الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب طريق الحكم وصفته
قال المصنف رحمه الله: (إذا جلس إليه خصمان فله أن يقول: من المدعي منكما؟ وله أن يسكت حتى يبتدئا. فإن سبق أحدهما بالدعوى قدمه. وإن ادعيا معاً قدم أحدهما بالقرعة. فإذا انقضت حكومته سمع دعوى الآخر ثم يقول للخصم: ما تقول فيما ادعاه؟ . ويحتمل أن لا يملك سؤاله حتى يقول المدعي: اسأل سؤاله عن ذلك).
أما كون المتحاكم إليه له أن يقول للخصمين: من المدعي منكما؟ ؛ فلأن ذلك طريق إلى معرفة المدعي من المدعى عليه.
وأما كونه له أن يسكت حتى يبتدئَ المبتدئُ منهما؛ فلأن كلامه يستدعي طالباً له ولم يوجد.
وأما كونه يقدّم السابق بالدعوى؛ فلأنه ترجح جانبه بسبقه.
وأما كونه يقدّم أحدهما بالقرعة إذا تداعيا معاً؛ فلأنها مرجحة عند الازدحام. بدليل: الإمامة والأذان.
وأما كونه يسمع دعوى الآخر إذا انقضت حكومة السابق؛ فلأن التزاحم قد زال.
وأما كونه يقول للخصم المدعى عليه: ما تقول فيما ادعاه؟ على المذهب؛ فلأن شاهد الحال يدل عليه؛ لأن إحضار الخصم والدعوى عليه إنما يُرادان ليقول الحاكم للمدعى عليه ذلك.
وأما كونه يحتمل أنه لا يملك سؤاله حتى يقول المدعي: اسأل سؤاله عن ذلك؛ فلأن الخصم لو أقر لم يملك الحاكم الحكم قبل المطالبة به فكذا السؤال.
قال: (فإن أقرّ له لم يحكم له حتى يُطالبه المدعي بالحكم. وإن أنكر مثل أن يقول المدعي: أقرضته ألفاً أو بعته فيقول: ما أقرضني ولا باعني، أو ما يستحقُ عليّ ما ادعاه ولا شيئاً منه، أو لا حق له عليّ: صح الجواب).
أما كون الحاكم لا يحكم على المدعى عليه إذا أقر حتى يُطالبه المدعي بالحكم؛ فلأن الحكم على المدعى عليه حق للمدعي. فلم يجز استيفاؤه إلا بمسألة مستحقه.
وأما كون جواب المدعى عليه صحيحاً إذا أنكر بنفي عين ما ادعاه المدعي، مثل أن يقول المدعي: أقرضته ألفاً فيقول المدعى عليه: ما أقرضني ذلك ولا شيئاً منه. أو يقول: بعته فيقول: ما باعني. أو ما أشبه ذلك فلا شبهة فيه؛ لنفيه عين ما ادعي عليه.
وأما كونه صحيحاً إذا أنكر بنفي معنى ما ادعاه؛ مثل أن يقول: أقرضته أو بعته فيقول المدعى عليه: ما يستحق عليّ ما ادعاه ولا شيئاً منه؛ فلأنه يفيد نفي ما ادعى عليه. أشبه ما تقدم.
فإن قيل: لو قال: لا حق له عليّ.
قيل: يكون جوابه أيضاً صحيحاً؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم. فتصير بمنزلة قوله: ما يستحق عليّ ما ادعاه ولا شيئاً منه.
قال: (وللمدعي أن يقول: لي بينة. وإن لم يقل قال الحاكم: ألك بينة؟ . فإن قال: لي بينة أمره بإحضارها، فإذا أحضرها سمعها الحاكم وحكم بها إذا سأله المدعي).
أما كون المدعي له أن يقول: لي بينة؛ فلأن الحق له، والبينة طريق إلى تخليص حقه.
وأما كونه إذا لم يقل ذلك يقول الحاكم له: ألك بينة؟ ؛ فلما روي «أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي. فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن هذا غلبَني على أرضٍ لي. فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي وليسَ له فيها
حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه» (1). رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
وأما كونه إذا قال: لي بينة يأمره بإحضارها؛ فلأن إحضارها طريق إلى تخليص الحق.
وقال المصنف رحمه الله في المغني: إذا ذكر -يعني المدعي- أن له بينة حاضرة لم يقل له الحاكم: أحضرها؛ لأن ذلك حق له فله أن يفعل ما يرى.
وطريق الجمع بين نقله هنا وبين نقله في المغني: أن يحمل أمره بالإحضار على الإذن له فيه؛ لأن حمل الأمر على حقيقته ينافيه. ذكره المصنف رحمه الله في المغني، وينافي الدليل أيضاً.
وأما كونه إذا أحضر بينة يسمعها الحاكم؛ فلأن الإحضار من أجل السماع.
فإن قيل: كيف صفة ما يفعل الحاكم حتى يحصل له السماع؟
قيل: إذا حضرت البينة لا يقول الحاكم لها: قولي ما عندك بل يقول: من كانت عنده شهادة فليذكره إن شاء ما عنده.
وأما كون الحاكم يحكم بالبينة إذا سأله المدعي الحكم ببينته؛ فلأن الغرض من الدعوى وحضور البينة وسماعها: الحكم.
قال: (ولا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلسه إذا سمعه معه شاهدان. فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه معه (2) شاهد واحد فله الحكم به. نص عليه، وقال القاضي: لا يحكم به).
أما كون الحاكم لا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلس حكمه إذا سمعه معه شاهدان؛ فلأن التهمة الموجودة في الحكم بالعلم منتفية هاهنا.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (139) 1: 123 كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار.
وأخرجه أبو داود في سننه (3245) 3: 221 كتاب الأيمان والنذور، باب فيمن حلف يميناً ليقتطع بها مالاً لأحد.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1340) 3: 625 كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.
(2)
زيادة من المقنع.
وأما كونه له الحكم به إذا لم يسمعه معه أحد أو سمعه معه شاهد واحد على المنصوص عن الإمام أحمد؛ فلأن الحكم إذاً ليس محض حكمٍ بعلم.
وأما كونه لا يحكم به على قول القاضي؛ فلأنه حكم بعلمه، وذلك لا يجوز؛ لما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال: (وليس له الحكم بعلمه مما رآه أو سمعه. نص عليه وهو اختيار الأصحاب. وعنه: ما يدل على جواز ذلك سواء كان في حدٍ أو غيره).
أما كون الحاكم ليس له الحكم بعلمه على المذهب واختيار الأصحاب؛ فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، ولعل بعضكمْ أن يكونَ ألحنَ بحجتهِ من بعض فأقضي له على نحوِ ما أسمعُ منه» (1). فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم. وفي حديث الحضرمي والكندي: «شاهداكَ أو يمينه. ليس لكَ منه إلا ذاك» (2).
وأما كونه يجوز له ذلك على روايةٍ؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. قال: خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف» (3). فحكم لها من غير بينة ولا إقرار؛ لعلمه بصدقها.
