الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الأطعمة
قال المصنف رحمه الله: (والأصل فيها الحِلّ. فيحل كل طعام طاهر لا مضرة فيه من الحبوب والثمار وغيرها).
أما كون الأصل في الأطعمة الحِلّ؛ فلأنها خلقت للانتفاع بها. قال الله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29]، وقد نبَّهَ على ذلك قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه
…
الآية} [الأنعام: 145].
وأما كون كل طعام طاهر لا مضرة فيه يحل؛ فلأن الحل الأصلي يدل عليه. وهو سالم عن معارضة النجس والمضر. فوجب أن يعمل عمله؛ لسلامته عن المعارض.
وفي تقييد المصنف رحمه الله الذي يحل بالقيود المذكورة احتراز من الشيء الذي لا يكون كذلك؛ لتمييز الحلال من الحرام. فالطاهر يحترز به عما ليس بطاهر وهو النجس. وسيأتي بعد دليل حرمته. ولا مضرة فيه يحترز به عما فيه مضرة؛ كالسموم وما أشبه ذلك؛ لأن جميع ما فيه مضرة حرام؛ لما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.
وقوله: من الحبوب والثمار؛ بيان لما يحل أكله مما جمع الصفات المتقدم ذكرها.
وقوله: وغيرها؛ تنبيه على أن ما عدا الحبوب والثمار مما يجمع الطعم والطهارة وعدم المضرة حلال؛ كالحبوب والثمار المصرح بهما.
قال: (فأما النجاسات؛ كالميتة والدم وغيرهما وما فيه مضرة من السموم ونحوها فمحرَّمة).
أما كون الميتة والدم محرمين؛ فلأن الله تعالى قال: {حُرّمت عليكم الميتةُ والدم} [المائدة: 3].
ولأن أكل الميتة أقبح من الادِّهان بدهنها والاستصباح به وهو حرام؛ لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن شحوم الميتة: أيطلى بها السفن ويُدهن بها الجلود
ويَستصبحُ بها الناس؟ فقال: لا. هو حرام» (1). فلأن يحرم ما هو أقبح من ذلك بطريق الأولى.
وأما كون غير ذلك من النجاسات محرماً؛ فلأن النجس خبيث وقد حرم الله أكل الخبيث. وفي الحديث: «لما سئل عن فأرة وقعت في سمن: لا تقربوه» (2). وفي الأكل قربانه، وذلك منهي عنه، والنهي يقتضي التحريم.
وأما كون ما فيه مضرة من السموم محرماً؛ فلأن ذلك يقتل غالباً. فحرم أكله؛ لإفضائه إلى الهلكة. ولذلك عُدَّ من أطعمَ السُّمَّ لغيره قاتلاً.
وأما كون ما فيه مضرة نحو (3) السموم محرماً؛ فلمشاركتهِ السمومَ المضِرَّةَ الموجبةَ للهلكَة.
قال: (والحيوانات مباحة إلا الحمر الأهلية، وما له ناب يفرس به؛ كالأسد والنمر والذئب والفهد والكلب والخنزير وابن آوى والسنور وابن عرس والنمس (4) والقرد؛ إلا الضبع. وما له مخلب من الطير يصيد به؛ كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والحدأة والبومة. وما يأكل الجيف؛ كالنسر والرخم [واللقلق وغراب البَيْن والأبْقَع. وما يستخبث؛ كالقنفذ والفأر والحيات والعقارب](5). والحشرات كلها. وما تولد من مأكول وغيره كالبغل، والسِمْع ولد الضبع من الذئب، والعِسْبَار ولد الذئبة من الذِّيخ).
أما كون الحيوانات ما خلا المستثنى مباحة؛ فلما تقدم من أن الأصل في الأطعمة الحل.
ولأن الله تعالى قال: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} [المائدة: 1].
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2121) 2: 779 كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1581) 3: 1207 كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3842) 3: 364 كتاب الأطعمة، باب في الفأرة تقع في السمن.
وأخرجه النسائي في سننه (4260) 7: 178 كتاب الفرع والعتيرة، باب الفارة تقع في السمن.
(3)
في أ: من.
(4)
ساقط من أ.
(5)
مثل السابق.
و «أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بأكل لحم الحمار الذي صاده» ، فيثبت في المنصوص بالنص وفيما عداه بالقياس.
ولأن قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعمٍ يطعمه} [الأنعام: 145]: يقتضي حل سائر الأشياء ما عدا الميتة والدم ولحم الخنزير. تُرك العمل به في الأشياء المحرمة الآتي دليل تحريمها. فيبقى فيما عداه على مقتضاه.
وأما كون الحمر الأهلية غير مباحة؛ فلما روى جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحومِ الحمرِ الأهلية، وأذن في لحومِ الخيل» (1) متفق عليه.
وأما كون ما له ناب يفرس به غير الضبع محرم (2)؛ فلما روى أبو ثعلبة الخشني «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كلِّ ذي ناب من السباع» (3) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ ذي نابٍ من السباع حرام» (4).
قال ابن عبدالبر: هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته.
