثر من حكومة واحدة؛ فلأنه مسبوق بالنسبة إلى الثاني؛ لأن الذي يليه سبقه بالنسبة إلى الدعوى الثانية.
وأما كونه يقدّم أحدهم بالقرعة إذا حضروا دفعة واحدة وتشاحوا؛ فلأنهم تشاحوا في السبق، والقرعة مرجحة. دليله: ما لو أراد الرجل السفر ببعض نسائه.
ولأن القرعة مشروعة للترجيح في غير هذا الموضع فكذا في هذا.
قال: (ويعدل بين الخصمين في لَحْظِه ولَفْظه ومجلسه والدخول عليه، إلا أن يكون أحدهما كافراً فيقدم المسلم عليه في الدخول ويرفعه في الجلوس. وقيل: يسوي بينهما).
أما كون القاضي يعدل بين الخصمين المسلمين أو الكافرين فيما ذكر؛ فلما روي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ابتُليَ بالقضاءِ بين المسلمينَ فليعدل بينهم في لفظهِ وإشارتهِ ومقعده. ولا يرفعن صوتَه على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر» (1).
وفي روايةٍ: «فليسوِّ بينهم في النظر والمجلس والإشارة» .
وفي كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه: «واسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأسَ الضعيفُ من عدلكَ، ولا يطمع الشريفُ في حيفِك» (2).
ولأن الحاكم إذا ميّز أحد الخصمين عن الآخر انكسر الآخر وربما لم تقم حجته فيؤدي ذلك إلى ظلمه.
وأما كونه يقدم المسلم على الكافر في الدخول ويرفعه في الجلوس؛ فلما روى إبراهيم التميمي قال: «وَجَد عليٌ كرم الله وجهه درعهُ مع يهودي. فقال: درعي سقطت وقت كذا. فقال اليهودي: درعي في يدي وبيني وبينكَ قاضي المسلمين. فارتفعا إلى شريح. فلما رآه شريح قام من مجلسه وجلسَ في موضعه وجلس مع اليهودي بين يديه. فقال علي: إن خصمي لو كان مسلماً لجلستُ معه بين يديك
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 135 كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما
…
(2)
أخرجه البيهقي في الموضع السابق.
ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجالس
…
وذكر بقية الحديث» (1).
وأما كونه يساوي بينهما أيضاً كالمسلمين على قول؛ فلما تقدم من الحديث في المسلمين.
والأول أولى؛ لحديث علي. وهو واجب التقديم؛ لأنه خاص والخاص يجب تقديمه.
قال: (ولا يسار أحدهما، ولا يلقّنُه حجته، ولا يضيفه، ولا يعلمه كيف يدعي في أحد الوجهين، وفي الآخر يجوز له تحرير الدعوى له إذا لم يحسن تحريرها، وله أن يشفع إلى خصمه ليُنْظِره أو يضع عنه ويزن عنه).
أما كون القاضي لا يسار أحد الخصمين؛ فلأن ذلك كسر قلب صاحبه وربما أدى إلى ضعفه عن إقامة حجته.
وأما كونه لا يلقّنه حجتَه؛ فلأن عليه العدل بينهما، وليس في تلقينه عدل؛ لما فيه من الضَّررِ على صاحبه.
وأما كونه لا يضيفه؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه «أنه نزل به رجل. فقال له: ألك خصم؟ قال: نعم. قال: تحوّل عنا. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعهُ خصمه» (2).
وأما كونه لا يُعلمه كيفية الدعوى في وجه؛ فلأن فيه إعانة له على خصمه.
وأما كونه يجوز له تحرير الدعوى له إذا لم يحسن تحريرها في وجه؛ فلأن في ترك تعليمه سببًا إلى تأخير حقه وعدم الفصل بينه وبين غريمه.
وأما كونه له أن يشفع إلى خصمه ليُنظره أو يضع عنه؛ فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل غرماء معاذ فيه، ولهذا جاء في الحديث:«لو تُرك أحدٌ من أجل أحد لتُرِكَ معاذ من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1).
