المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الدعاوي والبينات - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٤

[ابن المنجى، أبو البركات]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الجنايات

- ‌باب شروط القصاص

- ‌باب استيفاء القصاص

- ‌باب العفو عن القصاص

- ‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

- ‌كتاب الديات

- ‌باب مقادير ديات النفس

- ‌باب ديات الأعضاء ومنافعها

- ‌باب الشجاج وكسر العظام

- ‌باب العاقلة وما تحمله

- ‌باب كفارة القتل

- ‌باب القسامة

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الزنى

- ‌باب القذف

- ‌باب حد المسكر

- ‌باب التعزير

- ‌باب القطع في السرقة

- ‌باب حد المحاربين

- ‌باب قتال أهل البغي

- ‌باب حكم المرتد

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌باب الذ كاة

- ‌كتاب الصيد

- ‌كتاب الأيمان

- ‌باب جامع الأيمان

- ‌باب النذر

- ‌كتاب القضاء

- ‌باب أدب القاضي

- ‌باب طريق الحكم وصفته

- ‌باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي

- ‌باب القسمة

- ‌باب الدعاوي والبينات

- ‌باب في تعارض البينتين

- ‌كتاب الشهادات

- ‌باب شروط من تقبل شهادته

- ‌باب موانع الشهادة

- ‌باب أقسام المشهود به

- ‌باب الشهادة على الشهادة

- ‌باب اليمين في الدعاوى

- ‌كتاب الإقرار

- ‌باب ما يحصل به الإقرار

- ‌باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

- ‌باب الإقرار بالمجمل

الفصل: ‌باب الدعاوي والبينات

‌باب الدعاوي والبينات

الدعوى في اللغة: إضافة الإنسان الشيء إلى نفسه ملكاً أو استحقاقاً أو صفة أو نحو ذلك.

وفي الشرع: إضافته إلى نفسه استحقاقَ شيء في يد غيره، أو في ذمته.

وقيل: الدعوى الطلب، ومنه قوله تعالى:{ولهم ما يدَّعون} [يس: 57]. أي يطلبون.

والأصل في الدعوى في الجملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماءَ قوم وأموالَهم. ولكن اليمين على المدعى عليه» (1). رواه مسلم.

وفي الحديث: «البينةُ على المدعِي. واليمينُ على المدعَى عليه» «2).

قال المصنف رحمه الله: (المدعي من إذا سكتَ تُرك، والمنكر من إذا سكتَ لم يُترك. ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف).

أما كون المدعي والمنكر ما ذكر؛ فلأن المدعي طالب والمنكر مطلوب، والطالب إذا سكت ترك والمطلوب إذا سكت لم يترك.

وقال بعض أصحابنا: المدعي من يلتمس أخذ شيء من يد غيره أو إثبات حق في ذمته والمدعى عليه من ينكر ذلك.

وأما كون كل واحد من الدعوى والإنكار لا يصح إلا من جائز التصرف؛ فلأن كل واحد منهما قول يترتب عليه حكم شرعي. فلم يصح من غير جائز التصرف؛ كالبيع.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1711) 3: 1336 كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه.

(2)

سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 597

قال: (وإذا تداعيا عيناً لم تخل من أقسام ثلاثة:

أحدها: أن تكون في يد أحدهما فهي له مع يمينه أنها له لا حق للآخر فيها إذا لم يكن بينة).

أما كون التداعي المذكور لا يخلو من أقسام ثلاثة؛ فلأن العين مع التداعي لا تخلو من أن تكون في يد أحدهما، أو في يديهما، أو في يد غيرهما.

وأما كون أحدها: أن تكون في يد أحدهما؛ فظاهر.

وأما كونها لمن هي في يده مع يمينه إذا لم يكن بينة؛ فلأن اليد دليل الملك ظاهراً.

وإنما اشترطت يمينه أنها له لا حق للآخر فيها؛ لأن من ليست في يده يحتمل أن تكون العين له فشرعت اليمين في حق صاحبه من أجل الاحتمال المذكور.

