المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٤

[ابن المنجى، أبو البركات]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الجنايات

- ‌باب شروط القصاص

- ‌باب استيفاء القصاص

- ‌باب العفو عن القصاص

- ‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

- ‌كتاب الديات

- ‌باب مقادير ديات النفس

- ‌باب ديات الأعضاء ومنافعها

- ‌باب الشجاج وكسر العظام

- ‌باب العاقلة وما تحمله

- ‌باب كفارة القتل

- ‌باب القسامة

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الزنى

- ‌باب القذف

- ‌باب حد المسكر

- ‌باب التعزير

- ‌باب القطع في السرقة

- ‌باب حد المحاربين

- ‌باب قتال أهل البغي

- ‌باب حكم المرتد

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌باب الذ كاة

- ‌كتاب الصيد

- ‌كتاب الأيمان

- ‌باب جامع الأيمان

- ‌باب النذر

- ‌كتاب القضاء

- ‌باب أدب القاضي

- ‌باب طريق الحكم وصفته

- ‌باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي

- ‌باب القسمة

- ‌باب الدعاوي والبينات

- ‌باب في تعارض البينتين

- ‌كتاب الشهادات

- ‌باب شروط من تقبل شهادته

- ‌باب موانع الشهادة

- ‌باب أقسام المشهود به

- ‌باب الشهادة على الشهادة

- ‌باب اليمين في الدعاوى

- ‌كتاب الإقرار

- ‌باب ما يحصل به الإقرار

- ‌باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

- ‌باب الإقرار بالمجمل

الفصل: ‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

قال المصنف رحمه الله: (كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها ومن لا فلا. ولا يجب إلا بمثل الموجب في النفس وهو العمد المحض).

أما كون كل من أقيد بغيره في النفس يقاد به فيما دونها؛ فلأن من أقيد به في النفس إنما أقيد به فيها لحصول المساواة المعتبرة للقود. فيجب أن يقاد به فيما دونها لذلك.

وفي قول المصنف رحمه الله: كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها إشعار بمشروعية القود فيما دون النفس من الأطراف والجراح (1).

والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعنى: أما الكتاب فقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس -إلى قوله-: والجروحَ قصاص} [المائدة: 45].

وأما السنة؛ فما روى أنس بن مالك «أن الرُّبَيِّع بنت النضر بن أنس كَسرتْ ثنيَّةَ جاريةٍ. فعرضوا عليهم الأرش. فأبوْ إلا القصاص، فجاءَ أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله! تُكسرُ ثنيةُ الربيِّع. والذي بعثكَ بالحق! ما تُكسَر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كتابَ اللهِ القصاصُ

مختصر» (2). رواه البخاري وأبو داود والنسائي.

وأما الإجماع فأجمع المسلمون على مشروعية القصاص فيما دون النفس إذا أمكن بشرطه.

(1) في أ: والجوارح.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2556) 2: 961 كتاب الصلح، باب الصلح في الدية.

وأخرجه أبو داود في سننه (4595) 4: 197 كتاب الديات، باب القصاص من السن.

وأخرجه النسائي في سننه (4757) 8: 27 كتاب القسامة، القصاص من الثنية.

وأخرجه ابن ماجة في سننه (2649) 2: 884 كتاب الديات، باب القصاص في السن.

وأخرجه أحمد في مسنده (12727) 3: 167.

ص: 71

وأما المعنى وهو أن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص. فكان كالنفس في وجوبه.

وأما كون من لا يقاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دونها؛ فلأن من لا يقاد بغيره في النفس إنما لم يُقَدْ به لعدم المساواة المعتبرة في القود، وذلك موجود فيما دون النفس. فوجب أن لا يقاد به فيه عملاً بالعلة.

فعلى هذا لو قطع مسلم يد مسلم قطعت يده لأنه يقاد به في النفس، ولو قطع يد كافر لم تقطع يده لأنه لا يقاد به في النفس، ولو قطع حرٌّ يد حرّ قطعت يده لما تقدم، ولو قطع يد عبد لم تقطع يده لذلك. وعلى هذا فقس.

وأما كون القود فيما دون النفس لا يجب إلا بمثل الموجب في النفس؛ فلأن ما دون النفس أحد ما يجب فيه القود. فلم يجب فيه إلا بمثل الموجب في النفس؛ كالنفس.

وأما كون الموجب في ذلك هو العمد المحض؛ فلأن ذلك هو الموجب في النفس لما تقدم ذكره في موضعه.

قال: (وهو نوعان: أحدهما: في الأطراف. فتؤخذ العين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجفن بالجفن، والشفة بالشفة، واليد باليد، والرجل بالرجل).

أما كون القود فيما دون النفس نوعين؛ فلأنه تارة يكون في الأطراف [وتارة يكون في الجروح.

وأما كون أحد النوعين القود في الأطراف] (1) فظاهر.

وأما كون العين تؤخذ بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن؛ [فلأن الله تعالى قال: {والعينَ بالعين والأنفَ بالأنف والأذنَ بالأذن والسنَّ بالسن](2) الآية} [المائدة: 45].

وأما كون الجفن يؤخذ بالجفن

إلى آخره؛ فلأن ذلك في معنى المنصوص عليه. فيجب أن يلحق به؛ لأن التساوي معنى يوجب التساوي حكماً.

(1) ساقط من أ.

(2)

مثل السابق.

ص: 72

قال: (ويؤخذ كل واحد من الأصابع والكف والمرفق والذكر والأنثيين بمثله. وهل يجري في الإلية والشفر؟ على وجهين).

أما كون كل واحد من الأصابع والكف والمرفق والذكر والأنثيين يؤخذ بمثله؛ فلأن المماثلة موجودة والقصاص ممكن. فوجب؛ كالعين بالعين والأنف بالأنف.

