الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الديات
الديات جمع دية. والهاء في دية عوض من الواو. تقول: وَدَيْتُ القتيل أدِيهِ دية. ونحوه العِدَة في قولك: وَعَدَهُ يَعِدُهُ عِدَةً.
والأصل في وجوب الدية في الجملة الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {ومن قَتل مؤمنًا خطئا فتحريرُ رقبةٍ مؤمنة وديةٌ مسلمة إلى أهله إلا أن يصّدقوا} [النساء: 92].
وأما السنة؛ فقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم: «وأن في النفسِ المؤمنة مائة من الإبل» (1). وفي الباب غير ذلك يأتي ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وأما الإجماع فأجمع أهل الإسلام على وجوب الدية في الجملة.
قال المصنف رحمه الله: (كل من أتلف إنساناً أو جزءاً منه بمباشرة أو سبب فعليه ديته. فإن كان عمداً محضاً فهي في مال الجاني حالّة، وإن كان شبه عمد أو خطأ أو ما أجري مجراه فعلى عاقلته).
أما كون كل من أتلف إنساناً بمباشرة عليه ديته؛ فلما تقدم من الآية والخبر.
وأما كون من أتلف جزءاً منه بمباشرة عليه ديته؛ فلأنه أتلفه بمباشرة فوجبت فيه ديته؛ كما تجب دية النفس إذا تلفت بالمباشرة.
وأما كون من أتلف ذلك بسبب عليه ديته؛ فلأن السبب مؤد إلى تلفه. أشبه المباشرة.
ولأن السبب لو لم يترتب عليه وجوب الدية لاتخذه الناس وسيلة إلى الإتلاف، وفيه ضرر عظيم. فينتفي بقوله عليه السلام:«لا ضَرَرَ ولا إضرَار» (2).
وأما كون الدية فيما ذكر إذا كان الإتلاف عمداً محضاً في مال الجاني؛ فلأن القياس يقتضي وجوب الضمان على المتلِف؛ لأن التلف أثر فعله. فيجب أن
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 100 كتاب الديات، باب دية أهل الذمة.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه (85) 4: 228 كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك.
يختص به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يجني جان إلا على نفسه» (1). تُرك العمل به في غير العمد المحض لأمر يختص به يأتي بيانه إن شاء الله تعالى فيبقى في العمد المحض على مقتضاه.
وأما كون الدية حالّة؛ فلأنها موجب عمد محض. فوجب كونها حالّة؛ كالقصاص.
وأما كون الدية فيما ذكر إذا كان الإتلاف شبه عمد على العاقلة؛ فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلتِ امرأتان من هُذيل فرمتْ إحداهُما الأخرى بحجرٍ فقتلتْها وما في بطنِها. فقضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بديةِ المرأةِ على عاقِلَتِها» (2). متفق عليه.
ولأن شبه العمد نوعُ قتل لا يوجب قصاصاً. فأوجب الدية على العاقلة؛ كالخطأ.
وأما كون الدية فيما ذكر إذا كان خطأً على العاقلة؛ فلأنه قد ثبت في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة» (3).
قال ابن المنذر: أجمع على هذا -يعني على تحمل العاقلة دية الخطأ- كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
ولأن في إيجاب دية شبه العمد عليها تنبيهاً على إيجاب دية الخطأ عليها (4).
فإن قيل: ما المعنى في تحمل العاقلة ذلك؟
قيل: لأن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمي كبيرة فإيجابها على الجاني في ماله تجحف به. فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفاً عنه.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (2159) 4: 461 كتاب الفتن، باب ما جاء في دماؤكم وأموالكم عليكم حرام.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3055) 2: 1015 كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر.
(2)
سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(3)
تقدم حديث أبي هريرة: «وقضى بدية المرأةِ على عاقِلتها» ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
(4)
في أ: عليهما.
وأما كونها فيما أجري مجرى الخطأ على العاقلة؛ فلأن ما أجري مجرى الشيء يعطى حكمه والخطأ على العاقلة. فكذلك (1) ما أُجري مجراه.
