المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره - الممتع في شرح المقنع - ت ابن دهيش ط ٣ - جـ ٤

[ابن المنجى، أبو البركات]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الجنايات

- ‌باب شروط القصاص

- ‌باب استيفاء القصاص

- ‌باب العفو عن القصاص

- ‌باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس

- ‌كتاب الديات

- ‌باب مقادير ديات النفس

- ‌باب ديات الأعضاء ومنافعها

- ‌باب الشجاج وكسر العظام

- ‌باب العاقلة وما تحمله

- ‌باب كفارة القتل

- ‌باب القسامة

- ‌كتاب الحدود

- ‌باب حد الزنى

- ‌باب القذف

- ‌باب حد المسكر

- ‌باب التعزير

- ‌باب القطع في السرقة

- ‌باب حد المحاربين

- ‌باب قتال أهل البغي

- ‌باب حكم المرتد

- ‌كتاب الأطعمة

- ‌باب الذ كاة

- ‌كتاب الصيد

- ‌كتاب الأيمان

- ‌باب جامع الأيمان

- ‌باب النذر

- ‌كتاب القضاء

- ‌باب أدب القاضي

- ‌باب طريق الحكم وصفته

- ‌باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي

- ‌باب القسمة

- ‌باب الدعاوي والبينات

- ‌باب في تعارض البينتين

- ‌كتاب الشهادات

- ‌باب شروط من تقبل شهادته

- ‌باب موانع الشهادة

- ‌باب أقسام المشهود به

- ‌باب الشهادة على الشهادة

- ‌باب اليمين في الدعاوى

- ‌كتاب الإقرار

- ‌باب ما يحصل به الإقرار

- ‌باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

- ‌باب الإقرار بالمجمل

الفصل: ‌باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

‌باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

قال المصنف رحمه الله: (إذا وصل به (1) ما يسقطه؛ مثل: أن يقول: له عليّ ألف لا يلزمني، أو قد قبضه، أو استوفاه، أو ألف من ثمن خمرٍ، أو تكفلت به على أني بالخيار، أو ألف إلا ألفاً، أو إلا ستمائة: لزمته الألف).

أما كون من قال: له عليّ ألف لا يلزمني أو قد قبضه أو استوفاه يلزمه الألف؛ فلأن مجموع قوله لا يمكن تصحيحه. إذ لا سبيل إلى أن يكون عليه ألف على وجه له لا يلزمه أو أنه مقبوض أو مستوفى. فإذا لم يمكن تصحيح المجموع لغى ما حصل به الفساد. فيبقى له عليّ ألف.

وأما كون من قال: له عليّ ألف من ثمن خمرٍ يلزمه الألف؛ فلأن ثمن الخمر لا يكون عليه. فذكر ذلك بعد الإقرار رَفَع الألف بجملته. فلم يصح الدفع؛ كما لو قال: عليّ ألف لا يلزمني.

وأما كون من قال: له عليّ ألف تكفلت به عن فلان على أني بالخيار يلزمه الألف؛ فلأن ذلك رفع لجميع ما أقر به. فلم يقبل قوله فيه؛ كالصورة المذكورة قبل.

وأما كون من قال: له عليّ ألف إلا ألفاً يلزمه الألف؛ فلأنه استثنى الكل، واستثناء الكل لا يصح؛ لأنه لم ترد به لغة.

ولأن صحته توجب جعل الكلام لغواً، والأصل في الكلام أن يقع غير لغو، وإذا لم يصح الاستثناء بقي قوله: عليّ ألف، وذلك يقتضي لزومه له.

وأما كون من قال: له عليّ ألف إلا ستمائة يلزمه الألف؛ لأنه استثنى الأكثر من الأقل، وذلك لا يصح؛ لأنه لم يرد في لغة العرب، ولذلك قال

(1) زيادة من المقنع.

ص: 714

الزَّجّاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، ولو قال قائل: مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلماً بالعربية.

فإن قيل: قد ورد ذلك في القرآن بدليل قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42]، وقوله تعالى:{فبعزتك لأُغوِينّهم أجمعين? إلا عبادَك منهم المخلَصين} [ص: 82 - 83]. استثنى سبحانه الغاوين من العباد، وثانياً العباد من الغاوين. وأيهما كان أكثر فقد استثنى الأكثر من الأقل.

ومنه قول الشاعر:

أدوا التي نقصت تسعين من مائة

ثم ابعثوا حكماً بالحق قواما

قيل: أما الآيتان ففي أحدهما استثنى المخلَص من بني آدم وهم أقل، وفي الأخرى استثنى الغاوين من العباد وهم الأقل؛ لأن الملائكة كلهم طائعون.

وأما البيت فقال ابن فضال النحوي: هو بيت مصنوع لم يثبت عن العرب. ثم على تقدير صحته ليس فيه استثناء.

قال: (وإن قال: كان له عليّ ألف وقضيته، أو قضيت منه خمسمائة: فقال الخرقي: ليس بإقرارٍ والقولُ قوله مع يمينه. وقال أبو الخطاب: يكون مقراً مدّعياً للقضاء فلا يُقبل إلا ببينة، فإن لم تكن بينة حلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرأ واستحق وقال: هذا رواية واحدة ذكرها ابن أبي موسى).

أما كون القول المذكور ليس بإقرار على قول الخرقي وهو رواية عن الإمام أحمد؛ فلأنه قول يمكن صحته من غير تناقض في اللفظ. فوجب أن يقبل؛ كاستثناء البعض.

