الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني في أن القصاص على الفور
قوله في الروضة: ولو التجأ الجاني إلى المسجد الحرام، قال الإمام: أو غيره من المساجد، أخرج منه وقتل، لأن هذا تأخير يسير وفيه صيانة للمسجد، وفيه وجه ضعيف أنه تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلًا لتوفية الحق وإقامة للهيبة.
قلت: ولو التجأ إلى الكعبة أو إلى بيت ملك لإنسان أخرج قطعًا، والله أعلم.
وما ذكره من نفي الخلاف في الكعبة وإخراجها عن باقي المسجد قد خالفه في "التتمة" فقال: لو التجأ إلى المسجد الحرام أو إلى الكعبة أو إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو غيرها من المساجد أخرج واستوفى القصاص، فلو أراد الاستيفاء فيه لم يجز إن لوث المسجد وإلا بأن فرش فيه الأنطاع كره ذلك. هذا كلام "التتمة".
قوله: الثالثة: لا يؤخر قصاص الطرف لشدة الحر والبرد ولا لعذر المرض وإن كان محظرًا بخلاف قطع السرقة والجلد في حدود الله تعالى لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة. انتهى كلامه.
والتأخير في حدود الله تعالى بالمرض محله إذا كان المرض مرجوًا، فإن لم يرج زواله لم يؤخر له الجلد.
كذا صرح به الرافعي في باب حد الزنا، وكلامه هنا ربما يشعر به.
قوله: والمرأة الحامل لا تقام عليها حدود الله تعالى قبل الوضع. انتهى.
وإذا وضعت فلابد من انقضاء النفاس أيضًا. كذا جزم به ابن الرفعة في "الكفاية".
قوله: وإذا بادر الولي فقتل الحامل أثم، ووجبت غرة إن انفصل الجنين ميتًا. انتهى.
تابعه في "الروضة" على تقييد الوجوب بحالة انفصال الجنين، والصحيح على ما صرح به في باب الغرة أن الانفصال لا يشترط حتى إذا قدت نصفين أو شق جوفها بعد القتل فتحققنا الجنين أوجبنا الغرة.
قوله: فلو بادر مستحق القصاص والحالة هذه -أي بعد الوضع وقبل سقي اللبا أو قبل وجود مرضعة ونحو ذلك- فقتلها فمات الطفل ففي تعليق الشيخ أبي حامد أنه قاتل عمدًا فيلزمه القود إلحاقًا بما إذا حبس رجلًا في بيت ومنعه الطعام والشراب وكذا حكاه القاضي ابن كج عن النص وعن الماسرجسي قال: سمعت ابن أبي هريرة يقول: عليه دية الولد.
فقلت له: أليس لو غصب طعام رجل في البادية أو كسوته فمات جوعًا أو بردًا لا ضمان عليه؟ ، فما الفرق؟ فتوقف، ثم لما عاد إلى الدرس قال: لا ضمان فيهما جميعًا، وهذا مصير إلى نفي القصاص بطريق الأولى. انتهى كلامه.
فيه أمران:
أحدهما: أن سليمًا الرازي قد نقل في "تعليقه" عن الشيخ أبي حامد وجوب الدية والكفارة وعلله بقوله: لأن الجنين يحيا بحياة الأم ويموت بموتها، فإذا قتل الأم فقد صار قاتلًا له، ولأنه كالرجل يحبس غيره بكرة ولا يطعمه ولا يسقيه حتى يموت.
الأمر الثاني: أن ما دلت عليه هذه الحكاية التي نقلها رحمه الله عن
ابن أبي هريرة من استقرار جوابه على عدم الضمان قد نقلها عنه القاضي أبو الطيب في "المجرد"، ثم رأيت في باب القصاص بالسيف من تعليق القاضي المذكور بسنده عكسه ونقله عنه ابن الرفعة في "المطلب" وفي "الكفاية" أيضًا فقال -أعني القاضي-: سمعت أبا علىّ بن أبي هريرة يقول: لا يضمنه لأن أكثر ما فيه أنه حال بينه وبين ما يقوم به فهو بمنزلة ما لو أخذ زاده في البرية فمات من الجوع فإنه لا يضمنه كذلك هاهنا.
