الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قائلين وحق النور وما نشأ منه. وواضح أنه تختلط بعقيدتهم عناصر فارسية كعنصر النور وعناصر مسيحية كعنصر قداس الخمر والطعام وهو شبيه بالعشاء الربانى، ويروون عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلى:«لولا أن يقول الناس فيك ما قالوا فى عيسى لقلت فيك مقالا» وهو حديث موضوع.
ويقول النوبختى فى فرق الشيعة وابن فضل الله فى التعريف إنهم يحلّون المحارم، ولهم كتاب مقدس يخفونه عن الناس كما يخفون عقيدتهم ولا يبيحون لأحد منهم أن يذيع شيئا من مبادئها وأسرارها المصونة عندهم. ويقول الشهرستانى إنهم يقولون بأن عليا كان موجودا قبل خلق السموات والأرض، وأن الإله ظهر بصورته وخلق بيديه وأمر بلسانه. ولكل ما سبق قال جولد تسيهر:«تغلب على تلك الفرقة أفكار وعقائد وثنية» ويقول «إن إسلامها إسلام اسمى فحسب» . ونظن ظنا أن استيلاء الفاطميين على الشام ونشر دعاتهم لنحلتهم الغالية المفرطة فى الغلو هناك. ثم ما كان من انشغال الأيوبيين بحربهم لحملة الصليب، كل ذلك كان سببا فى اتساع حركتهم حتى إذا كان عهد الناصر بن قلاوون رأيناه يكتب فى سنة 717 للهجرة إلى ولاته فى الشام أن يأخذوا على أيديهم، ويأمروهم أن يعمروا فى كل قرية من قراهم مسجدا وأن يمحوا منها الخمور وكل ما يتصل بالآثام، وصدعت قراهم لأمره.
(ج) الدروز
(1)
الدروز فرقة شيعية تفرعت عن الفرقة الإسماعيلية الكبرى، آمنت بأن التجسّد الإلهى حلّ فى الحاكم بأمر الله (386 - 411 هـ) أسسها أو أنشأها بالشام داع إسماعيلى أعجمى من دعاة الحاكم يسمى محمد بن إسماعيل الدرزى، وكان من غلاة الدعاة الباطنية يؤمن بالتناسخ، فأغوى الحاكم على ادعاء هذا التجسد، وصنّف له كتابا ذكر فيه أن روح الله ما زالت تنتقل من رسول إلى رسول، وبعد النبى صلى الله عليه وسلم انتقلت إلى على بن أبى طالب وتناسخت فى الأئمة من أبنائه حتى انتهت إلى الحاكم، فهو ليس بشرا، إنما هو لاهوت تجسد فى الناسوت. وعلمت الرعية فى مصر بما يوسوس له الدرزى فصممت على قتله، وأنقذه منها الحاكم وقال له اخرج إلى الشام وانشر دعوتك فى الجبال فإن أهلها سريعو الانقياد، فخرج إلى الشام ونزل فى قبيلة تنوخ بوادى التيم من
(1) راجع فى الدروز صبح الأعشى 13/ 248 وكتاب طائفة الدورز: تاريخها وعقائدها للدكتور محمد كامل حسين وجولد تسيهر ص 216
وديان قرية بانياس غربى دمشق، وأخذ ينشر دعوته فى منازل تلك القبيلة بجبل حوران وأيضا فى القسم الجبلى من لبنان. وتوفى فقام بالدعوة بعده حمزة بن أحمد الهادى وكثر أتباعهما وعرفوا بالدروز نسبة إلى مؤسس الدعوة. وانتشارها على هذا النحو فى جبل لبنان وحوران بسوريا جعلها تذيع بين قبائل وعشائر عربية، وسقطت إلى الجنوب حتى جبل كرمل بالقرب من صفد فى فلسطين، وصعدت إلى الشمال حتى الجبل الأعلى بين حلب وأنطاكية. وأتاح لها ذلك أن تشيع بين عرب ذوى بأس وأهل شجاعة، ومنذ وطئت أقدام الصليبيين الشام وضعوا أيديهم فى أيدى الدولة البوريّة صاحبة دمشق ثم فى أيدى عماد الدين زنكى ونور الدين وصلاح الدين ضد حملة الصليب. وظلوا يجاهدونهم فى زمن الأيوبين والمماليك متعاونين أوثق تعاون مع سلاطين الدولتين فى طردهم من الشام. وأبلوا بلاء حسنا فى حرب التتار. ولعل ذلك هو الذى دفع الدولتين إلى مسالمتهم والإبقاء عليهم مع إقرارهم على إقطاعاتهم، حتى يظلوا غصّة فى حلوق أعداء الإسلام والعروبة.