قال: (ولو ألقى على إنسان أفعى، أو ألقاه عليها فقتلته، أو طلب إنساناً بسيف مجرد فهرب منه فوقع في شيء تلف به. بصيراً كان أو ضريراً، أو حفر بئراً في فنائه، أو وضع حجراً، أو صب ماء في طريق، أو بالت فيها دابته ويده عليها، أو رمى قشر بطيخ عليها فتلف به إنسان (2): وجبت عليه ديته).
أما كون من ألقى على إنسان أفعى أو ألقاه عليها فقتلته تجب عليه ديته؛ فلأنه عمد إلى قتله بما لا يقتل غالباً. فوجب عليه ديته؛ كما لو غرزه بإبرة فمات.
وأما كون من طلبه بسيف مجرد -أي مشهور- فهرب منه فوقع في شيء فتلف تجب عليه ديته؛ فلأنه هلك بسبب عدوانه. فوجب أن يضمنه؛ كما لو حفر له بئراً أو نصب له سكيناً أو سم طعامه ووضعه في منزله.
وأما كون ذلك كذلك بصيراً كان المتلف أو ضريراً؛ فلاستوائهما في السبب المهلك.
وأما كون من حفر بئراً في فنائه فتلفَ به إنسان تجب عليه ديته؛ فلأن ذلك مروي عن علي. وقضى به شريح.
ولأنه تلف بعدوانه. أشبه ما لو تلف بجنايته.
وقول المصنف رحمه الله: [في فنائه](3)؛ مشعر بأن الضمان لا يجب إذا حفرها في ملكه. وهو صحيح لأنه إذا حفرها في ملكه لا يعد متعدياً.
وأما كون من فعل ذلك في الصور الباقية فتلف به إنسان تجب عليه ديته؛ فلأن التلف بسبب وضع الحجر وصب الماء وبول الدابة التي عليها يده ورمي القشر وكل ذلك منسوب إلى فاعله. فوجب الدية عليه؛ كالمتسبب إلى القتل بغير ذلك.
(1) في أ: وكذلك.
(2)
في أ: فيها فتلف به إنساناً.
(3)
ساقط من د.
قال: (وإن حفر بئراً ووضع آخر حجراً فعثر به إنسان فوقع في البئر فالضمان على واضع الحجر).
أما كون الضمان على واضع الحجر؛ فلأن الحجر كالدافع، وإذا اجتمع الدافع والحافر فالضمان على الدافع وحده.
وأما كون الحافر لا ضمان عليه؛ فلأن المباشر قطع تسببه.
قال: (وإن غصب صغيراً فنهشته حية أو أصابته (1) صاعقة ففيه الدية. وإن مات بمرض فعلى وجهين).
أما كون الدية فيما إذا غصب صغيراً فنهشته حية أو أصابته صاعقة على غاصبه؛ فلأن فعل (2) غاصبه جاز أن يكون له أثر في تلفه بذلك. فكان ضمانه على غاصبه؛ كما لو غصب مالاً فتلف بسبب غصبه.
وأما كونها فيما إذا غصبه (3) فمات بمرض على غاصبه على وجه؛ فلأنه تلف في يده. أشبه ما لو أصابته صاعقة عنده.
وأما كونها ليست في ذلك عليه على وجه؛ فلأنه لا أثر للغاصب في ذلك. أشبه ما لو كان كبيراً.
قال: (وإن اصطدم نفسان (4) فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر. وإن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر. وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفاً فعلى السائر ضمان الواقف ودابته؛ إلا أن يكون في طريق ضيّق قاعداً أو واقفاً فلا ضمان فيه وعليه ضمان ما تلف به).
أما كون عاقلة كل واحد من النفسين المتصادمين عليها (5) دية الآخر إذا ماتا أي بذلك؛ فلأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه، وذلك قتل خطأ.
(1) في أ: وأصابته.
(2)
ساقط من د.
(3)
في أ: غصب.
(4)
في أ: اثنان.
(5)
في أ: عليهما.
فكانت دية كل واحد منهما على عاقلة الآخر؛ لما تقدم من أن العاقلة تحمل قتل الخطأ.
وأما كون كل واحد من الراكبين السائرين عليه قيمة دابة الآخر إذا ماتتا أي بذلك؛ فلأن تلف دابة كل واحد منهما حصل بصدمة الآخر. فوجب ضمان الدابة على متلفها؛ كما لو أتلفها بغير المصادمة.
