المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ولاية المستنصر بالله على مصر - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ٥

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 427]

- ‌ذكر ولاية المستنصر بالله على مصر

- ‌ذكر سبب قتل ابن حمدان المذكور

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 428]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 429]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 430]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 431]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 432]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 433]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 434]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 435]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 436]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 437]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 438]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 439]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 440]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 441]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 442]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 443]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 444]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 445]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 446]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 447]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 448]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 449]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 450]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 451]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 452]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 453]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 454]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 455]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 456]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 457]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 458]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 459]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 460]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 461]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 462]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 463]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 464]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 465]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 466]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 467]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 468]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 469]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 470]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 471]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 472]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 473]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 474]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 475]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 476]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 477]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 478]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 479]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 480]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 481]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 482]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 483]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 484]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 485]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 486]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 487]

- ‌ذكر ولاية المستعلى بالله على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 488]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 489]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 490]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 491]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 492]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 493]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 494]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 495]

- ‌ذكر ولاية الآمر بأحكام الله على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 496]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 497]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 498]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 499]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 500]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 501]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 502]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 503]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 504]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 505]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 506]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 507]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 508]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 509]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 510]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 511]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 512]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 513]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 514]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 515]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 516]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 517]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 518]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 519]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 520]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 521]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 522]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 523]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 524]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 525]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 526]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 527]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 528]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 529]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 530]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 531]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 522]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 523]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 534]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 535]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 536]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 537]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 538]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 539]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 540]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 541]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 542]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 543]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 544]

- ‌ذكر ولاية الظافر على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 545]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 546]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 547]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 548]

- ‌ذكر ولاية الفائز بنصر الله على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 549]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 550]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 551]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 552]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 553]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 554]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 555]

- ‌ذكر ولاية العاضد بالله على مصر

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 556]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 557]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 558]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 559]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 560]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 561]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 562]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 563]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 564]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 565]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 566]

- ‌ذكر ولاية أسد الدين شيركوه على مصر

الفصل: ‌ذكر ولاية المستنصر بالله على مصر

‌الجزء الخامس

[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 427]

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته والمسلمين

الجزء الخامس من كتاب النجوم الزاهرة

‌ذكر ولاية المستنصر بالله على مصر

هو أبو تميم معدّ الملقّب بالمستنصر بالله بن الظاهر لإعزاز دين الله علىّ بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعزّ لدين الله معدّ أوّل خلفاء الفاطميّين بمصر ابن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بالله محمد بن المهدىّ عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل، المصرىّ المولد والمنشأ والدار والوفاة؛ وهو الخامس من خلفاء مصر من بنى عبيد، والثامن من المهدىّ عبيد الله. ولى الخلافة بعد موت أبيه الظاهر لإعزاز دين الله فى يوم الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وكان عمره يوم ولى الخلافة سبع سنين وسبعة وعشرين يوما، وخيّن وهو ابن ستّ سنين.

قال الذهبىّ رحمه الله: «هو معدّ أبو تميم الملقّب بأمير المؤمنين المستنصر بالله ابن الظاهر بن الحاكم بأمر الله- وساق بقية نسبه بنحو ما سقناه إلى أن قال-:

بقي فى الخلافة ستّين سنة وأربعة أشهر؛ وهو الذي خطب له بإمرة المؤمنين

ص: 1

على منابر العراق فى نوبة الأمير أبى «1» الحارث أرسلان المعروف بالبساسيرىّ فى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. ولا أعلم أحدا فى الإسلام، لا خليفة ولا سلطانا، طالت مدّته مثل المستنصر هذا. وولى وهو ابن سبع سنين. ولمّا كان فى سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قطع الخطبة له من المغرب الأمير المعزّ بن باديس- وقيل:

بل قطعها فى سنة خمس وثلاثين- وخطب لبنى العبّاس وخرج عن طاعة بنى عبيد الباطنيّة. وحدث فى أيّام المستنصر بمصر الغلاء الذي ما عهد بمثله منذ زمان يوسف عليه السلام، ودام سبع سنين حتّى أكل الناس بعضهم بعضا، حتّى قيل: إنّه بيع رغيف واحد بخمسين دينارا- فإنّا لله وإنّا اليه راجعون- وحتّى إنّ المستنصر هذا بقى يركب وحده، وخواصّه ليس لهم دوابّ يركبونها؛ وإذا مشوا سقطوا من الجوع؛ وآل الأمر إلى أن استعار المستنصر بغلة يركبها من صاحب «2» ديوان الإنشاء.