ولديهم رسائل مقدسة لمؤسس دعوتهم محمد بن إسماعيل الدرزى وخليفته حمزة بن أحمد وتلميذه بهاء الدين. ويردد حمزة أن للحاكم بأمر الله حقيقة لاهوتية لا تدركها الحواس ولا الأوهام، ويقول إنه ليس له مكان وإن حل فى كل مكان. وحاول هو وأستاذه الدرزى وتلميذه بهاء الدين أن يقنعوا الناس من حولهم بأن الحاكم تجسّد إلهى وأنه يتشكل فى صورة بشرية هى الصورة الإنسية التى عاش بها مع الناس كأنه فرد مثلهم. وليس الحاكم أول صورة بشرية تشكل فيها الله بل هو آخر صورة تجسد فيها، فقد تجسد قبله فى الأنبياء والأئمة مما يفسح عند الدروز لفكرة التناسخ. ويصور القلقشندى عقيدتهم قائلا:«إنهم يقولون بأن الألوهية انتهت إلى الحاكم وتديرت (سكنت) ناسوته كما يقولون برجعته وإنه يغيب ويظهر بهيئته ويقتل أعداءه قتل إبادة لا معاد بعده إذ ينكرون المعاد» . فلا معاد عندهم ولا بعث ولا قيامة، إذ القيامة فى رأيهم يوم رجعة الحاكم وظهوره فى صورته اناسوتية، وحينئذ يوقع العذاب والثواب على الناس، أما الثواب فارتفاع بالدرجة فى العلوم الدينية، وأما العذاب فهب بالدرجة إذ يستمر الشخص ينتقل من جسد إلى جسد أو قل تستمر روحه تنتقل فى أجساد تهبط به فى الدين درجة بعد درجة.
وتسقط شريعة الدروز الفروض الدينية وتوجب صيام الأيام التسعة الأولى من شهر ذى
الحجة، ويقول القلقشندى إنهم يذهبون مذهب الطبائعية فى قولهم إن الطبائع هى المولّدة، والموت بفناء الحرارة الغريزية كانطفاء السراج بفناء الزيت، ويقول: إنهم زادوا فى البسلة؟ ؟ ؟ أيام الحاكم: باسم الحاكم الله الرحمن الرحيم، ثم جعلوها باسم الله الحاكم الرحمن الرحيم. ولهم دعية خاصة يتجهون بها إلى ربهم، من ذلك ما نقله الدكتور محمد كامل حسين من رسالة البلاغ والنهاية فى التوحيد لحمزة بن أحمد من مثل:«سبحان مولانا جلّ ذكره عن إحاطة الأشياء به وعز سلطانه عن حكومة الألسن والأوهام عليه لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون» .
على أنه ينبغى أن نعود فنذكر أن عقيدة الدروز أصابها بعض التعديل فى فروعها بما يتلاءم والإسلام ومن أهم من عملوا على ذلك عبد الله التنوخى الملقب بالسيد المتوفى سنة 884 وقد حاول العودة بهم إلى مذهب الجماعة.