وإنما اشترط عدم البينة؛ لأن البينة إذا كانت أظهرت الحق فلم يحتج معها إلى يمين.

قال: (ولو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل، والآخر آخذ بزمامها فهي للأول. وإن تنازعا قميصاً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه).

أما كون الدابة للراكب أو لمن عليها حمل دون الآخذ بالزمام؛ فلأن تصرف كل واحد منهما في العين أقوى من تصرف الآخذ بالزمام، ويده آكد؛ لأنه المستوفي للمنفعة.

وأما كون القميص للابسه دون الآخذ بكمه؛ فلأن اللابس مع الآخذ بالكم أحسن حالاً من الراكب مع الآخذ بالزمام، والراكب أولى من الآخذ بالزمام فكذا ما هو أحسن حالاً منه.

ص: 598

قال: (وإن تنازع صاحب الدار والخياط الإبرة والمقص فهما للخياط. وإن تنازع هو والقرّاب القربة فهي للقرّاب. وإن تنازعا عرَصَة فيها شجرٌ أو بناءٌ لأحدهما فهي له).

أما كون الإبرة والمقص للخياط دون صاحب الدار فيما ذكر؛ فلأن تصرف الخياط في ذلك أظهر، والظاهر معه؛ لأن العادة جارية بحمل الخياط الإبرة والمقص.

وأما كون القربة للقرّاب دون صاحب الدار فيما ذكر؛ فلما ذكر في الخياط.

وأما كون العرصَة التي فيها شجر أو بناء لأحدهما لمن له ذلك؛ فلأن ذلك دليل الملك ظاهراً.

قال: (وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببناء أحدهما وحده أو متصلاً به اتصالاً لا يمكن إحداثه، أو له عليه أزج: فهو له. وإن كان محلولاً من بنائهما أو معقوداً بهما فهو بينهما).

أما كون الحائط المعقود ببناء أحد المتنازعين (1).

[قال: (وإن اختلف صانعان في قماش دكان لهما حكم بآلة: كل صناعة لصاحبها في ظاهر كلام أحمد والخرقي. وقال القاضي: إن كانت أيديهما عليه من طريق الحكم فكذلك. وإن كانت من طريق المشاهدة فهو بينهما على كل حال)](2).

أما كون كل آلة كل صناعة يحكم بها لصاحبها في ظاهر كلام من ذكر؛ فلأن الظاهر أنها له.

ولأن الآلة بالنسبة إلى الصانع كالقماش الصالح للرجل بالنسبة إليه والصالح للرجل للرجل. فكذا يجب أن يكون الصالح للصانع له.

وأما كون ذلك كذلك إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم على قول القاضي؛ فلما ذكر.

(1) كذا في د.

(2)

زيادة من المقنع.

ص: 599

وأما كونه بينهما إذا كانت أيديهما عليه من طريق المشاهدة؛ فلأن المشاهدة أقوى من اليد الحكمية. بدليل: لو تنازع الخياط وصاحب الدار الإبرة والمقص.

فإن قيل: قول القاضي يجري في مسألة الزوجين أم هو مختص بمسألة الصانعين؟ .

قيل: هو عام فيهما، وصرح به المصنف رحمه الله في المغني في مسألة الزوجين.

قال: (وكل من قلنا هو له فهو له مع يمينه إذا لم تكن بينة. وإن كانت لأحدهما بينة حُكم له بها).

أما كون اليمين على من حُكم له بشيء مما ذكر؛ فلأنه يحتمل أن لا يكون ذلك له فشُرعت اليمين من أجل ذلك.

وأما كون من كانت له بينة يُحكم له بها؛ فلأن البينة تُظهر صاحب الحق، وذلك يقتضي كون الحكم له دون غيره.

قال: (وإن كان لكل واحدٍ منهما بينة حُكم بها للمدعي في ظاهر المذهب. وعنه: إن شهدت بينة المدعى عليه أنها له نتجت في ملكه أو قطيعة من الإمام قدمت بينته، وإلا فهي للمدعي ببينته. قال القاضي فيهما: إذا لم يكن مع بينة الداخل ترجيح لم يُحكم بها رواية واحدة. وقال أبو الخطاب: فيه رواية أخرى أنها مقدمة بكل حال).