وأما قول المصنف رحمه الله: كالأسد والنمر والذئب والفهد والكلب والخنزير وابن آوى والسنور وابن عرس والنمس (5) والقرد؛ فتمثيل لما له ناب يفرس به وتعداد له.
وأما كون الضبع مباحاً وإن كان له ناب؛ فلما روى جابر قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع. قلت: صيد هو؟ قال: نعم» (6).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5204) 5: 2102 كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1941) 3: 1541 كتاب الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل.
(2)
في د: غير مباح.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (5210) 5: 2103 كتاب الذبائح والصيد، باب أكل كل ذي ناب من السباع.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1933) 3: 1534 كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (1933) 3: 1534 كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
(5)
ساقط من أ.
(6)
أخرجه الترمذي في جامعه (1791) 4: 252 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع.
وأخرجه النسائي في سننه (4323) 7: 200 كتاب الصيد والذبائح، الضبع.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3236) 2: 1078 كتاب الصيد، باب الضبع.
وفي لفظ: «سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع. فقال: هو صيدٌ. ويجعلُ فيه كبشٌ إذا صادَهُ المحرم» (1). رواه أبو داود.
فإن قيل: فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي نابٍ فلم لا يدخل الضبع فيه؟
قيل: لأن الدال (2) على حله خاص والنهي المذكور عام، والخاص يقدم على العام.
وأما كون ما له مخلب من الطير غير مباح؛ فلما روى ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير» (3).
وعن خالد بن الوليد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرامٌ عليكم الحمرُ الأهلية، وكل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير» (4). رواهما أبو داود.
وأما قول المصنف رحمه الله: كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والحدأة والبومة؛ فكما ذكر في الأسد وما معه.
وأما كون ما يأكل الجيف غير مباح؛ فلأن الجيف نجسة. فأكلها دائماً بطبعه يصيّر لحمه وسائر أجزائه مختلطاً بالنجاسة.
ولأنه إذا حرمت الجلَاّلة؛ لأكلها النجاسة فلأن يحرم ما يأكل (5) الجيف بطريق الأولى.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3801) 3: 355 كتاب الأطعمة، باب في أكل الضبع.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3085) 2: 1030 كتاب المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم.
(2)
في أ: الدلالة.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (1934) 3: 1534 كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
وأخرجه أبو داود في سننه (3805) 3: 355 كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (3806) 3: 356 كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل السباع.
(5)
في الأصول: يأكل ما يحرم. ولعل الصواب ما أثبتناه.
وأما قوله: كالنسر والرخم واللقلق وغراب البين والأبقع؛ فكما تقدم. وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغراب فاسقاً فقال: «خمسُ فواسق يقتلن في الحل والحرم -وذكر منهن- الغراب» (1). والبواقي في معناه؛ لمشاركتها له في أكل الجيف.
وأما كون [ما يستخبث غير مباح؛ فلأن الله تعالى قال: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157].
والعبرة في ذلك بالعرب] (2) من [يعافه من](3) أهل الحجاز من الأمصار دون أهل البوادي؛ لأن أهل البادية للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا. ولذلك سئل بعضهم عما يأكلون فقال: ما دَبَّ ودرجَ إلا أمُّ حُبَيْن (4) فقال: لتهن أم حبين العافية.
وأما قوله: كالقنفذ والفأر والحيات والعقارب والحشرات كلها؛ فتمثيل لما تقدم. وعن أبي هريرة «ذُكرت القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو خبيث من الخبائث» (5). رواه أبو داود.
وأما كون ما تولد من مأكول وغير مأكول غير مباح؛ فلأنه يتولد من مباح وغير مباح فغلب جانب التحريم.
وأما قوله: كالبغل والسمع والعسبار؛ فكما تقدم. وفي حديث جابر: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» (6). صرح بذلك في البغل وهو متولد من مأكول وغير مأكول فثبت
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1732) 2: 650 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1198) 2: 857 كتاب الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم.
(2)
ساقط من أ.
(3)
ساقط من د.
(4)
هي على خلقة الحرباء عريضة الصدر، عظيمة البطن على قدر الضفدع غبراء لها أربع قوائم. القاموس المحيط ص:1533.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه (3799) 3: 354 كتاب الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض.
(6)
أخرجه أبو داود في سننه (3789) 3: 351 كتاب الأطعمة، باب في أكل لحوم الخيل.
فيه بالنص، وفي السمع والعسبار بالقياس عليه. والبغل يكون تارة من حمار وحجرة، وتارة من فحل وحمارة.
والسمع والعسبار ما ذكر ونبَّه عليه المصنف رحمه الله؛ ليعلم.
والذيخ: الذكر من الضبعان. فيكون العسبار عكس السِّمع.
قال: (وفي الثعلب والوبر وسِنَّوْر البر واليَربُوع روايتان).
أما كون الثعلب غير مباح في روايةٍ؛ فلأنه سبع فيدخل في: «نهيه عليه السلام: عن كل ذي نابٍ من السباع» (1).
وأما كونه مباحاً في روايةٍ؛ فلأنه يُفدى في الحرم والإحرام.
والأولى أظهر؛ للنهي المتقدم.