وأما كون السائر على عاقلته ضمان الواقف وعليه ضمان دابته إذا كان أحدهما يسير والآخر واقفاً ولم يكن في طريق ضيق؛ فلأنهما تلفا بصدمة السائر من غير تعد في الوقوف، وضمان النفس على العاقلة لأنه قتل خطأ وضمان المال على المتلف لأن العاقلة لا تحمل ذلك.
فإن قيل: كلام المصنف يقتضي أن يكون ضمان الكل على السائر فإنه قال: فعلى (1) السائر ضمان الواقف ودابته.
قيل: ليس الحكم كذلك صرح به صاحب النهاية وغيره.
وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن دم السائر هدر لأنه لم يوجبه على أحد بل جعل ضمان الواقف عليه لتعد به. وهو صحيح صرح به صاحب النهاية فيها وغيره.
وأما كون القاعد أو الواقف في الطريق الضيق لا ضمان فيه؛ فلأن السائر لم يتعد عليه بل القاعد أو الواقف (2) هو المتعدي عليه، ولذلك يجب عليه ضمان ما أتلف من السائر وماله. لكن يكون ضمان النفس على عاقلة القاعد أو الواقف، وضمان المال على المتلف لما تقدم.
ولا بد أن يلحظ أن الطريق الضيق غير مملوك للواقف أو القاعد لأنه إذا كان مملوكاً له (3) لم يكن متعدياً بوقوفه بل السائر هو المتعدي لسلوكه ملك غيره بغير إذنه.
(1) في أ: فإن قال وعلى.
(2)
في أ: القاعد.
(3)
ساقط من أ.
قال: (وإن أركب (1) صبيين لا ولاية له عليهما فاصطدما فماتا فعلى عاقلته ديتهما).
أما كون دية الصبيين المذكورين على عاقلة من أركبهما؛ فلأن من أركبهما تعدى بإركابه من لا ولاية له عليه وتصادمهما وركوبهما وهما مما لا يعتبر فعلهما. فوجب إضافة القتل إلى من أركبهما وهو خطأ فلزم كون ديتهما على عاقلة من أركبهما؛ كما لو قتل خطأ.
وأما كون ما ذكر يشترط فيه أن يكون الراكبان صبيين، وأن يكون من (2) أركبهما لا ولاية له عليهما؛ فلأنه لو أركب صبيين له عليهما ولاية لم يضمنهما هو ولا عاقلته لأنه إركاب مأذون فيه. فلم يترتب عليه ما يترتب على المتعدي.
قال: (وإن رمى ثلاثة بمنجنيق فقتل الحجر إنساناً فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث ديته. وإن قتل أحدهم ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يُلغى فعل نفسه وعلى عاقلة صاحبيه ثلثا الدية.
والثاني: عليهما كمال الدية.
والثالث: على عاقلته ثلث الدية لورثته وثلثاها على عاقلة الآخرين. وإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالّة في أموالهم).
أما كون ثلث دية الإنسان المقتول بالحجر على عاقلة كل واحد ممن ذكر؛ فلأن قتله حصل بفعل الثلاثة. فوجب تثليث الدية على العاقلة.
وأما كون أحدهم إذا قتله الحجر يلغي فعل نفسه في وجهٍ فقياس على المتصادمين وقد تقدم ذكره.
فعلى هذا يجب كمال الدية على عاقلة صاحبيه. صرح بذلك المصنف رحمه الله في المغني ولم يرتب المصنف رحمه الله على إلغاء فعل نفسه كمال الدية بل رتب عليه وجوب ثلثي الدية على عاقلة صاحبيه. [ولا أعلم له وجهاً بل وجه إيجاب
(1) في أ: ركب.
(2)
في د: ممن.
ثلثي الدية على عاقلة صاحبيه] (1) أن يجعل ما قابل فعل المقتول ساقطاً لا يضمنه أحد لأنه شارك في إتلاف نفسه. فلم يضمن ما قابل فعله؛ كما لو شارك في قتل بهيمته أو عبده. وهذا صرح به المصنف رحمه الله في المغني ونسبه إلى القاضي.