أما كون العين يحكم بها للمدعي في ظاهر المذهب إذا كان لكل واحدٍ من المتنازعين بينة وكانت العين في يد أحدهما؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البينةُ على المدعِي واليمينُ على المدعَى عليه» (1). جعل النبي صلى الله عليه وسلم جنس البينات في جنبة المدعي فلا تبقى في جنبة المنكر بينة.

ولأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها. ودليل كثرة فائدتها أنها تُثبت شيئاً لم يكن، وبينة المنكر إنما تُثبت ظاهراً دلت اليدُ عليه.

وأما كون المدعى عليه تقدم بينته إذا شهدت بالسبب من نتاج أو غيره كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلأن البينة إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده

(1) سبق تخريجه ص: 545.

ص: 600

اليد، وقد روى جابر بن عبدالله «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابةٍ أو بعير فأقام كل واحدٍ منهما البينة أنها له أنتجها. فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنها للذي في يده» (1).

وأما كون بينة الداخل لا يُحكم بها رواية واحدة إذا لم يكن معها ترجيح على قول القاضي؛ فلأن بينة الخارج أقوى منها؛ لأنه لا يجوز أن يكون مستندها اليد. بخلاف بينة الداخل.

وأما كون بينة الداخل مقدمة بكل حال في روايةٍ قالها أبو الخطاب؛ فلأن جنبته أقوى من جنبة الخارج. بدليل: أن يمينه تُقدم على يمينه.

قال: (فإن أقام الداخل بينة أنه اشتراها من الخارج، وأقام الخارج بينة أنه اشتراها من الداخل فقال القاضي: تقدم بينة الداخل، وقيل: تقدم بينة الخارج).

أما كون بينة الداخل تقدم على قول القاضي؛ فلأنه هو الخارج في المعنى؛ لأنه ثبت بالبينة أن المدعي صاحب اليد وأن يد الداخل نائبة عنه.

وأما كون بينة الخارج تقدم على قول؛ فلأنه المدعي، وفي الحديث:«البينةُ على المدعِي» (2).

ولأن اليمين في حق الداخل فتكون البينة في حق الخارج.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3613) 3: 310 كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2330) 2: 780 كتاب الأحكام، باب الرجلان يدعيان السلعة وليس بينهما بينة.

(2)

سبق تخريجه ص: 545.

ص: 601

فصل [إذا كانت العين في يديهما]

قال المصنف رحمه الله: (القسم الثاني: أن تكون العين في يديهما، فيتحالفان، وتُقسم بينهما).

أما كون القسم الثاني ما ذكر؛ فلأنه يلي الأول.

وأما كون من العين في يديهما يتحالفان. وهو: أن يحلف كل واحدٍ منهما لصاحبه؛ فلأن كل واحدٍ منهما منكرٌ ما ادعاه صاحبه واليمين على من أنكر.

وأما كون العين تقسم بينهما أي نصفين؛ فلأن يد كل واحدٍ منهما على نصف العين، وما وُجد ما يقتضي رفعَ ذلك. فوجب إقراره في يده.

قال: (وإن تنازعا مُسَنَّاةً بين نهر أحدهما وأرض الآخر تحالفا، وهي بينهما).

أما كون من تنازعا ما ذكر يتحالفان كما تقدم؛ فلما تقدم.

وأما كون المُسَنَّاة وهي الحاجز بين النهر والأرض بين صاحب النهر وصاحب الأرض؛ فلأنها حاجز بين ملكيهما ويديهما عليها. فكانت لهما؛ كما لو تنازع صاحب العلو وصاحب السفل السقف الذي بينهما.

قال: (وإن تنازعا صبياً في يديهما فكذلك. وإن كان مميزاً فقال: إني حر فهو حر، إلا أن تقوم بينة برقّه. ويحتمل أن يكون كالطفل).