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 136 كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما
…
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 137 كتاب آداب القاضي، باب لا ينبغي للقاضي أن يضيف الخصم إلا وخصمه معه.
وأما كونه له أن يَزن له عنه؛ فلما روى ابن عباس رضي الله عنه «أن رجلاً رَفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غريماً له فسأل الغريمُ أن يُنظره شهراً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنظركَ وتحمَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم المالَ عنه» .
قال: (وينبغي أن يُحضِر مجلسه الفقهاء من كل مذهب إن أمكن، ويشاورهم فيما يُشكلُ عليه. فإن اتضح له حكم وإلا أخّره. ولا يقلّدُ غيره وإن كان أعلم منه).
أما كون القاضي ينبغي له أن يُحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب إن أمكن؛ فلأنه قد تحدث حادثة فيحتاج القاضي إلى سؤالهم عن مذهبهم وأدلتهم ولذلك قال: ويشاورهم فيما يُشكل عليه؛ لأنه إذا شاورهم ذكروا له ما يحضرهم في ذلك فيؤدي ذلك إلى إيضاح العلم له، وحصول الاجتهاد منه.
وأما كونه يحكم إن اتضح له؛ فلأنه متى اتضح له الحكم لم يجز تأخيره؛ لما فيه من تأخير الحق عن موضعه.
وأما كونه يؤخّره إن لم يتضح له؛ فلأن الحكم مع عدم الإيضاح لا يجوز؛ لما فيه من القضاء بجهل، الداخل في الحديث المتقدم ذكره.
وأما كونه لا يقلد غيره وإن كان أعلم منه؛ فلأن المجتهد لا يجوز له تقليد غيره. دليله: المجتهدان في القبلة.
قال: (ولا يقضي وهو غضبان، ولا حاقن، ولا في شدة الجوع والعطش والهم والوجع والنعاس والبرد المؤلم والحر المزعج. فإن خالف وحكم فوافق الحق نفذ حكمه، وقال القاضي: لا ينفذ. وقيل: إن عرض ذلك بعد فهم الحكم جاز وإلا فلا).
أما كون القاضي لا يقضي وهو غضبان؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحكمُ أحدٌ بين اثنين وهو غضبان» (1) متفق عليه.
(1) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15177) 8: 268 كتاب البيوع، باب المفلس والمحجور عليه.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 48 كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه.
(1)
سبق تخريجه ص: 524.
ولأن القاضي إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه.
وأما كونه لا يقضي وهو حاقن أو في شدة الجوع والعطش والهم والوجع والنعاس والبرد المؤلم والحر المُزعج؛ فلأن الغضب إنما مُنع من القضاء معه؛ لأن ذلك مُذهبٌ للفكر وحسن الرأي، وذلك موجود في الصور المذكورة. فوجب أن يترتب عليها ما ترتب على الغضب؛ لأن الاستواء في العلة يدل على التساوي في المعلول.
وأما كونه إذا حكم مع شيء مما ذكر ينفذ حكمه؛ فلما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شَراج الحرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال للزبير: اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر» (1).
وأما كونه لا ينفذُ على قول القاضي؛ فلأنه ارتكب النهي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وأما كونه إذا عرض الغضبُ أو ما في معناه بعد فهم الحكم معه من اشتغال الفكرة المؤدية إلى عدم الإصابة، وذلك مفقود يمتنع من الحكم فيما إذا عرض بعد فهم الحكم موجود فيما إذا عرض قبله.
قال: (ولا يحل له أن يرتشي، ولا يقبل الهدية إلا ممن كان يُهدي إليه قبل ولايته بشرط أن لا تكون له حكومة).
أما كون القاضي لا يحل له أن يرتشي؛ فلأنه جاء في تفسير قوله تعالى: {أكَّالون للسحت} [المائدة: 42] هو الرشوة.
