الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجراح
قوله: ويتعلق بالقتل المحرم وراء العقوبة الأخروية مؤاخذات في الدنيا: [إحداها]: القصاص: قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1)، وقال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (2).
قال الأصحاب: هذا وإن كان خبرًا عما في التوارة لكن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد ناسخ له على رأي الأصوليين، وبتقدير أن لا يكون كذلك فإن ورد ما يقرره فهو شرع لنا لا محالة، وقد روي أن الرُبيع بنت النضر عمة أنس بن مالك -رضى الله عنهما- كسرت ثنية جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أخوها أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع لا والله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص"(3). وليس في كتاب الله تعالى ذكر قصاص السّن إلا في هذه الآية.
والثانية: الدية.
والثالثة: الكفارة.
انتهى كلامه. فيه أمور:
أحدها: أن النووي في "الروضة" قد عدل عن تعبير الرافعي بالقتل المحرم، وعبر بقوله: القتل الذى ليس بمباح، وغرضه بذلك إدخال قتل الخطأ فإنه لا يدخل في المحرم ويدخل في غير المباح فإنه لا يوصف بحرمة
(1) البقرة: 179.
(2)
المائدة: 45.
(3)
أخرجه البخاري (2556)، ومسلم (1675) من حديث أنس رضي الله عنه.
ولا إباحة، وفي كل من التعبيرين نظر.
الأمر الثاني: أن تعبير الرافعي يدل بظاهره على بقاء العقوبة في الآخرة وإن استوفي منه القصاص أو الدية، وقد تابعه في "الروضة" عليه ولكنه أجاب في "فتاويه" بخلافه وقال: إن ظواهر الشرع تدل على السقوط، وذكر مثله في "شرح مسلم".
ودليله الحديث الصحيح في مسلم: "من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فعوقب به كان كفارة له وإن لم يعاقب به فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه"(1).
الأمر الثالث: أن [الرافعي] قد أهمل ما يتعلق بالقتل في الدنيا أيضًا التعزير وذلك في كل قتل أثم به وامتنع وجوب القصاص فيه؛ وذلك كقتل السيد عبده والوالد ولده كما نص عليه الشافعي في "الأم"، ومنه قتل المسلم للذمي والحر للعبد أو المبعض، ومنه عمد الخطأ وشريك المخطئ، ونحو ذلك. ثم قد يكون إيجاب ذلك مع الضمان كما مثلناه، وقد يكون بدونه كقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم.
وإن قيل: كيف يجب التعزير في الصور السابقة مع أن الكفارة فيها تجب والقاعدة أن التعزير يجب في ما لا عقوبة فيه من حد أو كفارة؟ .
فالجواب: أن الكفارة في مقابلة إعدام النفس وليست في مقابلة ما ارتكبه من الإثم والتعدي بدليل وجوبها في قتل الخطأ، وإذا لم تكن الكفارة في مقابلة ذلك فلابد له من شيء يقابله فيشرع [التعزير]؛ فافهم ما ذكرته فإنه دقيق.
الأمر الرابع: أن ما ذكره من أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص"(2). تقرير لشرع من قبلنا كلام عجيب فإنه إخبار عما في كتاب
(1) أخرجه مسلم (1709) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(2)
تقدم.
الله لا إنشاء حكم، بل الجواب عند من لا يقول بأنه شرع لنا أن ذلك إشارة إلى آيات تدل عليها بالعموم لقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (1)، وقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (2)، وقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ. . . .} (3) الآية، وهذه الآيات وإن [كان](4) طريقها التخصيص إلا أن دلالتها باقية على ما لم يثبت تخصيصه.
والرُبيّع: براء مضمومة وبالياء المشددة [المكسورة]، وحديثها ثابت في الصحيحين.
قوله: فلو جرحه بمحدد وجب القصاص. ثم قال: وهذا في الجراحات التى لها وقع وتأثير فإما أنه فلقة خفيفة من اللحم فهو كغرز الإبرة، كذلك ذكره الإمام. انتهى.
والصحيح في غرز الإبرة أنه لا يجوب إلا بشروط؛ فمقتضاه أن الجراحة الخفيفة لا توجب أيضًا لكنه جزم بالوجوب بعد هذا بأسطر قلائل وجعله دليلًا للوجه القائل في الإبرة أنه يجب مطلقًا فقال: أحدها: يجب كالجراحات الصغيرة بغير الإبرة.
هذا لفظه، وقد ذكر المسألة في كتاب موجبات الضمان في الكلام على ضمان إتلاف الإمام في آخر مسألة الختان، وحكي فيها وجهين من غير ترجيح فقال: قال السرخسي: ينبني على أن الجرح اليسير هل فيه قصاص؟ فيه وجهان.
قوله: فأما إبانة فلقة خفيفة من اللحم. . . . إلى آخره.
(1) سورة الشورى: 40.
(2)
سورة البقرة: 194.
(3)
سورة النحل: 126.
(4)
سقط من أ.
اعلم أن الرافعي قد ذكر في هذا الموضع ألفاظًا أخرى لابد من شرحها وهي الأخدع والعجان والضمان وجمع الكف والغرامة.
فأما الفلقة فيجوز أن تكون بفاء [مكسورة] وبالقاف بعد اللام؛ تقول: فلقت الشيء أي: شققته فلقا بفتح الفاء وسكون اللام، وسمي كل واحد من القطعتين فلقا بكسر القاف وسكون اللام وفلقة بالتاء أيضًا.
ويجوز أن تكون بضم القاف وسكون اللام مأخوذًا من الجلدة التي تقطع في الختان؛ يقال: قلفها قلفًا أي: قطعها.
وأما القلفة بفتح القاف واللام فإنه موضع القطع كالقطعة في حق الأقطع.
وأما الأخدع فهو بالخاء المعجمة والدال المهملة.
قال الجوهري: إنه عرق منبعث من الوريد.
وفسره الرافعي بأنه عرق في الخاصرة والخاصرة والشاكلة والطفطفة بمعني واحد.
أما العجان: بكسر العين المهملة والجيم هو ما بين الدبر، الأنثيين، ويسمى العضرط بعين مفتوحة وضاد معجمة ساكنة وراء مفتوحة ثم طاء مهملتين وأما الضمن بفتح الضاد المعجمة وكسر الميم فهو التألم.