وروى ابن عبدالبر في كتابه: أن عروة ومجاهداً رويا «أن رجلاً من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حداً في موضع كذا وكذا. فقال عمر: إني لأعلمُ الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فأتني بأبي سفيان. فأتاه به. فقال له عمر: يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر عمر فقال: يا أبا سفيان! خذْ هذا الحجر من هاهنا فضعه هاهنا. فقال: والله لا أفعل. فقال: والله! لتفعلن. فقال: والله لا أفعل. فعلاه
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6748) 6: 2622 كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1713) 3: 1337 كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (139) 1: 123 كتاب الأيمان، باب وعيد من اقتطع حق المسلم بيمين فاجرة بالنار.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (5049) 5: 48 كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1714) 3: 1338 كتاب الأقضية، باب قضية هند.
بالدرّة وقال: خذه لا أمَّ لك وضعه هاهنا ما علمت قد تم. فأخذ أبو سفيان الحجر فوضعه حيث قال عمر. ثم إن عمر استقبل القبلة وقال: الحمدُ لله. اللهم! لكَ الحمدُ حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام. فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال: اللهم! لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلتَ في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر». فحكم بعلمه.
ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين؛ لأنهما يغلبان على الظن. فلأن يحكم بما تيقنه وتحققه أولى.
وأما كون الحاكم يجوز له الحكم بعلمه سواء كان في حدٍ أو غيره؛ فلأن المصحح للحكم المذكور العلم وهو موجود فيهما.
والرواية الأولى أصح؛ لما تقدم.
وأما حديث هند فلم يحكم لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وإنما أفتاها به بدليل أنه قال ذلك بغير حضور أبي سفيان إذ الحكم على الحاضر في غيبته غير جائز.
وأما حديث عمر فمعارض بما روي عن عمر «أنه تداعى عنده رجلان. فقال أحدهما: أنت شاهدي. فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد» (1).
وأما قياس اليقين على الظن فلا يصح؛ لقيام الفرق بينهما. وهو: أن الحكم بعلمه فيه تهمة. بخلاف الحكم بالشهادة.
قال: (وإن قال المدعي: ما لي بينة فالقول قول المنكر مع يمينه. فيعلمه أن له اليمين على خصمه. فإن سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله. وإن أحلفه أو حلف هو من غير سؤال المدعي لم يُعتد بيمينه).
أما كون القول فيما ذكر قول المنكر؛ فلأن الأصل براءة ذمته.
وأما كون ذلك مع يمينه؛ فلاحتمال كون المدعي مُحقاً.
وأما كون الحاكم يُعلم المدعي أن له على خصمه اليمين؛ فلأنه موضع حاجة.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (21924) 4: 445 كتاب البيوع، الرجل يدعي شهادة القاضي أو الوالي.
وأما كونه يحلف المدعى عليه إذا سأله المدعي ذلك؛ فلأن اليمين طريق إلى تخليص حقه. فلزم الحاكم إجابة المدعي إليه؛ كسماع البينة.
وأما كونه يخلي سبيله إذا أحلفه؛ فلأنه لم يتوجه عليه حق.
وأما كونه إذا أحلفه أو حلف هو من غير سؤال المدعي لا يُعتد بيمينه؛ فلأنه أتى باليمين في غير موضعها.
قال: (وإن نكل قضى عليه بالنكول. نص عليه واختاره عامة شيوخنا فيقول له: إن حلفتَ وإلا قضيتُ عليك ثلاثاً، فإن لم يحلف قضى عليه إذا سأله المدعي ذلك، وعند أبي الخطاب ترد اليمين على المدعي وقال: قد صوّبه أحمد وقال: ما هو ببعيد يحلف ويأخذ فيقال للناكل: لك رد اليمين على المدعي، فإن ردها حلف المدعي وحكم له. وإن نكل أيضاً صرفهما).
أما كون الحاكم يقضي على المدعي بالنكول؛ فلأن اليمين لا ترد على المدعي؛ لما يأتي. فيتعين القضاء بالنكول؛ لتعينه طريقاً إلى تخليص الحق، ودفعه إلى مستحقه.
ولأن النكول عن اليمين يدل على صدق المدعي؛ لأنه لو كان كاذباً لحلف المدعى عليه على نفي دعواه.
وأما كونه يقول للمدعى عليه: إن حلفتَ وإلا قضيتُ عليك ثلاثاً؛ فلأن النكول ضعيف. فوجب اعتضاده بالتكرار.
وأما كونه يقضي على الناكل بشرط سؤال المدعي القضاء على المدعى عليه؛ فلأن القضاء حق للمدعي لا يفعل إلا بسؤاله.
فإن قيل: يشترط في القضاء بالنكول شيء آخر.
قيل: نعم. وذلك أن لا يقال برد اليمين على المدعي وذلك هو المنصوص عن الإمام أحمد. والأصل فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولكن اليمينَ على المدعَى عليه» (1). حصر اليمين في جانب المدعى عليه.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4277) 4: 1656 كتاب التفسير، باب {إن الذين يشترون بعهد الله
…
}.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1711) 3: 1336 كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البينةُ على المدعِي. واليمين على المدعَى عليه» (1) جعل جنس اليمين في جنبة المدعى عليه كما جعل جنس البينة في جنبة المدعي.
وقال أبو الخطاب: ترد اليمين عليه؛ لما روى نافع عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ اليمينَ على طالبِ الحق» (2).
فعلى هذا يقال للناكل: لك رد اليمين؛ لأنه موضع حاجة. أشبه قوله: لك يمينه. فإن ردها حلف المدعي وحكم له بالحق المدعى به؛ لأنه قد استكمل الشروط المعتبرة. وإن نكل أيضاً صرفهما؛ لأنه لم يترجح أحدهما على صاحبه. فوجب بقاؤهما على ما كانا عليه.
قال: (فإن عاد أحدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس حتى يحتكما في مجلسٍ آخر. وإن قال المدعي: لي بينة بعد قوله: ما لي بينة لم تسمع. ذكره الخرقي. ويحتمل أن تسمع).
أما كون الحاكم لا يسمع اليمين إذا بُذلت بعد النكول في المجلس المذكور؛ فلأن اليمين فعله وهو قادر عليها فامتناعه منها يجب أن يكون مسقطاً لها.
وأما كونه يسمعها في مجلسٍ آخر؛ فلأن الدعوى فيه تصير محاكمة أخرى.
وأما كونه لا يسمع البينة بعد قوله: ما لي بينة على ما ذكره الخرقي؛ فلأن سماع البينة يحقق كذبه. فيعود الأمر على خلاف المقصود.
وأما كونه يحتمل أن يسمعها؛ فلأنه يحتمل أنه نفى أن تكون له البينة بناء على أنه ما علم ذلك، ولو صرح بذلك سُمعت؛ لما يأتي فكذلك هاهنا.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (1341) 3: 626 كتاب الأحكام، باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.