وفي الحديث عن عبدالله بن عمر قال: «لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الراشِي والمرتَشِي» (2). رواه الترمذي. وهذا حديث حسن صحيح.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2233) 2: 832 كتاب المساقاة، باب شرب الأعلى إلى الكعبين.
وأخرجه مسلم في صحيحه (2357) 4: 1829 كتاب الفضائل، باب وجوب ابتابعه صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3580) 3: 300 كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1337) 3: 623 كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2313) 2: 775 كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة.
ورواه أبو هريرة وزاد: «في الحكْم» (1).
وأما كونه لا يحل له أن يقبل الهدية ممن لم يكن يُهدي إليه قبل ولايته؛ فلأن الهدية يُقصد بها غالباً استمالة قلب المهدي إليه؛ ليعتني في الحكم. فهي شبيهة بالرشوة.
وفي الحديث: «بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على الصدقة. فقال: هذا لكمْ وهذا أُهديَ إليّ. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمدَ الله وأثنى عليه. ثم قال: ما بالُ العامل نبعثُه فيجيءُ فيقول: هذا لكم وهذا أُهديَ إليّ. ألا! جلسَ في بيت أبيهِ وأمهِ فينظر أيهدى إليه؟ والذي نفسُ محمدٍ بيده! لا نبعثُ أحد منكم فيأخذَ شيئًا إلا جاءَ يومَ القيامة يحملهُ على رقبته
…
مختصر» (2) متفق عليه.
وأما كونه يحل له أن يقبل الهدية ممن كان يُهدي إليه قبل ولايته بشرط أن لا تكون له حكومة؛ فلأن التهمة المذكورة قبل منتفية هاهنا.
ولأن المنع من ذلك إنما كان من أجل الاستمالة، أو من أجل الحكومة وكلاهما منتفٍ.
وأما كونه لا يحل له أن يقبل الهدية ممن كان يُهدي (3) إليه إذا كان له حكومة؛ فلأن ذلك في معنى الرشوة.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (1336) 3: 622 كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (2457) 2: 917 كتاب الهبة وفضلها، باب من لم يقبل الهدية لعلة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1832) 3: 1463 كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال.
(3)
في د: لا يهدي. ولعل الصواب ما أثبتناه.
قال: (ويكره أن يتولى البيع والشراء بنفسه. ويستحب أن يوكّل في ذلك من لا يُعرف أنه وكيله).
أما كونه يكره أن يتولى البيع أو الشراء بنفسه؛ فلأنه يُعرف فيحابى. فإذا لم يكن ذلك جائزاً فلا أقل من أن يكون مكروهاً.
ولأن ذلك يشغله عن أمور المسلمين.
وأما كونه يستحب له أن يوكل من لا يُعرف أنه وكيله؛ فلأن ذلك نفي للتهمة.
ولأنه وسيلة إلى عدم المحاباة المطلوب شرعاً.
قال: (ويستحب له عيادة المرضى وشهود الجنائز مالم يشغله عن الحكم).
أما كون القاضي يستحب له عيادة المرضى وشهود الجنائز ما لم يشغله ذلك عن الحكم؛ فلأن انشغاله بالفصل بين الخصوم ومباشرة الحكم أولى من ذلك.
قال: (وله حضور الولائم. فإن كثرت تركها كلها. ولم يجب بعضهم دون بعض).
أما كون القاضي له حضور الولائم؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب إلى ذلك.
وأما كونه يترك الولائم كلها إذا كثرت فتشغله عن الحكم ولايجيب البعض دون البعض؛ فلأن الاشتغال بالكل يشغله عن الحكم الذي هو فرض عين، وإجابة البعض دون البعض يؤدي إلى كسر قلب من لم يجيبه.
قال: (ويوصى الوكلاء واللأعوان على بابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع. ويجتهد أن يكونوا شيوخاً أوكهولاً من أهل الدين والعفة والصيانة).
أما كون القاضي يوصي الوكلاء والأعوان بما ذكر؛ فلأن في ذلك رفقاً بالخصوم، وتنبيهاً للأعوان على الفعل الجميل الائق بمجالس القضاة.