وأما كون القصاص يجري في الإلية والشفر في وجهٍ؛ فلعموم قوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة: 45].

ولأن لذلك حداً ينتهي إليه. فجرى القود فيه؛ كالذَّكَر.

وأما كونه لا يجري فيهما في وجهٍ؛ فلأن الإلية متصلة بلحم والشفر لحم لا مفصل له. فلم يجر القود فيها؛ كلحم الفخذ.

ص: 73

فصل [في شروط القصاص في الطرف]

قال المصنف رحمه الله: (ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط: أحدها: الأمن من الحَيْف. بأن يكون القطع من مفصل، أو له حد ينتهي إليه كمارن الأنف وهو ما لان منه).

أما كون القصاص في الأطراف يشترط له ثلاثة شروط؛ فلما يأتي ذكره فيها.

وأما كون أحدها الأمن من الحَيْف؛ فلأن الحَيْف ظلم وعدوان. فإذا لم يمكن القصاص إلا به لم يجب فعله.

وأما قول المصنف رحمه الله: بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه؛ فبيان لما يحصل به الأمن من الحَيْف.

وأما قوله: كمارن الأنف؛ فبيان لصورة من صور ما له حد ينتهي إليه.

وأما قوله: وهو ما لان منه؛ فبيان للمارن ما هو.

قال: (وإن قطع القصبة أو قطع من نصف الساعد أو الساق: فلا قصاص في أحد الوجهين، وفي الآخر يقتص من حد المارن ومن الكوع والكعب. وهل يجب له أرش الباقي؟ على وجهين).

أما كون ما ذكر لا قصاص فيه على الصفة التي فعل الجاني بلا خلاف؛ فلأن القطع ليس من مفصل فلا يؤمن الحيف فيه، وفي الحديث:«أن رجلاً ضربَ رجلاً على ساعدهِ بالسيفِ فقطعهَا من غيرِ مَفْصَلٍ. فاستعدَى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأمرَ لهُ بالديةِ. فقال: إني أُريدُ القصاصَ. قال: خُذِ الدية باركَ اللهُ لكَ فيها. ولمْ يقضِ له بقصاص» (1). رواه ابن ماجة.

(1) أخرجه ابن ماجة في سننه (2636) 2: 880 كتاب الديات، باب ما لا قود فيه.

ص: 74

وأما كونه لا قصاص فيه أصلاً في وجهٍ؛ فلما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجبه أصلاً.

ولأنه اقتصاص من غير موضع الجناية. فلم يجب؛ كما لو كان القطع من شيء لا مفصل له أصلاً.

وأما كونه يقتص في مسألة القصبة من حد المارن وهو ما لان منه، وفي مسألة الساعد من الكوع، وفي مسألة الساق من الكعب في وجهٍ؛ فلأن ذلك دون حقه. فكان له أن يقتص فيه؛ كما لو شجه هاشمة فإن له أن يقتص موضحة.

وأما كون الباقي يجب له أرش على وجه؛ فلأنه حقٌّ له تعذر استيفاؤه. فوجب أرشه؛ كسائر ما هذا شأنه.

وأما كونه لا يجب له أرش على وجه؛ فلأن فيه جمعاً بين القصاص والأرش في عضو واحد.

قال: (ويقتص من المنكب إذا لم يُخف جائفة).

أما كون المنكب يقتص منه في الجملة؛ فلما تقدم في أول الباب.

ولأنه اقتصاص من مفصل أُمن فيه الحيف فوجب؛ كالاقتصاص من الكوع.

وأما كون ذلك يشترط فيه أن لا يخاف منه جائفة؛ فلأنه إذا خيف منه ذلك لا يؤمن فيه الحيف، وذلك شرط في جواز الاقتصاص في الأطراف لما تقدم.

قال: (وإذا أوضح إنساناً فذهب ضوء عينه أو سمعه أو شمه فإنه يوضحه فإن ذهب ذلك وإلا استعمل فيه ما يذهبه من غير أن يجني على حدقته أو إذنه أو أنفه. فإن لم يمكن إلا بالجناية على هذه الأعضاء سقط).

أما كون من ذكر يوضح الجاني؛ فلأن الموضحة يجري فيها القصاص.

وأما كونه يستعمل فيه ما يذهب ضوء عينه أو سمعه أو شمه إذا لم يذهب بالموضحة من غير أن يجني على ما ذكر؛ فلأن إذهاب ذلك مستحق، وذلك طريق إليه.

وأما كون ذلك يسقط إذا لم يمكن إلا بالجناية على ما ذكر؛ فلأن الجناية على ذلك حيف وتعدٍّ. فإذا لم يمكن الاستيفاء إلا بها سقط.

ص: 75

فصل [الشرط الثاني]

قال المصنف رحمه الله: (الثاني: المماثلة في الموضع. فتؤخذ كل واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى من الشفتين والأجفان بمثلها، والإصبع والسن والأنملة بمثلها في الموضع والاسم. ولو قطع أنملة رجل العليا وقطع الوسطى من تلك الإصبع من آخر لم تكن له عليا فصاحب الوسطى مخير بين أخذ عقل أنملته وبين أن يصبر حتى تقطع العليا ثم يقتص من الوسطى. ولا يؤخذ شيء من ذلك بما يخالفه).

أما كون الثاني من شروط القصاص في الأطراف المماثلة فبالقياس على النفس.

وأما كون المماثلة في بعض الأشياء في الموضع وفي بعضها في الموضع والاسم؛ فلأن بعض الأشياء لا يماثل إلا في الموضع وبعضها لا يماثل إلا في الموضع والاسم. فوجب أن تعتبر المماثلة في كل شيء بما تحصل به.

وأما كون كل واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى من الشفتين والأجفان تؤخذ بمثلها؛ فلأن الشرط (1) المماثلة في ذلك الموضع (2)، وهي موجودة في مثلها.