وأما كون قائله مقراً مدّعياً للقضاء فلا يُقبل إلا ببينة على قول أبي الخطاب؛ فلأنها رواية عن الإمام: أما كونه مقراً؛ فلأن قوله: كان له عليّ ألف إقرار بالدين. بدليل أنه لو سكت على ذلك لكان الأمر كذلك.

وأما كونه مدّعياً للقضاء؛ فلأن قوله: وقضيته دعوى كذلك.

وأما كونه لا يُقبل قوله إلا ببينة؛ فلأن كل من ادعى شيئاً لا يُقبل إلا ببينة.

ص: 715

فإن لم تكن له بينة حلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرئ؛ لأن المدعى عليه ادعى القضاء وقوله محتمل. فيجب أن يحلف على نفي ذلك وعلى البراءة منه.

وأما كون المدعي يستحق ذلك؛ فلأن خصمه أقر به وقد حلف هو على عدم المسقط. فتعين الاستحقاق؛ لحصول ما يوجب وبقي ما يعارضه.

ص: 716

فصل [في الاستثناء]

قال المصنف رحمه الله: (ويصح استثناء ما دون النصف. ولا يصح فيما زاد عليه. وفي استثناء النصف وجهان. فإذا قال: له عليّ هؤلاء العبيد العشرة إلا واحداً لزمه تسليم تسعة. فإن ماتوا إلا واحداً فقال: هو للمستثنى فهل يُقبل؟ على وجهين. وإن قال: له هذه الدار إلا هذا البيت، أو هذه الدار له وهذا البيت لي: قُبل منه).

أما كون استثناء ما دون النصف يصح؛ فلأن ذلك وارد في القرآن والشعر وكلام العرب الفصيح.

وأما كون الاستثناء فيما زاد على النصف وهو الكل والأكثر لا يصح؛ فلما تقدم في قوله: إلا ألفاً أو إلا ستمائة.

وأما كون استثناء النصف لا يصح في وجه؛ فبالقياس على ما زاد.

وأما كونه يصح في وجه؛ فبالقياس على ما نقض.

والأول أولى؛ لأنه لم يرد في اللغة فإلحاقه بالأكثر أولى.

ولأن مقتضى الدليل أن لا يصح الاستثناء؛ لأنه إبطال بعد إقرارٍ. تُرك العمل به في الأقل للإجماع. فيبقى فيما عداه على مقتضاه.

وأما كون من قال: له عليّ هؤلاء العبيد العشرة إلا واحداً يلزمه تسليم تسعة؛ فلأن اللفظ يقتضي وجوب العشرة. خرج استثناء الواحد بالاستثناء الصحيح. فيبقى تسعة.

وأما كونه يُقبل قوله -إذا ماتوا إلا واحداً- هو المستثنى على وجه؛ فلأنه هو المقِرّ وقد فسر كلامه بتفسير يحتمله. فوجب قبوله؛ كما لو قال: له عندي شيء ثم فسره.

وأما كونه لا يُقبل على وجه؛ فلأنه يرفع به جميع ما أقر به.

ص: 717

والأول أولى؛ لما تقدم. والتفسير المذكور ليس رفعاً للإقرار، وإنما تعذر تسليم المقر به لا لمعنى يرجع إلى التفسير.

وأما كون من قال: له هذه الدار إلا هذا البيت، أو هذه الدار له وهذا البيت لي يُقبل منه؛ فلأن الأول استثناء للبيت من الدار والثاني في معنى الاستثناء، والاستثناء صحيح، وما في معناه ملحق به.

قال: (وإذا قال: له عليّ درهمان وثلاثة إلا درهمين، أو له عليّ درهم ودرهم إلا درهماً: فهل يصح الاستثناء؟ على وجهين).

أما كون الاستثناء فيما ذكر يصح في وجهٍ؛ فلأن الواو في قوله: درهمان وثلاثة، وفي قوله: درهم ودرهم يجعل الجملتين جملة واحدة. فيصير الاستثناء في المسألة الأولى درهمين من خمسة، وفي الثانية درهماً من درهمين، وذلك استثناء صحيح؛ لأنه أقل من الأكثر فيهما.

وأما كونه لا يصح على وجهٍ؛ فلأن الاستثناء يحتمل أن يعود إلى الجملة التي ثلاثة. فيكون درهمين من ثلاثة، ودرهم من درهم، وذلك لا يصح؛ لأنه في المسألة الأولى استثنى الأكثر، وفي الثانية استثنى الكل.

قال: (وإن قال: له عليّ خمسة إلا درهمين ودرهماً لزمه الخمسة في أحد الوجهين، وفي الآخر يلزمه ثلاثة).

أما كون قائل ما ذكر يلزمه الخمسة في وجهٍ؛ فلأن الواو في قوله: ودرهماً جعل معنى الكلام كقوله: عليّ خمسة إلا ثلاثة، واستثناء الثلاثة من الخمسة لا يصح فيبقى قوله: عليّ خمسة على موجب إقراره السالم عن معارضة الاستثناء.

وأما كونه يلزمه ثلاثة في وجهٍ؛ فلأنه استثنى من الخمسة درهمين فيبقى ثلاثة.

فإن قيل: إنما استثنى درهمين ودرهماً.

قيل: يجب أن لا يصح العطف؛ لئلا يكون مستثنياً للأكثر.

قال: (ويصح الاستثناء من الاستثناء، فإذا قال: له عليّ سبعة إلا ثلاثة إلا درهماً يلزمه خمسة. وإن قال: له عليّ عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهماً

ص: 718

لزمه عشرة في أحد الوجوه، وفي الآخر يلزمه ستة، وفي الآخر سبعة، وفي الآخر ثمانية).