وأما الجمع فهو بجيم مضمومة وميم ساكنة فهو قبض الكف، تقول أيضًا أخذت فلانًا بجمع ثيابه بضم الجيم.
والعرامة: بفتح العين وبالراء المهملتين والعارم والعرم هو الشرس من الصبيان أي: لا يمتثل ما يقال له؛ يقال: صبي عارم من العوارم بالضم، وقد عرم بالفتح يعرم ويعرم بالضم والكسر عرامة.
قوله: ولو منعه الشراب دون الطعام فلم يأكل المحبوس خوفًا من
العطش فمات فلا قصاص.
وحكي أبو الحسن العبادي عن القفال أنه يجب الضمان، وعن غيره المنع لأنه المهلك لنفسه، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب". انتهى.
والأصح على ما قاله النووي في أصل "الروضة" هو الثاني.
قوله في "الروضة": ولو لم يوجره السم القاتل لكن أكره على شربه فشربه قال الداركي وغيره في وجوب القصاص قولان: أظهرهما الوجوب، والوجه أن يكون هذا كإكراهه على قتل نفسه، وسيأتي أنه لا قود على الصحيح. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن الرافعي رحمه الله لم يطلق التصحيح كما أطلقه في "الروضة" بل نقله عن "العدة" فقط، ثم خالفه فقال: قال في "العدة" أصحهما الوجوب، والوجه أن يكون كالكراهة على قتل نفسه.
هذا لفظه، وهو تركيب واضح، وحاصله مخالفة صاحب "العدة".
وأما تعبير "الروضة" فمتدافع ويوهم أن المشهور هو الوجوب.
الأمر الثاني: أن ما ذكره الرافعي بحثًا من إلحاقه بالإكراه على قتل نفسه وتابعه عليه في الروضة صرح في الكفاية بنقله عن النهاية والتتمة وتعليق القاضي حسين.
قوله: ولو ناوله الطعام المسموم وقال: كله، أو قدمه إليه وضيفه به فأكله ومات، فإن كان صبيًا أو مجنونا لزمه القصاص سواء قال لهما هو مسموم أم لا، وذكروا مثله في الأعمى الذى يعتقد أنه لابد من الطاعة في كل ما يشار عليه به، ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره ولا نظروا إلى أن عمد الصبي عمد أم خطأ وللنظرين مجال. انتهى.
وما ادعاه من عدم التفرقة بين المميز وغيره قد تابعه عليه في "الروضة" وليس كذلك؛ فقد فرق بينهما ابن الصباغ في "الشامل" والمتولي في "التتمة"، وهو مقتضى ما في "التهذيب" و"البيان".
قوله: ولو قدمه لبالغ عاقل ولم يبين له حاله ففي القصاص قولان مرويان عن الأم؛ قياس ما سبق منهما عدم وجوبه.
ثم قال: وطرد في "التهذيب" القولين فيما إذا قال: كل وفيه شيء من السم لا يضر، وفيما إذا جعل السم في دَنّ ما على الطريق فشرب منه إنسان ومات، وليكن الفرض فيما إذا كان طريق شخص معين إما مطلقا أو في ذلك الوقت، وإلا لم يتحقق العمد به.
انتهى كلامه. فيه أمران:
أحدهما: أن ما نقله عن البغوي من إجراء القولين في هذه الحالة وأقره قد تابعه عليه في "الروضة"، وهو مردود مخالف لما قاله الشافعي؛ فإن الشافعي في "الأم" لما نص على القولين ذكر هذه المسألة ولم يخرجها عليها بل جزم بأنه لا شيء فقال: ولو قال له: في هذا سم ولا يتلف صاحبه، أو يتلفه، أو قل ما يتلف به، فشربه فمات لم يكن على الذى خلطه له ولا أعطاه إياه عقل ولا قود.
هذا لفظ الشافعي بحروفه.
وصرح الماوردي في "الحاوي" أيضًا بأنه لا شيء جزمًا.
الأمر الثاني: أن ما جزم به الرافعي من أن العمدية تعمد تعيين الشخص قد اختلف فيه كلام "الروضة" فجزم هنا به، وكذلك في الباب الرابع المعقود لموجب الدية في المسألة الثامنة من الطرف الرابع وخالف الموضعين المذكورين قبيل كتاب الديات فرجح من "زوائده" وجوب
القصاص، وسوف أذكر لفظ الموضعين في محلهما.
قوله: ولو ألقاه في ماء لا يعد مغرقًا بأن كان واقفًا في موضع منبسط فاضطجع فيه حتى هلك فلا قصاص ولا دية. انتهى.
وتقييد الماء بالواقف تبعه عليه أيضًا في "الروضة" وعَبّر بالراكد، ولا حاجة إليه، والصواب حذفه كما حذفه من "المحرر".
قوله: سقاه سمًا موحيًا.
ثم قال: ويجوز نزف الدم ونزف إذا جرح، ويقال: دهش دهشًا إذا تحير ودهش على ما لم يسم فاعله. انتهى.
فأما موحيًا فهو بتشديد الحاء المهملة أي: مسرعًا؛ يقال وحاه -بالتشديد- يوحيه إذا عجله وأسرع به، وهو موت وحيّ بتشديد الياء أي: سريع.
وأما نزف فيتلخص فيه من كلام الجوهري أنه يجوز فيه بناؤه للمفعول، ويجوز أيضًا بناؤه للفاعل مع فتح الزاي وكسرها؛ وحينئذ فلك أن تحمل الوجهين في كلام الرافعي على ما شئت من هذه الثلاثة وأما دهش المذكور أولًا فإنه بكسر الهاء والمصدر بالفتح ومعناه التحير.
قوله: فرع: قال الملقي: كان يمكنه الخروج مما ألقيته فيه من الماء أو النار فقصر وقال الولي: لم يمكنه فهل يصدق الملقي لأن الأصل براءة ذمته أو الولي لأن الظاهر أنه لو أمكنه الخروج لخرج؟
فيه وجهان، ويقال قولان: انتهى.