فعلى هذا تؤخذ اليد اليمنى باليد اليمنى، واليد اليسرى باليد اليسرى، والشفة العليا بالشفة العليا، والشفة السفلى بالشفة السفلى، والجفن الأعلى بالجفن الأعلى، والجفن الأسفل بالجفن الأسفل، ونحو ذلك؛ لأن المماثلة في الموضع موجودة في ذلك كله.

(1) في د: شرط.

(2)

في د: في الموضع. وفي أبعد قوله الموضع زيادة: لأنه لا يختلف بغير اختلافه. وقد أثبتت في د ووضع عليها علامة الحذف.

ص: 76

وأما كون الإصبع والسن والأنملة تؤخذ بمثلها في الموضع والاسم؛ لأنها لا تحصل إلا بذلك وهي موجودة في مثلها.

فعلى هذا يؤخذ الإبهام بالإبهام، والسبابة بالسبابة، والوسطى بالوسطى، والبنصر بالبنصر، والخنصر بالخنصر، والثنية بالثنية، والضاحك بالضاحك، والناب بالناب، والأنملة العليا من الإصبع بالعليا من تلك الإصبع، والوسطى منها بالوسطى منها؛ لأن المماثلة في الموضع والاسم موجودة في ذلك كله.

وأما كون صاحب الوسطى فيما تقدم ذكره يخير بين عقل أنملته وبين الصبر حتى تقطع العليا من الجاني عليه ثم يقتص من الوسطى؛ فلأنه لا يمكن القصاص في الحال لما فيه من الحيف وأخذ الزيادة على الواجب ولا سبيل إلى تأخير حقه حتى يتمكن من القصاص لما فيه من الضرر. فوجبت له الخيرة بين الدية ليستوفي حقه وبين الصبر إلى إمكان القصاص؛ لئلا يتضرر بتأخير القصاص.

وأما كون شيء من ذلك لا يؤخذ بما يخالفه؛ فلأن المماثلة شرط ولم يوجد.

فعلى هذا لا تؤخذ اليد اليمنى باليد اليسرى ولا اليسرى باليمنى، ولا العليا من الشفتين بالسفلى، ولا السفلى بالعليا، ولا الجفن الأعلى بالأسفل، ولا الأسفل بالأعلى، ولا الإبهام ولا السبابة ولا الوسطى ولا البنصر ولا الخنصر بغيرها، ولا الثنية بالضاحك، ولا الضاحك بالثنية، ولا الثنية العليا بالثنية السفلى، ولا الثنية السفلى بالثنية العليا، ولا أنملة من إصبع بأنملة من غيرها، ولا أنملة عليا بأنملة سفلى، ولا وسطى بعليا؛ لعدم المماثلة في ذلك كله. وعلى هذا فقس.

ص: 77

قال: (ولا تؤخذ أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية. وإن تراضيا عليه لم يجز. فإن فعلا أو قطعها تعدياً أو قال: أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها أجزأت على كل حال وسقط القصاص. وقال ابن حامد: إن أخرجها عمداً لم تجز ويستوفى من يمينه بعد اندمال اليسار، وإن أخرجها دهشة أو ظناً أنها تجزئ فعلى القاطع ديتها. وإن كان من عليه القصاص مجنوناً فعلى القاطع القصاص إن كان عالماً بها وأنها لا تجزئ، وإن جهل أحدهما فعليه الدية، وإن كان المقتص مجنوناً والآخر عاقلاً ذهبت هدراً).

أما كون أصلية لا تؤخذ بزائدة؛ فلأن الزائدة دونها.

وأما كون زائدة لا تؤخذ بأصلية؛ فلأنها لا تماثلها.

وأما كون ما ذكر إن تراضيا عليه لا يجوز؛ فلأن الدماء لا تستباح بالإباحة والبذل، ولذلك لو بذل ذلك ابتداء لم يجز.

وأما كون من فعل ذلك لا تعدياً؛ مثل: أن يأخذه باختيار الجاني يجزئ ويسقط القصاص؛ فلأن المجني عليه رضي به، والجاني يعلمه، والحق لا يعدوهما.

ولأن ذلك إن كان دون حق المجني عليه فقد رضي به. أشبه ما لو رضي بغير شيء، وإن كان فوق حقه فقد رضي الجاني ببذله. لا يقال قد تقدم أن البذل في ذلك لا يجوز لأن الذي تقدم بذل في ذات، وهنا بذل في صفة، ولا يلزم من عدم جواز أحدهما عدم جواز الآخر.

وأما كون من قطع اليسار تعدياً، أو قال: اخرج يمينك فأخرج يساره يجزئ ويسقط القصاص؛ فكما لو قطع الإمام يسار السارق بدل يمينه.

وأما كونها لا تجزئ إذا أخرجها عمداً على قول ابن حامد؛ فلأنه تعمد (1) ترك الواجب عليه من القطع. فلم يُعذر في استيفاء الواجب عليه. وما تقدم من قياسه على السارق لا يصح لوجوه:

أحدها: أن الحد مبني على الإسقاط. بخلاف القصاص.

(1) في أ: عمد.

ص: 78

وثانيها: أن اليسار لا تقطع في السرقة إذا عدمت يمينه لأنه لا يفوت منفعة الجنس في الحد. بخلاف القصاص.

وثالثها: أن اليد إذا (1) سقطت بأكلة أو قصاص سقط القطع. بخلاف القصاص فإنه لا يسقط وينتقل إلى الدية.

وأما كون القصاص يستوفى من يمينه على قوله؛ فلأن اليسار لما لم تجز عنده صار قطعها كلا قطع، وذلك يوجب قطع اليمين. ضرورة استيفاء الواجب له.