وأما كون كمال الدية على عاقلة صاحبيه في وجهٍ؛ فلما مر.
وأما كون ثلث دية المقتول على عاقلته لورثته، وثلثيها على عاقلة الآخرين في وجهٍ: أما الأول فمبني على أن من قتل نفسه خطأ تجب الدية على عاقلته لورثته. وأما الثاني؛ فلأن العاقلة إذا تحملت ثلث الدية بقي ثلثاها على عاقلة الآخرين.
فإن قيل: ما الصحيح من الوجوه الثلاثة؟
قيل: قال أبو الخطاب: قياس المذهب الأول.
وقال المصنف رحمه الله في المغني: ما ذكر القاضي أحسن وأصح وقد روي عن علي نحوه في مسألة القارصة والقامصة والواقصة.
قال الشعبي: «وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فارين فركبت إحداهن على عنق الأخرى. وقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت عنقها فماتت. فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقضى بالدية أثلاثًا على عواقلهن» (2). وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة؛ لأنها أعانت على قتل نفسها وهذه شبيهة بمسألتنا.
ولأن المقتول مشارك في القتل. فلم تكمل الدية على شريكيه؛ كما لو قتلوا واحداً من غيرهم. هذا كله نص المصنف رحمه الله في المغني.
وأما كون الدية حالّة في أموالهم إذا كانوا أكثر من ثلاثة: أما كونها حالّة؛ فلأنها متى وجبت على القاتل كانت حالّة لما تقدم في باب العفو عن القصاص (3).
وأما كونها في أموالهم؛ فلأن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث لما يأتي (4) إن شاء الله تعالى (5).
(1) ساقط من أ.
(2)
ر. الشرح الكبير 494: 9.
(3)
ص: 97.
(4)
ص: 187.
(5)
زيادة من أ.
واعلم أن الدية على الرماة صحيح على الوجه الثاني والثالث: أما على الوجه الأول الذي قررته قبل فلا؛ لأن الرمي لو كان من أربعة وجعل فعل المقتول هدراً بقيت الدية على الثلاثة الباقية وكان على عاقلة كل واحد ثلث الدية فلا يلزم أن تحمل العاقلة ما دون الثلث.
قال: (وإن جنى إنسان على نفسه أو طرفه خطأ فلا دية له. وعنه: على عاقلته ديته لورثته ودية طرفه لنفسه).
أما كون جناية الإنسان على نفسه أو طرفه خطأ لا دية له بها على المذهب؛ فـ «لأن عامر بن الأكوع بارزَ مرحباً يوم خيبر فرجعَ سيفه على نفسه فمات» (1). ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية ولا غيرها، ولو وجب لبينه صلى الله عليه وسلم.
ولأنه جنى على نفسه. فلم يضمنه لغيره؛ كالعمد.
ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني وتخفيفاً عنه وليس على الجاني هنا شيء يحتاج فيه إلى الإعانة والمواساة. فلا وجه للإيجاب.
وأما كون دية جنايته على عاقلته على روايةٍ؛ فلما روي «أن رجلاً ساقَ حماراً ضربه بعصاً كانت معه. فطارت منها شظية فأصابت عينه ففقأتها. فجعل عمر رضي الله عنه ديته على عاقلته. وقال: هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد» . ولم يعرف له مخالف في عصره.
ولأنها جناية خطأ. فكان عقلها على العاقلة؛ كما لو قتل غيره.
فعلى هذه الرواية إن كانت الجناية قتلاً نظرت فإن كانت العاقلة غير الورثة وجبت دية النفس عليهم لورثة الجاني، وإن كانوا هم الورثة فلا شيء عليهم لأنه لا يجب على الإنسان شيء لنفسه وإن كانت الجناية على غير النفس وجبت الدية على العاقلة للجاني.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1802) 3: 1429 كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر. ولفظه أن سلمة بن الأكوع قال: «لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتدّ عليه سيفه فقتله
…
».
فإن قيل: ما الصحيح من ذلك؟
قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الرواية الأولى أصح. وصرح به في المغني لأن عدم إيجاب النبي صلى الله عليه وسلم على عاقلة ابن الأكوع شيئاً يدل عليه لا سيما وقد اعتضد بأن العلة المقتضية للإيجاب على العاقلة منتفية.