(2)
أخرجه الدارقطني في سننه (24) 4: 213 كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري. وفي إسناده محمد بن مسروق. وهو لا يعرف. وإسحاق بن الفرات مختلف فيه.
قال: (وإن قال: ما أعلم لي بينة. ثم قال: قد علمت لي بينة سُمعت. وإن قال شاهدان: نحن نشهد لك فقال: هذان بينتي سُمعت. وإن قال: ما أريد أن تشهدا لي لم يُكلّف إقامة البينة).
أما كون بينة المدعي تُسمع إذا قال: ما أعلم لي بينة ثم قال: قد علمت لي بينة؛ فلأن إقامته البينة لا يلزم منها كذبه؛ لأن علمه بها مع عدم علمه يتصور صدقه فيهما. بخلاف ما تقدم.
وأما كونها تُسمع إذا قال: ما أعلم لي بينة فقال شاهدان: نحن نشهد بحقك؛ فلأن قول الشاهدين يجعل المدعي عالماً بأن له بينة فيصير بمنزلة ما لو قال: لا أعلم ثم قال: علمت بل أولى؛ لأنه هاهنا لا يُتهم. بخلاف ما إذا قال: ما أعلم ثم قال: علمت.
وأما كون صاحب البينة لا يُكلَّف إقامة بينته إذا قال للشاهدين: ما أريد أن تشهدا لي؛ فلأن إقامتها حقٌ له، والإنسان لا يكلف أن يفعل حقه.
قال: (وإن قال: لي بينة وأريد يمينه: فإن كانت غائبة فله إحلافه. وإن كانت حاضرة فهل له ذلك؟ على وجهين).
أما كون من ذكر له إحلافه مع غيبة البينة؛ فلأن ذلك تعين طريقاً إلى استخلاص حقٍّ ودفعه إلى مستحقه.
وأما كونه له ذلك مع حضور البينة على وجه؛ فلأنه أقرب لفصل الخصومة؛ لأن المدعى عليه ربما نكل. فعجّل فصل الخصومة.
وأما كونه ليس له ذلك على وجه؛ فلأن فصل الخصومة لإحضار البينة فلا حاجة إلى اليمين.
قال: (وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينته حُكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق).
أما كون الحاكم يحكم بالبينة فيما ذكر؛ فلأن حق المدعي ظهر بها.
وأما كون اليمين لا تكون مزيلة للحق؛ فلأن عمر رضي الله عنه قال: «البينةُ الصادقةُ أحبُ إليّ من اليمين الفاجرة» . وظاهر البينة المذكورة الصدق فيلزم فجور اليمين المتقدمة فتكون البينة أولى منها.
ولأن اليمين لو أزالت الحق لاجترأ الفسقة على أخذ أموال الناس.
قال: (وإن سكت المدعى عليه فلم يُقر ولم يُنكر قال له القاضي: إن أجبتَ وإلا جعلتُكَ ناكلاً وقضيتُ عليك. وقيل: يحبسه حتى يجيب).
أما كون القاضي يقول للمدعى عليه: إن أجبتَ وإلا جعلتكَ ناكلاً وقضيتُ عليك على المذهب؛ فلأنه لو نكل لقال له: إن حلفتَ وإلا قضيتُ عليك فكذا إذا سكت يقول له: إن أجبتَ وإلا جعلتك ناكلاً وقضيتُ عليك. والجامع بينهما: أن كل واحد من القولين طريق إلى ظهور الحق وقد وجب أحدهما في موضعه فليجب الآخر في موضعه.
وأما كونه يحبسه حتى يجيب على قول؛ فلأن اليمين حقٌ عليه. فإذا امتنع من فعلها وجب حبسه؛ كما لو أقر بمالٍ وامتنع من أدائه.
قال: (فإن قال: لي مخرجٌ مما ادعاه لم يكن مجيباً. وإن قال: لي حسابٌ أريد أن أنظرَ فيه لم يلزم المدعي إنظاره).
أما كون المدعى عليه لا يكون مجيباً إذا قال: لي مخرجٌ مما ادعاه؛ فلأن الإجابة إما بالإقرار أو بالإنكار، ولم يوجد واحد منهما.
ولأنه لو جُعل ما ذكر إجابة لاتخذ المبطلة ذلك القول ذريعة إلى إسقاط اليمين عنهم، وأكل أموال الناس بالباطل.
وأما كون المدعي لا يلزمه إنظار المدعى عليه إذا قال: لي حسابٌ أريد أن أنظرَ فيه؛ فلأن في ذلك تأخيراً لحق الطالب له. فلم يلزم به؛ لما فيه من تأخير حقه.
ولأنه لو لزم الإنظار بذلك لاتخذه الناس وسيلةً إلى تأخير الحق والمدافعة عنه. وفي ذلك ضررٌ شديد.
قال: (وإن قال: قد قضيته أو أبرأني ولي بينة بالقضاء أو بالإبراء وسأل الإنظار أُنظر ثلاثاً، وللمدعي ملازمته. فإن عجز حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق).
أما كون مدعي القضاء أو الإبراء يُنظر ثلاثاً؛ فلأن بينته لا تتكامل في أقل من ذلك ظاهراً.
وأما كون مدعي الحق له ملازمته؛ فلأن جنبته أقوى منه.
ولأن حقه قد ثبت في الظاهر. ودعوى الإبراء الأصل عدمها (1).
وأما كون المدعي يحلف على نفي ما ادعى عليه من القضاء أو الإبراء إذا عجز المدعى عليه عن إقامة بينته؛ فلأنه مدعىً عليه بذلك، ومن ادُعي عليه بشيء ولا بينة عليه حلف على نفي ما ادعي عليه.
وأما كونه يستحق ما ادعى به بعد ذلك؛ فلأن المدعى عليه أقر بالمدعى به وادعى إسقاطه بالقضاء أو بالإبراء، ولم يظهر واحد منهما. فوجب أن يستحق ما ادعاه عملاً بالمقتضي له السالم عن معارضة القضاء والإبراء.
قال: (فإن ادعى عليه عيناً في يده فأقر بها لغيره جُعل الخصم فيها. وهل يحلف المدعى عليه؟ على وجهين).
أما كون المقر له يُجعل الخصم في العين المدعى بها؛ فلأنه بإقرار صاحب اليد أن العين له وهي محل الخصومة. فتعين أن يكون المقر له الخصم فيها.
وأما كون المدعى عليه يحلف على وجه؛ فلأنه لو أقر لزمه غرامة بدل العين؛ كما لو قال من في يده شيء: هذا لزيد. ثم قال: لعمرو. ومن لزمته الغرامة عند الإقرار لزمته اليمين عند الإنكار.
وأما كونه لا يحلف على وجه؛ فلأن الخصومة انتقلت إلى غيره. فوجب أن ينتقل اليمينُ إلى ذلك الغير.