أما كون الصبي الذي في يد المتنازعين فيه بينهما؛ فلأن اليد دليل الملك، والصبي لا عبارة له فهو كالبهيمة والمتاع.

وأما كونه حراً إذا كان مميزاً وقال: إني حر ولم تقم بينة برقّه على المذهب؛ فلأنه مُعرِبٌ عن نفسه في قوله: إني حر المعتضد بالأصل. فوجب أن يقبل قوله؛ كالبالغ.

وأما كونه يحتمل أن يكون كالطفل؛ فلأنه صغير ادعى رقّه من هو في يده. أشبه ما لو كان طفلاً.

ص: 602

فعلى هذا إن لم يكن لأحد المتنازعين بينة فهو بينهما لثبوت يدهما عليه، وإن كان لأحدهما بينة حُكم له بها؛ لأن البينة تُظهر صاحب الحق، وذلك يعلق حقه بالعين المتنازع فيها.

قال: (فإن كان لكل واحدٍ بينةٌ قدّم أسبقهما تاريخاً، فإن وقتت إحداهما (1) وأطلقت الأخرى فهما سواء. ويحتمل تقديم المطلِقة).

أما كون أسبق البينتين تاريخاً تقدّم؛ فلأنها أثبتت الملك لصاحبها في وقتٍ لم تُعارضها فيه البينة الأخرى، وذلك يقتضي ثبوت الملك له في ذلك الزمان، وفي الزمان الثاني تعارضت فيه البينتان وسقطتا. فوجب بقاء الملك الثابت في الزمان الأول إلى حال التنازع.

فعلى هذا إذا شهدت بينة أحدهما أن العين له منذ سنتين وشهدت بينة الآخر أنها له منذ سنة فهي لمن شهدت بينته أنها له منذ سنتين.

إذا علم ذلك فقال المصنف رحمه الله في المغني في تقديم أقدمهما تاريخاً: قال القاضي: هو قياس المذهب. ثم قال: وظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما؛ لأن الشاهد بالملك الحادث أولى؛ لجواز أن يعلم به دون الأول فإذا لم ترجح بهذا فلا أقل من التساوي. وأجاب عن ثبوت الملك في الزمن الأول بأن ذلك إنما يثبت تبعاً للزمن الحاصل. بدليل: أنه لو انفردت الدعوى بالزمن الماضي لم تسمع.

وأما كون البينتين سواء إذا وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى على المذهب؛ فلأنه ليس في المطلقة ما يقتضي التقدم. فوجب استواؤهما؛ كما لو أطلقتا جميعاً.

وأما كون المطلقة يحتمل تقديمها؛ فلأن الملك فيها يجوز أن يكون ثابتاً قبل المؤقتة فيكون مقدماً عليها.

والأول أصح؛ لما تقدم. والاحتمال المذكور معارض بمثله؛ لأنه يجوز أن تكون الموقتة قبل المطلقة، وإذا تساويا في الاحتمال المذكور وجب استواؤهما.

(1) في د: أحدهما.

ص: 603

قال: (وإن شهدت إحداهما بالملك والأخرى بالملك والنتاج، أو سبب من أسباب الملك فهل تقدم بذلك؟ على وجهين).

أما كون بينة النتاج أو السبب تقدم بذلك على وجه؛ فلأنها شهدت بزيادة على الأخرى.

وأما كونها لا تقدم بذلك على وجه؛ فلأنهما اشتركا في إثبات أصل الملك وفي اليد. فوجب استواؤهما لذلك.

قال: (ولا تقدم إحداهما بكثرة العدد، ولا اشتهار العدالة، ولا الرجلان على الرجل والمرأتين، ويقدم الشاهدان على الشاهد، واليمين في أحد الوجهين).

أما كون إحدى البينتين لا تقدم بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة، وكون الرجلين لا يقدمان على الرجل والمرأتين؛ فلأن الشرع قدر الشهادة بمقدار معلوم وبالعدالة وبالرجل والمرأتين. فلم يختلف ذلك بالزيادة؛ كالدية.