أما كون الاستثناء من الاستثناء يصح؛ فلأنه إذا صح الاستثناء. فلأن يصح الاستثناء من الاستثناء بطريق الأولى؛ لأن الاستثناء إبطال، والاستثناء منه رجوع إلى موجب الإقرار.

وأما كون من قال: له عليّ سبعة إلا ثلاثة إلا درهماً يلزمه خمسة؛ فلأن السبعة بقي منها أربعة؛ لأنه خرج منها ثلاثة بالاستثناء، وعاد بالاستثناء من الاستثناء درهم. فإذا ضممته إلى الأربعة صار المجموع خمسة.

وأما كون من قال: له عليّ عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهماً فيه الوجوه المذكورة؛ فلأن ذلك مبني على استثناء النصف، وعلى أنه إذا بطل الاستثناء هل يبطل الاستثناء من الاستثناء؟ وفيهما خلاف: أما الخلاف في استثناء النصف فقد تقدم ذكره.

وأما بطلان الاستثناء من الاستثناء؛ فلأنه تابع للاستثناء ومتعين به. فوجب بطلانه ببطلانه.

وأما عدم بطلانه؛ فلأنه إذا بطل الاستثناء ولي الاستثناء من الاستثناء المستثنى منه. فيجب أن يعمل عمله؛ كما لو لم يكن بينهما شيء.

ولأن الفاسد وجوده كعدمه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حكم الاستثناء من الاستثناء حكم ما ولي الاستثناء منه.

فعلى قولنا لا يصح استثناء النصف ويبطل الاستثناء من الاستثناء يلزمه عشرة؛ لأنه استثنى منها خمسة وذلك لا يصح؛ لأنه النصف، وإذا لم يصح الاستثناء بطل الاستثناء من الاستثناء فيبقى قوله: عشرة سالماً عن المعارض.

وعلى قولنا: يصح استثناء النصف ولا يبطل الاستثناء من الاستثناء ببطلان الاستثناء يلزمه ستة؛ لأنه إذا صح استثناء الخمسة من العشرة بقي خمسة، واستثناء الثلاثة من الخمسة لا يصح؛ لكونها أكثر فيبطل. ويلي قوله: إلا درهمين قوله: إلا خمسة وهو استثناء صحيح؛ لأنه أقل من النصف. وإذا صح استثناء ذلك عاد

ص: 719

من الخمسة الخارجة درهمان خرج منها درهم بقوله: إلا درهماً بقي درهم فإذا ضممته إلى الخمسة الباقية أول مرة صار المجموع ستة.

وعلى قولنا: لا يصح استثناء النصف ولا يبطل الاستثناء من الاستثناء يلزمه سبعة؛ لأن استثناء الخمسة لا يصح؛ لأنها نصف، واستثناء الدرهمين من الثلاثة لا يصح؛ لأنهما أكثر، واستثناء الدرهم من الدرهمين لا يصح؛ لأنه نصف. بقي قوله: إلا ثلاثة صحيحاً فيصير بمنزلة قوله: له عليّ عشرة إلا ثلاثة وفي ذلك يلزمه سبعة فكذلك هاهنا.

وعلى قولنا: لا يصح استثناء النصف ويبطل الاستثناء من الاستثناء ببطلان الاستثناء يلزمه ثمانية؛ لأن استثناء الخمسة لا يصح؛ لأنها نصف المستثنى منه، وإذا لم يصح ذلك ولي المستثنى منه قوله إلا ثلاثة. فينبغي أن يعمل عمله. لكن وليه قوله: إلا درهمين، وذلك لا يصح؛ لأنه أكثر، وإذا لم يصح ولي قوله: إلا درهماً قوله: إلا ثلاثة فعاد منها درهم للسبعة الباقية فيصير مجموع الباقي ثمانية.

قال: (ولا يصح الاستثناء من غير الجنس. نص عليه. فإذا قال: له عليّ مائة درهم إلا ثوباً لزمته المائة؛ إلا أن يستثني عيناً من ورق أو ورقاً من عين فيصح ذكره الخرقي. وقال أبو بكر: لا يصح، فإذا قال: له عليّ مائة درهم إلا ديناراً فهل يصح؟ على وجهين).

أما كون الاستثناء من غير الجنس في غير العين من الورق كقول المصنف رحمه الله: له عليّ مائة درهم إلا ثوباً لا يصح؛ فلأن الثوب غير داخل في مدلول المائة فكيف يخرج منها؟ .

فإن قيل: قد ورد الاستثناء من غير الجنس في القرآن والشعر: أما في القرآن؛ فقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} [الكهف: 50]، وقوله تعالى:{لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً} [مريم: 62].

وأما الشعر؛ فقول الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيسُ

إلا اليعَافيرُ وإلا العيسُ

ص: 720

وقول الآخر:

وما بالربع من أحدٍ

إلا أُوارَيَّ لأيا (1) ما أبينها

قيل: الاستثناء من غير الجنس يجيء معنى لكون ذلك لا مدخل له في الإقرار؛ لأن الإقرار إثبات. ولكن إنما هو الاستدراك بعد الحجة. فلا يحسن ذلك مع الإقرار بحال.

فعلى هذا يلزم المقر في الصورة التي ذكرها المصنف رحمه الله مائة؛ لأن الاستثناء لما لم يصح لغى. فبقي قوله: له مائة سالماً عن المعارض.

وأما كون الاستثناء من غير الجنس في العين والورق كقول المصنف رحمه الله: له عليّ مائة إلا ديناراً لا يصح على وجه؛ فلما ذكر قبل.