قال: (فإن كان المقرُ له حاضراً مكلفاً سُئل. فإن ادعاها لنفسه ولم تكن له بينة حلف وأخذها. وإن أقر بها للمدعي سُلمت إليه. وإن قال: ليست لي ولا أعلم لمن هي سُلمت إلى المدعي في أحد الوجهين، وفي الآخر: لا تُسلم إليه إلا ببينة، ويجعلها الحاكم عند أمين).
أما كون المقر له يُسأل إذا كان حاضراً مكلفاً؛ فلأن الحال تختلف فإذا سُئل تبين المدعي من غيره.
(1) العبارة غير واضحة في د. وقد استظهرناها بالاستعانة بالكافي 4: 239.
وأما كونه يحلف إذا ادعى العين لنفسه ولم تكن له بينة؛ فلأنه كالمدعى عليه وقد أنكر فيجب أن يحلف؛ لقوله عليه السلام: «واليمينُ على من أنكر» (1).
وأما كونه يأخذ العين المقر بها إذا حلف؛ فلأنه ظهر كونها له بإقرار مَن العين في يده واندفعت خصومة المدعي. فوجب الأخذ عملاً بالمقتضي السالم عن المعارض.
وأما كون العين تسلم إلى المدعي إذا أقر له بها المقر له؛ فلأن اليد صارت للمقر له بإقرار صاحب اليد فإذا أقر بها المقر له للمدعي وجب تسليمها إليه؛ كما لو ادعى شخصٌ عيناً في يد شخصٍ فأقر بها له.
وأما كونها تسلم إليه إذا قال المقر له: ليست لي ولا أعلم لمن هي في وجه؛ فلأنه يدعيها وغيره لا يدعيها فالظاهر أنها له لسلامتها عن مدع.
ولأن من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قُضي بها للمدعي؛ فلأن يقضى بها له مع عدم ادعائه لها أولى.
وأما كونها لا تُسلم إليه إلا ببينة في وجه؛ فلأنه لم يثبت كونه مستحقها.
فعلى هذا يجعلها الحاكم عند أمين؛ لأن ذلك مال ضائع، والأموال الضائعة يحفظها الحاكم عند أمنائه.
قال: (وإن أقر بها لغائب أو صبي أو مجنون سقطت عنه الدعوى. ثم إن كان للمدعي بينة سُلمت إليه. وهل يحلف؟ على وجهين. وإن لم تكن له بينة حلف المدعى عليه أنه لا يلزمه تسليمها إليه وأقرت في يده؛ إلا أن يقيم بينة أنها لمن سمى فلا يحلف. وإن أقر بها لمجهول قيل له: إما أن تعرّفه أو نجعلك ناكلاً).
أما كون الدعوى تسقط عن المقر المذكور؛ فلأن الدعوى صارت على غيره.
وأما كون العين تسلم إلى المدعي إذا كانت له بينة؛ فلأن جانبه ترجح بالبينة.
وأما كون المدعي يحلف على وجه؛ فلأن الغائب والصبي والمجنون لا يقوم واحد منهم بالحجة فاحتاج إلى اليمين لتتأكد البينة.
(1) سيأتي تخريجه ص: 550.
وأما كونه لا يحلف على وجه؛ فلأن البينة وحدها كافية. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البينةُ على المدعِي واليمينُ على من أنكر» (1). فجعل البينة في جانب واليمين في الآخر.
وأما كون المدعى عليه يحلف أن العين لا يلزمه تسليمها إلى المدعي إذا لم يكن للمدعي بينة ولم يقم المدعى عليه بينة أن المدعى به لمن سمى؛ فلأنه لو أقر له لزمه الدفع، ومن لزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار.
وأما كونه تقر العين في يده؛ فلأن المدعي اندفعت دعواه إما باليمين فيما إذا حلف، أو بالبينة فيما إذا كانت بينة وغيره لا يدعيها. فوجب بقاؤها على ما كان.
فإن قيل: ظاهر كلام المصنف أن إقرار العين في يد المدعى عليه فيما إذا لم يقم بينة أن المدعى به لمن سمى؛ لأنه قال: حلف المدعى عليه أنه لا يلزمه تسليمها إليه وأقرت في يده إلا أن يقيم بينه أنها لمن سمى. جعل الاستثناء بعد ذكر اليمين وإقرار العين، ومع البينة لا يمين فكذا الإقرار.
قيل: ليس مراده ذلك وفي كلامه ما يدل عليه وهو قوله: فلا يحلف؛ لأنه لو أراد ما ذكر لم يكن له حاجة إلى قوله: فلا يحلف.
وأما كونه لا يحلف إذا أقام بينة بما ذكر؛ فلأن البينة أظهرت المستحق فتعين توجه عدم الحلف إليه.
وأما كونه إذا أقر بها لمجهول يقال له: إما أن تعرّفه أو نجعلك ناكلاً؛ فلأن الإقرار بالمجهول لا يصح. فيقال له ذلك ليعرّفه فتعلم صفة الحكم المعتبر شرعاً.
فإن قيل: فما حكمه؟
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (98) 3: 110 كتاب الحدود.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 252 كتاب الدعوى والبينات، باب البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه.
قيل: إن أصرّ على قوله قضي عليه بما ادعي عليه؛ لأنه في معنى من ادعي عليه فسكت؛ لأن الجواب إذا لم يكن صحيحاً كان وجوده بمنزلة عدمه.
فصل [في شروط صحة الدعوى]
قال المصنف رحمه الله: (ولا تصح الدعوى إلا محرّرة تحريراً يُعلم به المدعي؛ إلا في الوصية والإقرار فإنها تجوز بالمجهول. فإن كان المدعَى عيناً حاضرة عيّنها. وإن كانت غائبة ذكر صفاتها إن كانت تنضبط بها، والأولى ذكر قيمتها. وإن كانت تالفةً من ذواتِ الأمثال ذكر قدرها وجنسها وصفتها. وإن ذكر قيمتها كان أولى. وإن لم تنضبط بالصفات فلا بد من ذكر قيمتها).
أما كون الدعوى لا تصح إلا محرّرة تحريراً يُعلم به المدعَى إذا كانت في غير الوصية والإقرار؛ فلأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعي عليه. فإذا اعترف به ألزمه فإذا لم تكن الدعوى كذلك لم يكن إلزامه.
وأما كونها تجوز بالمجهول في الوصية والإقرار؛ فلأنهما يصحان بالمجهول، ولذلك لو وصى بشيء أو أقر بشيء صح.
وأما كون المدعي يُعيّن المدعى إذا كان عيناً حاضرة؛ فلأنه تتعين الدعوى فيه وينتفي فيه اللبس.
وأما كونه يذكر صفاتها إذا كانت غائبة وكانت مما تنضبط بها؛ فلأن التعيين لا يمكن والصفات المذكورة تقوم مقامه. فوجب ذكرها؛ ليتميز المدعى به من غيره.
وأما كون الأولى ذكر قيمة العين؛ فلأن ذلك أضبط وأبلغ في تحرير الدعوى.