قال الماسرجسي: ثم سمعته يقول بعد ذلك: إن عليه القصاص فإنه لو حبس رجلا في بيت ومنعه الطعام والشراب فمات وجب عليه القصاص كذلك هاهنا. انتهى كلامه.
وقد اقتضى كلام الرافعي الجزم بأن منع الزاد من غير حبس لا يقتضي وجوب الضمان، وجزم الماوردي في باب الأطعمة في الكلام على المضطر بوجوب الدية في الحر.
قوله: ولو ادعت المرأة أنها حامل ولم تقم بينة على ظهور [مخائل](1) الحمل فقال الإصطخري: لا يقبل قولها لأن الأصل عدمه، وقال الأكثرون: يقبل لأن [الحمل] له أمارات خفية تختص الحامل بمعرفتها وتتعذر إقامة البينة عليها فقبلنا قولها فيه كالحيض. انتهى.
وما ذكره في آخر كلامه من التعذر في الحيض قد تناقض فيه كلامهما وأوضحته في الشهادات، فراجعه.
قوله في المسألة: وذكر في "الوسيط" أنا إذا قلنا بالوجه الأول فلا يمكن استيفاء القصاص من منكوحة يخالطها زوجها، فإن كان مراده فيما إذا ادعت الحمل فمسلم، وإن كان المراد منع القصاص بمجرد الوطء من غير دعواها الحمل فهو ممنوع لأن الأصل عدمه. انتهى.
(1) أي علامات.
ذكر مثله في "الروضة" فيه أمران:
أحدهما: أن نقله عن الوسيط تفريع ذلك على الوجه الأول سهو، بل صوابه وهو المذكور فيه إنما هو تفريعه على الثاني فهو واضح أيضًا.
الأمر الثاني: أن إنكاره منع القصاص لمجرد دعوى الحمل مردود مخالف لما سبق في الفرائض فإنه قد قال: ومهما ظهرت مخائل الحمل فلابد من التوقف، وإن لم تظهر مخائله وادعته المرأة ووصفت علامات خفية ففيه [تردد] للإمام والظاهر الاعتماد على قولها، وطرد التردد فيما إذا لم تدعه ولكنها قريبة عهد بوطء واحتمال الحمل قريب. هذا كلامه.
واعلم أن الماوردي قال: لا يقبل قول المرأة إلا باليمين، وادعى ابن الرفعة أنه لا خلاف فيه وهو كلام غير محرر، بل إن قلنا بامتناع القول بمجرد الوطء من غير دعوى الحمل فلا يمين أصلًا، وإن قلنا لابد من دعوى الحمل فادعته فيتجه ألا يتوقف على اليمين، لأن الحق هنا للغير وهو الجنين، ولا شك أن المرأة يجب عليها الإخبار بالحمل، فإن سكتت عنه فمات وجب الضمان على عاقلتها في وجه غريب حكاه ابن داود في "شرح المختصر"، والمتجه أن الزوج لا يمنع من وطء المرأة وإن كان يؤدى إلى منع القصاص على ما سبق.
قوله في "الروضة": فرع: إذا قتلت الحامل على خلاف ما أمرناه نظر: إن بادر إليه الولي مستقلًا أثم ووجبت غرة الجنين إن انفصل ميتًا وتكون على عاقلة الولي، وإن انفصل حيًا متألمًا فمات وجبت الدية.
وإن أذن له الإمام في قتلها نظر إن كانا عالمين أو جاهلين فالصحيح المنصوص أن الضمان على الإمام لأن البحث عليه وهو الآمر به، وقيل: على الولي لأنه المباشر، وقيل: عليهما بالسوية. انتهى كلامه.
وقد ذكر الرافعي طريقة قاطعة نقلها عن الشيخ أبي حامد أن الضمان
يجب على الإمام عند جهلهما، وأسقط النووي هذه الطريقة من "الروضة".
قوله: وإن كان الإمام عالمًا والولى جاهلًا فإن أوجبنا على الإمام إذا علما فهاهنا أولى وإلا فوجهان، وإن كان بالعكس فالمشهور وجوبه على الولى، وقيل: على الإمام.