وأما كونه يصح على وجه؛ فلأن الذهب والفضة كالجنس الواحد في أنهما أثمان المبياعات وقيم المتلفات وأروش الجنايات، ويكمل أحدهما نصاب الآخر في الزكاة.

ولأن أحدهما معلوم من الآخر.

ولأن قيمة الدينار معلومة من الدراهم في الغالب.

(1) زيادة من الشرح الكبير 5: 310.

ص: 721

فصل [في تفسير الإقرار]

قال المصنف رحمه الله: (وإذا قال: له عليّ ألف درهم ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال: زُيوفاً أو صغَاراً أو إلى شهر لزمه ألف جياد وافية حالّة؛ إلا أن يكون في بلد أوزانهم ناقصة أو مغشوشة فهل يلزمه من دراهم البلد أو من غيرها؟ على وجهين).

أما كون من قال ما ذكر ولم يكن في بلد أوزانهم ناقصة أو مغشوشة يلزمه جياد وافية حالّة؛ فلأنه لما سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه عُلم أنه قد تم الكلام. فقوله بعد ذلك: زُيوفاً أو صغَاراً أو إلى شهر يكون رفعاً بعد الإقرار.

وأما كون من قال ذلك في بلد أوزانهم ناقصة؛ كطبرية فإن درهمهم أربعة دوانيق، وخوارزم فإن درهمهم أربعة دوانيق ونصف، أو في بلد دراهمهم مغشوشة كمصر والموصل يلزمه من دراهم ذلك البلد على وجهٍ؛ فبالقياس على ثمن المبيع.

وأما كونه يلزمه وازنة سالمة من الغش على وجه؛ فلأن إطلاق الدنانير والدراهم في الشرع ينصرف إلى الوازنة الخالصة.

قال: (وإن قال: له عليّ ألفٌ إلى شهرٍ فأنكر المقر له الأجل لزمه مؤجلاً. ويحتمل أن يلزمه حالاًّ).

أما كون قائل ما ذكر يلزمه الألف مؤجلاً على المذهب؛ فلأنه هكذا أقر.

وأما كونه يحتمل أن يلزمه حالاًّ؛ فلأن الأصل عدم الأجل.

والأول أصح؛ لما ذكر. والأصل إنما يؤثر فيما إذا ثبت الألف وشك في تأجيله وليس كذلك؛ لأنه إنما ثبت مؤجلاً.

ص: 722

قال: (وإن قال: له عليّ ألف زُيوفٌ وفسّره بما لا فضة فيه لم يُقبل، فإن فسّره بمغشوشة قُبل. وإن قال: له عليّ دراهم ناقصة لزمته ناقصة).

أما كون من قال: له عليّ ألف زيوفٌ وفسره بما لا فضة فيه لا يُقبل؛ فلأن المفسر به ليس درهماً لا حقيقة ولا عُرفاً. فيكون رجوعاً عما أقرّ به. فلم يقبل؛ كاستثناء الكل.

وأما كونه إذا فسره بمغشوشة يُقبل؛ فلأن المغشوشة دراهم في عُرف بعض البلاد. فإذا فسر كلامه بذلك فقد فسره بما يحتمله.

فإن قيل: مأخذ عدم القبول في التفسير بما لا فضة فيه عدم القبول في التفسير بالمغشوشة إنما نشأ من قوله: ألف درهم زُيوفٌ. ولم يذكر المصنف رحمه الله درهماً.

قيل: لا بد أن يلحظ ذلك نقلاً وتعليلاً. وإلا مقتضى قوله: ألف زُيوف أنه يقبل تفسيره بما فيه فضة وما لا فضة فيه؛ لأن الفلوس مثلاً توصف بالألف ولا منافاة بين المُقَرِّ به والتفسير.

فعلى هذا يجب أن يحمل قول المصنف على إرادة ألف درهم، وأنه حذف الدرهم اختصاراً.

وأما كون من قال: له عليّ دراهم ناقصة يلزمه ناقصة؛ فلأن البلد إن كانت دراهمهم ناقصة كان إقراره مقيداً لفظاً وعرفاً، وإن كانت وازنة كان ذلك بمنزلة الاستثناء، والاستثناء جائز فكذلك ما هو بمنزلته.

قال: (وإن قال: له عندي رهنٌ وقال المالك: وديعة فالقول قول المالك مع يمينه. وإن قال: له عليّ ألفٌ من ثمن مبيعٍ لم أقبضه وقال المقر له: بل هو دَين في ذمتك فعلى وجهين).

أما كون القول قول المالك إذا اختلف هو ومن العين في يده؛ فلأن من الرهن في يده يدعي على صاحب العين ديناً متعلقاً بما في يده، والمالك ينكره، والقول قول المنكر مع يمينه.

وأما إذا قال: له عليّ ألفٌ من ثمن مبيعٍ لم أقبضه وقال المقر له: بل هو دَين في ذمتك على وجهٍ؛ فلأنه أقر بحق في مقابلة حق لا ينفك أحدهما عن الآخر. فإذا

ص: 723

لم يسلم له ما له لم يسلم له ما عليه؛ كما لو قال لرجل: بعتك هذا العبد بألف درهم قال: بل ملكتنيه بغير شيء.

وأما كون القول قول المقرّ له؛ فلأنه اعترف له بالألف وادعى على المقر له مبيعاً. أشبه ما لو قال: هذا رهنٌ فقال المالك: وديعة.

والأول أولى؛ لما تقدم.