وأما كون الشاهدان يقدمان على الشاهد واليمين في وجه؛ فلأنهما متفق عليهما والشاهد واليمين مختلف فيه، والمتفق عليه أولى من المختلف فيه.

ولأن اليمين قوله لنفسه والبينة الكاملة شهادة الأجنبي له. فيجب تقديمها عليه؛ كما تقدم بينة المدعي على يمين المنكر.

وأما كونهما لا يقدمان عليهما في وجه؛ فلأنهما حجتان. أشبهتا البينتين.

قال: (وإذا تساوتا تعارضتا، وقسمت العين بينهما بغير يمين. وعنه: أنهما يتحالفان كمن لا بينة لهما. وعنه: أنه يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وأخذها).

أما كون البينتين تتعارضان إذا تساوتا؛ فلأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.

وأما كون العين تقسم بين المتنازعين نصفين على المذهب؛ فلما روي «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقامَ كل واحدٍ منهما شاهدين فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين» (1). رواه أبو داود.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3615) 3: 310 كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة.

ص: 604

وأما كون ذلك بغير يمين؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف أحداً في الحديث المتقدم ذكره.

ولأنه قد تقرر أن بينة الخارج متقدمة، وكل واحدٍ من المتنازعين داخل في نصف خارج في نصف. فتقدم بينته في النصف الذي في يد صاحبه ولا يحتاج إلى يمين، وتقدم بينة صاحبه في النصف الآخر.

وأما كون المتنازعين يتحالفان على روايةٍ؛ فلأن البينتين لما تعارضتا من غير ترجيح وجب إسقاطهما؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما؛ لتنافيهما. ولا ترجيح إحداهما؛ لأنه ترجيحٌ لا لمرجحٍ، وإذا سقطتا وجب أن يتحالفا كمن لا بينة لهما.

وأما كونهما يقرع بينهما على روايةٍ؛ فلأن القرعة مشروعة في موضع الإبهام وهو موجود هاهنا.

وأما كون من قرع صاحبه يحلف؛ فلأن العين يحتمل أنها لصاحبها.

وأما كونه يأخذ العين؛ فلأن ذلك فائدة القرعة.

والأول أصح؛ للحديث المتقدم ذكره.

قال: (فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيدٍ لم تُسمع البينة على ذلك حتى يقول: وهي ملكه وتشهد البينة به).

أما كون البينة على ذلك لا تُسمع حتى يقول المدعي: وهي ملكه وتشهد البينة له بذلك: أما الأول؛ فلأن مجرد الشراء لا يوجب نقل الملك لجواز أن يقع مع غير مالك. فلم يكن بد من انضمام الملك للبائع.

ولأن مجرد الشراء لو أفاد لتمكن من أراد انتزاع ملكٍ من يد شخص من ذلك بأن يوافق شخصاً لا ملك له على إيقاع الشراء على الملك الذي في يد ذلك الشخص وينزعه منه، وذلك ضرر عظيم.

وأما الثاني؛ فلأن سماع البينة الشاهدة بشيء متوقف على شهادتهما بذلك.

قال: (فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه، وادعى الآخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه، وأقاما بذلك بينتين: تعارضتا. وإن أقام أحدهما

ص: 605

بينة أنها ملكه وأقام الآخر بينة أنه اشتراها منه أو وقفها عليه أو أعتقه: قدمت بينته).

أما كون البينتين في المسألة الأولى تتعارضان؛ فلأنهما استويا في السبب وثبوت الملك، وذلك يوجب التعارض؛ كالحديثين المتنافيين من كل وجه.

وأما كون بينة الشراء والوقف والعتق في المسألة الثانية تقدم؛ فلأنها شهدت بما يوجب نقل ملك صاحبه وذلك مرجح على غيره.

قال: (ولو أقام رجلٌ بينةً أن هذه الدار لأبي خلفها تركة، وأقامت امرأته بينة أن أباهُ أصدقَها إياها فهي للمرأة).

أما كون الدار المذكورة للمرأة فيما ذكر؛ فلأن بينتها شهدت بالسبب المقتضي للنقل عمن شهدت البينة الأخرى أنها له.