وأماكونه يجتهد أن يكونوا شيوخاً أو كهولاً من أهل الدين والعفة والصيانة؛ فلأن في ذلك مصلحة للمسلمين، والحاكم مأمور بالاجتهاد فيها.
قال: (ويتخذ كاتباًمسلماً مكلفاً عدلاً حافظاً عالماً يجلسه بحيث يشاهد ما يكتبه، ويجعل القمطر مختوماً بين يديه. ويستجيب أن لا يحكم إلا بحضرة
الشهود، ولا يحكم لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته، ويحكم بينهم بعض خلفائه، وقال أبو بكر: يجوز ذلك).
أما كون القاضي يتخذ كاتباً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتبَ زيد بن ثابتَ وغيره» (1).
ولأن الحاكم يكثر نظره في أمر المسلمين ولا يمكنه أن يتولى الكتابة بنفسه.
وأما كون الكاتب مسلماً؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بِطانةً من دونكم} [آل عمران: 118].
وأما كونه مكلفاً؛ فلأن غير المكلف لا يُوثق بقوله ولا يعوّل عليه فهو كالفاسق.
وأما كونه عدلاً؛ فلأن الكتابة موضع أمانة.
وأما كونه حافظاً عالماً؛ فلأن في ذلك إعانة على أمره.
وأما كونه يجلسه بحيث يشاهد ما يكتبه؛ فلأن في ذلك إعانة على أمره، وأبعد للتهمة، وأمكن لإملائه.
وأما كونه يجعل القمطر مختوماً بين يديه؛ فلأن ذلك أحفظُ له، وأبعد من أن يغيّره مغيّر.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 126 كتاب آداب القاضي، باب اتخاذ الكتاب.
فصل [فيما يبتدئ فيه القاضي]
قال المصنف رحمه الله: (وأولُ ما ينظر في أمر المحبسين. فيبعث ثقة إلى الحبس فيكتب اسم كل محبوس ومن حبسه وفيم حبسه في رقعة منفردة، ثم ينادي في البلد أن القاضي ينظر في أمر المحبسين غداً، فمن له منهم خصم فليحضره، فإذا كان الغد وحضر القاضي أحضر رقعة فقال: هذه رقعة فلان فمن خصمه؟ فإن حضر خصمه نظر بينهما، فإن كان حُبس في تهمةٍ أو افتياتٍ على القاضي قبله خلى سبيله. وإن لم يحضر له خصم وقال: حُبستُ ظلماً ولا حق عليّ ولا خصم لي نادى بذلك ثلاثاً، فإن حضر له خصم وإلا حلفه وخلى سبيله).
أما كون القاضي أول ما ينظر في أمر المحبسين؛ فلأن الحبس عذابٌ وربما كان فيه من لا يستحق البقاء فيه.
وأما كونه يبعث ثقة إلى الحبس فيكتبُ اسم كل محبوس ومن حبسه وفيم حبسه في رقعة منفردة؛ فلأن ذلك طريق إلى معرفة الحال على ما هي عليه.
وأما كون الثقة الذي يبعثه القاضي ينادي بالنداء المذكور؛ فلأن في ذلك إعلاماً بيوم جلوس القاضي.
وأما كون القاضي إذا كان الغد وحضر أحضر رقعة وقال: هذه رقعة فلان فمن خصمه؟ ؛ فلأنه لا يمكنه الحكم إلا بذلك.
وأما كونه ينظر بين الخصمين إذا حضرا؛ فلأنه له ذلك.
وأما كونه يخلى سبيل من حبس في تهمةٍ أو افتياتٍ على القاضي قبله؛ فلأن بقائهما في الحبس ظلم.
وأما كونه ينادى ثلاثاً بحال من لم يحضر له خصم في اليوم الذي جلس فيه القاضي وقال: حُبستُ ظلماً ولا حق عليّ ولا خصمَ لي؛ فلأن ذلك طريق إلى استعلام حال المحبوس، وهل هو مستحِقٌ للحبس أم لا؟ .