وأما كون الاستيفاء بعد الاندمال؛ فلأنه لو حصل الاستيفاء في اليمنى وقد قطعت يساره ربما أدى ذلك إلى هلاك نفسه.

فإن قيل: أليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر لا تؤخر إحداهما (2) إلى اندمال جرح الآخر؟

قيل: الفرق بينهما أن القطعين مستحقان قصاصاً. فلذلك جمع بينهما القطعين هنا. فإن أحدهما غير مستحق فلا جرم لا يجمع بينهما.

وأما كون القاطع عليه دية اليد إذا أخرجها الجاني دهشة أو ظناً أنها تجزئ؛ فلأن مُخرجها أخرجها على وجه البذل في موضع لا يصح بذله. فوجب ضمانها على الجاني عليها. فإذا تعذر القصاص لشبهة البذل وجبت الدية؛ لأنها بدله.

وأما كون القاطع عليه القصاص إذا كان مَن عليه القصاص مجنوناً وكان القاطع عالماً بأنها يسار وأنها لا تجزئ؛ فلأن بذل المجنون لا يصح ولا شبهة للقاطع.

وأما كونه عليه الدية إذا جهل أحدهما؛ فلأن الجهل يسقط القصاص. فوجب أن تتعين الدية.

وأما كون اليسار تذهب هدراً إذا كان المقتص مجنوناً والآخر عاقلاً؛ فلأن المجنون لا عبرة بفعله.

(1) في أ: لو.

(2)

في أ: أحدهما.

ص: 79

فصل [الشرط الثالث]

قال المصنف رحمه الله: (الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال. فلا تؤخذ صحيحة بشلاء، ولا كاملة الأصابع بناقصة، ولا عين صحيحة بقائمة، ولا لسان ناطق بأخرس، ولا ذَكَر صحيح بأشل، ولا ذكر فحل بذكر خصي ولا عنين. ويحتمل أن يؤخذ بهما. إلا مارن الأشم الصحيح يؤخذ بمارن الأخشم والمخزوم والمستحشف، وأذن السميع بأذن الأصم الشلاء في أحد الوجهين).

أما كون الثالث من شروط القصاص في الأطراف استواؤهما في الصحة والكمال في غير ما استثناه المصنف رحمه الله؛ فلأن غير الصحيح والكامل لا يستوي هو والصحيح والكامل ولا يماثله. فوجب أن لا يجزئ القصاص بينهما؛ كالحر والعبد.

وأما كون صحيحة [من يد ورجل](1) لا تؤخذ بشلاء منهما؛ فلانتفاء استواءهما في الصحة، وهو شرط لما تقدم.

ولأن (2) غير الصحيحة لا يقع فيها سوى الكمال ولا يؤخذ بها ما فيه نفع كامل.

وأما كون كاملة الأصابع من يد ورجل لا تؤخذ بناقصة منهما؛ فلانتفاء استواءهما في الكمال، وهو شرط لما تقدم.

ولأن في قطع الكاملة منهما بالناقصة جناية زائدة على ما جنى عليه، وذلك لا يجوز.

فعلى هذا من قطع من له خمس أصابع يد من له أربع أصابع أو أقل من ذلك، أو قطع من له أربع أصابع يد من له ثلاث أصابع أو أقل: لم يجز القصاص بينهما

(1) ساقط من أ.

(2)

في أ: لأن.

ص: 80

في اليد؛ لأن ذلك فوق حق المجني عليه. وهل يجزئ في مثل أصابعه؟ فيه وجهان: مأخذهما ما تقدم فيما إذا قطع يد شخص من نصف كفه أو نصف ذراعه (1).

وأما كون عين صحيحة لا تؤخذ بقائمة؛ فلانتفاء استواؤهما في الصحة، وهو شرط لما تقدم.

ولأن في (2) أخذ الصحيحة بالقائمة أخذاً (3) لأكثر من الحق، وذلك لا يجوز.

وأما كون لسان ناطق لا يؤخذ بأخرس؛ فلانتفاء الكمال، وهو شرط لما تقدم.

ولأن اللسان ذهبت منفعته. فهو كاليد الشلاء.

وأما كون ذكر صحيح لا يؤخذ بأشل؛ فلما ذكر في أخذ اليد الصحيحة بالشلاء.

وأما كون ذكر فحل لا يؤخذ بذكر خصي ولا عنين على المذهب وهو قول الشريف؛ فلأنه لا منفعة فيهما؛ لأن كل واحد [من الخصي والعنين لا يولد له ولد ولا ينزل ولا يكاد يقدر على الوطء. فهما كالأشل.

ولأن كل واحد] (4) منهما ناقص. فلا يؤخذ به الكامل؛ كاليد الكاملة بالناقصة.

وأما كونه يحتمل أن يؤخذ بهما وهو قول أبي الخطاب؛ فلأنهما عضوان صحيحان ينقبضان وينبسطان. فيؤخذ بهما؛ كذكر الفحل غير العنين. وكون الخصي لا ينزل لذهاب الخصية والعنة لعلة في الظهر. فلم يمنع ذلك من القصاص بهما؛ كأذن الأصم ومارن الأخشم.

قال المصنف في المغني: والصحيح الأول لأنه إذا ترددت الحال بين كونه مساوياً للآخر وعدمه لم يجب القصاص؛ لأن الأصل عدمه. فلا يجب بالشك.

(1) ر ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..

(2)

ساقط من أ.

(3)

مثل السابق.

(4)

مثل السابق.

ص: 81

وأما قول المصنف رحمه الله: إلا مارن الأشم

إلى آخره؛ فهو استثناء من استوائهما في الصحة والكمال.

فإن قيل: القول المذكور إنما يعقب قوله: يحتمل أن يؤخذ بهما. فلم لم يعد إليه؟

قيل: لوجهين: أحدهما: أنه لا يتناول ما ذُكر؛ لأن الضمير في قوله: بهما عائد إلى ذَكَر الخصي والعنين.