وقال القاضي: أظهرهما -يعني أظهر الروايتين- الوجوب على العاقلة لقضاء عمر لا سيما ولم يعرف له مخالف (1) فيكون إجماعاً.
قال: (وإن نزل رجل بئراً فخر عليه آخر فمات الأول من سقطته فعلى عاقلته ديته. وإن سقط ثالث فمات الثاني به فعلى عاقلته ديته. وإن مات الأول من سقطتهما فديته على عاقلتهما).
أما كون دية الأول على عاقلة الثاني؛ فلأن الأول مات من سقوط الثاني فيكون هو قاتله. فوجبت الدية على عاقلته؛ كما لو باشره بالقتل خطأ.
وأما كون دية الثاني على عاقلة الثالث؛ فلأن فعل الثالث بالثاني كفعل الثاني بالأول، وقد وجبت دية الأول على عاقلة الثاني فكذا تجب دية الثاني على عاقلة الثالث.
وأما كون دية الأول على عاقلتي الثاني والثالث إذا مات من سقطتهما؛ فلأن موت الأول حصل بفعلهما القاتل خطأ. فوجب توزيع ديته على عاقلتهما.
قال: (فإن كان الأول جذب الثاني وجذب الثاني الثالث فلا شيء على الثالث وديته على الثاني في أحد الوجهين، وفي الثاني على الأول والثاني نصفين ودية الثاني على الأول).
أما كون الثالث لا شيء عليه؛ فلأن وقوعه حصل بجذب الثاني فلا أثر له في قتل أحد.
وأما كون ديته على الثاني في وجهٍ؛ فلأنه جذبه وباشره، والمباشرة تقطع حكم السبب؛ كالحافر مع الدافع.
(1) في أ: مخالفاً.
وأما كونها على الأول والثاني نصفين في وجهٍ؛ فلأن الأول جذب الثاني الجاذب للثالث فصار مشاركاً للثاني في إتلاف الثالث.
وأما كون دية الثاني على الأول؛ فلأنه جذبه من غير مشارك له في ذلك.
فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الدية على من ذكر لا على عاقلتهم، وصرح في المغني أن دية الثالث على عاقلة الثاني أو على عاقلته وعاقلة الأول نصفين وأن دية الثاني على عاقلة الأول.
قيل: قال صاحب النهاية فيها بعد ذكره المسألة: هذا عمد خطأ. وهل يجب في مال الجاني أو على العاقلة؟ فيه خلاف بين الأصحاب. فلعل المصنف رحمه الله ذكر أحد الوجهين هنا والآخر في المغني.
قال: (وإن كان الأول هلك من وقعة الثالث احتمل أن يكون ضمانه على الثاني، واحتمل أن يكون نصفها على الثاني وفي نصفها الآخر وجهان).
أما كون ضمان الأول المذكور يحتمل أن يكون على الثاني؛ فلأن هلاكه حصل بجذبه وجذب الثاني وفعله ملغى كالمتصادمين فتعين إضافة التلف إلى الثاني.
وأما كون نصف الدية يحتمل أن تكون على الثاني؛ فلأن الهلاك حصل بفعله وفعل غيره.
وأما كون نصف الدية فيه وجهان؛ فلأنه متسبب عن (1) جنايته على نفسه وقد تقدم في جناية الإنسان على نفسه الروايتان المتقدم ذكرهما في موضعه.
قال: (وإن خر رجل في زبية أسد فجذب آخر وجذب الثاني ثالثاً وجذب الثالث رابعاً فقتلهم الأسد: فالقياس أن دم الأول هدر وعلى عاقلته دية الثاني وعلى عاقلة الثاني دية الثالث وعلى عاقلة الثالث دية الرابع. وفيه وجه آخر: أن دية الثالث على عاقلة الأول والثاني نصفين ودية الرابع على عاقلة الثلاثة أثلاثاً. وروي عن علي أنه قضى للأول بربع الدية وللثاني بثلثها وللثالث بنصفها
(1) في أ: على.
وللرابع بكمالها على من حضرهم ثم رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز قضاءه فذهب الإمام أحمد إليه توقيفاً).
