الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العفو عن القصاص
العفو عن القصاص جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس: أما الكتاب فقوله تعالى: {كُتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان} [البقرة: 178]، وقوله تعالى بعد قوله:{-وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين- فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة: 45].
وأما السنة؛ فقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رُفعَ إليه شيءٌ فيه قصاصٌ إلا أمرَ فيه بالعفو» (1). رواه أبو داود.
وأما الإجماع فأجمع أهل العلم على جوازه.
وأما القياس؛ فلأن القصاص حق له. فجاز له تركه؛ كسائر الحقوق.
قال: (والواجب بقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية في ظاهر المذهب. والخيرة فيه إلى الولي فإن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفى إلى غير شيء. والعفو أفضل. فإن اختار القصاص فله العفو على الدية، وإن اختار الدية سقط القصاص ولم يملك طلبه. وعنه: أن الواجب القصاص عيناً وله العفو إلى الدية وإن سخط الجاني).
أما كون الواجب بقتل العمد أحد شيئين القصاص، أو الدية في ظاهر المذهب؛ فلأن الله تعالى قال:{فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة: 178]. أوجب الاتباع بمجرد العفو، ولو وجب بالعمد القصاص عيناً لم تجب الدية عند العفو المطلق.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4497) 4: 169 كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم.
وأما كون الواجب القصاص عيناً في روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ قُتِلَ عمداً فهوَ قَوَد» (1).
ولأنه بدل متلف. فكان معيناً؛ كسائر المتلفات.
وأما كون الأول في ظاهر المذهب؛ فلما تقدم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانَ في بني إسرائيلَ القصاصُ ولم تكنْ فيهمُ الديّةُ فأنزل اللهُ هذه الآية: {كُتب عليكم القصاص في القتلى
…
الآية} [البقرة: 178]» (2).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منْ قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النظرين: إما أن يُودَى، وإما يقاد» (3) متفق عليه.
وروي عنه أنه قال: «ثم أنتمْ يا خُزاعةَ قد قَتلتُمْ هذا القتيلَ وإنا واللهِ عاقلتُه. فمن قَتَلَ بعدَهُ قَتيلاً فأهلُه بين خِيَرَتيْنِ: إن أحبُّوا قَتَلُوا وإن أحبُّوا أخذوا الديّة» (4). رواه أبو داود.
ولأن الدية أحد بدلي النفس. فإذا وجبت كانت بدلاً عنها لا عن بدلها؛ كالقصاص.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فهوَ قَوَد» (5) فالمراد به وجوب القود، وذلك مما لا نزاع فيه.
وأما قياس القتل على سائر المتلفات فلا يصح لأن الفرق بينه وبينها ظاهر، وذلك [أن القتل يخالف سائر المتلفات](6) لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه، والقتل بخلافه.
(1) سبق تخريجه ص: 15
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (4228) 4: 1636 كتاب تفسير القرآن، باب: {يا أيها الذين آمنوا كتب
…
}.
وأخرجه النسائي في سننه (4781) 8: 36 كتاب القسامة، تأويل قوله عز وجل: {فمن عفي له من أخيه
…
}.
(3)
سبق تخريجه ص: 9
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (4504) 4: 172 كتاب الديات، باب ولي العمد يرضى بالدية.
(5)
سبق تخريجه ص: 15
(6)
ساقط من أ.
وأما كون الخيرة في الواجب بقتل العمد إلى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية على الرواية الأولى (1)؛ فلما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قُتلَ له قتيلٌ فهو بخير النظرين: إما يُودَى، أو يقاد» (2)، وقوله:«فمنْ قَتَل بعدهُ قَتيلاً فأهله بين خِيَرَتَيْنِ: إن أحبوا قَتلُوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» (3).
وأما كونه إن شاء عفى إلى غير شيء؛ فلما تقدم أول الباب.
وأما كون العفو أفضل؛ فلما تقدم من قوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارةٌ له} [المائدة: 45].
ولأن الله تعالى قال: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة: 237]، وقال:{فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40].
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر به (4).
وأما كون من اختار القصاص له العفو إلى الدية؛ فلأن فيه مصلحة له وللجاني: أما له فلما في العفو عن القصاص من الفضيلة. وأما للجاني فلما فيه من سقوط القصاص عنه.
وأما كون من اختار الدية سقط القصاص؛ فلأن من وجب له أحد شيئين يتعين حقه باختيار أحدهما، ويلزم من تعيينه سقوط الآخر.
وأما كونه لا يملك طلب القصاص بعد ذلك؛ فلأن القصاص إذا سقط لا يعود.
وأما كون المجني عليه ووليه (5) له العفو إلى الدية وإن سخط الجاني على الرواية الثانية وهي أن الواجب القصاص عيناً؛ فلأن الدية أقل منه. فكان له أن ينتقل إليها؛ لأنها أقل من حقه.
(1) ساقط من أ.
(2)
سبق تخريجه ص: 9
(3)
سبق تخريجه ص: 64
(4)
كما ورد في حديث أنس بن مالك. وقد سبق ذكره ص: 63
(5)
في أ: أو وليه.