وثانيهما: أن الاستثناء من الإثبات نفي. وقوله: يؤخذ بهما إثبات والمستثنى مثبت بدليل أنه قال: إلا مارن الأشم الصحيح يؤخذ.

فعلى ما ذكر أولاً يكون المعنى أن استواءهما المذكور شرط إلا في أشياء:

أحدها: أن مارن الأشم هل يؤخذ بمارن الأخشم؟ وهو: الذي لا يشم به. فيه وجهان:

أحدهما: يؤخذ به؛ لأن عدم الشم لعلة في الدماغ والمارن صحيح. فوجب أخذ الأشم به؛ لأنه مثله في كونه صحيحاً.

فإن قيل: إذا استويا في الصحة فلا حاجة إلى استثنائهما؛ لأن الشرط استواؤهما وهو موجود.

قيل: هو بالنظر إلى فوات الشم غير مساو. فنبه المصنف رحمه الله على أن ذلك لا أثر له، وذكره بلفظ الاستثناء نظراً إلى ذلك.

والثاني: لا يؤخذ به لأن منفعة الشم قد ذهبت. فهو بالنسبة إلى الأشم كاليد الصحيحة مع الشلاء.

وثانيها: أن المارن الصحيح هل يؤخذ بالمخزوم؟ فيه وجهان:

أحدهما: يؤخذ به كمارن الأشم.

والثاني: لا يؤخذ به لأنه لا يماثله وهذا أصح لما ذكر ولذلك لم يحكِ المصنف رحمه الله في الكافي في ذلك خلافاً وذكر في المغني بدل المخزوم المخذوم (1). وعلل الأخذ وعدمه بما يأتي في المستحشف.

وثالثها: أن المارن الصحيح هل يؤخذ بالمستحشف؟ فيه وجهان:

(1) ساقط من د.

ص: 82

أحدهما: يؤخذ به؛ لأن الاستحشاف مرض. فلم يمنع القصاص؛ كما لو قتل صحيح مريضاً.

والثاني: لا يؤخذ به؛ لما ذكر في مارن الأخشم.

ورابعها: أن أذن السميع هل تؤخذ بأذن الأصم؟ فيه وجهان:

أحدهما: تؤخذ بها؛ لأن العضو صحيح ومقصوده الجمال لا السمع، وذهاب السمع نقص في الرأس؛ لأنه محله وليس بنقص في الأذن.

والثاني: لا تؤخذ بها؛ لأنها عضو ذهب نفعه. فهو كاليد الشلاء.

وخامسها: أن الأذن الصحيحة هل تؤخذ بالأذن الشلاء فيه وجهان:

أحدهما: تؤخذ بها لأن نفعها لا يذهب بشللها لأن نفعها جمع الصوت وستر موضع السمع. فوجب أخذ كل واحد منهما بالأخرى.

والثاني: لا تؤخذ بها كسائر الأعضاء.

فإن قيل: ظاهر كلام المصنف رحمه الله في الاستثناء المذكور أن الاستثناء إنما هو في شيئين:

أحدهما: أن مارن الأشم الصحيح هل يؤخذ بمارن الأخشم والمخزوم والمستحشف أم لا؟

وثانيهما: أن أذن السميع الصحيحة هل تؤخذ بأذن الأصم الشلاء أم لا؟

قيل: الأمر كما ذكر. لكنه لم يرد ذلك. بل مراده أن مارن الأشم هل يؤخذ بمارن الأخشم أم لا؟ وأن المارن الصحيح هل يؤخذ بالمخزوم أم لا؟ وأن المارن الصحيح هل يؤخذ بالمستحشف أم لا؟ وأن أذن السميع هل تؤخذ بأذن الأصم أم لا؟ وأن الأذن الصحيحة هل تؤخذ بالأذن الشلاء أم لا؟ على ما ذكر في الشرح المذكور نصاً ودليلاً. وإنما دعاه الاختصار إلى أنْ جَمَعَ بين الصفات. وقد صرح المصنف رحمه الله وغيره بالمسائل المذكورة فيجب حمل كلام المصنف رحمه الله هنا على ذلك وإن لم تكن العبارة صريحة في ذلك.

قال: (ويؤخذ المعيب من ذلك كله بالصحيح وبمثله إذا أمن من قطع الشلاء التلف. ولا يجب له مع القصاص أرش في أحد الوجهين، وفي الآخر له دية

ص: 83

الأصابع الناقصة. ولا شيء له من أجل الشلل، واختار أبو الخطاب أن له أرشه. وإن اختلفا في شلل العضو وصحته فأيهما يقبل قوله؟ فيه وجهان).

أما كون المعيب من الشلاء والناقصة والعين القائمة واللسان الأخرس والذكر الأشل وذكر الخصي والعنين يؤخذ بالصحيح من ذلك؛ فلأنه دون حق المجني عليه.

وأما كونه يؤخذ بمثله؛ فلأن المانع من القصاص عدم الاستواء وهو منتف هاهنا.

وأما كون أمن التلف من قطع الشلاء شرطاً في قطعها بالصحيحة أو بمثلها؛ فلأن القصاص إذا لم يمكن إلا بالحيف سقط. فلأن يسقط إذا خيف منه التلف بطريق الأولى.

فعلى هذا يُسأل أهل الخبرة فإن قالوا: إذا (1) قطعت الشلاء لم تفسد العروق ودخل الهواء إلى البدن فأفسده لم يجب القصاص لأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف، وإن قالوا: ذلك مأمون وجب القصاص لما تقدم.

وأما كون من أخذ المعيب بالصحيح كمن أخذ الشلاء بالصحيحة وناقصة الأصابع بالكاملة: لا يجب له مع القصاص أرش في وجهٍ؛ فلأن المجني عليه فعل كما فعل به. فلم يجب له معه أرش؛ كما لو كانت اليد كاملة أو صحيحة.