ثم قال -أعني الرافعي- بعد ذكره للأقسام الأربعة ما نصه: ويخرج مما سقناه أربعة أوجه: وجوب الضمان على الإمام مطلقًا، ووجوبه على الولى مطلقًا، والشركة مطلقًا، ووجوبه على الإمام إذا كانا عالمين أو جاهلين وعلى الولى إذا اختص بالجهل. انتهى كلامه.
وما ذكره من حكاية وجه بالاشتراك مطلقًا فسهو سلمت منه "الروضة" فإنه لم يتقدم له ذكر في القسم الأخير وهو ما إذا كان الإمام جاهلًا والولى عالمًا بل ذكر أن المشهور أنه على الولى، وقيل على الإمام، ولا يأتي أيضًا في العكس وهو ما إذا كان الإمام وحده عالمًا فإنه قال: إن قلنا: يجب الضمان على الإمام فيما لو كانا عالمين فهاهنا أولى وإلا فوجهان من الخلاف فيمن عليه قرار الضمان في تقديم الطعام. ومقتضى هذا أنا جعلناه على المباشر اختص به أولى أو على المقدم اختص به الإمام فلا شركة؛ فتلخص أن وجه الشركة مطلقًا إنما يأتي مع علمهما وجهلهما.
قوله في "الروضة": وحيث ضمنا الولى فالغرة على عاقلته والكفارة في ماله، وحيث ضمنا الإمام فإن كان عالمًا ففي ماله وإن كان جاهلًا فعلى القولين في أن ما يجب بخطأ الإمام في الاجتهاد هل هو على عاقلته أم في بيت المال؟ أظهرهما على العاقلة.
وإذا قلنا: الدية والغرة في بيت المال، ففي الكفارة وجهان: انتهى كلامه.
وما ذكره في حال علم الإمام صريح في أن الغرة في مال نفسه لا على عاقلته ولا على بيت المال ويدل عليه حكاية القولين في القسم الأخير وهو ما إذا كان جاهلًا أن الغرة والدية هل تجبان في بيت المال أو على عاقلته، وهذا الذي ذكره غلط على العكس مما ذكره الرافعي؛ فإن المجزوم به في الرافعي أنها على عاقلته فإنه قال ما نصه: التفريع حيث أوجبنا الضمان على الولى فالغرة على عاقلته والكفارة في ماله، وحيثما أوجبناه على الإمام فإن كان عالمًا فكذلك وإن كان جاهلًا فعلى القولين.
هذه عبارة الرافعي وعلله في أول المسألة بأن الجنين لا يباشر بالجناية ولا يتيقن جناية فإهلاكه خطأ أو شبه عمد، ثم إن النووي قد صرح بالوجوب على عاقلة الجاني مع العلم كما سبق من لفظه فما الذي تخيله في الفرق بينهما؟ وحكى الرافعي في باب ضمان إتلاف الإمام طريقة ضعيفة أنه يأتي مع العلم القولان المذكوران مع الجهل.
قوله: ونقل أبو الفرج السرخسي وجهين في أنه هل يعتبر علم الولى مع الإمام والجلاد وقال: أصحهما أنه يعتبر حتى إذا كان عالمًا وهما عالمان بكون الضمان عليهما أثلاثًا. انتهى.
والأصح على ما صححه النووي في أصل "الروضة" ما رجحه السرخسي إلا أن إطلاق هذا التصحيح غير مستقيم لأن الأصح فيما إذا كانا عالمين أو جاهلين أن الضمان على الإمام خاصة فكيف يستقيم مع ذلك ما صححه هنا؟ فالصواب تفريع هذه المسألة على القول بالوجوب عليهما إذا كانا عالمين.
قوله: هذا كلامنا في ضمان الجنين وأما الأم فلا يجب ضمانها لأنها تلفت في حد أو عقوبة وجب عليها. قال في "التهذيب": هذا إذا ماتت
من ألم الولادة تجب ديتها، وإن بانت منهما تجب نصف ديتها. انتهى كلامه.
وهذا الذى ذكره في "التهذيب" لابد منه، وقد أعاد الرافعي المسألة بعد كتاب الحدود في باب ضمان الولادة ثم نقل هذا الاستثناء عن الشيخ أبي حامد وغيره.