وأما كونه يُحلف من لم يحضر له خصم ويخلي سبيله؛ فلأن الظاهر صدقه إذ لو كان له خصم لحضر.
قال: (ثم ينظرُ في أمر الأيتام والمجانين والوقوف. ثم في حال القاضي قبله، فإن كان ممن يصلح للقضاء لم ينقض من أحكامه إلا ما خالف نص كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعاً. وإن كان ممن لا يصلح نَقَضَ أحكامه وإن وافقت الصحيح. ويحتمل أن لا ينقض الصواب منها).
أما كون القاضي ينظر في أمر الأيتام والمجانين والوقوف بعد النظر في أمر المحبسين؛ فلأن المنظور عليه لا يمكنه المطالبة؛ لأن الصبي والمجنون لا قول لهما. وأرباب الوقوف؛ كالفقراء والمساكين لا يتعيَّنون.
وأما كونه ينظر في حال القاضي قبله فظاهر كلام المصنف رحمه الله هنا على أن القاضي المتولي يتبع قضايا القاضي قبله؛ لأنه يحتمل أن يكون مصيباً، ويحتمل أن لا يكون مصيباً.
وقال في المغني: ليس عليه ذلك؛ لأن الظاهر صحة قضايا من قبله وصوابُها. وأنه لا يُولى إلا من هو أهلُ الولاية.
وهذا صحيح لكن في غير قُضاة هذا الزمان. فعلى هذا يترجح وجوب تتبّعها.
وأما كونه لا ينقض من أحكام من يصلح للقضاء ما لم يخالف ما ذكره؛ فلأنه يؤدي إلى أنه لا يثبت حكم أصلاً؛ لأن الحاكم الثالث يخالف الثاني، والرابع يخالف الثالث وهلم جرَّا. ولذلك أن عمر رضي الله عنه خالف أبا بكر في مسائل، وخالف علي عمر في مسائل، ولم ينقض واحد منهما على الآخر.
وفي الحديث: «أن أهل نجران جاؤوا إلى علي. فقالوا: يا أمير المؤمنين! كتابكَ بيدكَ وشفاعتُكَ بلسانك. فقال: ويحكم! إن عمرَ كان رشيدَ الأمر. ولا أردُ قضاء قضى به عمر» (1). رواه سعيد.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 120 كتاب آداب القاضي، باب من اجتهد من الحكام ثم تغير اجتهاده
…
وقضى في الجد بقضايا مختلفة الحال (2).
وأما كونه ينقض ما خالف نص كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعاً؛ فلأنه حكم لم يصادف شرطه. فوجب نقضه. بيان مخالفة الشرط: أن الشرط الاجتهاد وعدم مخالفة ما ذكر.
ولأنه إذا وجد ذلك فقد فرّط. فوجب نقض حكمه؛ كما لو حكم بشهادة كافرين.
إذا ثبت هذا فظاهر إطلاق المصنف رحمه الله هنا أن القاضي المتولي ينقض حكم القاضي قبله سواء كان من حقوق الله أو حقوق الآدميين. وفي المغني: إن كان الحق لله؛ كالعتاق والطلاق نقضه؛ لأن له النظر في حقوق الله سبحانه، وإن كان يتعلق بحقوق الآدميين لم ينقضه إلا بمطالبة صاحبه؛ لأن الحاكم لا يستوفي حقاً لمن لا ولاية له عليه من غير مطالبة.
وأما كونه ينقض أحكام من لا يصلح للقضاء إذا لم توافق الصحيح؛ فلأن حكمه غير صحيح، وقضاؤه كلا فضاء؛ لعدم شرط القضاء فيه.
ولأن المانع من نقض حكم الصالح للقضاء نقض الاجتهاد بالاجتهاد وهو مفقود هاهنا؛ لأن الأول ليس باجتهاد بحال.
وأما كونه ينقض أحكامه إذا وافقت الصحيح على المذهب؛ فلما ذكر.