أما كون القياس أن دم الأول هدر وأن دية الثاني على عاقلة الأول ودية الثالث على عاقلة الثاني ودية الرابع على عاقلة الثالث؛ فلأن الأول تلف بسبب جذبه غيره. أشبه ما لو قتل نفسه، والثالث تلف بسبب جذب الثاني فتكون ديته على عاقلته، والرابع تلف بسبب جذب الثالث فتكون ديته على عاقلته.
وأما كون دية الثالث على عاقلة الثاني والأول نصفين على الوجه الآخر؛ فلأن جذبهما سبب لهلاكه. فوجب كون ديته على عاقلتهما نصفين؛ كما لو قتلاه خطأ.
وأما كون دية الرابع على عاقلة الثلاثة أثلاثاً؛ فلأن جذب الثلاثة سبب لتلافه، وذلك يقتضي كون الدية (1) بين العاقلة أثلاثاً.
وأما كون الإمام أحمد ذهب إلى ما روي عن علي رضي الله عنه توقيفاً؛ فلأنه صحابي لا سيما وقد اعتضد بما روي من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته قضاءه.
فإن قيل: كيف روي عن علي رضي الله عنه؟
(1) في أ: ديته.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (573) 1: 77.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 111 كتاب الديات، باب ما ورد في البئر جبار والمعدن جبار.
قال: (ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس به مثل ضرورته فمنعه حتى مات ضمنه نص عليه. وخرّج عليه أبو الخطاب كل من أمكنه إنجاء إنسان من هلكة فلم يفعل. وليس ذلك مثله).
أما كون من اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس بمالكه مثل ضرورته فمنعه منه حتى مات يضمنه على المنصوص؛ فلأن عمرَ رضي الله عنه قضى بذلك.
ولأنه إذا اضطر إليه صار المضطر أحق من مالكه وله (1) أخذه منه قهراً. فإذا منعه منه فقد تسبب إلى هلاكه بمنعه ما يستحقه. فلزمه ضمانه؛ كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك.
وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأشياء:
أحدها: أن الضمان يجب على المانع؛ لأنه أضاف الضمان إليه. وهو ظاهر كلام الإمام أحمد ذكره المصنف رحمه الله في المغني وعلله بأنه تعمد الفعل الذي يقتل مثله غالباً.
وقال القاضي: هو على عاقلته؛ لأنه قتلٌ لا يوجب القصاص فيكون شبهَ العمد.
وثانيها: أن يطلب المضطر ذلك من مالكه لأن قوله: فمنعه يدل عليه. فإن لم يطلبه من مالكه فمات لم يضمنه؛ لأنه لم يمنعه ولم يوجد منه فعل تسبب به إلى هلاكه.
وثالثها: أن لا يكون بمالكه مثل ضرورته. فإن كان به مثل ضرورته فطلبه منه فمنعه فمات لم يضمنه؛ لأنه لا يجب عليه بذل طعامه في تلك الحال. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ابدَأ بنفسكَ ثم بمن تعُول» (2): تنبيهٌ على ذلك.
(1) في أ: فله.
(2)
لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ الصدقةِ ما كان على ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» . (5041) 5: 2048 كتاب النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال.
وأما كون كل من قدر على إنجاء شخص من هَلَكة فلم يفعل حتى مات يخرج على ذلك على قول أبي الخطاب؛ فلاشتراكهما في القدرة على سلامته وخلاصه من الموت.
وأما كون ذلك ليس مثله على اختيار المصنف رحمه الله؛ فلأن الهلاك هنا لم يكن بسبب منه. فلم يضمنه؛ كما لو لم يعلم حاله. والمعني بذلك: أن التخريج يقتضي المساواة ولا مساواة بينهما؛ لأنه في مسألة الطعام منعه منعاً كان سبباً في هلاكه. بخلاف مسألة القدرة على إنجائه؛ لأنه لم يفعل شيئاً هو سبب لهلاكه.
قال: (ومن أفزع إنساناً فأحدث بغائط فعليه ثلث ديته. وعنه: لا شيء عليه).
أما كون من أفزع إنساناً فأحدث بغائط عليه ثلث ديته على المذهب فلأنه يروى عن عثمان رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد: لا أعرف شيئاً يدفعه.