وأما كونه يذكر قدرها وجنسها وصفتها إذا كانت تالفةً وكانت من ذوات الأمثال كالمكيل والموزون؛ فلأن التالف يجب مثله إن كان مثلياً. فافتقر إلى ذكر قدره وجنسه وصفته؛ كما يفتقر إلى ذكر ذلك إذا أسلم فيه.
وأما كونه يذكر (1) قيمتها إذا كانت تالفةً وكانت لا تنضبط بالصفات؛ فلأن الدعوى لا يُعلم بها المدعى إلا بذلك.
قال: (وإن ادعى نكاحاً فلا بد من ذكر المرأة بعينها إن حضرت وإلا ذكر اسمها ونسبها، وذكر شروط النكاح، وأنه تزوجها بولي مُرشدٍ وشاهدَيْ عدل ورضاها في الصحيح من المذهب. وإن ادعى بيعاً أو عقداً سواه فهل يُشترط ذكر شروطه؟ يحتمل وجهين).
أما كون من ادعى نكاحاً لا بد له من ذكر المرأة بعينها إن كانت حاضرة؛ فلما تقدم فيما إذا ادعى عيناً حاضرة.
وأما كونه يذكر اسمها ونسبها إن لم تكن حاضرة؛ فلأنها لا تتميز إلا بذلك، ولا طريق إلى معرفتها إلا به.
وأما كونه يذكر شرائط النكاح في الحضور والغيبة في الصحيح من المذهب؛ فلأن الناس اختلفوا فيه فمنهم من اشترط الولي والشهود، ومنهم من لم يشترط. فلم يكن بد من ذكر ذلك حتى يعلم القاضي الحال على ما هي عليه.
وأما كونه لا يذكر ذلك في روايةٍ؛ فلأنه نوع ملك. فلم يُشترط ذكر شرائطه؛ كما لو ادعى بيعاً أو عقداً غيره.
والأول أولى؛ لما ذكر.
والفرق بين النكاح وبين البيع وغيره من العقود: أن الفروج يحتاط لها. بخلاف غيرها.
وأما كون ذكر شروط البيع أو عقد غيره يُشترط في وجه؛ فلما ذكر في النكاح.
وأما كونه لا يُشترط في وجه؛ فلما بين النكاح وبين ما ذكر من الفرق المتقدم ذكره.
(1) في د: إذا ذكر. ولعل الصواب ما أثبتناه.
قال: (وإن ادعت المرأة نكاحاً على رجلٍ وادعت معه نفقةً أو مهراً سُمعت دعواها. وإن لم تدع سوى النكاح فهل تسمع دعواها؟ على وجهين).
أما كون المرأة تُسمع دعواها إذا ادعت مع النكاح نفقةً أو مهراً؛ فلأنها دعوى مشتملة على استحقاق مالٍ. فوجب أن تُسمع؛ كسائر الدعاوي المالية.
وأما كونها تُسمع إذا لم تدع سوى النكاح في وجه هو للقاضي؛ فلأن النكاح يتضمن حقوقاً لها. أشبه ما إذا ادّعت مع النكاح مهراً.
وأما كونها لا تُسمع في وجه؛ فلأن النكاح لا يجوز بذله ولا يستحلف عليه. فلم تسمع الدعوى له بمجرده.
قال: (وإن ادعى قتلَ موروثه ذكر القاتل وأنه انفرد به، أو شارك غيره، وأنه قتله عمداً أو خطأ أو شبه عمد، ويصفه. وإن ادعى الإرث ذكر سببه).
أما كون من ادعى قتل موروثه يذكر ما ذكر؛ فلأن الحال تختلف باختلاف ذلك. فلم يكن بد من ذكره؛ ليرتب الحاكم حكمه عليه.
وأما كون من ادعى الإرث يذكر سببه؛ فلما ذكر قبل.
قال: (وإن ادعى شيئاً محلّى قوّمه بغير جنس حليته. فإن كان محلى بذهب وفضة قوّمه بما شاء منهما للحاجة).
أما كون من ادعى محلّى يقوّمه بغير جنس حليته؛ فلئلا يؤدي إلى الربا.
وأما كونه يقوّمه بما شاء من ذهب وفضة إذا كان محلى بهما؛ فلأن ذلك موضع حاجة إذ الثمينة منحصرة فيهما.
فصل [في شروط البينة]
قال المصنف رحمه الله: (وتُعتبر في البينة العدالةُ ظاهراً وباطناً في اختيار أبي بكر والقاضي. وعنه: تقبل شهادةُ كل مسلمٍ لم تظهر منه ريبةٌ. اختارها الخرقي. وإن جُهل إسلامه رُجع إلى قوله. والعمل على الأول).
أما كون العدالة تُعتبر في البينة؛ فلأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6]. والشهادة نبأ فيجب التثبت في شهادة غير العدل.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا خائنةٍ ولا ذي غِمرٍ على أخيهِ ولا محدودٍ في الإسلام» (1).
ولأن دِين الفاسق لا يردعه عن ارتكاب محظورات الدين، ولا تحصل الثقة بخبره.
وأما كونها تُعتبر فيها ظاهراً وباطناً في اختيار من ذكر؛ فلأن العدالة شرط لما تقدم. فيكون العلم بها شرطاً؛ كالإسلام.
وأما كون شهادة من ذكر تقبل في روايةٍ اختارها الخرقي؛ فلأن ظاهر حال المسلم العدالة، ولهذا قال عمر:«المسلمونَ عدولٌ بعضهُم على بعض» (2).
وروي «أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدَ برؤيةِ الهلال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3601) 3: 306 كتاب الأقضية، باب من ترد شهادته.
وأخرجه الترمذي في جامعه (2298) 4: 545 كتاب الشهادات، باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2366) 2: 792 كتاب الأحكام، باب من لا تجوز شهادته.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10: 197 كتاب الشهادات، باب من جرب بشهادة زور لم تقبل شهادته.
أتشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال: نعم. فقال: أتشهد أني رسولُ الله؟ فقال: نعم. فصامَ وأمرَ الناسَ بالصوم» (1).
ولأن العدالة أمرٌ خفيٌ سببها الخوف من الله تعالى، ودليل ذلك: الإسلام. فإذا وجد فليكتفَ به ما لم يقم دليل على خلافه.
فعلى هذه الرواية إن جُهل إسلامه رُجع إلى قوله؛ لأنه إن لم يكن مسلماً صار مسلماً بالاعتراف.
والأول المذهب؛ لما تقدم.
وأما دعوى أن ظاهر حال المسلم العدالة فممنوعة بل الظاهر عكس ذلك.
وأما قول عمر؛ فمعارَضٌ بما روي عنه «أنه أُتي بشاهدين، فقال لهما: لستُ أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما
…
الحديث».
وأما الأعرابي؛ فكان صحابياً، والصحابة كلهم عدول.
قال: (وإذا علم الحاكم عدالتهما عمل بعلمه وحكم بشهادتهما؛ إلا أن يرتاب بهما فيفرقهما ويسأل كل واحد كيف تحملت الشهادة ومتى، وفي أيّ موضع. وهل كنت وحدك أو أنت وصاحبك؟ فإن اختلفا لم يقبلهما. وإن اتفقا وعظهُما وخوّفهما، فإن ثبتا حكم بهما إذا سأله المدعي).