وأما كون الوبر غير مباح في روايةٍ ومباح (2) في روايةٍ؛ فبالقياس على السِّنَّوْر الآتي ذكره.
وأما كون سِنَّوْر البرّ غير مباح في روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن أكلِ الهِرِّ» (3) فيدخل فيه البري.
وأما كونه مباحاً في روايةٍ؛ فلأنه بري. أشبه الحمار البري.
وأما كون اليَرْبوع غير مباحٍ في روايةٍ؛ فلأنه أشبه الفأر.
وأما كونه مباحاً في روايةٍ؛ فـ «لأن عمر حكم فيه بجَفْرَة» (4).
ولأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد محرم ولم يوجد.
وهذه الرواية هي الصحيحة في ظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني.
قال: (وما عدا هذا مباح؛ كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج والوحشي من البقر والظباء والحمر والزرافة والنعامة والأرنب، وسائر الوحش والضبع والضب
(1) سبق تخريجه ص: 360.
(2)
في د: مباحاً.
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه (1280) 3: 578 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3250) 2: 1082 كتاب الصيد، باب الهرة.
(4)
أخرجه مالك في الموطأ (230) 1: 331 كتاب الحج، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش.
والزاغ وغراب الزرع، وسائر الطير، وجميع حيوان البحر، إلا الضفدع والحية والتمساح. وقال ابن حامد: وإلا الكوسج.
وقال أبو علي النجاد: لا يباح من البحري ما يحرم نظيره في البر؛ كخنزير الماء وإنسانه).
أما كون ما عدا ما تقدم تحريمه من الحمر الأهلية
…
إلى ما تولد من مأكول وغيره مباحاً؛ فلما تقدم من أن الأصل الحل.
وأما قول المصنف رحمه الله: كبهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم
…
إلى جميع حيوان البحر إلا المستثنى؛ فبيان للأشياء المباحة وتعداد لها. وقد دلت (1) النصوص على إباحة أكثرها وباقيها في معنى المنصوص على إباحته: أما بهيمة الأنعام؛ فلما تقدم من أن (2) الله تعالى قال: {أُحِلّت لكم بهيمةُ الأنعام} [المائدة: 1].
وأما الخيل؛ فلما تقدم في حديث جابر من «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى يوم خيبر عن لحومِ الحمرِ (3) الأهليةِ، وأذنَ في لحومِ الخيل» (4).
وعن أسماء قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة» (5) متفق عليهما.
ولأنه حيوان طاهر مستطاب ليس بذي ناب ولا مخلب فأبيح؛ كبهيمة الأنعام.
وأما الدجاج؛ فلما روى أبو موسى قال: «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكلُ الدّجاج» (6) متفق عليه.
(1) في أ: دل.
(2)
ساقط من د.
(3)
مثل السابق.
(4)
سبق تخريجه ص: 359.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه (5200) 5: 2101 كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1942) 3: 1541 كتاب الصيد والذبائح، باب في أكل لحوم الخيل.
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه (5198) 5: 2100 كتاب الذبائح والصيد، باب لحم الدجاج.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1649) 3: 1270 كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا
…
وأما الوحشي من البقر والظباء والحمر؛ فلما تقدم من «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا قتادة وأصحابه بأكل لحم الحمار الوحشي» (1). والبقر والظباء في معناه.
ولأن كل واحدٍ منهما صيد فيدخل في قوله عليه السلام: «صيدُ البرِّ لكمْ حَلال» (2).
وأما الزرافة؛ فلما تقدم من أن الأصل الحل.
ولأنها دابة تشبه البعير إلا أن عنقها أطول من عنق البعير، وجسمها ألطف من جسمه وأعلا منه، وذلك لا أثر له. فوجب إلحاقها به.
وأما النعامة؛ فلما تقدم من أن الأصل الحل.
ولأنها دابة تشبه البطة إلا أنها أكبر منها، وعنقها أطول من عنقها، وذلك لا أثر له. فوجب إلحاقها بها.
وأما الأرنب؛ فلما روى أنس قال: «أنْفَجْنا أرنبًا بمرِّ الظهران. فسعى القوم فَلَغَبُوا. فأخذتُها فجئت بها إلى أبي طلحة. وبعث بورِكِهَا أو قال: فخذِها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبِلَه» (3). متفق عليه.
وعن محمد بن صفوان أن صفوان بن محمد قال: «صدتُ أرنبينِ فذبحتُهما بمروةٍ. فسألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلِهما» (4). رواه أبو داود.
وأما سائر الوحش؛ فلما تقدم من أن الأصل الحل.
وأما الضبع؛ فلما تقدم في قول المصنف رحمه الله: إلا الضبع من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هو صيد» (5) ونحوه.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1728) 2: 648 أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1196) 2: 853 كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (1851) 2: 171 كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم.
وأخرجه الترمذي في جامعه (846) 3: 203 كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم.
وأخرجه النسائي في سننه (2827) 5: 187 كتاب مناسك الحج، إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2433) 2: 909 كتاب الهبة وفضلها، باب قبول هدية الصيد.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1953) 3: 1547 كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الأرنب.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (2822) 3: 102 كتاب الأضاحي، باب في الذبيحة بالمروة.