وآخر شىء نزحت أمّ المستنصر وبناته إلى بغداد خوفا من أن يمتن جوعا. وكان ذلك فى سنة «3» ستّين وأربعمائة. ولم يزل هذا الغلاء حتّى تحرّك الأمير بدر الجمالىّ والد الأفضل أمير الجيوش من عكّا وركب فى البحر وجاء إلى مصر وتولّى تدبير الأمور

ص: 2

وشرع فى إصلاح الأمر «1» . وتوفّى المستنصر فى ذى الحجّة. وفى دولته كان الرّفض والسبّ فاشيا مجهرا، والسنّة والإسلام غريبا! فسبحان الحليم الخبير الذي يفعل فى ملكه ما يريد. وقام بعده ابنه المستعلى أحمد، أقامه أمير الجيوش الأفضل.

واستقامت الأحوال؛ فخرج أخوه نزار من مصر خفية، فسار إلى ناصر الدولة أمير الإسكندرية، فأعانه ودعا إليه، فتمّت بين أمير الجيوش وبينهم حروب وأمور إلى أن ظفر بهم» . انتهى كلام الذهبىّ فى أمر المستنصر.

ونشرع الآن فى ذكر المستنصر وأمر الغلاء بأوسع ممّا ذكره الذهبىّ من أقوال جماعة من المؤرّخين وغيرهم.

قال العلّامة أبو المظفّر فى تاريخه: «ولم يل أحد من الخلفاء الأمويّين ولا العباسيّين ولا المصريّين مثل هذه المدّة (يعنى مدّة إقامة المستنصر فى الخلافة ستّين سنة) قال: وعاش المستنصر سبعا وستّين سنة وخمسة أشهر فى الهزاهز «2» والشدائد والوباء والغلاء والجلاء والفتن. وكان القحط فى أيّامه سبع سنين مثل سنى يوسف الصدّيق صلوات الله وسلامه عليه، من سنة سبع «3» وخمسين إلى سنة أربع وستّين وأربعمائة. أقامت البلاد سبع سنين يطلع النيل فيها وينزل، ولا يوجد من يزرع لموت النّاس واختلاف الولاة والرعيّة، فاستولى الخراب على كلّ البلاد، ومات أهلها، وانقطعت السّبل برّا وبحرّا. وكان معظم الغلاء سنة اثنتين وستّين.

ص: 3

وقال أبو يعلى «1» بن القلانسىّ: «فى أيّامه (يعنى المستنصر) ثارت الفتن فى «2» بنى حمدان وأكابر القوّاد، وغلت الأسعار، واضطربت الأحوال، واختلّت «3» الأعمال، وحصر فى قصره وطمع فيه. ولم يزل على ذلك حتّى استدعى أمير الجيوش بدرا الجمالىّ من عكّا إلى مصر فاستولى على التدبير، وقتل جماعة ممّن يطلب الفساد، فتمهّدت الأمور؛ ولم يبق للمستنصر أمر ولا نهى إلّا الركوب فى العيدين. ولم يزل كذلك حتّى مات بدر الجمالىّ وقام بعده ولده الأفضل. ولمّا مات المستنصر وقام المستعلي مقامه وتقرّرت الأمور، خرج عبد الله ونزار ابنا المستنصر من مصر خفية، وقصد نزار الإسكندريّة إلى ناصر «4» الدولة واليها، وجرت بينه وبين الأفضل حروب بسبب ذلك إلى أن ثبت أمر المستعلى» . انتهى كلام أبى يعلى باختصار.

قلت: وأمّا ما ذكره الذهبىّ- رحمه الله من الخطبة للمستنصر «5» على منابر بغداد وبالعراق كلّه، وخلع القائم بأمر الله العبّاسىّ من الدعوة، فكان من قصّته أنّ السلطان

ص: 4

طغرلبك «1» اشتغل بحصار تلك النّواحى ونازل الموصل، ثمّ توجّه إلى نصيبين لفتح الجزيرة وتمهيدها. وأرسل الأمير أبو الحارث أرسلان المعروف بالبساسيرىّ إلى إبراهيم ينّال أخى السلطان طغرلبك لينجده؛ فأخذ البساسيرىّ يعده ويمنّيه ويطمعه فى الملك حتّى أصغى إليه وخالف أخاه طغرلبك. وساق إبراهيم ينّال فى طائفة من العسكر إلى الرّىّ.

وبلغ السلطان طغرلبك خبر عصيان إبراهيم فانزعج، وسار وراءه وترك بعض عسكره فى ديار بكر مع زوجته الخاتون ووزيره عميد الملك «2» الكندرىّ، فتفرّقت العساكر.