ولأن الذي صدر من الجاني فعل واحد، والفعل الواحد لا يوجب مالاً وقوداً.

وأما كونه له دية الأصابع الناقصة في وجهٍ وهو قول القاضي وشيخه ولا شيء له من أجل الشلل؛ فلأن الجمال نَقَصَ بنقصان الأصابع. بخلاف الشلاء فإنها كاملة صورة وعليه مبنى القصاص؛ لأن المماثلة في المعاني لا تعتبر؛ لأنه كان يفضي إلى سقوط القصاص.

وأما كونه له دية الأصابع وأرش الشلل في اختيار أبي الخطاب: أما دية الأصابع؛ فلما تقدم. وأما أرش الشلل؛ فلأن الأرش يجبر النقص فيكون مستوفياً

(1) في أ: إن.

ص: 84

مثل حقه. فلو لم يكن له ذلك لكان ممنوعاً من استيفاء مثل حقه، وذلك منتفٍ شرعاً.

وأما كون المجني عليه والجاني إذا اختلفا في شلل العضو وصحته فأيهما يقبل قوله؟ فيه وجهان؛ فلأن النظر إلى أن الأصل سلامة العضو يقتضي قبول قول المجني عليه والنظر إلى أن الأصل براءة ذمة الجاني مما يدعى عليه يقتضي قبول قوله، ولذلك لو ادعي عليه بدين فأنكره كان القول قوله.

ص: 85

فصل [في قطع بعض عضو]

قال المصنف رحمه الله: (وإن قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله. يُقَدّر بالأجزاء كالنصف والثلث والربع).

أما كون ما ذكر يؤخذ مثله؛ فلأن ما جرى القصاص في جملته جرى في بعضه إذا أمكن. بل أولى لأن ما ذكر يؤمن من الاقتصاص في بعضه ما لا يؤمن في غيره.

ولأن المماثلة ممكنة. أشبه قطع العضو من مفصل.

وأما كون ذلك يقدر بالأجزاء كالنصف والثلث والربع؛ فلأن تقديره بالمساحة يفضي إلى أخذ جميع لسان الجاني أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه ببعض ذلك من المجني عليه؛ لأن المجني عليه قد يكون عظيم ذلك والجاني بالعكس.

قال: (وإن كسر بعض سنه بُرد من سن الجاني مثله إذا أمن قلعها. ولا يقتص من السن حتى ييأس من عودها. فإن اختلفا في ذلك رجع إلى قول أهل الخبرة. فإن مات قبل اليأس من عودها فعليه ديتها ولا قصاص فيها. وإن اقتص من سن فعادت: غرم سن الجاني ثم إن عادت سن الجاني رد ما أخذ. وإن عادت سن المجني عليه قصيرة أو معيبة فعلى الجاني أرش نقصها).

أما كون سن الجاني يُبرد منها مثل ما كسر من سن المجني عليه إذا أمن قلعها؛ فلأن القصاص في السن واجب لقوله تعالى: {والسنَّ بالسن} [المائدة: 45].

ص: 86

ولأن في الحديث: «أن الرُّبَيِّع بنت النضر كَسرتْ ثنية الجارية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتابَ اللهِ القصاص» (1). ولا يمكن أخذ ذلك بالكسر؛ لأنه لا يؤمن به الزيادة.

ولأنه لا يؤمن معه أن ينصدع السن أو يتقدم أو ينكسر من غير موضع القصاص. فتعين البرد؛ لكونه طريقاً ليس غيره يقوم مقامه.

وأما كون أمن القلع شرطاً في البرد المذكور؛ فلأن توهم الزيادة يَمنع في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل. فكذلك يجب أن يَمنع هاهنا.

فإن قيل: القصاص جاز في الطرف مع توهم السراية إلى النفس. فلم يمنع هنا التوهم (2) السراية إلى بعض العضو؟

قيل: توهم السراية إلى النفس لا سبيل إلى التحرز منه. فلو اعتبر في المنع لسقط القصاص في الطرف بالكلية. أما السراية إلى بعض العضو فتارة يمنع القصاص فيها احتمال الزيادة في الفعل لا في الزيادة.

وأما كون السن لا يقتص منها حتى ييأس من عودها؛ فلأن القصاص يدرأ بالشبهات (3). فإذا كانت السن غير مأيوس من عودها كان ذلك شبهة. فوجب درأ القصاص بذلك.

وأما كون ذلك يرجع فيه إلى قول أهل الخبرة عند الاختلاف؛ فلأن قولهم يغلب على الظن حصول ما يقولونه.

وأما كون الجاني عليه الدية إذا مات المجني عليه قبل اليأس من عودها؛ فلأن العود مشكوك فيه والقلع متحقق والقصاص سقط للشبهة فرجع إلى الدية.

وأما كونها لا قصاص فيها؛ فلأن شرطه اليأس من عودها ولم يوجد.

وأما كون سن الجاني يغرمها المجني عليه إذا (4) اقتص منها ثم عادت؛ فلأنا تبينا بعودها عدم وجوب القصاص، وذلك يقتضي وجوب دية السن لأن القصاص منتفٍ لوجهين:

(1) سبق تخريجه ص: 71

(2)

في د: فلم منع منه هنا لتوهم.

(3)

في د: بالشبهة.

(4)

في د: ثم.

ص: 87

أحدهما: أنه ليس للمقتص مثل السن التي قلعها لكونه جنى عليها أولاً.

وثانيهما: أنه معذور في الاستيفاء، وذلك شبهة تُسقط القصاص.