أما كون الحاكم يعمل بعلمه في عدالة البينة؛ فلأنه لو لم يكتف بذلك لتسلسل؛ لأن المزكيين يحتاج إلى عدالتهما. فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد إلى مزكيين ثم كل واحد ممن يزكيهما إلى مزكيين إلى ما لا نهاية له.
وأما كونه يحكم بشهادتهما؛ فلأن شروط الحكم قد وجدت.
وأما كونه يفرّق الشاهدين ويسأل كل واحدٍ منهما السؤال المذكور إذا ارتاب فيهما؛ فلأنه يروى عن علي رضي الله عنه «أن سبعة نفر خرجوا ففُقدَ واحدٌ
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2340) 2: 302 كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.
وأخرجه الترمذي في جامعه (691) 3: 74 كتاب الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة.
وأخرجه النسائي في سننه (2112) 4: 131 كتاب الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (1652) 1: 529 كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال.
منهم فأتت زوجته علياً فدعا الستة فسأل واحداً منهم عنه فأنكر. فقال: الله أكبر فظن الباقون أنه اعترف. فاستدعاهم فاعترفوا. فقال للأول: قد شهدوا عليكَ وأنا قاتلكَ فاعترفَ فقتلهم».
وأما كونه لا يقبل شهادتهما إذا اختلفا؛ فلأن شرط الحكم الإقامة على الشهادة إلى حين الحكم.
وأما كونه يَعِظُهُما ويخوِّفُهما إذا اتفقا؛ فلأن ذلك سبب لتوقفهما بتقدير كونهما شاهدي زور.
وأما كونه يحكم بشهادتهما إذا ثبتا وسأل المدعي الحكم؛ فلأن الشرط ثباتُ الشاهد على شهادته إلى حين الحكم، وطلب المدعي الحكم، وقد وجد ذلك كله.
قال: (وإن جرحهما المشهود عليه كلف البينة بالجرح. فإن سألَ الإنظارَ أُنظر ثلاثاً، وللمدعي ملازمته، فإن لم تقم بينة حكم عليه).
أما كون المشهود عليه يكلف إقامة البينة بالجرح إذا جرح الشاهدين؛ فلأنه ادعى دعوى توجب القدح في البينة وهو متهم فيه. فلم يكن بد من تكليفه ذلك؛ لتحققه صدقه أو كذبه.
وأما كونه يُنظر ثلاثاً حتى يقيم البينة بالجرح إذا سأل الإنظار؛ فلأن تكليفه إقامتها في أقل من ذلك يشق ويضر.
وأما كون المدعي له ملازمة المدعى عليه؛ فلأن حقه قد توجه، والمدعى عليه يَدعي ما يُسقطه، والأصل عدمه.
وأما كون الحاكم يحكم على المدعى عليه إذا لم تقم بينة بالجرح؛ فلأن الحق قد وضح على وجه ولا إشكال فيه.
قال: (ولا يسمع الجرحُ إلا مُفسراً بما يقدح في العدالة إما أن يراه أو يستفيض عنه. وعنه: أنه يكفي أن يشهد أنه فاسق وليس بعدل).
أما كون الجرح لا يسمع إلا مُفسراً كما ذكر على المذهب؛ فلأن الناس يختلفون كاختلافهم في شارب النبيذ. فوجب أن لا يسمع مجرداً؛ لئلا يُجرح الشاهد بما لا يراه القاضي جَرحاً.
وأما كونه يكفي فيه أن يشهد أنه فاسق وليس بعدل على روايةٍ؛ فلأن العدالة تسمع مطلقاً فكذلك الجرح.
والأولة أولى.
والفرق بين الجرح وبين التعديل: أن التعديل يوافق الظاهر، والجرح ينقل عن الظاهر. فلم يكن بد من معرفة الناقل؛ لئلا يعتقد نقله بما ليس بناقل.
قال: (وإن شهد عنده فاسقٌ يعرف حاله قال للمدعي: زدني شهوداً. وإن جهل حاله طلب المدعي بتزكيته، ويكفي في التزكية شاهدان يشهدان أنه عدل رضي، ولا يحتاج أن يقول: عليّ ولي. وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى).
أما كون الحاكم يقول للمدعي: زدني شهوداً إذا كان يعرف الحاكم فِسقَ من شهد عنده؛ فلأن ذلك يحصل المقصود مع الستر على الشاهد.
وأما كونه يُطالب المدعي بتزكية شهوده إذا جهلَ حالههم؛ فلأن الحكم بشهادتهم متوقف على تزكيتهم لما تقدم من أن العلم بالعدالة شرط كذلك.
وأما كون التزكية يكفي فيها شاهدان يشهدان أنه عدلٌ رضي من غير حاجة إلى أن يقال: عليّ ولي؛ فلأن الله تعالى قال: {وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم} [الطلاق: 2]. فإذا شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل في عموم الآية؛ لأنه إذا كان عدلاً لزم أن يكون له وعليه وعلى سائر الناس وفي كل شيء فلا يحتاج إلى ذكره.
وأما كون جرح الاثنين أولى من تعديل الاثنين؛ فلأن الجارح معه زيادة علم خَفيت على المعدل. فوجب تقديمه؛ لأن التعديل يتضمن نفي الريب والمحارم، والجارح يثبت ذلك، والمثبت مقدم على النافي.
ولأن الجارح يقول: رأيته يفعل كذا والمعدل مستنده أنه لم يره ويمكن صدقهما. والجمع بين قوليهما بأن يكون الجارح رآه يفعل والمعدل لم يره.
إذا علم ذلك فظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الجرح إنما يقدم عند التساوي وليس كذلك بل لو كثر عدد المعدل فالجرح أولى؛ لما ذكر من الزيادة الحاصلة.
قال: (وإن سألَ المدعي حبسَ المشهودِ عليه حتى يزكي شهوده فهل يحبَس؟ على وجهين).
أما كون المشهود عليه يحبس فيما ذكر على وجه؛ فلأن جنبة المدعي ظهرت بإقامة البينة.
وأما كونه لا يحبس على وجه؛ فلأن الحبس عذاب والحق لم يثبت. فلم يجز فعله بالنافي له السالم عن معارضة ثبوت الجرح.
قال: (وإن أقام شاهداً وسأل حبسه حتى يقيم الآخر حبسه إن كان في المال. وإن كان في غيره فعلى وجهين).
أما كون من ذكر يحبس في المال؛ فلأن الشاهد وحده مع يمين المدعي كاف في ثبوته، واليمين إنما تتعين عند تعذر شاهدٍ آخر. فلم يحصل التعذر بعد، وفي إطلاق المشهود عليه تضييع لحق من ظهر حقه.
وأما كونه هل يحبس في غيره؟ على وجهين؛ فلأن ذلك في معنى من أقيمت عليه بينة ولم تُزكَّ.