(د) الإسماعيلية (1) النزارية أو الفداوية أو الحشاشون
مرّ بنا فى الحديث عن التشيع بإيران فى الجزء الخامس من تاريخ الأدب العربى أن داعية من دعاة الحركة الإسماعيلية الفاطمية بإيران هو الحسن بن الصبّاح زار مصر لعهد المستنصر (427 - 487 هـ) وسأله من الخليفة بعدك؟ فقال له: ابنى نزار، فعاد إلى إيران يدعو للمستنصر وابنه نزار، واستطاع مع طائفة من أتباعه أن يستولى على قلعة «ألموت» الجبلية الشاهقة، واتسعت دعوته حتى ضم إليه قلاعا وحصونا كثيرة بإيران وبعض بلدانها فى قزوين وطبرستان. وكانت الأمور تتطور بالقاهرة فتوفى المستنصر ورأى الأفضل بن بدر الجمالى أن لا يولى نزارا بعده وإنما يولى أخاه المستعلى. وبذلك انقسمت الإسماعيلية الفاطمية قسمين: قسما عربيا فى مصر والشام بيده مقاليد الحكم يدعو للمستعلى وقسما شرقيا فى إيران يمثله الحسن بن الصباح يدعو لنزار.
واستطاع الحسن بن الصبّاح أن يحول فرقته أو طائفة كبيرة منها إلى فرقة إرهابية مهمتها اغتيال خصوم الدعوة من حكام الأقاليم والدول ووزرائهم ومن العلماء والفقهاء المناوئين لها، وكان ممن اغتالوه الوزير السلجوقى العظيم نظام الملك سنة 484. ومن أجل ذلك أطلق على اسم هذه الفرقة
(1) انظر فى هذه الفرقة وقلاعها بالشام ونشأتها صبح الأعشى 1/ 121 و 4/ 146 و 179 ورحلتى ابن جبير وابن بطوطة وتاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص 282. 355، 366 وكتاب طائفة الإسماعيلية: تاريخها. نظمها. عقائدها للدكتور محمد كامل حسين.
اسم الفدائيين أو الفداوية كما غلب اسم الحشاشين لأنهم-فيما يظهر-كانوا يتعاطون الحشيش المخدر. وعمل الحسن بن الصبّاح على نشر الدعوة الإسماعيلية لا فى أقاليم إيران فحسب، بل أيضا فى إقليم الشام، فأرسل إليها دعاته، وبادر بإرساله الحكيم المنجم أسعد إلى حلب فى أيام حاكمها رضوان بن تتش السلجوقى (488 - 507 هـ) فنشر بها الدعوة وكثر أتباعه وأوعز إلى بعض الحشاشين معه باغتيال جناح الدولة صاحب حمص، واغتيل سنة 496. ووفد على حلب داعية ثان للحسن بن الصباح هو أبو طاهر واستولى مع شيعته على حصن فامية من الصليبيين ثم استردوه منه. وأخذ الفدائيون من فرقة ابن الصباح يفدون على الموصل والشام واغتالوا فى سنة 520 صاحب الموصل آق سنقر. وفى نفس السنة وفد على دمشق نزارى من ألموت، وتقرب من طغتكين صاحبها، وتنازل له عن قلعة بانياس فأخذ يدير دعوته منها، وكثر أتباعه، وأدخل المردغانى وزير بورى (522 - 526) فى دعوته فعيّن أحد رجاله، وهو أبو الوفا قاضيا لقضاة دمشق. وبعث أبو الوفاء سرا لبلدوين الثانى صاحب بيت المقدس أنه على استعداد لتمكينه من الاستيلاء على دمشق فى نظير تنازله له عن صور، وقدم حملة الصليب إلى دمشق سنة 524 لتنفيذ المؤامرة وفطن بورى فقتل أبا الوفاء ووزيره المردغانى، و؟ ؟ ؟ رد الله حملة الصليب عن دمشق مدحورين.