وأما كون الجاني يرد ما أخذ إذا عادت سنه؛ فلأنه بعودها تبين أنه لم يكن له عنده حق. أشبه من دفع شيئاً إلى شخص يظنه له عليه فظهر أنه لا شيء له عليه.

وأما كون الجاني: عليه أرش نقص سن المجني عليه إذا عادت قصيرة أو معيبة؛ فلأن ذلك من جنايته. فوجب أرشه عليه.

ص: 88

فصل [في حكم الجراحات]

قال المصنف رحمه الله: (النوع الثاني: الجروح. فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم؛ كالموضحة، وجرح العضد، والساعد، والفخذ، والساق، والقدم. ولا يجب في غير ذلك من الشجاج إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص موضحة ولا شيء له على قول أبي بكر. وقال ابن حامد: له ما بين دية موضحة ودية تلك الشجة فيأخذ في الهاشمة خمساً من الإبل وفي المنقلة عشراً).

أما كون النوع الثاني من نوعي القود فيما دون النفس الجروح؛ فلما تقدم من أن ذلك تارة يكون في الأطراف وتارة يكون في الجروح.

وأما كون القصاص في الجروح في الجملة يجب؛ فلما تقدم في أول الباب.

وأما كون الموضع الذي يقتص فيه كل جرح ينتهي إلى عظم كما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأن ذلك هو الذي يمكن استيفاؤه من غير حَيْف ولا زيادة لانتهائه إلى عظم. أشبه قطع الكف من الكوع.

وأما كون ذلك لا يجب في غير ما ذكر من الشجاج إذا لم يكن أعظم من الموضحة كما مثل المصنف رحمه الله من الهاشمة والمنقلة؛ فلأنه ليس له حد ينتهي إليه. فلا يمكن الاستيفاء من غير حيف، وذلك شرط في وجوب القصاص وقد تقدم.

وأما كون المجني عليه له أن يقتص موضحة إذا كان الجرح أعظم منها كما تقدم تمثيله؛ فلأن ذلك دون حقه.

ص: 89

وأما كونه لا شيء له مع القصاص على قول أبي بكر؛ فلأنه فعلٌ واحد. فلا يجمع فيه بين القصاص ودية؛ كما لو أخذت الشلاء بالصحيحة، وكما في النفس (1)، وكما إذا قتل الكافر بالمسلم والعبد بالحر.

وأما كونه له ما بين دية موضحة ودية تلك الشجة على قول ابن حامد؛ فلأن القصاص متعذر. فوجب أن ينتقل إلى البدل؛ كما لو قطع أصبعيه ولم يمكن الاستيفاء إلا من واحدة.

وأما كونه على هذا يأخذ في الهاشمة خمساً من الإبل؛ فلأن الموضحة يجب فيها خمس والهاشمة عشر. فإذا اقتص موضحة بقي التفاوت بينهما خمساً.

وأما كونه يأخذ في المنقلة عشراً؛ فلأن الواجب فيها خمسة عشر فالتفاوت بينهما عشر.

فإن قيل: كم يأخذ على هذا في المأمومة؟

قيل: ثمانية وعشرين وثلث بعير؛ لأن الواجب فيها ثلث الدية فإذا ذهب منها دية موضحة بقي ذلك.

قال: (ويعتبر قدر الجرح بالمساحة. فلو أوضح إنساناً في بعض رأسه مقدار ذلك البعض جميع رأس الشاج وزيادة كان له أن يوضحه في جميع رأسه، وفي الأرش للزائد وجهان).

أما كون قدر الجرح يعتبر بالمساحة فليعلم حتى يقتص من الجاني بمثابته.

وأما كون المجني عليه له أن يوضح رأس الجاني كله إذا كانت الموضحة أكثر من رأسه؛ فلأن ذلك القدرُ الذي جنى عليه.

وأما كونه له الأرش للزائد في وجهٍ؛ فلأنه لم يحصل في مقابلته قصاص.

وأما كونه لا شيء له في وجهٍ؛ فلأنها جناية واحدة فلا تجمع قوداً ومالاً.

فإن قيل: لمَ لمْ يعتبر مقدار الموضحة بالأجزاء كالثلث والربع كما اعتبر ذلك فيما إذا قطع بعض اللسان والأذن أو ما أشبه ذلك؟

(1) في د: الأنفس.

ص: 90

قيل: الأصل أن يعتبر الكل بالمساحة لما فيه من المماثلة، وإنما ترك ذلك في قطع بعض اللسان

إلى آخره؛ لأنه يفضي إلى أخذ الكل بالبعض كما تقدم ذكره والكل ليس كالبعض، وذلك مفقود هاهنا؛ لأن إيضاح جميع الرأس كإيضاح بعضه في وجوب خمس من الإبل فيهما وإذا كان كذلك وجب بقاؤه على اعتبار المساحة التي هي الأصل عملاً به مع سلامته عن منافيه.

ص: 91

فصل [إن اشترك جماعة في جرح]

قال المصنف رحمه الله: (وإن اشترك الجماعة في قطع طرف أو جرح موجب للقصاص وتساوت أفعالهم؛ مثل أن يضعوا الحديدة على يده أو يتحاملوا عليها جميعاً حتى تَبين فعلى جميعهم القصاص في إحدى الروايتين. وإن تفرقت أفعالهم أو قطع كل إنسان من جانب فلا قصاص رواية واحدة).

أما كون الجماعة إذا اشتركوا فيما ذُكر عليهم القصاص إذا تساوت أفعالهم على الوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله في إحدى الروايتين؛ فلما روي «أن شاهدين شهدا عند علي على رجلٍ بالسرقةِ. فقطع يدَه. ثم جاءَا بآخر. فقالا: هذا هوَ السارق وأخطأنا في الأول، فردّ شهادتَهُما على الثاني، وغرّمهما ديةَ يد الأول. وقال: لو عَلمتُ أنكُما تَعمَّدتُما ذلك لقطعتُكُما» (1).