قال: (وإن حاكمَ إليه من لا يعرفُ لسانه تَرجمَ له من يعرفُ لسانه. ولا يقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة إلا قول عدلين. وعنه: يقبل قول واحد).
أما كون من حاكم إليه من ذكر يُترجم له من يعرفُ لسان الخصم؛ فلأنه لا يعرف ما يترتب الحكم عليه إلا بذلك، وفي الحديث:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر زيدَ بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود. قال: فكنتُ أكتبُ لهم إذا كتبَ لهم وأقرأُ لهم إذا كتبُوا» (1).
وأما كونه لا يقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة إلا قول عدلين على المذهب؛ فلأن ذلك إثبات شيء يبني الحاكم حكمه عليه. فافتقر إلى ذلك؛ كسائر الحقوق.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3645) 3: 318 كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب.
وأخرجه أحمد في مسنده (21658) 5: 186.
وأما كونه يُقبل في كل واحدٍ من ذلك قولُ واحدٍ على روايةٍ؛ فلما تقدم في حديث زيد.
ولأنه خبر عن شيء فاكتفي فيه بواحد؛ كالرواية.
والأولى أولى؛ لما تقدم.
والرواية تخالف الشهادة فلا يصح قياسها عليها.
قال: (ومن ثبتتْ عدالتُه مرة فهل يحتاج إلى تجديد البحث عن عدالته مرة أخرى؟ على وجهين).
أما كون من ذكر لا يحتاج إلى ذلك على وجه؛ فلأن الأصل بقاء ما كان على ما كان. فلا يزول حتى يثبت الجرح.
وأما كونه يحتاج إليه على وجه؛ فلأن العيب يحدُث، وقد تتغير حاله فيصير ذلك مانعاً من العلم بالعدالة. فلم يجز له القبول مع فوات الشرط.
فصل [في الدعوى على الغائب]
قال المصنف رحمه الله: (وإن ادعى على غائبٍ أو مستترٍ في البلد أو ميتٍ أو صبي أو مجنون وله بينة سمعها الحاكم وحكم بها. وهل يحلف المدعي أنه لم يبرئ إليه منه ولا من شيء منه؟ على روايتين. ثم إذا قدم الغائب أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون فهو على حجته).
أما كون الحاكم يسمع بينة المدعي على غائب؛ فلأن عدم سماعها يفضي إلى تأخير الحق مع إمكان استيفائه.
وأما كونه يُحكم بها؛ فلأن السماع من أجل الحكم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على أبي سفيان في حديث هند ولم يكن حاضراً (1).
وأما كونه يسمع بينة المدعي على مستترٍ في البلد ويحكم بها؛ فلأن حضوره ممتنع. أشبه الغائب.
وأما كونه يسمع بينة المدعي على ميتٍ أو صبي أو مجنون ويحكم بها؛ فلأن كل واحد ممن ذكر عاجز عن الجواب المقصود من الحضور. فوجب أن يلحق بالغائب.
وأما كون المدعي يحلف أنه لم يبرئ من المدعى به ولا من شيء منه على روايةٍ؛ فلأن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق من ذكر؛ لأنه لا يعبر واحد منهما عن نفسه، ويجوز أن يكون المدعي قد استوفى ما قامت به البينة أو أبرأه منه. فافتقر الحال إلى اليمين؛ ليندفع ذلك الجواز.
وأما كونه لا يحلف على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعى عليه (2).
(1) سبق ذكره وتخريجه ص: 542.
(2)
كذا في د.
ولأنه أقام بينة بحقه. فلم يستحلف؛ كما لو أقامها على حاضرٍ مكلف.
وأما كون المحكوم عليه على حجته إذا زال المعارض فإنه لو كان حاضراً لكان على حجته. فإذا زال المعارض عمن ذكر أشبه الحاضر المكلف.
قال: (وإن كان الخصم في البلد غائباً عن المجلس لم تُسمع البينة حتى يحضر. فإن امتنع من الحضور سُمعت البينة وحُكم بها في إحدى الروايتين، وفي الأخرى لا تُسمع حتى يحضر. فإن أبى بُعث إلى صاحب الشرطة ليحضره. فإن تكرر منه الاستتار أُقعد على بابه من يضيّق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر).
أما كون الحاكم لا يسمع بينة المدعي على حاضرٍ قبل حضوره؛ فلأن حضوره ممكن. فلم يجز الحكم عليه مع حضوره، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تقض للأول حتى تسمع كلام الثاني» «1).
وأما كونه تُسمع بينة المدعي على حاضرٍ يمتنع من الحضور في روايةٍ؛ فلأنه إذا سمعت البينة على غائب وحكم بها. فلأن تسمع على الحاضر الممتنع بطريق الأولى.
ولأن (2) الحاضر الممتنع لا عذر له، وفي الحديث أن أبا موسى قال:«كانَ الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتعد الموعد فوفى أحدهما ولم يفِ الآخر قضَى للذي وفى منهما» .
وأما كونه لا تسمع بينته عليه في روايةٍ؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «لا تقض للأول حتى تسمعَ كلامَ الثاني» (3).
فعلى هذا يبعث من يحضره فإن لم يحضر معه بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره. فإن استتر أَقعد على بابه من يضيّق عليه.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3582) 3: 301 كتاب الأقضية، باب كيف القضاء.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1331) 3: 618 كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما.
(2)
في د: لأن.
(3)
سبق تخريجه قريباً.
قال: (وإن ادعى أن أباه مات عنه وعن أخٍ له غائب وله مال في يد فلان أو دينٌ عليه فأقر المدعى عليه أو ثبتت ببينة سُلم إلى المدعي نصيبه، وأخذ الحاكم نصيب الغائب فحفظه له. ويحتمل أنه إذا كان المال دَيناً أن يُترك نصيب الغائب في ذمة الغريم حتى يقدُم).
أما كون نصيب المدعي يُسلم إليه؛ فلأن حقه ثبت، وذلك يوجب تسليم نصيبه إليه.
وأما كون الحاكم يأخذ نصيب الغائب؛ فلأنه ثبت حقه. فتعين أخذه؛ ليحفظه له.
وأما كونه يحتمل أن يترك نصيبه إذا كان المال ديناً؛ فلأن أخذه يعرضه للتلف، وفي ذلك تفويتٌ لحقه بالكلية. فلم يجز؛ كما لو تيقن تلفه بأخذه.
قال: (وإن ادعى إنسان أن الحاكمَ حكمَ له بحقٍ فصدقه قُبل قول الحاكم وحده. وإن لم يذكر الحاكم ذلك فشهد عدلان أنه حكم له به: قُبل شهادتهما وأمضى القضاء. وكذلك إن شهدا أن فلاناً وفلاناً شهدا عندكَ بكذا قُبل شهادتهما).
أما كون الحاكم يقبل قوله وحده إذا صدق المدعي في دعواه؛ فلأنه قولٌ صدر من حاكم في حال ولايته. فوجب قبول قوله؛ كما لو أقرّ خصمه في مجلس الحكم فسأل المدعي الحاكم عن إقراره فقال: نعم.