وأما كون بينة الابن بأنها تركة لا تُعارضها وإن نافتها؛ فلأن قولها: تركة مستندها فيه الاستصحاب وقد تيقن قطعه بقيام البينة على سبب النقل.

ص: 606

فصل [إذا تداعيا عينا في يد غيرهما]

قال المصنف رحمه الله: (الثالث: تداعيا عيناً في يد غيرهما، فإنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها).

أما كون القسم الثالث ما ذكر؛ فلأنه يلي الثاني.

وأما كون من تداعيا ما ذكر يقرع بينهما؛ فلما روى أبو هريرة «أن رجلين تداعيا عيناً لم يكن لواحد منهما بينة. فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين» (1).

ولأن أحدهما لا مزية له. أشبه ما لو أعتق أحد عبديه، وما لو أعتق عبيداً لا مال له غيرهم في مرض موته.

وأما كون من خرجت له القرعة يحلف ويأخذها؛ فلما تقدم فيما إذا تساوت البينتان. وقيل: بالقرعة فيها (2).

قال: (وإن كان المدعي عبداً فأقر لأحدهما لم يرجح بإقراره. وإن كان لأحدهما بينة حُكم له بها. وإن كان لكل واحدٍ بينة تعارضتا والحكمُ على ما تقدم).

أما كون إقرار العبد فيما ذكر لا يرجح به؛ فلأنه متهم؛ لأنه يحتمل أن يميل إلى من أقر له دون الآخر.

وأما كون العين يحكم بها لمن له بينة دون من ليس له بينة؛ فلأن بينته أظهرت أنه هو المستحق للعين المالك لها.

وأما كون البينتين تتعارضان إذا كان لكل واحدٍ منهما بينة؛ فلأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3616) 3: 311 كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة.

(2)

ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

ص: 607

وأما كون الحكم على ما تقدم؛ فلأنه في معناه.

فعلى هذا يكون هنا روايتان:

إحداهما: يقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها؛ لما تقدم من حديث أبي هريرة قياساً على ما إذا لم تكن بينة.

والثانية: تقسم العين بينهما نصفين؛ لما روى أبو موسى الأشعري «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقامَ كل واحدٍ منهما بينة أنه له. فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين» (1).

والأول أصح؛ لما تقدم. وحديث أبي موسى محمول على ما إذا كانت العين في يد المنازعين. ولذلك جاء في بعض الألفاظ: «ولا بينةَ لهما» (2).

قال: (فإن أقرّ صاحب اليد لأحدهما لم يرجح بذلك).

أما كون من ذكر لا يرجح به؛ فبالقياس على إقرار العبد لأحد المدعيين.

وأما الحكم فيما ذكر مما علم أن المنقول في المغني والهداية وغيرهما من الكتب أن المقر له يصير بالإقرار صاحب يدٍ؛ لأن المقر بإقراره له تبين أن يده مبنية على يد المقر له، ويلزم من ذلك صيرورة المقر له صاحب يد. ولفظ المصنف رحمه الله في المغني بعد أن ذكر المسألة: فإن أقر بها لواحدٍ منهما أم لواحد غيرهما صار المقر له صاحب اليد ويكون حكمه كالحكم فيما إذا تداعيا عيناً في يد أحدهما على ما مضى وذلك يقتضي ترجيح قوله.

قال: (وإن ادّعاها صاحب اليد لنفسه فقال القاضي: يحلفُ لكل واحدٍ منهما وهي له. وقال أبو بكر: بل يقرع بين المدعيين، ويكون لمن تخرج له القرعة).

أما كون صاحب اليد يحلف لكل واحدٍ من المدعيين على قول القاضي؛ فلأنهما وإن تعارضت بينتاهما ليسا بأقل ممن لا بينة لهما، وهناك يحلف صاحب اليد؛ لاحتمال صدق المدعيين. فلأن يحلف هنا بطريق الأولى.

(1) سبق تخريجه ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3613) 3: 310 كتاب الأقضية، باب الرجلين يدعيان شيئاً وليست لهما بينة.