قال: (وإن عفى مطلقاً وقلنا الواجب أحد شيئين فله الدية، وإن قلنا الواجب القصاص عيناً فلا شيء له. وإن مات القاتل وجبت الدية في تركته).
أما كون من عفى مطلقاً وقيل الواجب أحد شيئين: له الدية؛ فلأن العفو المطلق يحمل على العفو عن القصاص لأن ذلك المتبادر والغالب، وإذا كان كذلك بقيت الدية غير معفو عنها. فتتعين. ضرورة أن سقوط أحد الواجبين يعين الآخر.
وأما كونه لا شيء له إذا قيل الواجب القصاص عيناً؛ فلأن الدية غير واجبة. فإذا سقط الدم لم يبق له شيء.
وأما كون القاتل إذا مات تجب الدية في تركته؛ فلأن القصاص تعذر من غير جهة ولي الجناية. فبقيت الدية؛ لأنها بدل القتل.
قال: (وإذا قطع أصبعاً عمداً فعفى عنه ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على مال فله تمام الدية، وإن عفى إلى غير شيء فلا شيء له على ظاهر كلامه. ويحتمل أن له تمام الدية، وإن عفى مطلقاً انبنى على الروايتين في موجب العمد. وإن قال الجاني: عفوت مطلقاً أو عفوت عنها وعن سرايتها قال: بل عفوت إلى مال أو عفوت عنها دون سرايتها فالقول قوله مع يمينه).
أما كون من قطع أصبعاً عمداً فعفى عنه ثم سرت جنايته إلى الكف أو النفس وكان العفو على مال للعافي تمام الدية؛ فلأن قصاص الذي تلف بالسراية ممتنع. ضرورة أنه لا يمكن استيفاؤه دون ما عفي عنه. وإذا كان كذلك تعين تمام الدية لأن كل موضع تعذر القصاص تعينت الدية، وقد أخذ بعضها فتعين له تمامها.
وأما كونه إذا عفى إلى غير مال لا شيء له على ظاهر كلام أحمد؛ فلأن العفو عن الجناية عفو عن سرايتها وقد حصل العفو عن الإصبع. فوجب أن يحصل عن الذي سرى إليه.
وأما كونه يحتمل أن له تمام الدية؛ فلأن المجني عليه إنما عفى عن دية الإصبع. فوجب أن يثبت له تمام الدية. ضرورة كونه غير معفو عنه.
وأما كون من عفى مطلقاً ينبني عفوه على الروايتين في موجب العمد (1)؛ فلأن الحكم يختلف باختلاف ذلك.
فعلى هذا إذا قيل الواجب أحد الأمرين فهو كما لو عفى على مال، وإذا قيل الواجب القصاص عيناً فهو كما لو عفى إلى غير مال.
وأما كون القول قول المجني عليه إذا قال له الجاني: عفوت مطلقاً، وقال: بل عفوت إلى مال؛ فلأنه منكر للعفو المطلق والقول قول المنكر.
ولأن الجاني ادّعى وقوع العفو مطلقاً، والأصل عدمه. فالقول قول مدعي الأصل.
وأما كون القول قوله إذا قال الجاني: عفوت عن الجناية وعن سرايتها، وقال: بل (2) عفوت عنها دون سرايتها؛ فلما ذكر من الوجهين قبل.
وأما كون ذلك مع يمينه في المسألتين جميعاً؛ فلأن صدق الجاني محتمل. فوجب اليمين؛ ليكون النكول طريقاً إلى ثبوت دعواه.
قال: (وإن قتل الجاني العافي فلوليه القصاص أو الدية كاملة. وقال القاضي: له القصاص أو تمام الدية).
أما كون ولي العافي له القصاص فيما ذكر؛ فلأن قتله انفرد عن قطعه. أشبه ما لو كان القاطع غيره.
وأما كونه له الدية كاملة وهو قول أبي الخطاب؛ فلأن القتل منفرد عن القطع. فلم يدخل حكم أحدهما في الآخر.
ولأن القتل الصادر هنا موجب للقتل. فأوجب الدية كاملة؛ كما لو لم يتقدمه عفو.
وأما كونه له تمام الدية على قول القاضي؛ فلأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال صار بمنزلة سرايته ولو سرى لم يجب إلا تمام الدية. فكذلك فيما هو بمنزلته.
(1) ر ص: 63
(2)
زيادة في د.
قال: (وإذا وكل رجلاً في القصاص ثم عفى ولم يعلم الوكيل حتى اقتص فلا شيء عليه. وهل يضمن العافي؟ يحتمل وجهين. ويتخرج أن يضمن الوكيل ويرجع به على الموكِّل في أحد الوجهين؛ لأنه غرّه، والآخر: لا يرجع به ويكون الواجب حالاّ في ماله. وقال أبو الخطاب: يكون على عاقلته).
أما كون الوكيل لا شيء عليه إذا لم يعلم بالعفو حتى اقتص؛ فلأنه لا تفريط منه؛ لأن عفو الموكِّل حصل على وجه لا يمكن للوكيل استدراكه. فلم يلزمه ضمانه؛ كما لو عفى بعد ما رماه.