فإن قيل: أليس قد قيل: لا يحكم الحاكم بعلمه؟
قيل: ليس هذا حكم بالعلم بل إمضاء لحكمه السابق.
وأما كونه يقبل شهادة العدلين أنه حكم للمدعي بدعواه ويمضي القضاء؛ فلأن العدلين لو شهدا عنده بحكم غيره قبل شهادتهما وأمضى القضاء فكذا إذا شهدا عنده بحكمه؛ لأنهما شهدا بحكم حاكم.
فإن قيل: لو نسي الشاهد شهادته فشهد عنده عدلان أنه شهد لم يكن له أن يشهد. فما الفرق؟
قيل: الفرق بينهما أن الحاكم يُمضي ما حكم به إذا ثبت عنده، والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته.
وأما كونه يقبل شهادة من شهد عنده أن فلاناً وفلاناً شهدا عندك بكذا وكذا؛ فلأنه في معنى قبول شهادتهما عنده أنه حكم.
قال: (وإن لم يشهد به أحدٌ لكن وجده في قمطره في صحيفة تحت ختمه بخطه فهل ينفذُه؟ على روايتين).
أما كون الحاكم ينفذُ ذلك على روايةٍ؛ فلأنه متى كان كذلك لم يكن إلا صحيحاً.
وأما كونه لا ينفذُ على روايةٍ؛ فلأنه يحتمل أن يزور على خطه وعلى ختمه، ويشتبه عليه ذلك.
قال: (وكذلك الشاهد إذا رأى خطه في كتاب بشهادة ولم يذكرها فهل له أن يشهد بها؟ على روايتين).
أما كون الشاهد له أن يشهد بذلك على روايةٍ كما أن للحاكم أن يحكم به على روايةٍ؛ فلأن الشاهد هنا بمنزلة الحاكم إذا رأى خطه تحت ختمه معنى فكذا يجب أن يكون حكماً.
وأما كونه ليس له ذلك على روايةٍ؛ فلما ذكر في الحاكم من الاشتباه عليه.
فصل [فيمن قدر على أخذ حقه]
قال المصنف رحمه الله: (ومن كان له على إنسانٍ حقٌ ولم يمكنه أخذه بالحاكم وقدر له على مال لم يجز أن يأخذ قدر حقه نص عليه، واختاره عامة شيوخنا. وذهب بعضهم من المحدثين إلى جواز ذلك، فإن قدرَ على جنس حقه أخذ بقدره، وإلا قوّمه وأخذ بقدره متحرياً للعدل في ذلك لحديث هند: «خُذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف» (1)، ولقوله عليه السلام:«الرهنُ مركوبٌ ومحلوبٌ» (2».
أما كون من ذكر إذا قدر على ما ذكر لا يجوز له أن يأخذ قدر حقه على المنصوص واختيار عامة الأصحاب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخنْ من خَانك» (3). والآخذ بقدر حقه من مال غيره بغير إذنه خائن له فيدخل في الحديث.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل مالُ امرئ مسلمٍ إلا عن طيبِ نفسه» (4). والمأخوذ على هذا الوجه ليس كذلك؛ لأن المأخوذ على هذا الوجه إن كان من جنس الحق فتعيينه بغير رضى صاحبه لا يجوز. ضرورة أن التعيين إليه، وإن كان من غير جنسه كان معاوضة، والمعاوضة بغير رضى مالك العوض لا تجوز.
(1) سبق تخريجه ص: 542.
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «الرهن يركب بنفقته ويشرب لبن الدر إذا كان مرهوناً» أخرجه البخاري في صحيحه (2376) 2: 888 كتاب الرهن، باب الرهن مركوب ومحلوب.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (3535) 3: 290 كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1264) 3: 564 كتاب البيوع.
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (21119) 5: 113.
وأما كونه يجوز له على قول بعض الأصحاب؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من حديث هند، وحديث الرهن.
فعلى هذا يجب أن يتحرّى الآخذ العدل. فإن كان المأخوذ من جنس الحق لا يزيد على ذلك، وإن كان من غير جنسه لا يزيد على حقه؛ لأن الزائد على ذلك لا مقابل له.
والأول أولى؛ لما تقدم.
وأما حديث هند فقد أشار الإمام أحمد إلى الفرق وهو أن حق الزوجة واجبٌ في كل وقت والمحاكمة في كل لحظة تشق. بخلاف من له دينٌ. وفرّق أبو بكر من أصحابنا بفرقٍ آخر وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة.
ولأن المرأة لها من التبسط في ماله بحكم العادة ما يؤثر في أخذ الحق وبذل اليد فيه. بخلاف الأجنبي.
قال: (وحكمُ الحاكمِ لا يُزيل الشيء عن صفته في الباطن. وذكر ابن أبي موسى عنه روايةً: أنه يُزيل العقودَ والفسوخ).
أما كون حكمُ الحاكم لا يُزيل الشيء عن صفته في الباطن في غير العقود والفسوخ مثل: أن يشهد شاهدا زورٍ أن لفلان على آخر مائة فيحكُم الحاكم بذلك بناء على ما ظهر له من عدالتهما وما أشبهه بلا خلاف في المذهب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشرٌ وإنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم يكون ألحنَ بحجته من بعضٍ فأقضي له على نحوِ ما أسمع منه. فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيهِ فكأنما أقطعُ له قطعةً من النار» (1). متفق عليه.
وأما كونه لا يُزيل في الباطن في العقود والفسوخ؛ مثل: أن يدّعي شخص نكاحاً أو بيعاً ويقيم شاهدَي زورٍ بذلك فيحكُم له الحاكم به ظناً منه أنهما عدلان، أو تدعي امرأة طلاقاً أو فسخ نكاح وتقيم بذلك شاهدي زورٍ فيحكُم
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6748) 6: 2622 كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1713) 3: 1337 كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة.
الحاكم بذلك وما أشبهه على المذهب؛ فلما تقدم من قوله عليه السلام: «فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه» (1).
وأما كونه يُزيله على روايةٍ؛ فلما روي عن علي رضي الله عنه «أن رجلاً ادعى على امرأةٍ نكاحًا فرُفعا إلى علي. فشهد له شاهدان بذلك فقضى بينهما بالزوجية. فقالت: والله ما تزوجني يا أميرَ المؤمنين. اعقِد بيننا عقدًا حتى أحل له. فقال: شاهداكِ زوَّجاك» .
فعلى هذا يحل لمدعي النكاح وطء المرأة المشهود عليها للحديث، ولمدعي البيع التصرف في العين المبيعة، ولمن علم كذبَ شهود الطلاق أن يتزوج بالمرأة؛ لأنه في معنى ما تقدم ذكره.
والأول أصح؛ لما تقدم.
وحديث علي لا حجة فيه؛ لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه.
(1) سبق تخريجه في الحديث الماضي.