ولأن ذلك أحد نوعي القصاص. أشبه قتل الجماعة بالواحد.

وأما كونهم لا قصاص عليهم في روايةٍ؛ فلأن الأطراف يعتبر التساوي فيها. بدليل أنه لا تؤخذ يد صحيحة بشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصتها ولا الأصلية بالزائدة ولا اليمنى باليسرى ولا تساوي بين الأطراف والطرف. فوجب امتناع القصاص بينهما.

والأولى أصح لما تقدم.

وأما نفي التساوي بين الأطراف والطرف فممنوع لأن نفي التساوي إن كان من حيث كونه طرفاً فباطل بوجوب القصاص بين الطرفين، وإن كان من حيث الجمع فباطل بقتل الأنفس بالنفس.

(1) ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً 6: 2527 كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم.

وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 41 كتاب الجنايات، باب الاثنين أو أكثر يقطعان يد رجلٍ معا.

وأخرجه الدارقطني في سننه (294) 3: 182 كتاب الحدود والديات.

ص: 92

وأما كونهم لا قصاص عليهم رواية واحدة إذا تفرقت أفعالهم أو قطع كل إنسان من جانب؛ فلأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها. فلم يجب قطع يده في مقابلتها.

وأما كونهم عليهم القصاص إذا اشتركوا في جرح موجب للقصاص (1) في روايةٍ ولا قصاص عليهم في روايةٍ كما لو (2) اشتركوا في قطع اليد؛ فلأنهما يتساويان معنى. فوجب أن يتساويا حكماً.

قال: (وسراية الجناية مضمونة بالقصاص والدية. فلو قطع إصبعاً فتأكلت أخرى إلى جانبها وسقطت من مفصل، أو تأكلت اليد وسقطت من الكوع: وجب القصاص في ذلك. وإن شل ففيه ديته دون القصاص).

أما كون سراية الجناية مضمونة؛ فلأنها أثر الجناية، والجناية مضمونة فكذلك أثرها.

وأما كون السراية مضمونة بالقصاص والدية فهو مبني على أن موجب العمد أحد أمرين، وقد تقدم بيانه ودليله في موضعه (3).

وأما كون القصاص يجب في الإصبع إذا تأكلت وسقطت من مفصل بقطع التي إلى جانبها، أو تأكلت اليد وسقطت من الكوع بقطع بالإصبع؛ فلأن الإصبع واليد تلفتا بالسراية وهي مضمونة كما تقدم.

وأما كونه لا يجب إذا سقطتا من غير مفصل؛ فلأنهما لو قطعتا من غير مفصل لم يجب القصاص. فلأن لا يجب القصاص فيهما بالسراية بطريق الأولى.

وأما كون ذلك إذا شل فيه ديته (4) دون القصاص؛ فلأن الشلل المذكور حصل بالسراية، وحكمها حكم المباشرة، ولو باشر الشلل المذكور وجبت ديته دون القصاص. فكذلك إذا سرى إليه.

(1) في أ: فوجب القصاص.

(2)

في د: إذا.

(3)

ص: 63.

(4)

في د: دية.

ص: 93

قال: (وسراية القود غير مضمونة فلو قطع اليد قصاصاً فسرى إلى النفس فلا شيء على القاطع).

أما كون سراية القود غير مضمونة؛ فلما روي أن عمر وعليًا رضي الله عنهما قالا: «لا ديةَ له. الحقُ قتلَه» . رواه سعيد بمعناه.

ولأن القصاص قطعٌ مستحق مقدر. فلا تضمن سرايته؛ كقطع السارق.

وأما كون قطع يد الجاني قصاصاً إذا سرى القطع إلى نفس الجاني فلا شيء عليه؛ فلأن موته بسبب سراية القطع بطريق القصاص، وهي غير مضمونة؛ لما ذكر.

قال: (ولا يقتص من الطرف إلا بعد برئه. فإن (1) اقتص قبل ذلك بطل حقه من سراية جرحه. فلو سرى إلى نفسه كان هدراً. وإن سرى القصاص إلى نفس الجاني كان هدراً أيضاً).

أما كون الطرف لا يقتص منه إلا بعد برئه؛ فلما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهَى أن يُستقادَ من الجرحِ حتى يبرَأ المجروح» (2)؛ لأن الجرح لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل؟ فيجب أن ينتظر ليعلم ما حكمه.

وأما كون حق المجني عليه من سراية جرحه يبطل إذا اقتص قبل برئه؛ فلأن جابراً روى «أن رجلاً طعنَ رجلاً بقرنٍ في ركبته. فقال: يا رسول الله! أقدْ لي. فقال: حتى يبرأ. فأتى وعجّل. فاستقادَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعيبَت رجْل المستَقيد وبرأَت رجْل المستقَاد منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليسَ لكَ شيءٌ إنك عجّلت» (3). رواه سعيد مرسلاً.

ولأن المجني عليه استعجل ما لم يكن له استعجاله. فبطل حقه؛ كقاتل موروثه.

(1) في أ: فإذا.

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه (25) 3: 88 كتاب الحدود.

(3)

أخرجه الدارقطني في سننه (27) 3: 89 كتاب الحدود.

ص: 94

وأما كون سراية الجرح إلى نفس المجني عليه هدراً إذا اقتص [على المجني](1) من الجاني قبل برء جرحه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتقدم: «ليس لك شيء» (2).

ولأن حقه بطل باستعجاله، ومع بطلانه يتعين كون السراية إلى نفسه هدراً.

وأما كون سراية القصاص المذكور إلى نفس الجاني هدراً أيضاً؛ فلأنه سراية قصاص، وقد تقدم أنها غير مضمونة.

(1) ساقط من أ.

(2)

سبق تخريجه في الحديث السابق.

ص: 95