والفرق بين المسألة هنا وبين قول المقر: رهن وبين قول المالك: وديعة من حيث إن الدين ينفك عن الرهن. بخلاف الثمن فإنه لا ينفك عن المبيع.

فعلى هذا لا بد أن يكون قول المقر من ثمن المبيع: لم أقبضه متصلاً بقوله: له عليّ ألفٌ؛ لأنه لو قال: عليّ ألفٌ وسكت ثم قال: ثمن مبيع لم أقبضه لكان ذلك إسقاطاً لما أقر به بعد وجوبه. بخلاف ما لو اتصل فإن الكلام لم يتم؛ لأنه لا يتم إلا بآخره. ولو قال: له عليّ ألفٌ من ثمن مبيعٍ وسكت ثم قال: لم أقبضه قُبل منه؛ لأن إقراره تعلق بالمبيع والأصل عدم القبض. فقبل قوله فيه؛ كما لو كان متصلاً.

قال: (وإن قال: له عندي ألفٌ وفسره بدَين أو وديعة قُبل منه. وإن قال: له عليّ ألفٌ وفسره بوديعة لم يُقبل).

أما كون من قال ما ذكر في المسألة الأولى يُقبل منه؛ فلأنه فسر لفظها بأحد مدلولَيْه: أما في تفسيره بدَين؛ فظاهر.

وأما في تفسيره بوديعة؛ فلأن الوديعة تكون عنده كما أن الدين يكون عنده.

ولا فرق في التفسير المذكور بين أن يقع متصلاً؛ لأن تفسيره لا يناقض ظاهر إقراره.

وأما كون من قال ما ذكر في المسألة الثانية لا يُقبل؛ فلأن عليّ للإيجاب، وذلك يقتضي أن الألف في ذمته، ولذلك لو قال: ما على فلان عليّ كان ضامناً. فإذا فسره بالوديعة لم يصح؛ لأن تفسيره يناقض ظاهر إقراره.

ولا بد أن يلحظ في التفسير المذكور الفرق بين المتصل والمنفصل فيكون التفسير المنفصل هو الذي لا يُقبل. وعليه يحمل كلام المصنف رحمه الله؛ لأن التفسير حصل بعد تمام الإقرار. بخلاف المتصل فإنه مقبول؛ لأن الكلام بآخره.

ص: 724

فإن قيل: ينبغي أن يقبل مطلقاً؛ لأن الوديعة على المودع حفظها وردها فإذا فسر قوله: عليّ بالوديعة قُبِل كما لو قال: عليّ ألفٌ وديعة.

ولأن الحروف يصح أن يقوم بعضها مقام بعض فيجوز أن يستعمل المقِرّ عليّ بمعنى عندي؛ كما قال الله تعالى إخباراً عن موسى: {ولهم عليّ ذنب} [الشعراء: 14]. أي عندي.

قيل: أما القياس على التفسير المتصل فلا يصح؛ لما تقدم من الفرق.

وأما صحة قيام بعض الحروف مقام بعض فذلك مجاز، والظاهر خلافه. والأقارير يؤخذ فيها بظاهر اللفظ. ألا ترى أنه لو قال: له عليّ دراهم لزمته ثلاثة وإن جاز التعبير بلفظ الجمع عن الاثنين وعن الواحد، ولو قال: له عليّ ثم قال: أردت لي عليه واستعملت عليّ مكان اللام واللام مكان عليّ؛ كقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7] أي فعليها لم يُقبل.

قال: (ولو قال: له في هذا المال ألفٌ لزمه تسليمه. وإن قال: له من مالي، أو في مالي، أو في ميراثي من أبي ألفٌ، أو نصف داري هذه وفسره بالهبة وقال: بدا لي من تقبيضه قُبل).

أما كون من قال: له في هذا المال ألفٌ يلزمه تسليمه؛ فلأنه اعترف أن الألف مستحق في المال المشار إليه.

وأما كون من قال: له من مالي

إلى آخره يُقبل تفسيره بالهبة وقول: بدا لي من تقبيضه؛ فلأن التفسير المذكور يصلح أن يعود إلى جميع الصور المذكورة من غير تنافٍ بينه وبين شيء منها، وإذا كان كذلك وجب قبوله؛ كما لو قال: له عليّ ألف ثم فسره بدين.

ص: 725

قال: (وإن قال: له في ميراث أبي ألفٌ فهو دَين على التركة. وإن قال: له نصف هذه الدار فهو مقر بنصفها. وإن قال: له هذه الدار عارية ثبت لها حُكم العارية).

أما كون من قال: له في ميراث أبي ألفٌ تكون الألف دَيناً على التركة؛ فلأن ذلك في قوة قوله على أبي دين، ولو قال ذلك لكان دينًا على التركة فكذلك ما هو في قوته.

وأما كون من قال: له نصف هذه الدار مقراً بنصفها؛ فلأنه أقر بذلك.

وأما كون من قال: له هذه الدار عاريةً يثبت لها حُكم العارية؛ فلأن إقراره يوجب جعل الدار عاريةً. وذلك يقتضي ثبوت أحكام العارية لها.

قال: (وإن أقرّ أنه وهب أو رهن وأقبض أو أقرّ بقبض ثمنٍ أو غيره ثم أنكر وقال: ما قبضتُ ولا أَقبضت وسأل إحلاف خصمه فهل تلزمه اليمين؟ على وجهين).

أما كون من أقر بما ذكر ثم أنكر وسأل إحلاف خصمه يلزمه اليمين على وجهٍ؛ فلأن العادة جارية بالإشهاد بمثل ذلك من غير قبض ولا إقباض استيثاقاً بالمعقود معه. فشرعت اليمين معه وسيلة إلى إظهار الحق بتقدير النكول.