ص: 608

وأما كون العين لصاحب اليد على ذلك؛ فلأن المدعيين تعارضت بينتاهما وصارا كمن لا بينة له، ولو لم تكن لهما بينة لحكم بالعين لصاحب اليد بعد حلفه فكذا هاهنا.

وأما كونه يقرع بين المدعيين على قول أبي بكر؛ فلأن بينتهما أظهرت أنهما هما المستحقان، وأنه لا حق لصاحب اليد، وذلك يقتضي كون العين لأحدهما. فإذا لم يُعرف شرعت القرعة كغير ذلك من المواضع.

فعلى هذا تكون العين لمن خرجت له القرعة؛ لأن فائدتها ذلك.

قال: (وإن كان في يد رجل عبد فادعى أنه اشتراه من زيد، وادعى العبد أن زيداً أعتقه، وأقام كل واحدٍ بينة انبنى على بينة الداخل والخارج. وإن كان العبد في يد زيد فالحكم فيه الحكم ما إذا ادعيا عيناً في يد غيرهما).

أما كون بينة المشتري والعبد تنبني على بينة الداخل والخارج؛ فلأن المشتري داخل؛ لأن يده على العبد، والعبد خارج؛ لأنه ليست له يد.

فعلى هذا إن قدمت بينة الخارج قدمت بينة العبد وإن قدمت بينة الداخل قدمت بينة المشتري.

ولا بد أن يلحظ أن بينتي المشتري والعبد كانتا مؤرختين تاريخاً واحداً، أو كانتا مطلقتين، أو إحداهما مطلقة ونقول: هما سواء.

وإن كانتا مؤرختين تاريخاً مختلفاً قدمت الأولة؛ لأنها أسبق. ومتى سبق العتق لم يصح البيع وبالعكس.

وأما كون الحكم في العبد إذا كان في يد سيده حكم ما إذا ادعيا عيناً في يد غيرهما؛ فلأن العبد عين وهو في يد غير المتنازعين.

فعلى هذا يرجع إلى قول زيد فإن أنكرهما فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه منكر. وإن أقر لأحدهما قُبل إقراره وحلف للآخر. وإن أقام أحدهما بينة حُكم بها. وإن أقام كل واحدٍ بينة قُدمت السابقة؛ لما تقدم ذكره، فإن كانتا في وقتٍ أو مطلقتين أو إحداهما وقيل: هما سواء تعارضتا.

فإن قيل: بتساقطهما صارا كمن لا بينة لهما.

وإن قيل: يُقرع بينهما أقرع بين المشتري والعبد فمن خرجت له القرعة حلف وحكم له.

ص: 609

وإن قيل: تقسم العين جعل نصف العبد مبيعاً ونصفه حراً ويسري العتق إلى جميعه إن كان البائع موسراً؛ لأن البينة قامت عليه بأنه أعتقه مختاراً وقد ثبت العتق في نصفه بشهادتهما.

قال: (وإن كان في يده عبدٌ فادعى عليه رجلان كل واحد منهم أنه اشتراه مني بثمن سماه فصدقهما لزمه الثمن لكل واحدٍ منهما. وإن أنكرهما حلف لهما وبرئ. وإن صدق أحدهما لزمه ما ادعاه وحلف للآخر. وإن كان لأحدهما بينة فله الثمن، ويحلف للآخر. وإن أقام كل واحدٍ بينة فأمكن صدقهما لاختلاف تاريخهما أو إطلاقهما أو إطلاق إحداهما وتاريخ الأخرى عمل بهما. وإن اتفق تاريخهما تعارضتا والحكم على ما تقدم).

أما كون من العبد في يده يلزمه الثمن لكل واحدٍ من المدعيين إذا صدقهما؛ فلأنه يجوز أنه اشتراه من أحدهما ثم ملكه الآخر فاشتراه منه.

وأما كونه يحلف لهما إذا أنكرهما؛ فلأن من أنكر وجبت عليه اليمين.

وأما كونه يبرأ؛ فلأن كل مدعى عليه بلا بينة إذا حلف برئ.