وأما كونه يحتمل أن لا ينقض أحكامه الصواب منها؛ فلعدم الفائدة في ذلك. وهذا الاحتمال أصح؛ لما ذكر.
ولأن الحق وصل إلى مستحقه. فلم يجز نقض الحكم به؛ كحكم الصالح للقضاء.
(1) أخرجه الدارمي في سننه (648) 1: 112 في المقدمة، باب الرجل يفتي بالشيء ثم غيّره.
(2)
ر. سنن سعيد بن منصور 1: 47.
قال: (وإن استعداه أحد على خصم له أحضره. وعنه: لا يحضره حتى يعلم أن لما ادعاه أصلاً).
أما كون القاضي يحضر من استعدي عليه قبل علمه بمعاملة جرت لعين المستعدي والمستعدى عليه على المذهب؛ فلأن في تركه تضييعاً للحقوق وإقراراً للظلم؛ لأنه قد يكون للمستعدي على المستعدى عليه حق من غصبٍ أو وديعةٍ أو عاريةٍ أو غير ذلك، ولا يُعلم بينهما معاملة. فإذا لم يُعد عليه سقط حقه.
وأما كونه لا يحضره حتى يعلم أن لما ادعاه أصلاً على روايةٍ؛ فلأنه مروي عن علي رضي الله عنه.
ولأن في إعداء كل مستعدٍ على مستعدى عليه تبذل أهل المروءات، وإهانة ذوي الهيئات. وربما استعدى شخص على من لا حق له عليه؛ ليفتدي المدعى عليه نفسه من حضوره وشر خصمه.
والأول أصح؛ لأن ضرر فوات الحق أعظم من حضور مجلس الحكم.
قال: (وإن استعداه على القاضي قبله سأله عما يدّعيه فإن قال: لي عليه دَين من معاملةٍ أو رشوةٍ: راسله. فإن اعترفَ بذلك أمره بالخروج منه. وإن أنكر وقال: إنما يريد تبذيلي، فإن عرف أن لما ادعاه أصلاً أحضره وإلا فهل يحضره؟ على روايتين).
أما كون القاضي المتولي يسأل المستعدي على القاضي قبله عما يدّعيه؛ فلأن في بعض الأحوال يلزمه إحضار القاضي قبله وفي بعضها لا يلزمه. فلم يكن بد من السؤال؛ ليتميز الحال من الحال.
وأما كونه يراسله إذا ادعى المستعدي ديناً أو رشوة؛ فلأن الطريق إلى استخلاص حق المستعدي: إما المراسلة أو الإحضار، والإحضار فيه امتهان القاضي وتبذيله، وتطرق أعدائه مع كثرتهم إلى قصد ذلك. وإذا تعذر الإحضار تعين مراسلته؛ لتعينها إلى استخلاص الحق.
ولم يذكر المصنف رحمه الله في المغني المراسلة إليه بل قال: إن ذكر -يعني المستعدي- أنه يدعي عليه حقاً من دَين أو غصب أعداه عليه كغير القاضي.
والأول أظهر من حيث الدلائل؛ لأنه لا بد من مزية القاضي على غيره.
وأما كونه يأمره بالخروج مما ادعى عليه إذا اعترف به؛ فلأن الحق توجه عليه باعترافه.
وأما كونه يحضره إذا أنكر وعَرفَ المتولي أن لما ادعاه المستعدي أصلاً؛ فلأن ذلك تعين طريقاً إلى استخلاص حق المستعدي.
وأما كونه إذا لم يعرف لما ادعاه على القاضي قبله أصلاً هل يحضره؟ على روايتين كغير القاضي؛ فلما تقدم من ذكر ذلك وتعليله فيه.
قال: (وإن قال: حكم عليّ بشهادة فاسقين فأنكر فالقول قوله بغير يمين. وإن قال الحاكم المعزول: كنتُ حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحقٍ قبل قوله. ويحتمل أن لا يقبل).