وأما كونه لا يلزمه على وجهٍ؛ فلأن الإقرار أبلغ من البينة، والبينة لو كانت بمعاينة ما ذُكر وطلب الخصم إحلاف خصمه لم يكن له ذلك. فكذلك فيما هو أبلغ.

قال: (وإن باع شيئاً ثم أقرّ أن المبيع لغيره لم يُقبل قوله على المشتري، ولم ينفسخ البيع، ولزمه غرامته للمقر له، وكذلك إن وهبه أو أعتقه ثم أقرّ به. وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد لم يُقبل قوله إلا ببينة. وإن كان قد أقرّ أنه ملكه أو قال: قبضتُ ثمن ملكي ونحوه لم تُسمع بينته أيضاً).

أما كون قول البائع على المشتري لا يُقبل؛ فلأنه متهم فيه؛ لأن قوله ثانياً لو صح لدفع بيعه أولاً.

ص: 726

وأما كون البيع لا ينفسخ؛ فلأن الإقرار الذي صدر بعده مردود، والمردود وجوده كعدمه.

ولأن حق المشتري قد تعلق بالبيع. فلم ينفسخ بغير رضاه ما لم يوجد ما يوجب ذلك.

وأما كون المقرّ يلزمه غرامة المقرّ به للمقر له؛ فلأن بإقراره تبين أنه أحال بين المالك والملك بقوله. فنُزِّل ذلك منزلة إقراره.

وأما كونه إذا وهبه أو أعتقه ثم أقرّ به كما لو أباعه ثم أقر به؛ فلأن المتهب والعبد تعلق حقهما بالمقر به كتعلق حق المشتري بالمبيع، وذلك يقتضي التساوي معنى، والتساوي معنى يوجب التساوي حكماً.

وأما كونه إذا قال: لم يكن ملكي ثم ملكته لا يُقبل قوله بغير بينة؛ فلأن التهمة هنا أكثر من الإقرار المذكور قبل؛ لأن بتقدير انفساخ العقد تعود العين إليه. بخلاف ما تقدم.

وأما كونه يُقبل قوله إذا قامت له بينة بدعواه إذا لم يكن أقرّ بما ذكره المصنف رحمه الله؛ فلأن البينة تُظهر الحق. فتبين فوات شرط صحة العقد الواقع بين المدعي وخصمه؛ لأن بالبينة ظهر أنه ليس مملوكاً للمدعي، وكونه ملكاً له شرط في صحة المبيع والهبة والعتق: أما في البيع؛ فلقوله عليه السلام: «لا تَبِعْ ما ليسَ في مُلكِك» (1).

وأما في الهبة؛ فلأنها نقل ملك. أشبهت البيع.

وأما في العتق؛ فلأنه إزالة ملك. أشبه الهبة.

وأما كونه لا تسمع بينته إذا كان قد أقرّ بما ذكر المصنف رحمه الله؛ فلأنه مكذب لبينته.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (3503) 3: 283 كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده.

وأخرجه الترمذي في جامعه (1232) 3: 534 كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك.

وأخرجه النسائي في سننه (4613) 7: 289 كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع. ولفظهم:«لا تبع ما ليس عندك» .

ص: 727

فصل [في الإقرار المتعدد]

قال المصنف رحمه الله: (وإن قال: غصبتُ هذا العبد من زيدٍ لا بل من عمرو، أو ملكته لعمرو وغصبته من زيدٍ لزمه دفعه إلى زيد، ويغرم قيمته لعمرو. وإن قال: غصبته من أحدهما أخذ بالتعيين فيدفعه إلى من عيّنه ويحلف للآخر. وإن قال: لا أعرف عينه وصدقاه انتزع من يده، وكانا خصمين فيه. وإن كذباه فالقول قوله مع يمينه).

أما كون من قال: غصبت هذا العبد من زيدٍ لا بل من عمرو يلزمه دفعه إلى زيد؛ فلأنه أقرّ أن اليد لزيدٍ، وذلك يقتضي وجوب رد العبد إليه.

وأما كونه يغرم قيمته لعمرو؛ فلأنه اعترف بالملك في العبد له وقد أحال بينه وبين ملكه بإقراره. أشبه ما لو أتلفه. بيان اعترافه لعمرو بالملك أن قوله: لا بل من عمرو إضراب عن الأول وإثبات للثاني فلا يُقبل الإضراب بالنسبة إلى الأول؛ لأنه إنكار بعد إقرار، ويقبل بالنسبة إلى الثاني؛ لأنه لا دافع له. فإذا تعذر تسليمه إليه من أجل تعلق حق الأول به تعين ثبوت الملك لعمرو بالنسبة إلى إقرار المقر.

وأما كون من قال: ملكه لعمرو وغصبه من زيد يلزمه دفعه إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو؛ فلأنه يساوي ما ذكر معنى فكذا يجب أن يكون حكماً.

وأما كون من قال: غصبته من أحدهما يؤخذ بالتعيين؛ فلأنه أقرّ بإقرار مجمل، ومن أقرّ بمجمل لزمه البيان. ضرورة أن الحكم لا يقع إلا على معلوم.

وأما كون العبد يدفع إلى من عيّنه؛ فلأنه بإقراره لشخصٍ بعينه ظهر أنه المستحق. أشبه ما لو أقر به أولاً.

وأما كونه يحلف للآخر؛ فلأنه محتمل أنه هو المستحق. فشرعت اليمين؛ ليكون النكول سبباً لثبوت رد العبد أو بدله.