والراجح منهما -كما قاله في "الروضة" من "زوائده"- تصديق الولي.
قوله: ويعزر الممسك للقاتل؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال:
"يقتل القاتل ويصبر الصابر"(1)، قيل: معناه: أنه يحبس تعزيرًا. انتهى.
اعلم أن الصبر هو الحبس؛ يقول: صبر يصبر -بكسر الباء في المضارع، وصبرته أنا- أي: حبسته؟ قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (2) الآية. كذا ذكره الجوهري.
ثم ذكر بعده الحديث المذكور فقال: وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أمسك رجلًا وقتله آخر قال: "اقتلوا القاتل واصبروا الصابر" أي: احبسوا الذي حبسه للموت حتى يموت.
هذا لفظ الجوهري، والفقهاء ينازعون في حبسه للموت كما تعرفه في التعزير. والحديث المذكور [. .](3).
قوله: ولو أمسك محرم صيدًا فقتله محرم آخر فقرار الضمان على القاتل، وتتوجه المطالبة على الممسك. انتهى.
هذه المسألة ذكرها الرافعي في ثلاثة مواضع من كتابه واختلف فيها كلامه وكذلك كلام "الروضة" أيضًا، وقد بسطت ذلك في محظورات الإحرام فراجعه.
قوله: فإن لم نوجب القصاص على المكره -بفتح الراء- لزمه
(1) أخرجه الدارقطني (3/ 140)، وعبد الرزاق (17892)، وابن أبي شيبة (5/ 439)، والبيهقي في "الكبرى"(15809) من حديث إسماعيل بن أمية مرسلًا.
قال الدارقطنى: الإرسال فيه أكثر.
وقال البيهقي: إنه موصول غير محفوظ.
وقال ابن القطان: هو عندي صحيح.
(2)
الكهف: 28.
(3)
بياض بالأصل.
نصف الدية على الأصح، ولكن هل تكون في ماله أم على عاقلته؟ فيه تردد للإمام. انتهى.
فإن في "الروضة": الأرجح أنه في ماله.
قوله: في "الرقم" إن بعض النظار طابق في تصوير إكراه الذمى المسلم، وقال: إنه إذا أكرهه انتقض عهده وصار حربيًا. انتهى كلامه.
ومراده أنه إذا صار حربيًا فلا قصاص عليه كسائر الحربيين.
وما قاله غريب لأن الذى صححه الرافعي وتبعه عليه في "الروضة" أنه لا ينتقض العهد إلا إذا شرط ذلك عليهم وشرط عليهم النقض به أيضًا.
ولو سَلَّمْنَا انتقاض العهد به فالتفريع على إلحاق الإكراه بمباشرة القتل، والذمى إذا قتل ونقضنا عهده بذلك قتلناه قصاصًا فكذلك إذا أكره.
قوله: ولو أكره إنسانًا على أن يرمي إلى طلل غرفة المكره إنسانًا وظنه المكره جرثومة، أو أن يرمى إلى ستر وراءه إنسان وعرف المكره ذلك دون المكره فقد ذكر الإمام الغزالي في أن وجوب القصاص على المكره وجهين كالوجهين فيما إذا أكره صبيًا على القتل وجعلنا عمد الصبي خطأ، ومال صاحب "التهذيب" إلى القطع بوجوب القصاص. انتهى ملخصًا.
ذكر مثله في "الشرح الصغير" أيضًا، والذى ألحقه الإمام والغزالي به وهو ما إذا أكره صبيا وجعلنا عمده خطأ قد ذكر الرافعي فيه طريقين: أصحهما: القطع بعدم الوجوب.
والثاني: فيه وجهان:
إذا علمت ذلك ظهر لك أنه لا ترجيح في مسألتنا بالكلية، أو أن الراجح عدم الوجوب؛ فإنه نقل عن اثنين ما يقتضيه، ونقل الوجوب عن
واحد، وقد صحح النووي في "الروضة" أنه يجب، ولم ينبه على أنه من "زوائده" بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن لذلك.
والطلل بفتح الطاء المهملة ما شخص من آثار الدار، والجمع: أطلال وطلول. والجرثومة أصل الشيء، ويقال: تجرثم الشيء واجرثم أي: اجتمع.
وقول الرافعي إلى ستر وراءه [. .](1) على قتل نفسه بأن قال: اقتل نفسك وإلا قتلتك، ففي وجوب القصاص على المكره من يتخلص بما أمر به عما هو أشد عليه ولا يتخلص بقتل نفسه عن القتل. انتهى.
استثنى في "الشرح الصغير" ما إذا أكرهه بشئ فيه تعذيب قال: فيشبه أن يكون إكراهًا؛ أي: حتى يجب القصاص لغيره.
قوله في المسألة: فإن قلنا: يجب القصاص عليه، فلو فرض العفو وجب كمال الدية. انتهى.
وما ذكره من إيجاب الدية كلها لا يستقيم إلا إذا قلنا: إن المكره -بفتح الراء- في غير هذه الصورة لا ضمان عليه.
أما إذا قلنا بالصحيح وهو: أنه يضمن نصف الدية والنصف الآخر على المكره فكذلك أيضًا هنا، وقد صرح بذلك البغوي في "التهذيب" وحكاه في "المطلب" عنه واقتصر عليه، ثم قال: ووقع في الرافعي هنا سهو تبعته عليه في "الكفاية"، والحق ما ذكرته هاهنا.
قوله في المسألة: وإن قلنا: لا يجب، فعليه نصف الدية إن أوجبنا الضمان على المكره، وجميعه إن لم نوجبه. انتهى.
وما ذكره من الإيجاب على المكره -يعني الآمر- تفريعًا على عدم القصاص لا يستقيم؛ لأنا إنما أسقطنا القصاص لانتفاء الإكراه كما تقدم،
(1) بياض بالأصل.
وإذا انتفي لزم أن لا يجب عليه شيء أصلًا لا نصف الدية ولا كلها، والمسألة مذكورة في "التهذيب" على الصواب فلما نقلها الرافعي منه جعل تفريع أحد القولين للآخر فوقع في الوهمين معًا.