وعادت زوجته الخاتون بالعسكر الذي صحبها إلى بغداد. وأمّا زوجها السلطان طغرلبك فإنّه التقى هو وأخوه إبراهيم ينّال وتقاتلا، فظفر عليه أخوه إبراهيم ينّال وانهزم السلطان طغرلبك إلى همذان؛ فساق أخوه إبراهيم خلفه وحاصره بها. فعزمت الخاتون على إنجاد زوجها. واختبطت بغداد وعظم البلاء بها، وقامت الفتنة على ساق. وتمّ للأمير أبى الحارث أرسلان البساسيرىّ ما دبّره من المكر. وأرجف النّاس ببغداد بمجيء البساسيرىّ. ونفر الوزير عميد الملك وزير طغرلبك والأمير أنوشروان إلى الجانب الغربىّ من بغداد وقطعا الجسر. ونهبت الغزّ دار خاتون. وأكل القوىّ الضعيف. ووقع ببغداد وأعمالها أمور هائلة شنعة. ثمّ دخل الأمير

ص: 5

أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ بغداد فى ثامن ذى القعدة بالرّايات المستنصريّة وعليها ألقاب المستنصر هذا صاحب مصر؛ فمال إلى البساسيرىّ أهل باب الكرخ وفرحوا به لكونهم «1» رافضة، والبساسيرىّ وخلفاء مصر أيضا رافضة؛ فانضمّوا إلى البساسيرىّ وتشفّوا من أهل السّنّة، وشمخت أنوف المنافقين الرافضة، وأعلنوا بالأذان ب «حىّ على خير العمل» ببغداد. واجتمع خلق من أهل السنّة على الخليفة القائم بأمر الله العباسىّ وقاتلوا معه، وفشت الحرب بين الفريقين فى السفن أربعة أيام. وخطب يوم الجمعة ثالث عشر ذى القعدة ببغداد للمستنصر هذا صاحب الترجمة بجامع المنصور وأذّنوا «2» ب «حىّ على خير العمل» . وعقد الجسر وعبرت عساكر البساسيرىّ إلى الجانب الشرقىّ؛ فحندق الخليفة القائم بأمر الله على نفسه حول داره وحول نهر المعلّى «3» ، فأحرقت الغوغاء نهر المعلّى ونهبت ما فيه، وقوى البساسيرىّ وتفلّل عن الخليفة القائم أكثر النّاس. فاستجار القائم بقريش «4» بن بدران أمير العرب، وكان مع البساسيرىّ، فأجاره ومن معه وأخرجه إلى مخيّمه. وقبض البساسيرىّ على وزير القائم بأمر الله رئيس الرؤساء «5» أبى القاسم بن المسلمة، وقيّده

ص: 6

وشهّره على جمل وعليه طرطور وعباءة، وجعل فى رقبته «1» قلائد كالمسخرة وطيف به بالشوارع، وخلفه من يصفعه، ثم سلخ له ثور وألبس جلده وخيط عليه، وجعلت قرون الثور فى رأسه، ثمّ علّق على خشبة، وعمل فى فيه «2» كلّو بان، فلم يزل يضطرب حتّى مات رحمه الله. ونصب للقائم الخليفة خيمة صغيرة بالجانب الشرقىّ «3» فى المعسكر، ونهبت العامّة دار الخلافة، فأخذوا منها ما لا يحصى ولا يوصف كثرة. فلمّا كان يوم الجمعة رابع ذى الحجة لم تصلّ الجمعة بجامع الخليفة، وخطب بسائر الجوامع للمستنصر المذكور، وقطعت الخطبة العباسيّة بالعراق. وهذا شىء لم يفرح به أحد من آباء المستنصر.

ثم حمل القائم بأمر الله إلى حديثة «4» عانة فجلس بها، وسلّم إلى صاحبها مهارش «5» .

وذلك أن البساسيرىّ وقريشا اختلفا فى أمر القائم بأمر الله، ثمّ وقع اتفاقهما بعد أمور على أن يكون عند مهارش إلى أن يتّفقا على ما يتّفقان عليه فى أمره. ثمّ جمع أبو الحارث أرسلان البساسيرىّ القضاة والأشراف ببغداد، وأخذ عليهم البيعة للمستنصر العبيدىّ صاحب الترجمة فبايعوا قهرا على رغم الأنف.

وقال الشيخ عزّ الدّين ابن الأثير فى تاريخه: «إنّ إبراهيم ينّال كان أخوه السلطان طغرلبك قد ولّاه الموصل عام أوّل، وإنّه فى سنة خمسين فارق [الموصل] «6» ورحل نحو

ص: 7

بلاد الجبل، فنسب السلطان رحيله إلى العصيان، فبعث وراءه رسولا معه الفرجيّة التى خلعها عليه الخليفة. ولمّا فارق الموصل قصدها البساسيرىّ وقريش بن بدران وحاصراها، وأخذا البلد ليومه، وبقيت القلعة، فحاصراها أربعة أشهر حتّى أكل أهلها دوابّهم ثمّ سلّموها بالأمان، فهدمها البساسيرىّ وعفّى أثرها. وسار طغرلبك بجريدة «1» فى ألفين إلى الموصل، فوجد البساسيرىّ وقريشا فارقاها فساق وراءهم، ففارقه أخوه وطلب همذان فوصلها فى رمضان. قال: وقد قيل إنّ المصريّين كاتبوه، وإن البساسيرىّ استماله وأطمعه فى السلطنة، فسار طغرلبك فى أثره (يعنى أثر أخيه إبراهيم ينّال) .