(5)
سبق تخريجه ص: 360.
وأما الضب؛ فلما روى ابن عباس قال: «دخلتُ أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة. فأُتي بضب محنوذ. فقيل: هو ضب يا رسول الله! فرفع يده. فقلت: أحرام هو؟ قال: لا. ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدُني أعافُه. قال: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر» (1) متفق عليه.
وعن عمر: [«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الضب ولكن قذره. ولو كان عندي لأكلته» (2).
وعن ابن عباس]: (3)«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ الضبَّ تقذُّراً، وأُكل على مائدته، ولو كان حراماً ما أُكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (4). رواه أبو داود.
وأما الزاغ وهو الصغير الأغبر وغراب الزرع وهو الصغير الأسود؛ فلأن مرعاهما الزرع والحبوب.
وأما سائر الطير؛ فلما تقدم من أن الأصل في الأطعمة الحل.
وأما جميع حيوان البحر ما خلا الضفدع والحية والتمساح على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {أُحِّل لكم صيد البحر وطعامه} [المائدة: 96].
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: «هو الطَّهورُ ماؤُهُ، الحلُّ ميتَتُه» (5).
وعن شريح عن (6) رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ شيءٍ في البحرِ مذبوحٌ» (7).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5217) 5: 2105 كتاب الذبائح والصيد، باب الضب.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1945) 3: 1543 كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (194) 1: 29. ولم يذكر لفظ: «ولو كان عندي لأكلته».
(3)
ساقط من أ.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2436) 2: 910 كتاب الهبة، باب قبول الهدية.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1947) 3: 1544 كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الضب.
وأخرجه أبو داود في سننه (3793) 3: 353 كتاب الأطعمة، باب في أكل الضب.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه (83) 1: 21 كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر.
أخرجه الترمذي في جامعه (69) 1: 100 أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور.
وأخرجه النسائي في سننه (59) 1: 50 كتاب الطهارة، باب ماء البحر.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (386) 1: 136 كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بماء البحر.
(6)
ساقط من أ.
(7)
ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 5: 2092 كتاب الذبائح والصيد، باب قول الله تعالى:{أحل لكم صيد البحر} .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ذبحَ في البحرِ كل شيءٍ لابن آدم» (1).
وأما كون الضفدع غير مباح؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله» (2).
وأما كون الحية غير مباحة؛ فلأنها من الخبائث.
وأما كون التمساح غير مباح؛ فلأن له ناب يجرح به.
وأما كون الكوسج غير مباح عند ابن حامد؛ فلأنه يأكل الناس.
وأما كون ما له نظير في البر غير مباح على قول أبي علي النجاد؛ فلأنه يشبهه.
فعلى هذا لا يباح إنسان الماء ولا كلبه ولا خنزيره؛ لأن نظير ذلك كله في البر لا يباح.
قال: (وتحرم الجلَاّلةِ التي أكثر علفها النجاسة، ولبنها وبيضها حتى تحبس. وعنه: تكره ولا تحرم، وتحبس ثلاثاً. وعنه: يحبس الطائر ثلاثاً والشاة سبعاً، وما عدا ذلك أربعين يوماً).
أما كون لحم الجلاّلة ولبنها يحرم حتى تحبس على المذهب؛ فلما روى ابن عمر قال: «نَهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلِ الجلَاّلةِ وألبانِها» (3). رواه أبو داود.
وأما كون بيضها يحرم حتى تحبس على ذلك؛ فبالقياس على اللحم واللبن.
وأما كون ذلك كله يكره ولا يحرم على روايةٍ: أما كونه يكره؛ فللنهي المتقدم ذكره؛ لأنه إذا لم نحرمه فلا أقل من أن (4) نجعله مكروهاً.
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (13) 4: 269 كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3871) 4: 7 كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة.
وأخرجه النسائي في سننه (4355) 7: 210 كتاب الصيد والذبائح، الضفدع.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3223) 2: 1074 كتاب الصيد، باب ما ينهى عن قتله. قال في الزوائد: في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي وهو ضعيف.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3785) 3: 351 كتاب الأطعمة، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1824) 4: 270 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها.
(4)
ساقط من د.
ولأنه يختلف في حرمته.
وأما كونه لا يجرم؛ فلأنه حيوان أصله الإباحة. فلم يحرم بما ذكر استصحاباً لأصل الإباحة.
وأما كون الجميع يحبس ثلاثاً؛ فـ «لأن ابن عمر كان إذا أراد أكل الجلاّلةِ حبَسَها ثلاثًا (1» ).
وأما كون الطائر يحبس ثلاثاً (2).
وأما كون الشاة تحبس سبعاً (3).
وأما كون ما عدا ذلك كالإبل والبقر ونحوهما يحبس أربعين يوماً؛ فلما روى عبدالله بن عمرو بن العاص قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلاّلة أن يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» (4). رواه الخلال بإسناده.
قال: (وما سقيه بالماء النجس من الزروع والثمر يحرم، فإن سقي بالطاهر طهر.