قوله في أصل "الروضة": ولو قال: اقطع يدي، فقطعها فلا قصاص ولا دية قطعًا. انتهى.
والذي ادعاه من عدم الخلاف محله إذا لم يمت، فإن مات من القطع ففيه الخلاف فيما إذا قال: اقتلني؛ والأصح فيه عدم الوجوب أيضًا؛ كذا ذكره قبيل كتاب الضمان.
قوله: ولو قال: اقذفني وإلا قتلتك فقذفه ففى وجه: لا حد عليه كما لو قال: اقطع يدى فقطعه.
قال في التهذيب: والصحيح وجوبه بخلاف القصاص؛ لأنه قد يستعين بغيره في قتل نفسه أو قطعه ولا يستعان بالغير في القذف فيجعل القاذف مبتدئًا.
انتهى كلامه. فيه أمران:
أحدهما: أن الرافعي قد صحح في موضعين من "الكتاب" عدم الوجوب ونقله عن الأكثرين علي خلاف هذا التصحيح الذى نقله هنا وأقره: أحدهما في آخر الباب الأول من أبواب اللعان، وثانيهما في حد القذف، ثم إنه فرض المسألة في الموضعين المذكورين في الإذن المجرد عن الإكراه فما ظنك مع الإكراه كما فرضه هنا.
الأمر الثاني: أن ما نقله عن البغوي من تصحيح ذلك مع الإكراه تبعه على نقله عنه في "الروضة" أيضًا، وهو غلط؛ فإنه إنما صحح ذلك في الأمر المجرد فقال: ولو قال لآخر: اقذفني فقذفه، فقد قيل لا حد عليه لأن الحق له كما لو قطع يده بإذنه لا قود عليه، والصحيح أنه يجب ..
إلى آخر ما ذكر.
هذا لفظه؛ فتلخص أنه لا حد في هذه المسألة بلا خلاف على خلاف ما توهمه الرافعي وأنه يباح له ذلك بلا خلاف أيضًا كما أشعر به كلامهم، بل في وجوبه نظر، وتوهم النووي صحة هذا النقل عن البغوي فقال: هذا الذي قاله البغوي عجيب، والصواب أنه لا حد.
هذا لفظه من غير زيادة عليه؛ فتوهم صحة نقل الخلاف ولم يستحضر أيضًا ما سبق في اللعان ولا ما سيأتي في حد القذف.
قوله (1): ولو قال: اقتل زيدًا أو عمروًا وإلا قتلتك، فهذا تخيير لا إكراه، وقد سبق نظيره فيما إذا قال: طلق إحدي زوجتيك.
ثم قال: وفي "الرقم" نقل وجه أنه يكون إكراهًا، وفي "التتمة" نسبته إلى القاضي حسين، ويجيء مثله في الطلاق. انتهى.
تابعه في "الروضة" عليه وفيه أمران:
أحدهما: أنه يشعر بأنه لم يستحضر في الطلاق خلافًا؛ ولهذا أشار إلى تخريجه من هذه المسألة، وهو غريب؛ فقد صرح هو بحكايته هناك نقلًا عن صاحب "التتمة" كما حكاه عنه هنا.
الأمر الثاني: أن الوجه القائل هنا بأنه إكراه لا يلزم طرده في الطلاق لأنه يمكنه هناك أن يأتي بما أكره عليه وهو أن يقول: إحداهما طالق، فإن أراد الرافعي جريان الخلاف في هذه الصورة فباطل؛ إذ لا يقع جزمًا في هذه الحالة كما أوضحوه في بابه لأنه أتي بنفس ما أكره عليه، وإن أراد جريان الخلاف فما إذا عين المطلقة فالفرق واضح؛ لأن القتل لا يكون إلا في معين بخلاف الطلاق، فإذا عدل إلى التعيين أشعر بالاختيار.
(1) انظر: "الروضة"(9/ 138).
قوله: ولو أمر عبدًا صغيرًا لا تمييز له أو مجنونًا ضاريًا أو أعجميًا يرى طاعة السيد لازمه في كل ما يأمر به فالقصاص أو الدية على السيد، وفي تعلق المال برقبة العبد وجهان: أصحهما المنع لأنه كالآلة فأشبه إغراء البهيمة الضارية. ثم قال: ولو قتل مثل هذا الصبي أو المجنون أو أتلفا مالًا من غير حث من أحد فهل يتعلق الضمان بمالهما؟ عن الشيخ أبي محمد تخريجه على الخلاف المذكور في التعلق برقبة العبد لأنه يشبه إتلاف البهيمة العادية. انتهى كلامه.
وما ذكره في آخر كلامه في إتلافهما من غير حث قد تابعه في "الروضة" عليه؛ ومقتضاه أن الراجح في هذه المسألة أنه لا شيء في مال هذا الصبي ولا في مال المجنون، وهو مردود مخالف لما سبق في كتاب الرضاع أن الصبي إذا دب وارتضع وانفسخ النكاح وجب عليه الغرم، ومخالف أيضًا لما سيأتي بعد ذلك بدون كراستين في الكلام على شريك السبع.
قوله: وكذا لا يباح الزنا بالإكراه. انتهى.
ومقتضى إطلاقه أنه لا فرق في عدم إباحته بين الرجل والمرأة، وهو كذلك؛ فقد صرح به الرافعي في كتاب الجهاد.
قوله: ويباح بالإكراه التلفظ بكلمة الكفر ولكن لا يجب ذلك في أصح الوجهين؛ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فينشر اثنين وما يصده عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب وما يصده ذلك عن دينه"(1). انتهى.
(1) أخرجه البخاري (3416) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه.
واعلم أنه قد تلخص من كلام الجوهري في مادة أشر ونشر ووشر أن في لفظه المنشار لغات فينطق بها بعد الميم إما بالنون أو بالهمز أو بالياء فإنه يقال: نشرت الخشبة بالنون، وأشرتها بالهمز، ووشرتها بالواو؛ وحينئذ فإذا ثبتت من ذوات الواو مفعالًا لزم قلب الواو ياء لوقوعها بعد كسرة كما في الميقات والميزان، وإذا ثبتت من المهوز جاز التسهيل أيضًا.