ص: 728

وأما كون من قال: لا أعرفه وصدقه الخصمان ينتزع من يده؛ فلأنه ظهر بإقراره أنه لا حق له فيه. ولم يتعين مستحقه؛ لأنه ادعى عدم معرفته وصدق عليه.

وأما كونهما يكونان خصمين فيه؛ فلأن كلاًّ منهما يدّعيه.

وأما كون القول قوله مع يمينه إذا كذباه؛ فلأنه ينكر معرفة عين المستحق. أشبه ما لو أنكر أنه مستحق بالكلية.

قال: (وإن أقرّ بألفٍ في وقتين لزمه ألفٌ واحدٌ. وإن أقرّ بألفٍ من ثمن عبدٍ ثم أقرّ بألفٍ من ثمن فرسٍ أو قرضٍ لزمه ألفان. وإذا ادعى رجلان داراً في يد غيرهما شركةً بينهما بالسوية فأقرّ لأحدهما بنصفها فالمقر به بينهما).

أما كون من أقرّ بألفٍ في وقتين يلزمه ألفٌ واحد إذا لم يذكر السبب؛ فلأنه يجوز أن يكون المقر به ثانياً هو المقر به أولاً. ومع ذلك يتعين الحمل عليه لوجهين:

أحدهما: أن الأصل براءة الذمة من الزائد على ذلك.

وثانيهما: أن العرف يشهد بذلك، ولذلك لو قال شخص: رأيت زيداً ثم قال: رأيت زيداً كان زيد الثاني هو الأول، والرؤية ثانياً هي الرؤية أولاً. ونظير ذلك أن الله عز وجل لما أخبر عن إرساله نوحاً وهوداً وصالحاً وشعيباً وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله على نبينا وعليهم وكرر ذلك في مواضع لم تكن القصة الثانية غير المذكورة في الأول.

وأما كون من أقرّ بألفٍ من ثمن عبد ثم أقرّ بألف من ثمن فرس أو قرض يلزمه ألفان؛ فلأن الألف ثانياً لا يجوز أن يكون الألف أولاً؛ لاختلافهما باختلاف سببهما. ولو قال شخص: رأيت زيداً الطويل ثم قال: رأيت القصير لم يكن الثاني الأول البتة.

وأما كون نصف الدار التي ادعاها شخصان في يد غيرهما شركة بينهما بالسوية فأقرّ لأحدهما بنصفها بين الرجلين؛ فلأنهما اتفقا على أنها شركة بينهما والنصف المقر به منها فتكون شركة بينهما، وذلك يقتضي التنصيف؛ كما لو قال: هذا المال بينهما فإنه يكون بينهما نصفين.

ص: 729

قال: (وإن قال في مرض موته: هذا الألف لقطة فتصدقوا به ولا مال له غيره لزم الورثة الصدقة بثلثه، وحكي عن القاضي أنه يلزمهم الصدقة بجميعه).

أما كون الورثة تلزمهم الصدقة بثلث الألف على المذهب؛ فلأن حكم اللقطة بعد التعريف حكم سائر مال الملتقط، ولو كان للميت ألف لا يملك غيره فقال في مرضه: تصدقوا بثلثه لزم الورثة الصدقة بالثلث. فكذلك فيما حكمه حكمه.

وأما كونهم يلزمهم الصدقة بجميع الألف على قول القاضي؛ فلأن الإقرار في المرض كالإقرار في الصحة. ولو قال في الصحة لوكيله: هذا الألف لقطة فتصدق به لزمه ذلك. فكذلك إذا قال في مرضه ذلك.

والأول أصح؛ لما تقدم.

وأما الإقرار في المرض فهو يفارق الإقرار في الصحة في أشياء فليكن هذا منها.

وأما إلحاق الورثة بالوكيل فيقتضي ثبوت الحكم في الوكيل. وفيه نظر. وعلى تقدير ثبوته فالفرق بينهما أن الوكيل إذا تصدق لا يلزمه الضمان لمالك الألف بتقدير مجيئه؛ لأنه مأمور. بخلاف الورثة فإن تصدقهم بذلك يستلزم لزوم ضمانه عليهم إما لأنهم بعد الموت صار ملك العين في أيديهم فالتصدق إنما يجوز بشرط الضمان، وإما لأنهم ورثة الآمر؛ لأن بتقدير أن يخلف مالاً غير المقر يلزمهم ذلك من التركة.

فإن قيل: التقدير أنه لا مال له غير الألف.

قيل: يجوز أن يظهر له مال ثم يجيء صاحب اللقطة فيتعين الغرم. والحاصل أن الوارث عليه ضرر. بخلاف الوكيل.

ص: 730

فصل [في الإقرار لأكثر من مدع]

قال المصنف رحمه الله: (إذا مات رجل وخلّف مائة فادّعاها رجلٌ فأقر ابنه له بها، ثم ادّعاها آخر فأقرّ له فهي للأول ويغرمها للثاني. وإن أقرّ لهما معاً فهي بينهما. وإن أقر لأحدهما وحده فهي له، ويحلف للآخر).

أما كون المائة المذكورة للأول؛ فلأن من المائة في يده قد أقرّ له بها ولا معارض له. فوجب كونها له عملاً بالإقرار السالم عن المعارض.

وأما كون المقرّ يغرمها للثاني؛ فلأن بإقراره ظهر أن المائة للثاني، وقد حال بينه وبينها. فلزمه غرامتها؛ كما لو شهد بمال ثم رجع بعد الحكم بشهادته.