وأما كونه يلزمه ما ادعى أحدهما إذا صدقه؛ فلتوافقهما على صحة دعواه.

وأما كونه يحلف للآخر؛ فلأنه منكر.

وأما كون الثمن لمن له بينة؛ فلأن البينة مقدمة على الإنكار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«البينةُ على المدعِي» (1).

وأما كونه يحلف للآخر؛ فلأنه منكر فيدخل في قوله عليه السلام: «واليمينُ على من أنكر» (2).

وأما كون البينتين يعمل بهما إذا أمكن صدقهما؛ فلأن البينة حجة شرعية. فإذا أمكن صدقها من الجانبين وجب العمل بهما؛ كالخبرين إذا أمكن العمل بهما.

فعلى هذا لإمكان العمل بهما صور:

(1) سبق تخريجه ص: 545.

(2)

سبق تخريجه ص: 550.

ص: 610

إحداها: أن يختلف تاريخهما؛ مثل: أن تشهد إحداهما أنه اشتراه من زيد في المحرم، وتشهد الأخرى أنه اشتراه من عمرو في صفر؛ لأنه يمكن أن يكون قد اشتراه من زيد في الوقت المذكور ثم ملكه لعمرو ثم اشتراه في الوقت الآخر.

فإن قيل: لم قيل بأن البائع لو كان واحداً والمشتري لو كان اثنين فأقام أحدهما بينة أنه اشتراه في المحرم وأقام الآخر بينة أنه اشتراه في صفر يكون الشراء الثاني باطلاً؟

قيل: لأنه إذا ثبت الملك للأول بالشراء لم يبطل ببيع البائع ثانياً، وفي المسألة المذكورة ثبوت شرائه من كل واحدٍ منهما يبطل ملكه؛ لأنه لا يجوز أن يشتري ثانياً ملك نفسه.

وثانيها: أن تكون البينتان مطلقتين؛ لأنه يمكن أن يكون زمن إحداهما غير زمن الأولى.

وثالثها: أن تكون إحدى البينتين مطلقة والأخرى مؤرخة؛ لأنه يمكن في ذلك أيضاً اختلاف زمن الشراء. أشبه المطلقتين.

وأما كونهما تتعارضان إذا اتفق تاريخهما؛ فلأنهما تساويا، والتساوي يوجب التعارض.

وأما كون الحكم على ما تقدم؛ فلأنه في معناه.

فعلى القول بالتساقط يصير المدعيان كمن لا بينة لهما.

فعلى هذا لا يلزمه المدعى عليه شيء من الثمن، وعلى القول بالقرعة يقرع بين المدعيين فمن خرج له القرعة لزم المدعى عليه الثمن له، وعلى القول بقسمة المدعى بينهما يلزم المدعى عليه الثمن ويكون مشتركاً بينهما.

قال: (وإن ادعى كل واحدٍ منهما أنه باعني إياه بألفٍ وأقاما بينة قدّم أسبقهما تاريخاً، فإن لم تسبق إحداهما تعارضتا).

أما كون أسبق البينتين تاريخاً فيما ذكر تقدم؛ فلأن نقل الملك حاصل لمن سبق. فوقوع العقد بعد ذلك لا يصح.

وأما كونهما تتعارضان إذا لم تسبق إحداهما الأخرى؛ فلأنهما تساويا، والتساوي يوجب التعارض.

ص: 611

قال: (وإن قال أحدهما: غصبني إياه، وقال الآخر: ملكنيه أو أقر لي به، وأقام كل واحدٍ بينة: فهو للمغصوب منه، ولا يغرم للآخر شيئاً).

أما كون العبد للمغصوب منه دون المملك والمقر له؛ فلأنه لا تعارض بين بينتيهما؛ لأن الجمع بينهما ممكن بأن يكون قد غصب العبد من مدعيه ثم ملكه أو أقر به لمدعي ذلك.

وأما كون المشهود عليه لا يغرم للمقر له شيئاً؛ فلأنه لم يحل بينه وبين ما أقر به. وإنما حالت البينة بينهما.

ص: 612