وأما كونه لا شيء عليه على روايةٍ؛ فلأن الدية إنما تجب لإتلاف منفعة أو عضو أو إزالة جَمَال، وليس هاهنا شيء من ذلك.
والأول أصح لقضاء عثمان رضي الله عنه. لا سيما وذلك في مظنة الشهرة ولم ينقل خلافه فيكون إجماعاً، وأن قضاء الصحابي بما يخالف القياس يدل على أنه توقيف. وحكم من أفزع إنساناً فأحدث ببول أو ريح حكم من أفزع إنساناً فأحدث بغائط؛ لأنه يروى عن عثمان أيضاً ويدل عليه دليل الرواية الثانية. وحكم من ضرب إنساناً فأحدث بغائط أو بول أو ريح حكم من أفزعه فأحدث بما ذكر؛ لأنه يساويه معنى فكذا يجب أن يكون حكماً (1).
(1) في د: فكذا يجب حكماً.
فصل [فيمن أدب ولده فتلف]
قال المصنف رحمه الله: (ومن أدّب ولده، أو امرأته في النشوز، أو المعلم صبيه، أو السلطان رعيته ولم يسرف فأفضى إلى تلفه: لم يضمنه. ويتخرج وجوب الضمان على ما قاله فيما إذا أرسل السلطان إلى امرأة ليحضرها فأجهضت جنينها أو ماتت فعلى عاقلته الدية).
أما كون من أدّب ولده، أو امرأته، أو المعلم صبيه، أو السلطان رعيته ولم يسرف فتلف: لم يضمنه على المذهب؛ فلأن كل واحد منهم فعل ما يُشرع له فعله. فلم يضمن ما تولد منه؛ كقطع يد السارق إذا سرى إلى نفسه.
وأما كون وجوب الضمان يتخرج على (1) ما قاله الإمام أحمد فيما إذا أرسل السلطان إلى امرأة ليحضرها فأجهضت جنينها أو ماتت فعلى العاقلة الدية؛ فلأنه في معناه. وكلام المصنف رحمه الله متضمن بيان الحكم في المخرج عليه.
(1) في أ: إلى.
(2)
أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (18010) 9: 458 كتاب العقول، باب من أفزعه السلطان.
وأما الأم؛ فلأنها هلكت بإرسال السلطان إليها فضمنها كجنينها. أو يقال: نفس هلكت بسببه. فوجب أن يضمن؛ كما لو ضربها فماتت.
قال: (وإن سلم ولده إلى السابح ليعلمه فغرق لم يضمنه. ويحتمل أن تضمنه العاقلة).
أما كون السابح لا يضمن الولد بما ذكر على المذهب؛ فلأنه فَعَل ما جرت العادة به لمصلحته. فلم يَضمن ما تلف به؛ كما لو ضرب المعلم الصبي ضرباً معتاداً فتلف.
وأما كونه يحتمل أن تضمنه العاقلة؛ فلأن الوالد سلم ولده إليه ليحتاط في حفظه فإذا غرق نسب إلى التفريط. فوجب أن تضمنه عاقلته؛ لأنه قتل خطأ.
قال: (وإن أمر عاقلاً ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك بذلك لم يضمنه؛ إلا أن يكون الآمر السلطان فهل يضمنه؟ على وجهين. وإن وضع جرة على سطحه فرمتها الريح على إنسان فتلف لم يضمنه).
أما كون الآمر (1) لمن ذكر لا يضمنه إذا لم يكن السلطان؛ فلأن الهالك هلك بفعل نفسه. فلم يضمنه الآمر؛ كما لو قال له: اقتل نفسك.
وأما كون الآمر (2) لا يضمنه أيضاً إذا كان السلطان على وجه؛ فلذلك.
وأما كونه يضمنه على وجه؛ فلأن من أمره السلطان لا يقدر على الامتناع فصار كالمكره على ذلك، والمكره يجب ضمان فعله على المكره.
وأما كون من وضع جرة على سطحه فرمتها الريح على إنسان فتلف لا يضمنه؛ فلأن التلف لم يكن من فعل الواضع، والوضع (3) كان في ملكه. فلم يكن متعدياً.
(1) ساقط من أ.
(2)
في أ: الآخر.
(3)
في أ: والواضع.