قوله: وهل يجب شرب الخمر عند الإكراه؟ في "الوسيط" أنه على وجهين مرتبين على الوجهين في كلمة الردة وهو أولى بمنع الوجوب. انتهى.
وهذا النقل عن "الوسيط" قد ذكر مثله في "الشرح الصغير"، وليس كذلك فإن الذي قاله في "الوسيط": وفي وجوبه خلاف مرتب على الردة وأولى بالوجوب. هذه عبارته.
وقد اغتر في "الروضة" بكلام الرافعي فأطلق تصحيح عدم وجوبه.
قوله: إذا أنهشه حية أو ألدغه عقربا بأن ضبطها وأدناها منه فقتلته نظر إن كانت تقتل غالبًا كأفاعي مكة وثعابين مصر وعقارب نصيبين وجب القصاص، وإن كانت مما لا يقتل غالبًا فقولان: أصحهما عند صاحب "التهذيب" والروياني وغيرهما أنه شبه عمد.
والثاني: أنه يتعلق به القصاص، وهو ما أورده الإمام وصاحب "الكتاب". انتهى.
وما نقله عن الإمام والغزالي من الوجوب عجيب؛ فإنهما صرحا بأنه كغرز الإبرة؛ كذا في "النهاية" و"البسيط" و"الوسيط" وقد فصلا في
الإبرة وحكيا خلافًا من غير ترجيح فيما إذا لم تقتل غالبًا.
قوله: وإن أرسل عليه سبعًا أو أغري به كلبًا عقورًا في موضع واسع كالخضراء فقتله أو طرحه في مسبعة أو بين يدى سبع في الصحراء مكتوفا أو غير مكتوف فقتله فلا قصاص ولا ضمان سواء كان المطروح صغيرًا أو كبيرًا لأنه لم يلجئه إلى قتله، والذى وجد منه ليس بمهلك، وهو كالممسك مع القاتل. انتهى كلامه.
وما ذكره من عدم الوجوب في إغراء الكلب ونحوه لا يجتمع مع ما قاله قبل ذلك فيما إذا أغرى به مجنونًا ضاريا أو عبدًا أعجميا يعتقد أن طاعة سيده واجبة فإنه قد جزم فيه بوجوب القصاص، والإيجاب هو الصواب؛ فقد جعل الشارع قتل الكلب للصيد بالإغراء نازلًا منزلة قتل الغري.
وأما استدلاله بأنه ليس بمهلك فإن أراد أنه ليس بمباشر فمسلم، وإن أراد أنه ليس سببًا فليس كذلك بل هو سبب ملجئ عرفًا بلا شك، وقياسه على الممسك مع القاتل لا يستقيم لأن العاقل له رؤية بخلاف ما نحن فيه، وبالجملة فما الذى يقوله في الفرق بين إغراء المجنون وبين الكلب ونحوه.
قوله: ولو ربط في دهليز داره كلبًا عقورًا ودعى إليه غيره فافترسه الكلب فلا قصاص ولا ضمان ولم يجعل على الخلاف الذى سبق في حفر البئر في الدهليز وتغطية رأسها لأن الكلب يفترس باختياره، ولأنه ظاهر يمكن دفعه بالعصا والسلاح. انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكره من عدم الضمان وبقية الخلاف غريب؛ فقد حكى الخلاف فيه في كتاب ضمان البهائم، واقتضى كلامه أن الأصح هو الوجوب، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى، ووقع الموضعان
كذلك في "الروضة"(1).
قوله: والمريض المشرف على الوفاة إذا قتل وجب القصاص على قاتله.
قال القاضي الروياني وغيره: وإن انتهى إلى حالة النزع وصار عيشه عيش المذبوحين.
ولفظ الإمام: أن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت وبدت أماراته وتغيرت الأنفاس في الشراسيف فلا يحكم له بالموت بخلاف المقدود لأن موته غير مقطوع به، وأيضا فإن المريض لم يسبق فيه فعل يحال القتل عليه.
نعم لو أصاب الحشوة خرق أو قطع وكان يتيقن موته بعد يوم أو يومين وجب القصاص بقتله. انتهى.
وما ذكره هاهنا من أن المريض لا يقطع بموته وإن انتهى إلى حالة النزع وأن حكمه كحكم الأحياء قد ذكر ما يناقضه أو يقيده في الباب الأول من أبواب الوصية في الكلام على المرض المخوف، وكذلك النووي من "زوائده" في الفرائض في الكلام على ميراث الحمل، وقد سبق لفظ كل من الموضعين في بابه مع زيادة أخرى في الفرائض ينبغي معرفتها، وذكر مثل ما ذكر هاهنا في العاقلة وفي باب الأضحية.
والشراسيف جمع شرسوف بشين معجمة مضمومة ثم راء مهملة ساكنة بعدها سين مهملة ثم فاء، وهو ما أشرف على البطن من أطراف الأضلاع، ويقال: عظام لينة معلقة بكل ضلع.
قوله: إحداها: إذا قتل شخصًا على ظن أنه كافر بأن كان عليه زي
(1) الروضة (9/ 317).
الكفار أو رآه يعظم آلهتهم فبان أنه كان مسلمًا؛ نظر: إن كان في دار الحرب وجبت الكفارة ولا يجب القصاص وكذا الدية في أصح القولين، وإن كان في دار الإسلام وجبت الدية والكفارة، وفي القصاص قولان رجح منهما الوجوب. انتهى ملخصًا.
واعلم أن الرافعي رحمه الله قد اعتمد في كتاب الردة في تفصيل ما يكون ردة وما لا يكون على كلام نقله عن الحنفية، وقد نقل ما يقتضي أن التزيي بزي الكفار يكون رده على الصحيح عندهم وأقره، لكن استدرك عليه في "الروضة" ورجح خلافه كما ستعرفه هناك.
وأما ما ذكره هنا في التعظيم فقد تابعه عليه في "الروضة" ولم ينقله عن البغوي بل أطلق القول به وهو عجيب لاسيما إطلاقه، وقد ذكر في باب الردة أن تعظيم الأصنام بالسجود لها والذبح ردة، والظاهر أنه على سبيل المثال.
قوله: ويشترط لوجوب القصاص كون القتيل معصومًا إما بالإسلام أو بعقد الجزية أو بالعهد والأمان. انتهى.
تابعه في "الروضة" على حصر العصمة في هذه الثلاث، ويرد عليه صرف الرق على كتابي بلا خلاف وكذا على وثني ونحوه على المذهب.
قوله: والزاني المحصن إذا قتله ذمى يلزمه القصاص، وإن قتله مسلم فوجهان:
أحدهما: يجب القصاص لأن الرجم إلى الإمام.
والثاني: المنع لأنه مباح الدم كالمرتد، وهذا هو الظاهر على ما اختاره الإمام ورواه عن المراوزة ويعزي إلى النص. انتهى ملخصًا.
فيه أمور:
أحدها: ما قال القاضي أبو الطيب في "تعليقه" ونبّه عليه في "الروضة" أن الخلاف قبل أن يأمر الإمام بقتله، فإن كان بعد الأمر به فلا قصاص قطعًا.
الأمر الثاني: أن مقتضي إطلاق الرافعي أنه لا فرق في عدم الوجوب بين أن يثبت زناه بالبينة أم بالإقرار وهو المذكور في أوائل حد الزنا، ومقتضي إطلاقه أيضًا في كتاب الأطعمة في الكلام على المضطر.
وقد وافق النووي في "الروضة" على هذه المواضع كلها ثم خالف في "تصحيح التنبيه" فصحح وجوب القصاص إذا ثبت بالإقرار، وذكر ابن يونس شارح "التنبيه" أنه لا قصاص، قال: ولكن تجب الدية.
الأمر الثالث: أن تعليل السقوط هنا بكونه مباح الدم يقتضي الجزم بوجوب القصاص إذا وقع القتل بعد الرجوع بل لا يخطر للناظر في هذا المكان غيره لكن نقل الرافعي في أوائل حد الزنا في ذلك وجهين ونقل أن الصحيح عدم الوجوب فتفطن له، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى فراجعه.
وبالجملة فقد نص الشافعي رحمه الله في "الأم" على المسألة وصرح بأنه لا شيء على القاتل فقال في باب الرجل يقتل الرجل فيعدو عليه أجنبي فيقتله ما نصه: وهذا يخالف الرجل يقضي عليه الإمام بالرجم في الزنا فيقتله الإمام أو أجنبي هذا لا شيء على قاتله لأنه لا يحل حقن دم هذا أبدًا حتى يرجع عن الإقرار بكلام إن كان قضى عليه بإقراره ويرجع الشهود عن الشهادة إن كان قضى عليه بشهادة شهود.
هذا لفظ الشافعي بحروفه، ومن الأم نقلته، وهو صريح في بطلان ما قاله النووي في "تصحيح التنبيه" وظاهر في دفع ما نقله هو والرافعي بعد الرجوع في أوائل حد الزنا.
قوله: ولو قتل عبد مسلم عبدًا مسلمًا لكافر هل يثبت القصاص؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لئلا يثبت القصاص ابتداء لكافر على مسلم.
وأظهرهما يجب؛ لأن العبدين متكافئان والسيد كالوارث.
ولو مات ولى القتيل الذمى وقد طرأ إسلام القاتل بعد القتل ثبت القصاص لوارثه.
وللخلاف نظر إلى أن القصاص يثبت للوارث أو تلقيًا. انتهى كلامه.
وفي صورة موت الولى وجه أنه لا يثبت؛ حكاه في "النهاية" و"البسيط" وإليه أشار في "الوسيط" بقوله: المذهب، والتخريج الذى أشار إليه الرافعي على ثبوته ابتداء أو [تلقيًا] صرح به القفال في فتاويه، وتعبير الرافعي بقوله:"ولو مات ولى القتيل" ذكره استشهادا على حكم الوارث المشبه به وعبر في "الروضة" بقوله: كما لو مات. وهو سهو.
قوله: ولو قتل عبد كافر عبدًا كافرًا لمسلم فعن القاضي الحسين فيه احتمالان. انتهى لفظ الرافعي بحروفه.
وذكر في "الروضة" مثله أيضًا وقال: والراجح ثبوت القصاص.
وهذه المسألة لا يتصور مجيء الاحتمالين فيها بل يجب القصاص جزمًا سواء كان العبد المذكور أولًا مرفوعا على الفاعلية أو مضافًا إلى الكافر فإن العبدين متكافئان وكون سيد المقتول مسلمًا لا ينقصه عن القاتل إن لم يزده شرفًا، وبالجملة فهذا النقل إنما هو عن القاضي الحسين، وقد راجعت النسختين المختلفتين من تعليقته فوجدته قد حكى وجهين فيما إذا قتل عبد مسلم لمسلم أو كافر عبدًا مسلما لكافر، والخلاف هنا واضح إلا أنه سبق ذكره في كلام الرافعي قبيل هذه المسألة فامتنعت إرادته منه. نعم تشبيه الرافعي السيد بالوارث مع القاعدة المعروفة وهي أن المسلم لا يرث الكافر يقتضي أن القصاص لا يجب في المسألة المذكورة، فتأمله.
قوله: الثانية: لا قصاص على المسلم بقتله المرتد، ولو قتل مرتد مرتدًا ففي وجوب القصاص عليه وجهان: الصحيح منهما الوجوب. انتهى.
وما ذكره من حكاية الخلاف وجهين قد [خالفه] في "المحرر" فجزم بأنه قولان، ووقع هذا الاختلاف أيضًا بين "الروضة" و"المنهاج"، ولم يجزم في "الشرح الصغير" بشئ؛ فإنه قال: ففي وجوب القصاص عليه قولان أو وجهان. هذا لفظه.
قوله: ولو قتل ذمى مرتدًا ففي وجوب القصاص قولان أو وجهان: أصحهما المنع لأنه مباح الدم. انتهى.
وهذا الخلاف الذى تردد فيه الرافعي هو قولان؛ كذا جزم به في أصل "الروضة".
قوله: ولو قتل مسلم حر من لا يعلم أنه مسلم أو كافر، أو من لا يعلم أنه حر أو عبد فلا قصاص للشبهة قاله في "البحر". انتهى.
وما نقله عن "البحر" وأقره قد تابعه عليه في "الروضة" أيضًا لكنهما قد صححا في اللقيط وجوب القصاص بقتله قبل البلوغ وعللوه بأن الدار دار حرية وإسلام والمقتول في مسألتنا نظيره، وذكر الرافعي بعد ذلك في أوائل الكلام على اختلاف الجاني ومستحق الدم مثله أيضًا فقال: ولو قتل إنسانًا وادعي رقه وأنه ليس عليه إلا القيمة وقال قريبه: بل كان حرًا فالمنصوص -وهو الأظهر- تصديق القريب لأن الغالب والظاهر الحرية، وكذلك يحكم بجزية اللقيط المجهول الحال. هذا كلامه، وذكر مثله في "الروضة" أيضًا.
قوله: وحكى القاضي ابن كج أنه لو حكم حاكم بقتل حر بعبد لم [ينتقض] حكمه، وأنه لو حكم بقتل مسلم بذمي [ينتقض] حكمه. قال:
ويحتمل ألا ينتقض أيضًا وهو الوجه. انتهى كلامه.
والراجح في المسألة الثانية على ما ذكره الرافعي في كتاب الأقضية في جامع آداب القضاء أنه لا ينتقض، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى لغرض آخر يتعلق به.
قوله: ومن بعضه حر وبعضه رقيق إذا قتل مبعضًا نظر إن كان قدر الجزية في القاتل أكثر فلا قصاص وإن استوى القدران أو زادت جزية المقتول فوجهان: أشهرهما عند المتقدمين وجوب القصاص، وأصحهما عند المتأخرين لا قصاص لأنه لا يقتل بجزء الحرية جزء الحرية وبجزء الرق جزء الرق بل يقتل جميعه بجميعه. انتهى ملخصًا.
وذكره مثله في "الشرح الصغير" و"الروضة"، والصحيح عدم القصاص؛ كذا صححه الرافعي في "المحرر" والنووي في "المنهاج".
قوله: الثالثة: لو قتل المكاتب أباه وهو في ملكه ففي القصاص وجهان: أشبههما المنع لأنه مملوكه والسيد لا يقتل بعبده.
والثاني: ويحكى عن إشارة النص أنه يجب لأن أباه إذا دخل في ملكه يكاتب عليه ويثبت له حق الحرية كما ثبت للمكاتب.
ولو قتل عبدًا له غير أبيه فلا قصاص، وقيل: وجهان: انتهى كلامه.
وما ذكره من ترجيح عدم وجوب القصاص في قتل أبيه قد خالفه في "الشرح الصغير" فقال: فيه وجهان: أحدهما المنع لأنه مملوكه والسيد لا يقتل بعبده، وأقواهما: الوجوب؛ لأن أباه. . . . إلى آخر التعليل السابق.
وعبر في "الروضة" بالأصح عوضًا عن الأشبه، ولا ذكر للمسألة في "المحرر" ولا في "المنهاج".
قوله في المسألة من "زوائده": قلت: إذأ أوجبنا القصاص استوفاه
سيد المكاتب لأنهما عبدان للسيد قتل أحدهما الآخر فهو كما لو قتل أجنبي، والله أعلم.
وما ذكره في آخر كلامه من أن الأجنبى إذا قتل عبد المكاتب استوفاه السيد: عجيب؛ فقد ذكر هو في باب الكتابة تبعًا للرافعي بأنه لو جنى بعض عبيد المكاتب على بعض أو جنى عبد غيره على عبده فله أن يقتص بدون إذن سيده على المشهور.
وفي قول: إن لم يأذن للسيد وإلا أخذ الأرش.
ولو جنى عبد المكاتب على المكاتب فله أن يقتص بغير إذن السيد.
ولو جنى -أي: عبد المكاتب- على سيد مولاه [فكما] لو جنى على أجنبي فيباع في الأرش إلا أن يفديه المكاتب. هذا كلامه.
ثم إن الحكم الذى ذكره في أول زياداته وهو أن السيد يستوفيه تفريعًا على ثبوت القصاص مشكل؛ لأن سيد المكاتب لا حق له في المكاتب، وتعليله بقوله لأنهما عبدان للسيد مردود أيضًا لأن عبد المكاتب ملك للمكاتب لا للسيد.
قوله. وحكى -أي: الإمام- خلافًا في أن القصاص لا يجب على الأب أو يجب ثم يسقط لتعذر الاستيفاء قال: وهذا من حشو الكلام، والمانع من الاستيفاء مانع من الوجوب. انتهى كلامه.
وهذا الخلاف قد أسقطه النووي من "الروضة".
قوله: أخوان لأب وأم قتل أحدهما الأب والآخر الأم، فإن لم تكن الزوجية باقية بين الأب والأم فلكل واحد منهما حق القصاص على الآخر.
وهل يقدم بالقرعة أو يقتص من المبتديء بالقتل؟ فيه وجهان. انتهى.
لم يرجح شيئا في "الشرح الصغير" أيضًا، والراجح الثاني فقد أجاب
به القاضي أبو الطيب والبغوي ونقله الإمام عن الأصحاب وقال في "الروضة" من زوائده: إنه أرجح.
قوله في المسألة: وقول الغزالي: وكل واحد من الأخوين يستحق قصاص صاحبه يجوز أن يعلم بالواو لأن ابن كج حكى عن ابن أبي هريرة وابن القطان فيما إذا قتل زيد ابن عمرو وعمرو ابن زيد وكل واحد من الأبوين حي مكافئ أنه يقع القصاص ولا قصاص بينهما، وذلك الوجه لابد أن يجئ فيما نحن فيه. انتهى كلامه.
وهذا الوجه قد صرح بنقله في مسألتنا صحب "البيان" عن ابن اللبان ونقله عنه في "الروضة".
قوله: ولو قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه فلا قصاص في الحال.
فلو قال: أنا رجل فهل يقبل قوله لإيجاب القصاص أو الدية؟
فيه وجهان: أحدهما: نعم كما قبل الجناية؛ لأنه أعرف بحاله.
وأظهرهما -على ما ذكره القفال والإمام- المنع لأنه متهم. انتهي كلامه.
وهذه المسألة مذكورة في هذا الكتاب وفي "الروضة" في مواضع واختلف في الترجيح كلام النووي اختلافًا عجيبًا سبق إيضاحه في نواقض الوضوء فراجعه، وذكرته أيضًا أبسط من ذلك في كتابنا المسمى "بالاستيعاب" المعقود لأحكام الجنايات.
قوله: ويشبه ذلك بما لو ثبت الغضب عليه بشهادة رجل وامرأتين. ثم قال: إن كنت غصبت فامرأتي طالق فأقامت رجلا وامرأتين على أنه غصب لا يقع الطلاق على الأظهر. انتهى كلامه.
وما ذكره هنا من جزمه في الصورة الأولي وإثبات الخلاف في الثانية على العكس مما ذكره هو وغيره في الباب الثاني من أبواب الشهادات فإنهم
جزموا في الثانية بعدم الوقوع، وحكوا في الأولى وجهين وصححوا أنه يقع، وسوف نذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى.
والسبب فيما وقع هنا أن الإمام رحمه الله عكسه فتبعه عليه الرافعي ثم النووي، وقد ذكره -أعني الإمام- في ذلك الموضع كما ذكره غيره.
قوله: وروي أن عمر قتل خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا. انتهى.
الغيلة بغين معجمة مسكورة بعدها ياء ساكنة بنقطتين من تحت هي الحيلة.
والقتل على أنواع:
أحدها: قتل الغيلة: وهو أن يحتال في قتله بأن يذهب به إلى موضع مثلًا فيقتله فيه.
والثاني: قتل الفتك [بفاء](1) مثلثة أي: بضم وبكسر [وفتح](2) وبعدها تاء ساكنة مثناة بنقطتين من فوق ثم كاف، وهو أن يكون آمنا فيراقب حتى يجد منه غفلة فيقتله.
والثالث: قتل الصبر بصاد مهملة مفتوحة بعدها باء موحدة ساكنة، وهو قتل الأسير مجاهرة.
والصبر في اللغة هو الحبس فلما قتل بعد حبسه سمى قتل الصبر.
والرابع: قتل الغدر: وهو القتل بعد الأمان.
والمراد بقوله تمالأ أي: تعاون، وهو مهموز الآخير، قال رضي الله عنه ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله أي: عاونت.
(1) في أ: به.
(2)
سقط من أ، والمثبت من المعاجم اللغوية.
قوله: ولو شارك جراحة لا ضمان فيها كجراحة الحربي فقولان: أصحهما وجوب القصاص ثم قال: ولو جرحه سبع أو لدغته عقرب أو حية وجرحه مع ذلك رجل فطريقان: أشهرهما طرد القولين، والثاني: القطع بأن لا قصاص عليه لأنه لا تكليف عليه فكان شريكه كشريك الخاطئ. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن مقتضى هذا الكلام تصحيح وجوب القصاص في شريك السبع ونحوه، وقد وافق عليه في "الروضة" ثم خالفه في تصحيح التنبيه فصحح أنه لا يجب، ولا ذكر للمسألة في المحرر ولا في مختصره.
الأمر الثاني: أن التعبير بالخاطئ عن المخطئ وقع في مواضع من الرافعي وغيره من كتب الأصحاب، وهو لغة، قال أبو عبيدة: خطئ بكسر الطاء وأخطأ لغتان بمعنى واحد.
قال: وفي المثل مع الخواطئ: سهم صابت. تصرف للذي يكثر خطؤه ويأتي بالصواب أحيانًا.
لكن قال الأموى: المخطئ من أراد الصواب فوقع في غيره، والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي. حكاه الجوهري.
قوله: ولو رمي اثنان سهمين إلى مسلم في صف الكفار وقد علم أحدهما أنه مسلم ولم يعلم الآخر أن هناك مسلما فوجوب القصاص على العالم ينبي على الخلاف في شريك السيد لأن فعل الجاهل مضمون بالكفارة. انتهى كلامه.
وبناؤه هذه المسألة على شريك السيد بناء عجيب لأن شريك السيد شريك عامد مأثوم، وإنما سقط القصاص عن السيد لعدم الكفارة ولكونه ملكه وإسقاط وسقطت الدية لاستحالة إيجابها له في ملكه فصار السقوط
في هذه الحالة إنما هو لمعنى في السيد فشريكه كشريك الأب بخلاف الجاهل فينبغي أن يكون شريكه كشريك المخطئ بل أولى؛ لأن المخطئ تلزمه الدية بخلاف هذا.
واعلم أنه لا قصاص على شريك المخطئ على ما قطع به الجمهور، ويجب على شريك الأب وكذا شريك السيد في أصح القولين.
قوله: فرع: وجوب القصاص على شريك الصبي والمجنون ينبنى على الخلاف في أن عمدهما عمدًا وخطأ؛ إن قلنا: عمد وجب وهو الأصح، وإن قلنا: خطأ فلا؛ كشريك الخاطئ. هكذا أطلق مطلقون.
وعن القفال وغيره أن الخلاف في الصبي الذي يغفل عقل مثله وفي المجنون الذى له نوع تمييز، فأما من لا تمييز له بحال فعمده خطأ وشريكه شريك الخاطيء لا محالة، وهذا ما جرى عليه الأئمة. انتهى ملخصًا.
والمشهور القطع في شريك المخطئ أنه لا قصاص، والمشهور في شريك البهيمة طريقة القولين.
إذا علمت ذلك فالذى ذكره هنا من إلحاق فعل غير المميز بالمخطئ دون البهمية قد تابعه عليه في "الروضة" وهو يقتضي وجوب الضمان في ماله -أعنى مال غير المميز- لكنه قد نقل قبل ذلك قبيل الكلام على ما يباح بالإكراه خلافه، وقد سبق ذكر لفظه هناك فراجعه.
قوله: ولو خلط الإمام جرح الصغير أو المجنون في لحم حي بقصد المداواة وكان ذلك يقتل غالبًا ففي وجوب القصاص عليه قولان كما لو قطع سلعة من صغير أو مجنون فمات منه. انتهى.
والصحيح في السلعة أنه لا ضمان كما قاله في موضعه وهو بعد حد الخمر.