وأما كونها بينهما إذا أقرّ لهما بها؛ فلأن المقرّ أضاف ذلك إليهما إضافة على السواء، وذلك يقتضي التسوية بينهما.

وأما كونها لأحدهما وحده إذا أقر بها له وحده؛ فلأن المقتضي لكون المائة للمقر له الإقرار، وهو موجود لشخص بعينه فيختص المقر له به.

وأما كون المقرّ يحلف للآخر؛ فلأنه يحتمل أنه المستحق، واليمين طريق لثبوت الحق أو بدله.

قال: (وإن ادَّعى رجلٌ على الميت مائة ديناً فأقرّ له، ثم ادعى آخر مثل ذلك فأقرّ له، فإن كان في مجلسٍ واحدٍ فهي بينهما. وإن كان في مجلسين فهي للأول ولا شيء للثاني).

أما كون المائة المقر بها لهما بينهما إذا كان الإقرار في مجلسٍ واحدٍ؛ فلأن المجلس الواحد بمنزلة الوقت الواحد.

وأما كونها للأول ولا شيء للثاني إذا كان الإقرار في مجلسين؛ فلأن بإقراره الأول ظهر أنها للمقر له الأول. فإقراره بها للآخر رجوع عن الإقرار وذلك لا يصح؛ لما فيه من إبطال حق الأول.

ص: 731

قال: (وإن خلَّف ابنين ومائتين وادّعى رجل مائة دَيناً على الميت فصدّقه أحد الابنين وأنكر الآخر لزم المقر نصفها؛ إلا أن يكون عدلاً فيحلف الغريم مع شهادته ويأخذ مائة، وتكون المائة الباقية بين الابنين).

أما كون المقر يلزمه نصف المائة إذا لم يكن عدلاً؛ فلأن في يده نصف التركة وقد أقرّ أن في التركة مائة مستحقة.

وأما كون الغريم يحلف مع شهادة المقرّ إذا كان عدلاً؛ فلأن له شاهداً واحداً، والحق لا يثبت بالشاهد الواحد إلا إذا اعتضد بيمين المشهود له.

وأما كونه يأخذ مائة؛ فلأنه حلف مع شاهده، والمائة مال ثبت بالشاهد واليمين؛ لما تقدم في موضعه.

وأما كون المائة الباقية بين الابنين؛ فلأنها ميراث لا تعلق لأحد بها سواهما. فوجب كونها بينهما؛ كسائر المواريث.

قال: (وإن خلَّف ابنين وعبدين متساويي القيمة لا يملك غيرهما فقال أحد الابنين: أبي أعتق هذا في مرضه، وقال الآخر: بل أعتق هذا الآخر، عَتق من كلٍّ ثلثه، وصار لكل ابن سدس الذي أقرّ بعتقه ونصف العبد الآخر).

أما كون كل واحدٍ من العبدين يَعتق ثلثه؛ فلأن كل واحدٍ من الابنين يملك كل واحدٍ من العبدين وقد أقرّ أحدهما بعتق أحدهما وأقر الآخر بعتق الآخر فعتق من كل عبدٍ ثلثه نظراً إلى أن المقرّ بعتقه يملك منه ذلك.

وأما كون كل ابنٍ يصير له سدس العبد الذي أقرّ بعتقه ونصف الآخر؛ فلأن كل ابن يملك نصف كل عبد وقد عتق ثلث الذي أقرّ بعتقه يبقى سدسه ونصف الآخر على ما كان عليه قبل الإقرار.

ص: 732

قال: (وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا، وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أُقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عَتق منه ثلثه إن لم يجيزا عتقه كاملاً. وإن وقعت على الآخر كان حكمه حكم ما لو عين العتق في العبد الثاني سواء).

أما كون العبدين المذكورين يُقرع بينهما؛ فلأن المستحق للعتق أحدهما لا بعينه. فوجب أن يُقرع بينهما؛ للتميز، وفي الحديث:«أن رجلاً أعتقَ ستة مملوكين عن دَين. فأقرعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتقَ اثنين وأرقَّ أربعة» (1).

وأما كون العبد الذي اعترف الابن بعتقه يَعتق منه ثلثاه إذا لم يجز عتقه كاملاً؛ فلأن الواجب أن يعتق بقدر الثلث، وثلثا العبد ثلث التركة وتعين بعتق في الذي اعترف الابن بعتقه؛ لأنه استحق ذلك بالاعتراف بالنسبة إلى المعترف وبالقرعة بالنسبة إلى مدعي عدم المعرفة.

وتقييد المصنف رحمه الله الحكم المذكور بأن الابنين لم يجيزا عتقه كاملاً مشعر بأن العبد يَعتق كله إذا أجازا ذلك. وهو صحيح؛ لأنه مُعتق. وإنما يرجع إلى الثلث إذا لم يجيزا ذلك فإذا أجازا ذلك وجب العتق عملاً بالإعتاق السالم عن المعارض.

وأما كون العبد الآخر إذا وقعت القرعة عليه حكم ما لو عين العتق في العبد الثاني سواء؛ فلأن القرعة جعلته مستحقاً للعتق بالنسبة إلى الابن المدعي عدم المعرفة. فصار بمنزلة ما لو عيّنه.

فعلى هذا يَعتق ثلث كل واحدٍ ويبقى سدس الخارج بالقرعة للابن الذي قال: لا أدري، ونصفه للابن الآخر ويبقى نصف العبد الآخر للابن الذي قال: لا أدري وسدسه للآخر.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1668) 3: 1288 كتاب الأيمان، باب من أعتق شركاً له في عبد.

ص: 733