قال: وأمّا البساسيرىّ فوصل إلى بغداد فى ثامن ذى القعدة ومعه أربعمائة فارس على غاية الضّر والفقر، فنزل بمشرعة الروايا، ونزل قريش فى مائتى فارس عند مشرعة باب البصرة، ومالت العامّة للبساسيرىّ: أما الشّيعة فللمذهب، وأمّا أهل السنة فلما فعل بهم الأتراك. وكان رئيس الرؤساء لقلّة معرفته بالحرب ولما عنده من ضعف البساسيرىّ يرى المبادرة إلى الحرب؛ فاتّفق أنه فى بعض الأيام التى تحاربوا فيها حضر القاضى الهمذانىّ عند رئيس الرؤساء، ثمّ استأذن فى الحرب ونمن له قتل البساسيرىّ، فأذن له من غير أن يعلم عميد العراق، وكان رأى عميد العراق المطاولة رجاء أن ينجدهم طغرلبك، فخرج الهمذانىّ بالهاشميّين والخدم والعوامّ إلى الحلبة وأبعدوا؛ والبساسيرىّ يستجرّهم. فلمّا أبعدوا حمل عليهم فانهزموا، وقتل جماعة وهلك آخرون فى الزّحمة بباب «2» الأزج. وكان رئيس الرؤساء واقفا دون الباب

ص: 8

فدخل داره وهرب كلّ من فى الحريم؛ ولطم عميد العراق على وجهه كيف استبدّ رئيس الرؤساء بالأمر ولا معرفة له بالحرب. فاستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرعهم إلا الزّعقات؛ وقد نهب الحريم ودخلوا من باب النّوبى، فركب الخليفة لابسا للسّواد وعلى كتفه البردة وعلى رأسه اللّواء وبيده السيف وحوله زمرة من العباسيّين والخدم بالسيوف المسلّلة، فرأى النّهب إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه نحو عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش، فعاد وصعد إلى المنظرة. وصاح رئيس الرؤساء: علم الدّين (يعنى قريشا) أمير المؤمنين يستدنيك، فدنا منه؛ فقال: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذمّ منك على نفسه وأصحابه بذمام الله وذمام رسوله وذمام العربيّة؛ فقال: قد أذمّ الله تعالى له؛ قال: ولى ولمن معه؟ قال نعم؛ وخلع قلنسوته وأعطاها الخليفة، وأعطى رئيس الرؤساء بحضرته ذماما. فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء وسارا معه. فأرسل إليه البساسيرىّ يقول: أتخالف ما استقرّ بيننا؟ - وكانا قد تحالفا ألّا ينفرد أحدهما عن الآخر بشىء، ويكون العراق بينهما نصفين- فقال قريش: ما عدلت عمّا استقرّ بيننا، عدوّك ابن المسلمة (يعنى رئيس الرؤساء) فخذه، وأنا آخذ الخليفة، فرضى البساسيرىّ بذلك. فبعث رئيس الرؤساء إليه مع منصور «1» بن مزيد، فحين رآه البساسيرىّ قال مرحبا بمدمّر الدولة، ومهلك الأمم، ومخرّب البلاد، ومبيد العباد. فقال له: أيّها الأجلّ، العفو عند المقدرة. فقال:

قد قدرت فما عفوت، وأنت تاجر صاحب طيلسان، ولم تبق على الحريم والأموال

ص: 9

والأطفال، فكيف أعفو عنك وأنا صاحب سيف وقد أخذت أموالى وعاقبت أصحابى ودرست دورى وسببتنى وأبعدتنى!. واجتمع العوامّ على ابن المسلمة (يعنى رئيس الرؤساء) وسبّوه ولعنوه وهمّوا به. فأخذه البساسيرىّ بيده وسيّره إلى جانبه خوفا عليه من العامّة. وحصل فى يد البساسيرىّ جميع من كان يطلبه مثل ابن المردرسىّ «1» ، وأبى عبد الله «2» الدّامغانىّ قاضى القضاة، وهبة الله بن المأمون، وأبى علىّ بن الشّيروانىّ، وأبى عبد الله بن عبد الملك؛ وكان من التّجار الكبار وبينه وبين البساسيرىّ عداوة، وكان قد سكن فى دار الخلافة خوفا منه على ماله ونعمته. وظفر بالسيدة خاتون بنت الأمير داود زوجة الخليفة، فأحسن معاملتها ولم يتعرّض لها.

وأمّا قريش فحصل فى يده الخليفة وعميد العراق وأبو منصور [بن «3» ] يوسف وولده؛ فحمل الحليفة إلى معسكره راكبا وعلى كنفه البردة وبيده سيف مسلول وعلى رأسه اللّواء. ولحق الخليفة ذرب عظيم قام منه فى اليوم مرارا، وامتنع من الطّعام والشراب؛ فسأله قريش وألحّ عليه حتّى أكل وشرب، وحمله فى هودج وسار به إلى حديثة عانة فنزل بها. وسار حاشية الخليفة على حامية إلى السلطان طغرلبك مستنفرين له.

ولمّا وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد، فبعث يطلب من متولّيها ما يلبس، فأرسل إليه جبّة ولحافا. وركب البساسيرىّ يوم الأضحى وعلى رأسه الألوية المصريّة وعبر إلى المصلّى بالجانب الشرقىّ، وأحسن إلى الناس، وأجرى الجرايات على الفقهاء، ولم يتعصّب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة دارا وراتبا، وكانت قد قاربت التسعين

ص: 10

سنة. ثمّ فى آخر ذى الحجّة أخرج رئيس الرؤساء مقيّدا وعلى رأسه طرطور، وفى رقبته مخنقة جلود، وهو يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ

الآية.

فبصق أهل الكرخ فى وجهه، لأنّه كان متعصّبا لأهل السّنّة، رحمه الله، ثمّ صلب على صورة ما ذكرناه أوّلا.

وأمّا عميد العراق فقتله البساسيرى أيضا، وكان شجاعا شهما، وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ. ثمّ بعث البساسيرىّ البشائر إلى مصر، وكان وزير المستنصر هناك «1» أبا الفرج «2» بن أخى أبى القاسم المغربىّ، وكان أبو الفرج ممّن هرب من البساسيرىّ، فذمّ للمستنصر فعله وخوّفه من سوء عاقبته؛ فتركت أجوبته مدّة، ثمّ عادت على البساسيرىّ بغير الذي أمّله، فسار البساسيرىّ إلى البصرة وواسط وخطب بهما أيضا للمستنصر. وأمّا طغرلبك فإنّه انتصر فى الآخر على أخيه إبراهيم ينّال وقتله، وكرّ راجعا إلى العراق، ليس له همّ إلّا إعادة الخليفة إلى رتبته.

وفى الجملة أنّ الذي حصل للمستنصر فى هذه الواقعة من الخطبة باسمه فى العراق وبغداد لم يحصل ذلك لأحد من آبائه وأجداده. ولولا تخوّف المستنصر من البساسيرىّ وترك تحريضه على ما هو بصدده وإلا «3» كانت دعوته تتمّ بالعراق زمانا طويلا، فإنّه كان أوّلا أمدّ البساسيرىّ بجمل مستكثرة. فلو دام المستنصر على ذلك لكان البساسيرىّ يفتتح له عدّة بلاد. قال الحسن بن محمد العلوىّ «4» : «إنّ الذي وصل إلى البساسيرىّ من المستنصر من المال خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ما قيمته

ص: 11

مثل ذلك، وخمسمائة فرس، وعشرة آلاف قوس، ومن السيوف ألوف، ومن الرماح والنّشّاب «1» شىء كثير» . يعنى قبل هذه الواقعة؛ ولهذا قلنا: لو دام المستنصر على عطائه للبساسيرىّ لكان افتتح له عدّة بلاد. قلت: ولله الحمد على ما فعله المستنصر من التقصير فى حقّ البساسيرىّ، وإلّا فكانت السّنّة تذهب بالعراق، وتملكها الرافضة بأجمعها كما كان وقع بمصر فى أيّام دولة الفاطميّين (أعنى صاحب الترجمة وآباءه) .

ولمّا خطب البساسيرىّ فى بغداد باسم المستنصر معدّ هذا غنّته مغنّية «2» بقولها:

[الرمل]

يا بنى العبّاس صدّوا «3»

ملك الأمر معدّ

ملككم كان «4» معارا

والعوارى تستردّ

فطرب المستنصر لذلك ووهبها أرضا بمصر رزقة لها جائزة لإنشادها هذا الشعر، وتلك الأرض الآن تعرف بأرض «5» الطّبّالة بالقرب من بركة الرّطلىّ لكونها غنّته بهذه الأبيات وهى تطبّل بدفّ كان فى يدها، فعرفت بأرض الطّبّالة، وحكرت الأرض

ص: 12

المذكورة وبنيت. وكان ما وقع للمستنصر هذا تمام سعده. ومن حينئذ أخذ أمره فى إدبار من وقوع الغلاء والوباء بالديار المصريّة. وقاسى النّاس شدائد، واختلّ أمر مصر- على ما سنذكره إن شاء الله تعالى فى وقته من هذه الترجمة- من استيلاء ناصر الدولة بن حمدان على ممالك الديار المصريّة، وزاد ابن حمدان فى عطاء الجند حتّى نفدت الخزائن، وقلّت الارتفاعات. واتّفق ابن حمدان مع الشريف أبى طاهر حيدرة بن الحسن الحسينىّ، وكان قد نفاه بدر الجمالىّ من دمشق، وكان محبّبا للناس، وتلقّبه العامّة بأمير المؤمنين، وكان لمّا نفاه بدر الجمالى من دمشق دخل إلى مصر شاكيا إلى ابن حمدان من بدر الجمالىّ- فاتّفق ابن حمدان والشريف وحازم «1» وحميد ابنا بحرّاح وهما من أمراء عرب الشام، وكان لهما فى حبس المستنصر نيّف وعشرون سنة، فأخرجهما ابن حمدان واتّفقوا على الفتك ببدر الجمالىّ، فأعطاهم ابن حمدان أربعين ألف دينار ينفقونها فى هذا الوجه. وتحدّث ابن حمدان بأن يرتّب الشريف إذا عاد مكان المستنصر فى الخلافة لنسبه الصحيح. وانقسم عسكر مصر قسمين:

قسما مع ابن حمدان، وقسما عليه؛ وزادت مطالبة ابن حمدان بالأموال «2» حتى استوعبها وأخرج جميع ما فى القصر من ثياب وأثاث وباعها بالثمن البخس. وحالف الأتراك سرّا على المستنصر. وعلم المستنصر بما فعله مضافا لما سمع عنه من أمر الشّريف، فقلق وأرسل لابن حمدان يقول: بأنّك قدمت علينا زائرا وجئتنا ضيفا؛ فقا بلناك بالإحسان وأكرمناك، فقابلتنا بما لا نستحقّه منك؛ ونحن عليك صابرون، وعنك مغضون. وقد انتهت بك الحال إلى محالفة العسكر علينا والسعى فى إتلافنا، وما ذاك مما يهمّك؛ ونحبّ أن تنصرف عنّا موفورا فى نفسك ومالك، وإلّا قابلناك على قبيح

ص: 13

أفعالك. فأغلظ ابن حمدان فى الجواب واستهزأ بالرسول. فبعث المستنصر إلى «1» إلدكز الملقّب بأسد الدولة، وكان شيخ الأتراك والمقدّم عليهم، وكان من المخالفين على ابن حمدان؛ فاستحضره واستحلفه وتوثّق منه ومن جماعة ممّن جرى مجراه، وجمع الأتراك الذين معه والمغاربة وكتامة إلى باب القصر. وعرف ابن حمدان بذلك فبرز بخيمة إلى بركة الحبش «2» ، وأخرج المستنصر خيمته الحمراء، وتسمّى خيمة الدّم، فضربها بين القصرين من القاهرة. واجتمع الناس على المستنصر، وركب وسار إلى حرب ابن حمدان. والتقوا بمكان يعرف بالباب الجديد «3» ، فورد أكثر من كان مع ابن حمدان بالأمان إلى المستنصر. وكان فى جملة من ورد الأمير أبو علىّ ابن الملك أبى طاهر ابن بويه، ثمّ قتل المذكور بعد ذلك بمدّة. ووقع القتال فانكسر ابن حمدان وهرب

ص: 14

بنفسه إلى الإسكندريّة، ونهبت دوره وأمواله ودور أصحابه. ومضى ابن حمدان إلى حىّ من العرب وتزوّج منهم وقوى بهم، فصار يشنّ الغارات على أعمال مصر؛ ويبعث إليه المستنصر فى كلّ وقت جيشا فيهزمه ابن حمدان. ولا زال على ذلك حتّى جمع ابن حمدان جمعا كبيرا ونزل الصالحيّة «1» ؛ فخرج إليه من كان يهواه من المشارقة، وامتدّت عسكره نحو عشرة فراسخ وحاصر مصر؛ فضعف المستنصر عن مقاومته وانحصر بالقاهرة. وطال الحصار وغلت الأسعار حتّى بلغت الرّاوية الماء ثلاثة عشر قيراطا، وكلّ ثلاثة عشر رطلا من الخبز دينارا، وعدمت الأقوات، فضجّ العوامّ، فخاف المستنصر أن يسلّموه إليه، فراسله وصالحه. واقترح عليه ابن حمدان إبعاد الدكز ومن يعاديه من المشارقة، وأن ينفرد ابن حمدان بالبلاد «2» وتدبير الأمور والعساكر، فرضى المستنصر بذلك كلّه؛ ورفع الحصار عن مصر، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه.

فهرب غالب من كان مع المستنصر إلى الشام، ووفدوا على صاحبها بدر الجمالىّ. وكان بدر الجمالىّ يكره ابن حمدان والشريف المذكور. ثمّ ظفر الجمالىّ بالشريف المذكور وقتله خنقا. على ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى. وصار المستنصر فى قصره كالمحجور عليه ولا حكم له.

هذا والغلاء بمصر يتزايد، حتّى إنّه جلا من مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحدّ، والجوع الذي لم يعهد مثله فى الدنيا، فإنّه مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضا. وظهروا على بعض الطبّاخين أنّه ذبح عدّة من الصّبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها. وأكلت الدوابّ بأسرها، فلم يبق

ص: 15

لصاحب مصر- أعنى المستنصر- سوىّ ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابّة. وبيع الكلب بخمسة دنانير، والسّنّور بثلاثة دنانير.

ونزل الوزير أبو المكارم «1» وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته وليس معه إلّا غلام واحد، فجاء ثلاثة وأخذوا البغلة منه، ولم يقدر الغلام على منعهم لضعفه من الجوع فذبحوها وأكلوها، فأخذوا وصلبوا، فأصبح الناس فلم يروا إلّا عظامهم، أكل الناس فى تلك الليلة لحومهم. ودخل رجل الحمّام فقال له الحمّامىّ: من تريد أن يخدمك سعد الدولة أو عزّ الدولة أو فخر الدولة؟ فقال له الرجل: أتهزأ بي! فقال: لا والله، انظر إليهم، فنظر فإذا أعيان الدّولة ورؤساؤها صاروا يخدمون الناس فى الحمّام لكونهم باعوا جميع موجودهم فى الغلاء واحتاجوا إلى الخدمة.

وأعظم من هذا أنّ المستنصر الخليفة صاحب الترجمة باع جميع موجوده وجميع ما كان فى قصره حتّى أخرج ثيابا كانت فى القصر من زمن الطائع الخليفة العباسىّ، لمّا نهب بهاء الدولة دار الخليفة فى إحدى وثمانين وثلثمائة، وأشياء أخر أخذت فى نوبة البساسيرىّ، وكانت هذه الثياب التى لخلفاء بنى العباس عند خلفاء مصر يحتفظون بها لبغضهم لبنى العبّاس، فكانت هذه الثياب عندهم بمصر بسبب المعيرة لبنى العبّاس. فلمّا ضاق الأمر على المستنصر أخرجها وباعها بأبخس «2» ثمن لشدّة الحاجة. وأخرج المستنصر أيضا طستا وإبريقا بلّورا يسع الإبريق رطلين ماء، والطّست أربعة أرطال، وأظنّه بالبغدادىّ، فبيعا باثنى عشر درهما فلوسا، ثمّ باع المستنصر من هذا البلور ثمانين ألف قطعة. وأمّا ما باع من الجواهر واليواقيت والخسروانىّ «3» فشىء لا يحصى. وأحصى من الثياب التى أبيعت فى هذا الغلاء من

ص: 16

قصر الخليفة ثمانون ألف ثوب، وعشرون ألف درع، وعشرون ألف سيف محلّى؛ وباع المستنصر حتّى ثياب جواريه وتخوت المهود، وكان الجند يأخذون ذلك بأقلّ ثمن. وباع رجل دارا بالقاهرة كان اشتراها قبل ذلك بتسعمائة «1» دينار بعشرين رطل دقيق. وبيعت البيضة بدينار، والإردبّ القمح بمائة دينار فى الأوّل، ثمّ عدم وجود القمح أصلا. وكان السّودان يقفون فى الأزقّة يخطفون النساء بالكلاليب ويشرّحون لحومهنّ ويأكلونها، واجتازت امرأة بزقاق «2» القناديل بمصر وكانت سمينة، فعلّقها السّودان بالكلاليب وقطعوا من عجزها قطعة، وقعدوا يأكلونها وغفلوا عنها، فخرجت من الدار واستغاثت، فجاء الوالى وكبس الدار فأخرج منها ألوفا من القتلى، وقتل السّودان. واحتاج المستنصر فى هذا الغلاء حتّى إنّه أرسل فأخذ قناديل الفضّة والستور من مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام. وخرجت امرأة من القاهرة فى هذا الغلاء ومعها مدّ جوهر، فقالت: من يأخذ هذا ويعطينى عوضه دقيقا أو قمحّا؟ فلم يلتفت إليها أحد؛ فألقته فى الطريق وقالت: هذا ما ينفعنى وقت حاجتى فلا حاجة لى به بعد اليوم؛ فلم يلتفت إليه أحد وهو مبدّد فى الطريق! فهذا أعجب من الأوّل.

وقيل: إنّ سبب ما حصل لمصر من الخلل فى أوّل الأمر «3» الفتنة التى كانت بمصر فى أيّام المستنصر هذا بين «4» الأتراك والعبيد، وهو أنّ المستنصر كان من عادته

ص: 17

فى كلّ سنة أن يركب على النّجب مع النساء والحشم إلى جبّ عميرة «1» ، وهو موضع نزهة، فيخرج إليه بهيئة أنّه خارج إلى الحجّ على سبيل الهزء والمجانة، ومعه الخمر فى الرّوايا عوضا عن الماء ويسقيه الناس، كما يفعل بالماء فى طريق مكّة. فلمّا كان فى جمادى الآخرة خرج على عادته المذكورة، فاتّفق أنّ بعض الأتراك جرّد سيفا فى سكرته على بعض عبيد الشّراء، فاجتمع عليه طائفة من العبيد فقتلوه؛ فاجتمع الأتراك بالمستنصر هذا وقالوا له: إن كان هذا عن رضاك فالسمع والطاعة، وإن كان عن غير رضاك فلا نرضى بذلك، فأنكر المستنصر ذلك؛ فاجتمع جماعة من الأتراك وقتلوا جماعة من العبيد بعد أن حصل بينهم وبين العبيد قتال شديد على كوم شريك «2» وانهزم العبيد من الأتراك. وكانت أمّ المستنصر تعين العبيد بالأموال والسّلاح؛ فظفر بعض الأيام أحد الأتراك بذلك، فجمع طائفة الأتراك ودخلوا على المستنصر وقاموا عليه وأغلظوا له فى القول، فحلف لهم أنّه لم يكن عنده خبر.

وصار السيف قائما بينهم. ثمّ دخل المستنصر على والدته وأنكر عليها. ودامت الفتنة بين الأتراك والعبيد إلى أن سعى وزير الجماعة أبو الفرج بن المغربىّ- وأبو الفرج هذا هو أوّل من ولى كتابة الإنشاء بمصر- ولا زال الوزير أبو الفرج هذا يسعى بينهم

ص: 18

حتى اصطلحوا صلحا يسيرا، فآجتمع العبيد وخرجوا إلى شبرى دمنهور «1» . فكانت هذه الواقعة أوّل الاختلاف بديار مصر؛ فإنّه قتل من «2» الأتراك والعبيد خلائق كثيرة، وفسدت الأمور فطمع كلّ أحد. وكان سبب كثرة السودان ميل أمّ المستنصر إليهم؛ فإنّها كانت جارية سوداء لأبى سعد «3» التّسترىّ اليهودىّ. فلمّا ولى المستنصر الخلافة ومات الوزير صفىّ «4» الدين الجرجرائيّ فى سنة ستّ وثلاثين «5» حكمت والدة المستنصر على الدولة، واستوزرت سيّدها أبا سعد المذكور، ووزر لابنها المستنصر الفلّاحىّ، فلم يمش له مع أبى سعد حال؛ فاستمال الأتراك وزاد فى واجباتهم حتّى قتلوا أبا سعد المذكور؛ فغضبت لذلك أمّ المستنصر وقتلت أبا منصور «6» الفلّاحىّ، وشرعت فى شراء العبيد السّود، وجعلتهم طائفة واستكثرت منهم. فلمّا وقع بينهم وبين الأتراك قامت فى نصرهم.

وقال الشيخ شمس الدين بن قزأوغلى فى المرآة: «وكلّ هذه الأشياء كان ابن حمدان سببها، ووافق ذلك انقطاع النيل؛ وضاقت يد أبى هاشم محمد أمير مكّة

ص: 19

بانقطاع ما كان يأتيه من مصر، فأخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب والميزاب، وصادر أهل مكّة فهربوا. وكذا فعل أمير المدينة مهنأ، وقطعا الخطبة للمستنصر، وخطبا لبنى العبّاس الخليفة القائم بأمر الله، وبعثا إلى السلطان ألب أرسلان السّلجوقىّ حاكم بغداد بذلك، وأنهما أذّنا بمكّة والمدينة الأذان المعتاد، وتركا الأذان ب «حىّ على خير العمل» ؛ فأرسل ألب أرسلان إلى صاحب مكّة أبى هاشم المذكور بثلاثين ألف دينار، وإلى صاحب المدينة بعشرين ألف دينار. وبلغ الخبر بذلك المستنصر، فلم يلتفت إليه لشغله بنفسه ورعيّته من عظم الغلاء. وقد كاد الخراب أن يستولى على سائر الإقليم. ودخل ابن الفضل على القائم بأمر الله العبّاسىّ ببغداد، وأنشده فى معنى الغلاء الذي شمل مصر قصيدة، منها:

[الطويل]

وقد علم المصرىّ أنّ جنوده

سنو يوسف منها وطاعون عمواس

أحاطت «1» به حتى استراب بنفسه

وأوجس منها خيفة أىّ إيجاس

قلت: وهذا شأن أرباب المناصب، إذا عزل أحدهم بآخر أراد هلاكه ولو هلك العالم معه. وهذا البلاء من تلك الأيّام إلى يومنا هذا.

ثمّ فى سنة ستّ وستين سار بدر الجمالىّ أمير الجيوش من عكّا إلى مصر، ومعه عبد الله بن المستنصر باستدعاء المستنصر بعد قتل ابن حمدان بمدّة. واسم ابن حمدان الحسن بن الحسين بن حمدان أبو محمد التغلبىّ الأمير ناصر الدولة ذو المجدين.

ص: 20