وأما كون العافي هل يضمن؟ يحتمل وجهين؛ فلأن النظر إلى أن عفوه غير صحيح لحصوله في حال لا يمكن استدراك الفعل، وأن العفو منه إحسان يقتضي أن لا ضمان عليه، والنظر إلى أن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب للمباشر فيه يقتضي أن الضمان عليه لأنه أمره به. أشبه ما لو أمر عبده الأعجمي بقتل معصوم فقتله.
وأما كون الوكيل يتخرج أن يضمن؛ فلأنه لو علم بالعفو لوجب عليه القصاص. فإذا لم يعلم تعلق به الضمان؛ كما لو قتل مرتداً رجع إلى الإسلام ولم يعلم رجوعه.
وأما كونه يرجع على العافي في وجهٍ؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من أنه غره لأنه سلطه على القتل وأمره به وعفى من غير إعلامه فَنُزِّل منزلة الغارّ في النكاح بحرية أمة وتزويج معيبة، ومنزلة من غصب طعاماً وقدمه إلى غيره وأمره بأكله فأكله.
وأما كونه لا يرجع في وجهٍ؛ فلأن العفو إحسان فلا يقتضي الرجوع عليه.
وأما كون الواجب على الوكيل حالاًّ في ماله وهو قول القاضي؛ فلأن قتله عمد محض أو عمد الخطأ، وذلك لا تحمله العاقلة لأنه قصد قتله وإن سقط القصاص لمعنى آخر (1) كقتل الأب.
وأما كونه على عاقلته على قول أبي الخطاب؛ فلأنه جارٍ مجرى الخطأ لأنه معذور في قتله. أشبه من رمى صيداً فبان آدمياً.
(1) ساقط من أ.
قال: (وإن عفى عن قاتله بعد الجرح صح. وإن أبرأه من الدية أو وصى له بها فهي وصية لقاتل هل تصح؟ على روايتين: إحداهما: تصح ويعتبر من الثلث. ويحتمل أن لا يصح عفوه عن المال ولا وصيته به لقاتل ولا غيره إذا قلنا أنه يحدث على ملك الورثة).
أما كون من عفى عن قاتله بعد الجرح يصح؛ فلأنه أسقط حقه بعد انعقاد سببه. فسقط؛ كما لو أسقط الشفعة بعد البيع.
وأما كون من أبرأه من الدية يكون إبراؤه وصية لقاتل؛ فلأن معناها إن متُّ فأنتَ في حلٍ، وذلك وصيةٌ لقاتل.
وأما كون من وصى له بها تكون وصيته وصية لقاتل؛ فلأنها وصية بمال. أشبه ما لو وصى له بعبده.
وأما كون الوصية لقاتل هل تصح؟ على روايتين فقد تقدم ذكرهما ودليلهما في باب الموصى له (1). فعلى القول بعدم الصحة لا تفريع وعلى القول بالصحة يعتبر ذلك من الثلث لأن هذا شأن الوصية.
ولأنها وصية بمال. أشبهت غيرها من الوصايا.
وأما كونه يحتمل أن لا يصح عفوه عن المال ولا وصيته به لقاتلٍ ولا غيره إذا قيل أنه يحدث على ملك الورثة؛ فلأن العفو عن ذلك والوصية به على القول المذكور عفو عن غير حقه ووصية به.
قال: (وإن أبرأ القاتل من الدية الواجبة على عاقلته أو العبد من جنايته التي يتعلق أرشها برقبته لم يصح، وإن أبرأ العاقلة والسيد صح).
أما كون من أبرأ القاتل أو العبد مما ذكر لا يصح؛ فلأن البراءة من ذلك براءة لغير من عليه الحق؛ لأن الدية الواجبة على العاقلة غير واجبة على القاتل والجناية المتعلق أرشها برقبة العبد غير واجبة عليه بل متعلقة بملك سيده وإذا كان كذلك وجب أن لا تصح البراءة؛ لأن صحة البراءة تقتضي تقدم ثبوت الحق على من أبرئ.
(1) 3: 234.
وأما كون من أبرأ العاقلة والسيد يصح؛ فلأنه إبراءٌ من حق لمن هو عليه.
فإن قيل: الدية والأرش لم تجب بعد فكيف تصح البراءة منهما؟
قيل: قد انعقد سبب الوجوب فهو بمنزلة ما لو عفى عن القاتل بعد الجرح.
قال: (وإن وجب لعبد قصاص أو تعزير قذف فله طلبه [والعفو عنه] (1) وليس ذلك للسيد إلا أن يموت العبد).
أما كون العبد له طلب ذلك والعفو عنه؛ فلأن ذلك من أحكام النفوس وهي مختصة به.
ولأن التشفي فيما ذكر مطلوب، وذلك وصف قائم بالعبد.
وأما كون السيد ليس له طلب ذلك ولا العفو عنه في حال حياة العبد؛ فلأن السيد ليس له في العبد سوى المالية وما ذكر حقوق نفسانية.
وأما كونه له ذلك بعد موت العبد؛ فلأن حق العبد ينتقل إليه. فيصير شبهاً بالوارث.
(1) ساقط من أ.