وقال ابن عقيل: ليس بنجس ولا محرم، بل يطهر بالاستحالة؛ كالدم يستحيل لبناً).
أما كون ما سقيه بالماء النجس من الزروع والثمر محرماً على المذهب؛ فلأنه ينمى بالنجاسة وتتربى أجزاؤه منها، وفي الحديث عن ابن عباس:«كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم أن لا يُدْمِلوها بعذرة الناس» (5). ولولا أن ما يزرع فيها يحرم لما كان في الاشتراط فائدة.
(1) زيادة من الشرح الكبير 11: 92.
(2)
بياض في الأصول مقدار سطر.
(3)
بياض في الأصول مقدار عدة كلمات.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 333 كتاب الضحايا، باب ما جاء في أكل الجلالة وألبانها.
(5)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6: 139 كتاب المزارعة، باب ما جاء في طرح السرجين والعذرة في الأرض.
وأما كونه إذا سقي بالماء الطهور -وهو المراد بقول المصنف رحمه الله: الطاهر-: يطهر؛ فلأن الماء الطهور معد لتطهير النجاسة وغاية ما يقال: أنه يتنجس بسقي النجس.
وأما كونه ليس بنجس عند ابن عقيل؛ فلما ذكره من القياس على اللبن وذلك أن الدم نجس فإذا صار لبناً طهر باستحالته، وهذا المعنى موجود في الزروع المذكورة.
وأما كونه ليس بمحرم؛ فلأن المحرم له كونه نجساً وهو عنده طاهر؛ لما تقدم من قياسه على اللبن.
فصل [فيمن اضطر إلى محرم]
قال المصنف رحمه الله: (ومن اضطر إلى محرم مما ذكرنا حل له منه (1) ما يسد رمقه. وهل له الشبع؟ على روايتين).
أما كون من اضطر إلى محرم مما ذكره المصنف رحمه الله يحل له منه ما يسد رمقه؛ فلأن الله تعالى ذكر المحرمات ثم قال: {فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه} [البقرة: 173].
وأما كونه له الشبع من ذلك على روايةٍ؛ فلما روى جابر بن سمرة «أن رجلاً نزلَ الحرّةَ فَنَفَقَتْ عنده ناقة. فقالت له امرأته: اسْلَخْهَا حتى نُقَدِّدَ شحمَهَا ولحمَهَا ونأكلَهُ. فقال: حتى أسألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. [فسأله] فقال: هل عندكَ غنىً يُغنيك؟ قال: لا. قال: فكلُوها» (2). ولم يفرق. رواه أبو داود.
ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه. دليله المباح.
وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلأن المبيح الضرورة، وهي تزول بعد (3) الرمق.
فإن قيل: ما المراد بالمضطر هاهنا؟
قيل: هو الذي يخاف على نفسه التلف إن يترك الأكل. سواء خاف من جوع أو خاف أن يعجز عن المشي أو الركوب إن ترك الأكل فينقطع عن الرفقة ويهلك.
(1) في أ: منه فيه.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3816) 3: 358 كتاب الأطعمة، باب في المضطر إلى الميتة. وما بين القوسين من السنن.
(3)
في أ: به.
قال: (وإن وجد طعاماً لا يعرف مالكه وميتة أو صيداً وهو مُحْرم فقال أصحابنا: يأكل الميتة. ويحتمل أن يحل له الطعام والصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة).
أما كون من وجد طعاماً لا يعرف مالكه وميتة: يأكل الميتة دون طعام الغير على قول أصحابنا؛ فلأنه منصوص على فعله، وأكل مال الآدمي بغير إذنه مجتهد فيه.
ولأن حقوق الله مبنية على المسامحة، وحق الآدمي مبني (1) على الشح والضيق.
وأما كون من وجد ميتة وصيداً وهو مُحْرم يأكل الميتة دون الصيد؛ فلأن في الصيد تحريمات ثلاثة: تحريم قتله، وتحريم أكله؛ لكونه صيداً، وتحريم أكله؛ لكونه ميتة؛ لأن ما ذبحه المحرم يصير ميتة.
وأما كون الأول يحتمل أن يحل له الطعام إذا لم تقبل نفسه الميتة؛ فلأن طعام الغير لم يحرم لمعنى فيه بل لحق الغير وذلك يجوز بوجوب الضمان. بخلاف الميتة فإنها حرمت لمعنى فيها وهو موجود عند الاضطرار.
ولأن في إلزامه بأكل ما لم تقبل نفسه إضراراً به، وربما أدى حاله إلى ترك الأكل. فيحصل المحذور الذي أبيح من أجله أكل الميتة. وذلك مطلوب العدم.
وأما كون المحرم يأكل الصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة؛ فلأن الصيد يساوي طعام الغير فيما ذكر معنى فكذا يجب أن يكون حكماً.
لا يقال: الصيد يصير بذبح المحرم ميتة فيساوي الميتة الذي وجدها معه بخلاف طعام الغير؛ لأن الصيد وإن صار بما ذُكر ميتة لكن حكماً، وحينئذ لم (2) يوجد فيه ما في الميتة حقيقة من حيث المحل ونحوه.
فإن قيل: كلام المصنف رحمه الله فيه نظر من وجوه:
أحدها: أنه وصف الطعام بكونه لا يعرف واجدُه مالكَه. وظاهره اشتراط ذلك في أكل الميتة حقيقة على قول الأصحاب، وفي أكل الطعام والصيد على الاحتمال.
(1) في أ: مبنية.
(2)
في أ: لا.
وثانيها: أن (1) قوله: وإن وجد طعاماً لا يعرف مالكه وميتة أو صيداً ظاهره أن الواجد تارة يجد الطعام المذكور والميتة، وتارة يجد الطعام المذكور والصيد؛ لأن "أو" العاطفة على الميتة لا الطعام.
وثالثها: أن قوله: فقال أصحابنا: يأكل الميتة فيه إشعار بتضعيف ذلك؛ لأنه العادة منه في غير موضع من كتابه.
وقوله: ويحتمل ليس بظاهر في الترجيح.
قيل: أما الأول فليس مراده من وصف الطعام بما ذكر الاشتراط المذكور، وإنما وصفه بذلك؛ لأن الطعام الذي يعرف مالكه تأتي فيه الأحكام الآتي ذكرها. ويمكن أن يقال: ما يعرف مالكه يمكن غالباً أن يستأذنه في الأكل. والظاهر من حال المسلم أنه لا يمنع المضطر إليه من أكله إذا كان مستغنياً عنه فلا يحصل التعارض بين أكل ذلك وأكل الميتة فيكون ذلك شرطاً كما ذكر.
وأما الثاني: فالعطف (2) بـ "أو" على الطعام لا على الميتة، وذلك وإن قرب من الميتة فقوله بعد: فقال أصحابنا: يأكل الميتة يرده؛ لأنه يدل على أن الميتة موجودة في المسألتين؛ لاقتصاره على ذكرها وإلا قال: والصيد.
وقوله: ويحتمل أن يحل له الطعام والصيد إذا لم تقبل نفسه الميتة يرده أيضاً؛ لأنه يدل على وجود الميتة مع الطعام تارة ومع الصيد أخرى.
وأما الثالث
…
(3).
قال: (وإذا لم يجد إلا طعاماً لم يبذله مالكه، فإن كان صاحبه مضطراً إليه فهو أحق به، وإلا لزمه بذله بقيمته. فإن أبى فللمضطر أخذه قهراً ويعطيه قيمته. فإن منعه فله قتاله على ما يسد رمقه أو قدر شبعه على اختلاف الروايتين. فإن قُتل صاحب الطعام لم يجب ضمانه. وإن قُتل المضطر فعليه ضمانه).
أما كون صاحب الطعام أحق به ممن لم يجد إلا طعاماً لم يبذله مالكه إذا كان مضطراً إليه؛ فلأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك.
(1) زيادة من د.
(2)
في د: فالعاطف.
(3)
سقط من الأصول تتمة الشرح.
وأما كونه يلزمه بذله بقيمته إذا لم يكن مضطراً إليه؛ فلأن في بذله إحياء نفس آدمي معصوم. فلزمه بذله؛ كما يلزمه بذل منافعه في تخليصه من الغرق.
وأما كون المضطر له أخذ ذلك قهراً إذا أبى مالكه دفعه؛ فلأن المضطر باضطراره صار مستحقاً له.
وأما كونه يعطي المالك القيمة؛ فلئلا يجتمع فيه فوات العين وفوات المالية.
وأما كونه له ذلك على ما يسد رمقه أو قدر شبعه على اختلاف الروايتين إذا منعه من ذلك؛ فلأنه من الواجب عليه. أشبه مانعي الزكاة.
وإنما قال المصنف رحمه الله: على اختلاف الروايتين؛ للتنبيه على أن المبيح للقتال منع ما يباح له؛ لأنه الواجب.
فإن قيل: بإباحة ما يسد رمقه دون ما يشبعه فله قتاله على ذلك؛ لأنه الواجب لا على مقدار الشبع؛ لأنه غير واجب. وإن قيل يباح له الشبع فله قتاله على الشبع؛ لأنه مباح له. فيجب بذله؛ كالذي يسد رمقه.
وأما كونه لا يجب عليه ضمان صاحب المال إذا قتله؛ [فلأنه ظالم يمنعه. فقتْله جاء من تعديه. فلم يُضمن؛ كالصائل.
وأما كونه إذا قُتل على صاحب الطعام ضمانه] (1)؛ فلأنه قتله مظلوماً. أشبه قتل المصال عليه.
قال: (فإن لم يجد إلا آدمياً مباح الدم؛ كالحربي والزاني المحصن حل قتله وأكله).
أما كون المضطر إذا لم يجد إلا من ذكر يحل له قتله؛ فلأنه يحل لغير المضطر. فلأن يحل له بطريق الأولى.
وأما كونه يحل له أكله؛ فلأنه بقتله يصير ميتة فيدخل في قوله تعالى: {حُرِّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير
…
-إلى قوله-: فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم فإن الله غفور رحيم} (2)[المائدة: 3].
قال: (وإن وجد معصوماً ميتاً ففي جواز أكله وجهان).
أما كون من تقدم ذكره لا يجوز له أكل من ذكر في وجه؛ فلأن الحي والميت يشتركان في الحرمة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كسرُ عظمِ الميتِ ككسرِ عظمِ الحي» (1).
وأما كونه يجوز له في وجه؛ فلأنه مضطر وحرمة الحي أعظم من حرمة الميت. والحديث يحمل على غير حال الضرورة بدليل أن المباح الدم لا يجوز كسر عظمه ويجوز أكله.
ولأنه يمكن الأكل من الميت من غير كسر عظمه.
إذا علم ذلك فمفهوم كلام المصنف رحمه الله: أن الحي المعصوم لا يجوز قتله وأكله. وصرح به في المغني وعلله بأمرين (2):
أحدهما: الإجماع.
والثاني: أن المعصوم الحي مثل المضطر، فلا يجوز أن يقي نفسه بإتلافه.
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (1617) 1: 516 كتاب الجنائز، باب في النهي عن كسر عظام الميت.
(2)
في د: بأن.
فصل [فيمن مر بشجر لا حائط عليه]
قال المصنف رحمه الله: (ومن مرّ بثمر في شجرة لا حائط عليه ولا ناظر فله أن يأكل منه ولا يَحْمل. وعنه: لا يحل له ذلك إلا لحاجة. وفي الزرع وشُرب لبن الماشية روايتان).
أما كون من مرّ بثمر موصوفٍ بما ذُكر له أن يأكل منه على المذهب؛ فلما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أتيتَ حائطَ بستان فنادِ صاحبَ البستانِ. فإن أجابكَ، وإلا فكُلْ من غيرِ أن تُفْسِد» (1).
وعن عمر رضي الله عنه: «يأكل ولا يَتخذْ خُبْنَة» (2).
وعن أبي زينب التيمي (3) قال: «سافرت مع أنس بن مالك وعبدالرحمن بن سمرة وأبي بردة (4) فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم» (5).
وأما كونه لا يحل له ذلك إلا لحاجة على روايةٍ؛ فلأن قوله عليه السلام: «دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا» (6) متفق عليه: يدل على حرمة الأكل من مال الغير مطلقاً. تُرك العمل به مع الحاجة؛ لما روى
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2300) 2: 771 كتاب التجارات، باب من مرّ على ماشية قوم أو حائط هل يصيب منه؟ قال في الفتح: هذا الحديث أخرجه الطحاوي وصححه ابن حبان والحاكم.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9: 359 كتاب الضحايا، باب ما جاء فيمن مر بحائط إنسان أو ماشيته.
(3)
في د: التميمي.
(4)
في د: برزة.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (20306) 4: 300 كتاب البيوع والأقضية، من رخص في أكل الثمرة إذا مر بها.
(6)
أخرجه البخاري في صحيحه (67) 1: 37 كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«رب مبلغ أوعى من سامع» .
وأخرجه مسلم في صحيحه (1679) 3: 1306 كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سُئل عن الثمر المعلّق. فقال: ما أصابَ منه من ذي الحاجة غيرَ متخذٍ خُبْنَةً فلا شيء عليه. ومن أخرج منه شيئاً فعليه غرامةُ مثليه (1) والعقوبة» (2). قال الترمذي: هذا حديث حسن.
فيجب أن يبقى فيما عدا الحاجة على مقتضى الحديث المتقدم ذكره.
وأما كون من مرّ بذلك لا يَحْمل سواء كان محتاجاً أو لم يكن؛ فلأن الأحاديث الدالة على جواز الأكل مشعرة بعدم الأخذ. فإن في حديث أبي سعيد: «فكل من غير أن تفسد» (3)، وفي حديث عمر:«ولا يتخذ خُبْنَة» (4)، وفي حديث عمرو بن شعيب:«غيرَ متخذٍ خُبْنَة» .
وأما كون من مرّ بثمر في شجر عليه حائطاً أو ناظر -أي ناطور- ليس له أن يأكل؛ فإن ابن عباس قال: «إن كان عليها حائط فهو حرام فلا تأكل» (5).
ولأن إحرازها بذلك يدل على شح صاحبها وعدم المسامحة فيها.
وأما كون من مرّ بزرع ليس له أكله في روايةٍ؛ فلأن مقتضى قوله عليه السلام: «إن أموالكم عليكم حرام» (6): حرمة أكل مال الغير. تُرك العمل به في الثمر؛ للأحاديث المتقدم ذكرها. فيجب أن يبقى في الزرع؛ كسائر الأشياء.
وأما كونه له أكله دون حمله في روايةٍ؛ فلأن العادة جارية بأكله فريكاً. أشبه الثمر.
(1) في الأصول: مثله، وما أثبتناه من السنن.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (1710) 2: 136 كتاب اللقطة.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1289) 3: 584 كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها.
وأخرجه النسائي في سننه (4958) 8: 85 كتاب قطع السارق، الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين.
(3)
سبق تخريجه قريباً.
(4)
سبق تخريجه قريباً.
(5)
لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس قال: «إذا مررت بنخل أو نحوه وقد أحيط عليه حائط فلا تدخله إلا بإذن صاحبه. وإذا مررت به في فضاء الأرض فكل ولا تحمل» (20316) 4: 301 كتاب البيوع والأقضية، من كره أن يأكل منها إلا بإذن أهلها.
(6)
سبق تخريجه قريباً.
وأما كونه له شرب لبن الماشية في روايةٍ؛ فلما روى الحسن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم على ماشيةٍ فإن كان فيها صاحبها فليستأذِنْه. فإن أَذِنَ له فليحلِبْ وليشربْ. وإن لم يكن فيها فليصوِّتْ ثلاثاً، فإن أجابَ أحدٌ فليستأذنه، وإن لم يجبه أحدٌ فليحلبْ وليشربْ ولا يحمِل» (1). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما كونه ليس له ذلك في روايةٍ؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «إن أموالكم عليكم حرام» (2)، ولما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلبنَّ أحدٌ ماشيةَ أحدٍ إلا بإذنِه
…
مختصر» (3) متفق عليه.
فإن قيل: حيث حرم الثمر والزرع ولبن الماشية فهل الحرمة عامة في المضطر وغيره أم خاصة بغير المضطر؟
قيل: بل خاصة بغير المضطر. فإن كان المارّ مضطراً كان له الأكل من جميع ذلك على الروايتين؛ لأن المضطر مباح له أكل الميتة. فلأن يباح له ذلك بطريق الأولى.
ويقدم (4) الأكل من ذلك على الأكل من الميتة؛ لأنه مختلف فيه فهو أسهل.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2619) 3: 39 كتاب الجهاد، باب في ابن السبيل يأكل من التمر ويشرب من اللبن إذا مر به.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1296) 3: 492 كتاب البيوع، باب ما جاء في احتلاب المواشي بغير إذن الأرباب.
(2)
سبق تخريجه ص: 378.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (2303) 2: 858 كتاب اللقطة، باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذن.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1726) 3: 1352 كتاب اللقطة، باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها.
(4)
في أ: وقد تقدم.
قال: (ويجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به يوماً وليلة. فإن أبى فللضيف طلبه به (1) عند الحاكم. وتستحب ضيافته ثلاثاً. فما زاد فهو صدقة. ولا يجب عليه إنزاله في بيته؛ إلا أن لا يجد مسجداً أو رباطاً يبيت فيه).
أما كون ضيافة المسلم المجتاز بالمسلم تجب عليه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليلةُ الضيف حقٌ واجب على كل مسلم» (2).
وأما كونها يوماً وليلة؛ فلما روى أبو شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الضيافةُ ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة
…
مختصر» (3) متفق عليه.
قال: «جائزته يوم وليلة» كأنه آكد من سائر الثلاثة.
وفي تقييد المصنف رحمه الله من تجب ضيافته بكونه مسلماً إشعار بأن ضيافة الكافر لا تجب. وصرح في المغني بوجوبها للكافر؛ كالمسلم، وعموم الحديث يدل عليه.
وفي عدم تقييد من تجب ضيافته بكونه مسافراً إشعار بوجوبها للمسافر وغيره. وصرح به في المغني محتجاً بعموم الحديث. ثم قال: وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن الضيافة تجب على أهل القرى دون أهل الأمصار.
وأما كون الضيف له أن يطالب المجتاز به إذا أبى تضييفه؛ فلما روى المقدام ابن أبي كريمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلةُ الضيفِ حقٌ واجب، فإن أصبحَ بفنائِه فهو دَين عليه، إن شاءَ اقتضى وإن شاءَ ترك» (4).
وفي لفظ رواه أبو داود: «أيما رجلٍ ضافَ قوماً فأصبحَ الضيفُ محروماً. فإنّ نصْرَهُ على كل مسلم حتى يأخذَ بحقه من زرعهِ وماله» (5). ولو لم يكن له طلبه لما وجب نصره.
(1) ساقط من د.
(2)
أخرجه أبو داود في سننه (3750) 3: 342 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الضيافة.
وأخرجه أحمد في مسنده (16720) طبعة إحياء التراث.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (5784) 5: 2272 كتاب الأدب، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه.
وأخرجه مسلم في صحيحه (48) 3: 1352 كتاب اللقطة، باب الضيافة ونحوها.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (3750) 3: 342 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الضيافة.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (3677) 2: 1212 كتاب الأدب، باب حق الضيف.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه (3751) 3: 343 كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الضيافة.
وأما كونها تستحب ثلاثاً؛ فلما تقدم في حديث أبي شريح الخزاعي، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة» فيجب حمل الثلاث على الاستحباب والليلة على الوجوب.
وأما كون ما زاد على ذلك صدقة؛ فلأنه تبرع من التبرعات. فكان صدقة؛ كصدقة النفل.
وأما كون إنزاله في بيته إذا وجد مسجداً أو رباطاً يبيت فيه لا يجب عليه؛ [فلأن الضيف يستغني بالمبيت في ذلك.
وأما كون إنزاله في بيته إذا لم يجد ذلك يجب عليه] (1)؛ فلأن حاجته تدعو إليه. أشبه الضيافة.
(1) ساقط من أ.