أما كون القول قول القاضي إذا ادُعي عليه أنه حكم بشهادة فاسقين فأنكر فإنه لو لم يقبل قوله في ذلك؛ لتطرق المدعى عليهم إلى إبطال ما عليهم من الحقوق بالقول المذكور، وفي ذلك ضرر عظيم.
وأما كون ذلك بغير يمين؛ فلأن اليمين للتهمة، والقاضي ليس من أهلها.
وأما كون القول قوله إذا قال بعد عزله: كنتُ حكمتُ لفلان على فلان بحقٍّ على المذهب؛ فلأن عزله لا يمنع من قبول قوله. بدليل ما لو كتب كتاباً إلى قاضٍ آخر ثم عزل فإنه يلزم الواصل إليه قبوله بعد عزل صاحبه.
ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم. فوجب قبول قوله؛ كحال الولاية.
وأما كونه يحتمل أن لا يقبل؛ فلأنه في حال ولايته لا يحكم بعلمه فبعد عزله بطريق الأولى.
والأول أولى؛ لما تقدم. وإخباره عن حكمه ليس حكماً بعلمه. بدليل ما لو قال شخص: حكمتَ أن لي حداً على فلان. فذَكَر الحاكم. فإن له أن يحكم به.
قال: (وإن ادُعي على امرأة غير برزة لم يحضرها وأمرها بالتوكيل. وإن وجبت عليها اليمين أرسل إليها من يحلفها).
أما كون القاضي إذا ادعي على امرأةٍ غير بَرْزَة. وهي: التي لا تبرز لقضاء حوائجها: لا يحضرها؛ فلأن في إحضارها مشقة عليها، وحرجاً وضرراً شديداً.
وقد نبَّهَ الشرع على ذلك حيث قال: «واغدُ يا أنيس إلى امرأةِ هذا فإن اعترفتْ فارجمها» (1).
وأما كونه يأمرها بالتوكيل؛ فلأجل فصل الخصومة بينها وبين خصمها.
وأما كونه يرسل إليها من يُحلّفها إذا وجب عليها اليمين؛ فلأن إحضارها غير مشروع، واليمين لا بد منها فتعين ذلك طريقاً لذلك.
قال: (وإن ادعى على غائبٍ عن البلد في موضعٍ لا حاكم فيه كتب إلى ثقاتٍ من أهل ذلك الموضع ليتوسطوا بينهما. فإن لم يقبلوا قيل للخصم: حقق ما تدعيه. ثم يحضره وإن بعُدت المسافة).
أما كون القاضي يكتب لمن ادعى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه إلى ثقاتٍ من أهل ذلك الموضع ليتوسطوا بينهما؛ فلأن ذلك طريق إلى قطع الخصومة مع عدم المشقة الحاصلة بالإحضار.
وأما كونه إذا لم يقبلوا يقول للخصم المدعي: حقق ما تدعيه ثم يحضر خصمه قربت المسافة أو بعُدت؛ فلأنه لا بد من فصل الخصومة. فإذا لم يمكن إلا بذلك تعين فعله وإن تضمّن مشقة؛ كما لو امتنع الخصم الحاضر في البلد من الخصومة فإنه يؤدب ويعزر.
فإن قيل: يمكن أن يرسل من يقضي بينهما.
قيل: المشقة الحاصلة بالإرسال أكثر من المشقة الحاصلة بإحضار الخصم. وعلى تقدير التساوي فالخصم أولى بحمل المشقة؛ لأنه المستعدى عليه.
وفي تقييد الموضع بأنه لا حاكم فيه إشعار بأنه إذا كان فيه حاكم لا يفعل ذلك. وهو صحيح؛ لأن فصل الخصومة في بلد الخصم يمكنه. فلم يجز تكلف المشقة مع إمكان الفصل بدونها.
فإن قيل: قد يكون شهوده ببلد القاضي إليه دون بلد الخصم.
قيل: يثبت حقه في موضع شهوده ثم يكتب القاضي كتاباً إلى بلد الخصم.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2575) 2: 971 كتاب الشروط، باب الشروط التي لا تحل في الحدود.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1697) 3: 1324 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى.