المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب شروط من تقبل شهادته - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٤

[ابن المنجى، أبو البركات]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الجنايات

- ‌باب شروط القصاص

- ‌باب استيفاء القصاص

- ‌باب العفو عن القصاص

- ‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

- ‌كتاب الديات

- ‌باب مقادير ديات النفس

- ‌باب ديات الأعضاء ومنافعها

- ‌باب الشجاج وكسر العظام

- ‌باب العاقلة وما تحمله

- ‌باب كفارة القتل

- ‌باب القسامة

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الزنى

- ‌باب القذف

- ‌باب حد المسكر

- ‌باب التعزير

- ‌باب القطع في السرقة

- ‌باب حد المحاربين

- ‌باب قتال أهل البغي

- ‌باب حكم المرتد

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌باب الذ كاة

- ‌كتاب الصيد

- ‌كتاب الأيمان

- ‌باب جامع الأيمان

- ‌باب النذر

- ‌كتاب القضاء

- ‌باب أدب القاضي

- ‌باب طريق الحكم وصفته

- ‌باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي

- ‌باب القسمة

- ‌باب الدعاوي والبينات

- ‌باب في تعارض البينتين

- ‌كتاب الشهادات

- ‌باب شروط من تقبل شهادته

- ‌باب موانع الشهادة

- ‌باب أقسام المشهود به

- ‌باب الشهادة على الشهادة

- ‌باب اليمين في الدعاوى

- ‌كتاب الإقرار

- ‌باب ما يحصل به الإقرار

- ‌باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

- ‌باب الإقرار بالمجمل

الفصل: ‌باب شروط من تقبل شهادته

‌باب شروط من تقبل شهادته

قال المصنف رحمه الله: (وهي ستة:

أحدها: البلوغ. فلا تقبل شهادة الصبيان. وعنه: تُقبل ممن هو في حال أهل العدالة. وعنه: لا تقبل إلا في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها).

أما كون شروط من تُقبل شهادته ستة؛ فلأنها البلوغ، والعقل، والكلام، والإسلام، والضبط، والعدالة. وسيأتي ذكرها وذكر دلائلها بعد إن شاء الله تعالى.

وأما كون أحدها: البلوغ؛ فلأن غير البالغ كالصبي لا تُقبل شهادته؛ لما يأتي.

وأما كون شهادة الصبيان لا تُقبل على المذهب؛ فلأن الله تعالى قال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282]، وقال:{وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم} [الطلاق: 2]، ، وقال:{ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]، والصبي ممن لا يُرضى به. وقال:{ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبه} [البقرة: 283]. والصبي لا يأثم.

ولأن الصبي لا يقبل قوله على نفسه. فلأن لا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى.

وأما كونها تُقبل ممن هو في حال العدالة على روايةٍ؛ فلأنه يمكنه ضبط ما يشهد به. فقبلت شهادته؛ كالبالغ.

قال ابن حامد على هذه الرواية: تُقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص؛ كالعبيد.

وأما كونها لا تُقبل إلا في الجراح خاصة؛ فلأنه يروى عن مسروق قال: «كنا عند علي فجاءه خمس غلمة. فقالوا: كنا ست غلمةٍ نتغاط فغرق منا غلام،

ص: 641

فشهد الثلاثة على الاثنين أنهما غرَّقاه، وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرَّقوه، فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية، وعلى الثلاثة خمسيها» (1). وقضى بنحو هذا مسروق.

قال: (الثاني: العقل. فلا تُقبل شهادة معتوهٍ ولا مجنونٍ إلا من يخنق في الأحيان إذا شهد في إفاقته).

أما كون الثاني من شروط من تقبل شهادته: العقل؛ فلأن من لا عقل له لا يمكنه تحمل الشهادة ولا أداؤها؛ لأنه لا يعقل ذلك إلا بضبط الشهادة.

وأما كون شهادة المعتوه لا تقبل؛ فلأنه لا عقل له.

وأما كون شهادة مجنون مطبق لا تقبل؛ فلأنه لا عقل له.

وأما كون من يخنق في الأحيان تقبل شهادته إذا شهد في إفاقته؛ فلأن المصحح لشهادة من لم يجن أصلاً موجود فيمن ذكر. فوجب إلحاقه به.

واشترط المصنف رحمه الله في ذلك: أن يشهد في إفاقته؛ ليخرج من شهد في جنونه.

ولا بد فيه أيضا أن يكون تحمل في وقت إفاقته؛ لأنه تحمله في جنونه لا يصح؛ لأنه لا يمكنه الضبط.

قال: (الثالث: الكلام. فلا تُقبل شهادة الأخرس. ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فُهمت إشارته).

أما كون الثالث من شروط من تقبل شهادته: الكلام؛ فلأنه يلي الثاني.

وأما كون الكلام من شروط ذلك؛ فلأن الشهادة يُعتبر فيها اليقين، وذلك لا يحصل مع فقد الكلام.

وأما كون شهادة الأخرس لا تقبل؛ فلأن شرط القبول الكلام ولم يوجد.

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27864) 5: 447 كتاب الديات، القوم يدفع بعضهم بعضاً في البئر أو الماء.

ص: 642

ولأن الإشارة لو اكتفي بها معه الخرس لوجب أن يكتفى بها مع النطق؛ لأنها إن كانت محصّلة للمطلوب شرعاً فهي موجودة فيهما، وإشارة الناطق لا يحكم بها وفاقاً فكذلك إشارة الأخرس.

فإن قيل: قد اكتفي بإشارته في وصيته وطلاقه وإقراره وسائر أحكامه فكذلك يجب أن يكون هاهنا.

قيل: إنما اكتفي بذلك للضرورة، ولا ضرر بذلك في قبول شهادته.

فإن قيل: في الحديث «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالساً فصلى من خلفهُ قياماً فأشارَ إليهم أن اجْلِسُوا» (1)، ولو لم تكن الإشارة كافيةً لما كان الأمر كذلك؟ .

قيل: الشهادة تفارق ما ذكر بدليل: أن الإشارة اكتُفي بها من النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه ناطقاً، ولو تعدى ذلك إلى الشهادة لاكتفى بالإشارة من الناطق وذلك منتفٍ إجماعاً.

وأما كونها يحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فُهمت إشارته؛ فلأن اليقين حاصل في التحمل، وإشارة المؤدي العاجز عن النطق؛ كنطقه. دليله: الأحكام المتقدم ذكرها. وفارق ما طريقه السماع من حيث إن الأخرس غالباً يكون أصم فيقع الخلل في التحمل.

والأول أولى؛ لأن الكلام شرط في القبول ولم يوجد.

قال: (الرابع: الإسلام. فلا تُقبل شهادة كافر إلا أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم، وحضر الموصي الموت فتقبل شهادتهم، ويحلفهم الحاكم بعد العصر: لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله، وأنها لوصية الرجل، فإن عُثر على أنهما استحقا إثماً قام آخران من أولياء الموصي فحلفا بالله لشهادتُنا أحق من شهادتهما ولقد خانا وكتما، ويقضي لهم. وعنه: أن شهادة بعض أهل الذمّة تقبل على البعض. والأوّل المذهب).

أما كون الرابع من شروط من تقبل شهادته: الإسلام؛ فلأن الله تعالى قال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282]، وقال: {وأشهدوا ذوي عدل

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (656) 1: 244 كتاب الجماعة والإمامة، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به.

وأخرجه مسلم في صحيحه (412) 1: 309 كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام.

ص: 643

منكم} [الطلاق: 2]، وقال:{ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. ومن فقد الإسلام فليس من رجالنا، ولا منّا، ولا ممن نرضاه.

وأما كون شهادة الكافر بغير الوصية في السفر لا تُقبل؛ فلأن شرطها الإسلام ولم يوجد.

وأما كون شهادته بالوصية في السفر بالشروط التي ذكرها المصنف تقبل ويحلفه الحاكم على الوجه المتقدم ذكره؛ فلأن الله عز وجل قال: {يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينِكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبةُ الموت} [المائدة: 106].

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قضوا بذلك. فروى ابن عباس قال: «خرجَ رجلٌ من بني سهمٍ مع تميمٍ الداري وعدي بن زيد، فماتَ السهمي بأرضٍ ليس بها مسلمٍ، فلما قدما بتركته فقدوا جامَ فضةٍ مُخَوَّصًا بالذهب. فأحلفهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ثم وجدوا الجامَ بمكة. فقالوا: اشتريناهُ من تميم وعدي. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتُنا أحق من شهادتهما وإن الجامَ لصاحبهم. فنزلت فيهم: {يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم إذا حضر أحدكم الموت

الآية} [المائدة: 106]» (1).

وعن الشعبي «أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقُوقاء (2) ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته. فأشهد رجلين من أهل الكتاب. فقدما الكوفة. فأتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته. فقال الأشعري: هذا أمرٌ (3) لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأحلفهما بعد العصر ما

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2628) 3: 1022 كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة

الآية}.

وأخرجه أبو داود في سننه (3606) 3: 307 كتاب الأقضية، باب شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر.

(2)

دقوقاء: بلد بين بغداد وإربل.

(3)

في د: ليس. وما أثبتناه من السنن.

ص: 644

خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا، وأنها لوصية الرجل وتركته. وأمضى شهادتهما» (1). رواهم أبو داود.

وأما كون شهادة بعض أهل الذمة تُقبل على البعض على روايةٍ؛ فلما روى جابر «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أجازَ شهادةَ [أهلِ الكتابِ]، بعضِهم على بعض» (2). رواه ابن ماجة. فجازت شهادة بعضهم على بعض؛ كالمسلمين.

والأول المذهب؛ لما تقدم من النصوص.

ولأن من لا تقبل شهادته على غير أهل دينه لا تقبل على أهل دينه؛ كالحربي.

وأما الخبر المذكور فيرويه مجالد وهو ضعيف. وإن ثبت فيحتمل أنه أراد اليمين؛ لأنها تسمى شهادة، قال الله تعالى في اللعان:{فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ بالله} [النور: 6].

وأما الولاية فهي متعلقة بالقرابة وقرابتهم ثابتة، وجازت لموضع الحاجة فإن غيرهم من المسلمين لا يلي عليهم والحاكم يتعذر عليه ذلك؛ لكثرته، والشهادة ممكنة من المسلمين، ويؤيد ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تُقبلُ شهادةُ أهل دين إلا المسلمين فإنهم عدولٌ على أنفسهم وعلى غيرهم» (3).

قال: (الخامس: أن يكون ممن يحفظ. فلا تُقبل شهادة مغفل، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان).

أما كون الخامس من شروط من تقبل شهادة: أن يكون ممن يحفظ؛ فلأنه يلي الرابع.

وأما كون ذلك من شروط ذلك؛ فلأن من لا يحفظ لا يدري ما يشهد حين الأداء، وذلك يخل بمقصود الشهادة.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3605) 3: 307 كتاب الأقضية، باب شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر.

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه (2374) 2: 794 كتاب الأحكام، باب شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض. وما بين المعكوفين زيادة من السنن. قال في الزوائد: في إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 163 كتاب الشهادات، باب من رد شهادة أهل الذمة.

ص: 645

ولأن من لا يحفظ لا تحصل الثقة بقوله، ولا يغلب على الظن صدقه.

وأما كون شهادة المغفل لا تُقبل؛ فلأنه لا يحفظ.

وأما كون شهادة معروفٍ بكثرة الغلط والنسيان لا تُقبل؛ فلأن الثقة لا تحصل بقوله؛ لاحتمال أن تكون شهادته مما غلط فيه ونسي.

ولأنه ربما شهد على غير من استشهد عليه، أو بغير ما شهد به، أو لغير من أشهده.

ص: 646

فصل [في العدالة]

قال المصنف رحمه الله: (السادس: العدالة. وهي: استواءُ أحواله في دينه واعتدالُ أقواله وأفعاله. وقيل: العدل من لم تظهر منه ريبةٌ.

ويعتبر لها شيئان: الصلاحُ في الدين. وهو: أداء الفرائض، واجتنابُ المحارم. وهو: أن لا يرتكبَ كبيرة، ولا يُدمن على صغيرة. وقيل: أن لا يظهر منه إلا الخير).

أما كون السادس من شروط من تقبل شهادته: العدالة؛ فلأنه يلي الخامس.

وأما كون العدالة من شروط ذلك؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإٍ فتبينوا} [الحجرات: 6]. فتثبتوا.

ولأن غير العدل لا يُؤمن منه أن يتحامل على غيره فيشهد عليه بغير حق.

وأما كون العدالة كما ذكر؛ فلما تقدم من تفسيرها. والخلاف فيها في قول المصنف رحمه الله: ويعتبر في البينة العدالة ظاهراً وباطناً في الفصل الثاني من باب طريق الحكم وصفته (1). فلا حاجة إلى إعادة ذلك فيها.

وأما كونها يعتبر لها شيئان: الصلاحُ في الدين والمروءة؛ فلأن من لا صلاح له في الدين ولا مروءة له لا يُؤمن أن يشهد على غيره بالزور.

وأما كون أحد الشيئين الصلاحُ في الدين؛ فظاهر.

وأما كون الصلاحُ في الدين أداء الفرائض واجتناب المحارم؛ فلأن (2) لأنه يؤدي أن لا تقبل شهادة أحد؛ لأنه لا يخلو أحد من ذنب، ولذلك قال الله تعالى:{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم} [النجم: 32]. مدحهم لاجتنابهم ما ذكر، وإن كان قد وجد منهم صغيرة.

(1) ص: 539.

(2)

تتمة العبارة غير واضحة في حاشية د.

ص: 647

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن تَغْفِرِ اللهم تغْفِرْ جَمّا، وأيُّ عبدٍ لكَ ما ألَمّا» (1).

وإنما اعتبر فيمن تقبل شهادته أن لا يرتكب كبيرة؛ لأن الله تعالى أمر أن لا تقبل شهادة القاذف وهي كبيرة. فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة.

وإنما اعتبر فيه أن لا يُدمن على صغيرة؛ لأن من لم يرتكب الكبيرة وأدمن على الصغيرة لا يُعدّ مجتنباً للمحارم لا عُرفاً ولا شرعاً.

ولأن الإدمان على الصغيرة كالكبيرة.

فإن قيل: ما الكبيرة؟

قيل: هي كل معصية فيها حدٌ، والإشراكُ بالله، وقتلُ النفس الحرام، وشهادةُ الزور، وعقوقُ الوالدين.

ونُقل عن الإمام أحمد رحمه الله: لا تقبل شهادة آكل الربا، وقاطعُ الطريق، ومن لا يؤدي زكاة ماله، ومن أخرج في طريق المسلمين الاسطوانة (2) والكنيف، والكاذب الكذب الشديد.

وأما كون اجتناب المحارم. وهو: أن لا يظهر من الشخص إلا الخير على قول؛ فلأن اعتبار ما تقدم ذكره (3) مشقة وحرج، وذلك منتفٍ شرعاً.

قال: (ولا تُقبل شهادة فاسق سواء كان فسقُه من جهة الأفعال أو الاعتقاد. ويتخرج على قبول شهادة أهل الذمة قبول شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد المتدين به إذا لم يتدين بالشهادة لموافقه على مخالفه).

أما كون شهادة الفاسق من جهة الفعل؛ كالزاني والقاتل والسارق وما أشبه ذلك لا تُقبل شهادته رواية واحدة؛ فلما تقدم.

وأما كون شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد غير المتدين لا تُقبل أيضاً؛ فلأنه فاسق غير متدين. أشبه الفاسق بالفعل.

وأما كون شهادة الفاسق المتدين بالشهادة لموافقه على مخالفه كالخطابية لا تُقبل أيضاً؛ فلأن الثقة لا تحصل بقوله لتدينه بكذبه.

(1) أخرجه الترمذي في جامعه (3284) 5: 396 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة والنجم.

(2)

في د: الاصطوانة. وما أثبتناه من الشرح الكبير 12: 38.

(3)

في د كلمتان غير واضحتين.

ص: 648

وأما كون شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد المتدين به إذا لم يتدين بما تقدم ذكره لا تُقبل على المذهب؛ فلعموم النصوص الدالة على عدم قبول قول الفاسق، وقياسه على الصور المذكورة قبل.

وأما كونه يتخرج على قبول شهادة أهل الذمة قبول شهادته؛ فلأن الفاسق من جهة الاعتقاد أحسن حالاً من الكافر. فإذا قبلت شهادته كان قبول قول الفاسق من جهة اعتقاد المتدين به أولى.

قال: (وأما من فعل شيئاً من الفروع المختلف فيها فتزوج بغير ولي، أو شرب من النبيذ ما لا يسكره، أو أخّر الحج الواجب مع إمكانه أو نحوه متأولاً فلا تُرد شهادته. وإن فعله معتقداً تحريمه رُدت شهادته. ويحتمل أن لا تُرد).

أما كون من فعل شيئاً متأولاً لا تُرد شهادته؛ فلأن الاختلاف في الفروع رحمة. فلو رُدت الشهادة بذلك لما كان الأمر كذلك.

ولأن التأويل فيما ذكر شائع جائز. بدليل اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في المسائل الفروعية ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان. وذلك لا يناسب رد الفاعل لذلك على وجه التأويل؛ لأنه فعل ما له فعله. أشبه فعل المتفق عليه.

وأما كون من فعل شيئاً من ذلك مع اعتقاد تحريمه تُرد شهادته إذا تكرر ذلك منه على المذهب؛ فلأنه فعل ما يعتقد تحريمه. أشبه فعل المحرم إجماعاً.

وأما كونه يحتمل أن لا تُرد؛ فلأن لفعله في الجملة مساغاً.

والأول أولى؛ لما تقدم.

ولأن الفاعل لشيء من الفروع المختلف فيها معتقداً التحريم بذلك: آثم لفعله، مستديم له، وذلك ينافي قبول شهادته.

قال: (الثاني: استعمال المروءة. وهو: فعلُ ما يجمّله ويزيّنه وترك ما يُدنّسه ويشينُه. فلا تُقبل شهادة المصافع والمتمسخِر والمغنّي والرقّاص واللاعب بالشطرنج والنرْد والحمام، والذي يتغدى في السوق ويمدُّ رجليه في مجمع الناس، ويحدّث بمباضَعة أهله وأمته، ويدخل الحمّام بغير مئزر ونحو ذلك).

أما كون الثاني من شيء ما يعتبر في العدالة: استعمال المروءة؛ فلأنه يلي الأول.

ص: 649

وأما كون ذلك مما يعتبر في العدالة؛ فلأن من فقد المروءة اتصف بالدناءة والسقاطة، وكلاهما يذهب الثقة بقول المتصف بهما.

وأما كون استعمال المروءة وهو ما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن من لم يفعل ما ذُكر فعله ولم يترك ما ذُكر تركه لا مروءة له عُرفاً. فكذا شرعاً.

وأما كون شهادة المصافع

إلى آخره لا تُقبل؛ فلأن الفاعل لشيء من ذلك لا مروءة له، وقد تقدم أنها معتبرة في العدالة.

وكلام المصنف رحمه الله مشعر بأن شهادة من ذُكر لا تُقبل؛ لعدم المروءة لأنه ذكر استعمال المروءة ثم قال: فلا تُقبل شهادة المصافع

إلى آخره. وعندي في ذلك نظر وهو: أن المتصف بخصلة مما تقدم ذكره ينبغي أن ينظر فيما اتصف به فإن كان محرماً كان المانع من قبول شهادته كونه فاعلاً للمحرم، لا يقال فعلُ المحرم مرةً لا يمنع من قبول الشهادة؛ لأن الكلام مفروض فيمن هو متصفٌ بذلك مستمرٌ عليه، مشهورٌ به، وذلك يقتضي المداومة عليه، والمداومة على الصغيرة كالكبيرة في رد الشهادة، وإن كان ما اتصف به غير محرم كان المانع من قبول شهادته كون فعله دناءةً وسفهاً ويكون ذلك من باب فقد المروءة.

فعلى هذا لا بد من بيان من فعله دناءة وسفه من غير تحريم ممن فعله محرم فنقول: أما المصافع والمتمسخِر، ومن يأكل في السوق، ويمدّ رجليه في مجمع من الناس، ويحدّث بمباضَعته أهله: ففعل كل واحدٍ منهم دناءة وسفه من غير حرمة:

أما كونه دناءةً وسفهاً؛ فظاهر.

وأما كونه من غير حرمة؛ فلأن التحريم من الشرع ولم يرد به.

قال المصنف في المغني بعد أن ذكر الآكل في السوق ومادّ رجليه في مجمع الناس والمتمسخر والمحدث بمباضعته أهله: فإن فعل شيئاً من هذا مختفياً لم يمنع قبول الشهادة؛ لأن مروءته لا تسقط بذلك، ولو كان ذلك محرماً لكان الاختفاء به مانعاً كالإظهار؛ لاستوائهما في الحرمة.

وأما المغنّي ففعله حرام؛ لأن الله تعالى قال: {واجتنبوا قول الزور} [الحج: 30]. قال ابن الحنفية: هو الغناء.

ص: 650

وعن ابن عباس وابن مسعود: «في تفسير قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} [لقمان: 6] هو الغناء» (1).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغناءُ يُنبتُ النفاقَ في القلب» (2).

وعن أبي أمامة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء المغنيات، وبيعهن، والتجارة فيهن، وأكل أثمانهن حرام» (3). رواه الترمذي.

فعلى هذا ترد شهادته؛ لفعله المحرم.

وقال بعض أصحابنا: الغناء غير حرام؛ لأن عائشة قالت: «كان عندي جاريتان تُغنِّيان فدخل أبو بكر فقال: مزمور الشيطان في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهما فإنها أيامُ عيد» (4).

وعن عمر رضي الله عنه قال: «الغناءُ زادُ الراكب» .

فعلى هذا لا تقبل شهادة المغنِّي وهو من يجمعُ الناس عليه يأتيهم مرة ويأتونه أخرى؛ لأن في فعله دناءةً وسفهاً، ولا ترد شهادة من يغني لنفسه على وجه الترنم؛ لأن ذلك لا تحريم فيه ولا دناءة.

وأما الرقّاص ففعله دناءة؛ لما يتضمن من قلة العقل. ولم أجد عن أصحابنا ما يقتضي تحريمه، والأصل الإباحة.

وأما اللاعب بالنرْد والشطرنج ففعلهما حرام: أما كون اللعب بالنرْد حراماً؛ فلما روى أبو موسى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من لعبَ بالنرْدَشِير فقد عصى الله ورسوله» (5).

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 223 كتاب الشهادات، باب الرجل يغني فيتخذ الغناء صنعة

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4927) 4: 282 كتاب الأدب، باب كراهية الغناء والزمر.

(3)

أخرجه الترمذي في جامعه (1282) 3: 579 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المغنيات.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2168) 2: 733 كتاب التجارات، باب ما لا يحل بيعه.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (909) 1: 324 كتاب العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام.

وأخرجه مسلم في صحيحه (892) 2: 607 كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (4938) 4: 285 كتاب الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد.

ص: 651

وروى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لعبَ بالنرْدَشِيرِ فكأنما غَمسَ يدَه في لحمِ الخنزيرِ ودمه» (1). رواهما أبو داود.

وأما كون اللعب بالشطرنج حراماً؛ فلأن الله تعالى قال: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان} [المائدة: 90] قال عليٌ: «الشطرنجُ من الميسر» (2).

وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن للهِ في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاة فيها نصيب» . رواه أبو بكر بإسناده.

و«مرَّ على قوم يلعبون بالشطرنج. فقال: ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون؟ » (3).

ولأنه لعب يصد عن ذكر الله وعن الصلاة. أشبه النرد.

وأما اللاعب بالحمام فيُنظر فيه فإن كان ذلك ليأخذ حمام الناس، أو ليقامر بها فذلك حرام. وإن كان ليأكل فراخها، أو لتحملَ له الكتب، أو للأُنس فلا بأس.

وفي الحديث عن عبادة بن الصامت قال: «جاءَ رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى الوحشة فقال له: اتخذ زوجاً من حمام» ، وإن فعل ذلك فُرجة على طيرانها ونظراً كان ذلك سفهاً ودناءة.

وأما داخل الحمّام بغير مئزر ففعله حرام؛ لأن فيه كشف عورته المأمور بسترها. وقد تقدم ذكر ذلك في باب ستر العورة (4).

(1) أخرجه أبو داود في سننه (4939) الموضع السابق.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 212 كتاب الشهادات، باب الاختلاف في اللعب بالشطرنج.

(3)

أخرجه البيهقي في الموضع السابق.

(4)

1: 296.

ص: 652

قال: (فأما الشَين في الصناعة؛ كالحجام والحائك والنخّال والنفّاط والقمّام والزبّال والمشعوذ والدبّاغ والحارس والقرّاد والكبّاش فهل تُقبل شهادتهم إذا حسنت طرائقهم؟ على وجهين).

أما كون ما ذكر تُقبل شهادتهم إذا حسنت طرائقهم على وجه؛ فلأن بالناس حاجة إلى من يقوم بما ذكر، ورد شهادة فاعله يمنع من تعاطيه. فيؤدي إلى ضرر عام بالخلق، وذلك منتفٍ شرعاً.

وأما كونهم لا تُقبل شهادتهم على وجه؛ فلأن تعاطي ما ذكر يتجنَّبهُ أهل المروءات. فكان فعله مانعاً من الشهادة كالقِسْم الذي قبله. هذا تعليل كلام المصنف رحمه الله. وعندي فيه نظر كما تقدم. وينبغي أن ينظر في الصناعة فإن كانت محرمة منعت قبول الشهادة؛ لفعله المحرم على وجه التكرار؛ لأن من كان الشيء المحرم صنعته كان فعله له مكرراً، وإن كانت مباحة فمنها ما يترجح فيه قبول الشهادة؛ كالحائك لا سيما في بلاد ظهرَ الدينُ فيهم كحرّان، ومنها ما يترجح فيه رد الشهادة؛ كالزبال؛ لأن في فعله دناءة وسفهاً.

فعلى هذا: الحجام ينبني على جواز الإجارة: فإن قيل بعدم جواز الإجارة عليه منع فعله الشهادة؛ لأنه فعل محرم متكرر، ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم:«كسبُ الحجّام خبيث» (1)، وإن قيل بجواز الإجارة عليه منع فعله الشهادة؛ لما فيه من الدناءة والسقاطة، والحائك تقدم ذكره. والنخّال والنفّاط فعلهما فيه دناءة، ويترجح عدم رد شهادتهما؛ لأن الظاهر من حالهما الاستقامة.

وأما القمّام والزبّال فالظاهر منهما أنهما لا يتوقيان النجاسة، وإن توقياها كان فيها دناءة، ويترجح رد شهادتهما؛ لأجل ذلك الظاهر.

وأما المشعوذ والدبّاغ والحارس والقرّاد والكبّاش ففعلهم فيه دناءة، ويترجح رد شهادتهم؛ لأن الغالب فيهم أنهم لا مروءة لهم، وهي شرط في قبول الشهادة.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1568) 3: 1199 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن

ص: 653

فصل [إذا زالت موانع الشهادة]

قال المصنف رحمه الله: (ومتى زالت الموانع منهم فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قُبلت شهادتهم بمجرد ذلك، ولا يعتبر إصلاح العمل. وعنه: يعتبر في التائب إصلاح العمل سَنَة).

أما كون من زالت الموانع المذكورة منهم تُقبل شهادتهم؛ فلأن عدم القبول معلل بذلك فإذا زال عُدم القبول ضرورة أن المعلل يزول لزوال علته.

وأما كون الفاسق إذا تاب تُقبل شهادته بمجرد توبته من غير اعتبار صلاح العمل على المذهب؛ فلما تقدم ذكره.

وأما كونه يعتبر فيه إصلاح العمل سنة؛ فلأن الله تعالى قال: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} [آل عمران: 89]. نهى عن قبول الشهادة ثم استثنى التائب المصلح.

و«لأن عمر رضي الله عنه لما ضربَ صَبيغاً وأمر بهجرانه حتى بلغه توبته. فأمرَ أن لا يُكلَّمَ إلا بعدَ سنة» (1).

والأول أصح؛ لما تقدم.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له» (2).

ولأن شهادة الكافر تُقبل بمجرد الإسلام. فلأن تقبل شهادة الفاسق بمجرد التوبة بطريق الأولى.

ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة بدليل قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصِروا

(1) أخرجه الدارمي في السنن نحوه. (150) 1: 43 المقدمة. باب من هاب الفتيا وكره التنطّع والتبدّع. وليس فيه: «فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة» .

(2)

أخرجه ابن ماجة في سننه (4250) 2: 1419 كتاب الزهد، باب ذكر التوبة.

ص: 654

على ما فعلوا وهم يعلمون? أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم

الآية} [آل عمران: 135 - 136]، وقوله تعالى:{ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} [النساء: 110]، وقول عمر رضي الله عنه:«بقيةُ عمر المرء لا قيمة له يدركُ فيه ما فات، ويحيي فيه ما أمات، ويبدّلُ الله سيئاته حسنات» فينبغي أن يحصل بمجردها قبول التوبة، وقوله تعالى:{فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح} (1)[المائدة: 39] يحتمل أنه أراد بالإصلاح التوبة وعطف {وأصلح} على {تاب} ؛ لاختلاف اللفظين، ودليل ذلك قول عمر:«تُبْ أقبل شهادَتك» (2).

قال: (ولا تُقبل شهادة القاذف حتى يتوب. وتوبته: أن يكذب نفسه. وقيل: إن علمَ صدق نفسه فتوبته أن يقول: قد ندمتُ على ما قلتُ ولا أعودُ إلى مثله، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منه).

أما كون شهادة القاذف لا تُقبل قبل توبته؛ فلأن الله تعالى قال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4].

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا محدودٍ في الإسلام» (3). رواه ابن ماجة.

والمراد بالقاذفِ المردودِ الشهادة: القاذفُ الذي لم يأت بما يحقق قذفه فإن أتى بما يحقق قذفه؛ كالزوج يقذف زوجته، ويحقق قذفه بالبينة أو باللعان. والأجنبي يقذف أجنبية، ويحقق قذفه بالبينة: لم ترد شهادته؛ لأن الله تعالى إنما رتب الأحكام المذكورة على مجموع الأمرين: من رمي المحصنات، وعدم الإتيان بأربعة شهداء. فإذا لم يوجد ذلك لم تترتب الأحكام المذكورة؛ لانتفاء شرطها.

وأما قول المصنف رحمه الله: حتى يتوب؛ فمشعر بقبول شهادته بعد توبته. وهو صحيح صرح به المصنف رحمه الله تعالى في المغني. والأصل في ذلك قوله

(1) في د: إلا من تاب وأصلح.

(2)

أخرجه الشافعي في مسنده (642) 2: 181 كتاب الشهادات.

(3)

أخرجه ابن ماجة في سننه (2366) 2: 792 كتاب الأحكام، باب من لا تجوز شهادته.

ص: 655

تعالى: {إلا الذين تابوا} [النور: 5]، وقول عمر لأبي بكرة:«تُب أقبل شهادَتك» (1).

ولأن القاذف المذكور إذا تاب تائب من ذنبه. فوجب أن تقبل شهادته؛ كالتائب من الزنا بل أولى؛ لأن الزنا أعظم من القذف.

فإن قيل: قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} [النور: 4]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا محدودٍ في الإسلام» (2) يدلان على عدم قبول شهادة القاذف وإن تاب.

قيل: أما الآية فقد استثنى الله تعالى فيها التائب بقوله بعد قوله: {ولا تقبلوا} [النور: 4]{إلا الذين تابوا} [النور: 5].

وأما الحديث؛ فمحمول على من لم يتب بدليل الاستثناء في الآية.

وأما كون توبة القاذف أن يكذب نفسه على المذهب؛ فلأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} [النور: 5]: «توبتهُ إكذابُ نفسه» .

وأما كونها إذا علم صدق نفسه أن يقول: قد ندمت عما قلت ولا أعود إلى مثله، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منه على قول؛ فلأن المقصود يحصل بذلك. فوجب أن تحصل التوبة به؛ كغيره.

ولأن الندم توبة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الندمُ توبة» (3). فوجب أن تحصل التوبة لمن يقول: قد ندمت

إلى آخره بحصول الندم.

وإنما اعتبر القول؛ لأن ما في الباطن لا يُطلع عليه. فلم يكن بد من القول الدال عليه؛ ليعلم تحقق الندم الموجب للتوبة.

(1) سبق تخريجه ص: 655.

(2)

سبق تخريجه قريباً.

(3)

أخرجه ابن ماجة في سننه (4252) 2: 1420 كتاب الزهد، باب ذكر التوبة.

ص: 656

فصل [في شهادة العبد]

قال المصنف رحمه الله: (ولا يُعتبر في الشهادة الحرية، بل تجوز شهادة العبد في كل شيء، إلا في الحدود والقصاص على إحدى الروايتين. وتُقبل شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء).

أما كون الشهادة لا يعتبر فيها الحرية؛ لأن الله تعالى أمر بإشهاد ذَوي عدل منا، ومن فقد الحرية عدلٌ منا. بدليل قبول روايته وفتياه وأخباره الدينيّة.

ولأن العبد عدل غير متهم. فقبلت شهادته؛ كالحر.

وأما كون شهادة العبد في كل شيء غير الحدود والقصاص يجوز؛ فلأن الحرية ليست معتبرة في الشهادة.

وأما كونها تُقبل في الحدود والقصاص على إحدى الروايتين؛ فلما تقدم.

ولأنه حق. أشبه الأموال.

وأما كونها لا تُقبل على إحداهما؛ فلأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات، وفي شهادة العبد شبهة؛ لاختلاف العلماء في قبولها.

وأما كون شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء تُقبل؛ فلأن الموجود فيها الرق، وذلك لا يمنع في العبد فلا يمنع في الأمة بالقياس عليه، وفي الأثر أن عقبة بن الحارث (1) قال:«تزوجتُ أم يحيى بنت أبي إهاب. فجاءت أمةٌ سوداء فقالت: قد أرضعتكُما. فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وكيفَ وقد زعمتْ ذلك» (2) متفق عليه.

(1) في د: عقبة بن يحيى. وما أثبتناه من الصحيح.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2516) 2: 941 كتاب الشهادات، باب شهادة الإماء والعبيد. ولم أره في مسلم.

ص: 657

وفي رواية أبي داود: «فقلتُ: يا رسول الله! إنها لكاذبة. قال: وما يُدريكَ وقد قالت ما قالت؟ دعْهَا عنك» (1).

قال: (وتجوز شهادة الأصم على ما يراه، وعلى المسموعات التي كانت قبل صممه).

أما كون شهادة الأصم على ما يراه تجوز؛ فلأنه ما يراه كغيره.

وأما كون شهادته على المسموعات التي كانت قبل صممه تجوز؛ فلأنه في ذلك كمن لم يصبه صمم.

قال: (وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن الصوت وبالاستفاضة، وتجوز في المرئيات التي تحملها قبل العمى إذا عرفَ الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به، فإن لم يعرفه إلا بعينه فقال القاضي: تُقبل شهادته أيضاً، ويصفه للحاكم بما يتميز به. ويحتمل أن لا تجوز؛ لأن هذا مما لا ينضبط غالباً. وإن شهد عند الحاكم ثم عمي قُبلت شهادته وجهاً واحداً).

أما كون شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن صوت المشهود عليه تجوز. والمراد به قبولها؛ فلأن شهادته على مسموع. فوجب قبولها؛ كروايته.

ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين فإذا حصل ذلك للأعمى وجب قبول شهادته؛ كالبصير.

وعن قتادة أنه قال: إن للسمع قيافةً كقيافة البصر.

ولأن الأعمى من رجالنا وهو متيقن لصوت المشهود عليه. فوجب أن يدخل في قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282].

ولأنه يروى عن علي وابن عباس أنهما أجازا شهادة الأعمى، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة.

وأما كون شهادته بالاستفاضة تجوز؛ فلأنها تعتمد على القول وشهادته عليه جائزة؛ كما تقدم.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3603) 3: 306 كتاب الأقضية، باب الشهادة في الرضاع.

ص: 658

وأما كون شهادته في المرئيات التي تحملها قبل العمى إذا عَرف الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به تجوز؛ فلما تقدم.

ولأن العمى فقدُ حاسة لا تُخِلّ بالتكليف. فلا تمنع قبول الشهادة؛ كالصمم.

وأما كونها تُقبل إذا لم يعرف المشهود عليه إلا بعينه على قول القاضي ويصفه للحاكم بما يتميز به؛ فلما تقدم من عموم الأدلة.

وأما كونها يحتمل أن لا تجوز؛ فلما علل المصنف رحمه الله من أن هذا لا ينضبط غالباً.

وأما كون الأعمى إذا شهد عند الحاكم ثم عمي تُقبل شهادته. والمراد به الحكم بها؛ فلأن العمى طرأ بعد أداء الشهادة لا يورث تهمة في حال الشهادة. فلم يمنع الحكم بها؛ كما لو شهد ثم مات.

قال: (وشهادةُ ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره).

أما كون شهادة ولد الزنا في الزنا جائزة؛ فلأنه عدلٌ مقبول الرواية. فوجب أن يكون مقبول الشهادة؛ كغيره من العدول.

ولأن ولد الزنا من رجالنا. فوجب أن يدخل في عموم النص المتقدم ذكرها.

فإن قيل: لا ينبغي أن تقبل شهادته بذلك؛ لأن العادة أن من فعل فعلاً قبيحاً يحب أن يكون له نظير.

ولأنه يروى عن عثمان أنه قال: «ودّت الزانيةُ أن النساءَ كلَّهن زنَين» .

قيل: أما الأول: فغلط؛ لأن ولد الزنا لم يفعل قبيحاً يحب أن يكون له نظير.

وأما الثاني: فليس يثبت عن عثمان. والأشبه أن لا يكون ثابتاً عنه؛ لأن الأليق بحاله ودينه أن لا يذكر امرأة في ظهر الغيب بمثل ذلك.

وأما كونه في غير الزنا جائزة؛ فلما تقدم ذكره.

ولأنه مقبول الشهادة في الزنا. فوجب أن يكون مقبول الشهادة في غيره بالقياس عليه.

ص: 659

قال: (وتقبلُ شهادة الإنسان على فعل نفسه كالمرضعة على الرضاع، والقاسم على القسمة، والحاكم على حكمه بعد العزل).

أما كون شهادة المرضعة على فعل نفسها تُقبل؛ فلأن عقبة بن الحارث قال: «تزوجتُ أم يحيى بنت أبي إهاب. فجاءت أمةٌ سوداء فقالت: قد أرضعتُكُما. فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وكيفَ وقد زعمتْ ذلك» (1) متفق عليه.

وأما كون شهادة القاسم على القسمة تقبل؛ فلأن شهادته على فعل النفس. أشبه شهادة المرضع على الرضاع.

وأما كون شهادة الحاكم بعد حكمه بعد عزله تقبل؛ فلأنه شاهد على فعل نفسه. أشبه المرضعة والقاسم.

قال: (وتُقبل شهادة البدوي على القروي، والقروي على البدوي. وعنه: في شهادة البدوي على القروي أخشى أن لا تُقبل فيحتمل وجهين).

أما كون شهادة البدوي على القروي تُقبل على وجه؛ فكشهادة القروي على البدوي.

ولأن من قُبلت شهادته على أهل البلد قُبلت شهادته على أهل القرى. دليله: شهادة القروي على البدوي.

وأما كونها لا تُقبل على وجه؛ فلأنه يروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجوزُ شهادةُ بدوي على صاحبِ القرية» (2). رواه أبو داود.

والأول أصح؛ لما تقدم.

والحديث محمول على أن شهادة البدوي لا تُقبل؛ للجهل بعدالته الباطنة. وخص بما ذكر؛ لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم عنه.

وأما كون شهادة القروي على البدوي [تقبل](3)؛ فلأن تخصيص شهادة البدوي على القروي بعدم جواز القبول مشعر بجواز العكس.

(1) سبق تخريجه ص: 657.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3602) 3: 306 كتاب الأقضية، باب شهادة البدوي على أهل الأمصار.

(3)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 660

ولأن القروي في مظنة العلم وانتفاء التهمة. فوجب قبول شهادته عملاً بالنصوص الدالة على القبول السالمة عن معارضة ما ذكر.

ص: 661