وأخذ الإسماعيليون النزاريون فى بانياس يمكنون لأنفسهم بالاستيلاء على طائفة من القلاع فى السفوح الشرقية لجبال النصيرية بالقرب من طرابلس إلى الشمال بينها وبين حماة، حتى إذا خلص الأمر لرشيد الدين سنان منذ سنة 558 أخذ ينظم هذه الجماعة الإرهابية الخطيرة جاعلا من قلاعها وهى مصياف والرصافة وقدموس والخوابى والكهف والمينقة والعلّيقة، مركزا للدعوة. ويعدّ دوره فى الدعوة بالشام كدور الحسن بن الصبّاح فى إيران، فقد ضاعف تحصينات قلاعها وزودها بالسلاح والعتاد، وكان سنان مباينا لنور الدين ولم يحاول أن يساعده فى حربه لحملة الصليب، وفكر نور الدين فى منازلته ولكنه توفى قبل تحقيق فكرته. وبالمثل كانت بين سنان وصلاح الدين مباينة، وأرسل إليه بعض فدائييه أو حشّاشيه مرتين ليغتالوه ونجّى الله صلاح الدين من خناجرهم، وجرّد لهم فى سنة 572 جيشا جرارا حاصر به قلاعهم وضيق عليهم، فسألوه الصفح عنهم، فأجابهم إلى ذلك ليتفرغ سريعا لحرب حملة الصليب مؤملا أن يمدوا له يد العون فى تلك الحرب، وكانوا قد وعدوه أن يقفوا معه ضدهم، فلم يتعرض صلاح الدين بعد ذلك لقلاعهم.
ونمضى معهم إلى أيام هجوم التتار على الشام فنجد داعيتهم أبا المعالى رضى الدين يرضخ لهم ويسلمهم بعض القلاع سنة 658 بينما ظل الدروز يقاومون التتار-كما مرّ بنا-ولعل ذلك ما جعل الظاهر بيبرس بعد قضائه على التتار يفكر فى الاستيلاء على قلاعهم منذ سنة 664 وسرعان ما أعلنوا له الطاعة وأنهم جزء من رعيته. وفى سنة 669 عزل داعيتهم نجم الدين وولى مكانه داعية ثانيا يسمى صارم الدين، غير أنه أعلن الثورة عليه، وسرعان ما أخفقت ثورته. وأخذ الظاهر بيبرس يستولى على قلاعهم حتى سلمت له وخضعت جميعا، ولم يعمد إلى إجلائهم عن قلاعهم كما صنع هولاكو حين استولى على قلعة ألموت وغيرها من قلاعهم بإيران، بل أبقى عليهم ليفيد من سفاكيهم فى القضاء على خصومه. وظل سلاطين المماليك بعده يستخدمونهم لنفس الغاية.
ويسجل ذلك ابن بطوطة حين زار حصونهم لعهد الناصر بن قلاوون سنة 727 إذ يقول:
«وهذه الحصون لطائفة يقال لها الإسماعيلية، ويقال لهم الفداوية، ولا يدخل عليهم أحد من غيرهم، وهم سهام الملك الناصر بهم يصيب من يعدو عليه من أعدائه، ولهم المرتبات، وإذا أراد السلطان أن يبعث أحدهم إلى اغتيال عدو له أعطاه ديته، فإن سلم بعد تأدية ما يراد منه فهى له، وإن أصيب فهى لولده» . ويقول القلقشندى نقلا عن ابن فضل الله العمرى المتوفى سنة 749 للهجرة: «ولصاحب مصر بمشايعة الفداوية مزية يخافه بها عدوه، لأنه يرسل منهم من يقتله ولا يبالى أن يقتل بعده، ومن بعثه السلطان إلى عدو له فجبن عن قتله قتله أهله إذا عاد إليهم، وإن هرب تبعوه وقتلوه» . وبالقاهرة جامع منسوب إلى هذه الجماعة الإرهابية يسمى جامع الفداوية، ويقال إن الفداوى الإرهابى الخطير الذى كان يعتمد عليه بيبرس هو «شيحة» المدفون بدمياط.
6 -
الزهد (1) والتصوف
الشام-من قديم-بلد دين سماوى، بل دينين سماويين هما اليهودية والمسيحية، مما جعل لها تأثيرا بعيدا فى تاريخ العالم الروحى، إذ عملت بقوة على نقله من دور الوثنية إلى دور الديانات السماوية، وبدأ ذلك منذ أعتق الأزمنة ونقصد زمن إبراهيم الخليل عليه السلام الذى آمن بوحدانية الله، وحاول أن يحمل عليها قومه، وتتابعت بعده الرسل تؤكد دعوته وتدعو إلى عبادة الله وإعلاء القيم الروحية، حتى إذا كانت المسيحية وأدخلت فيها مصر نظام الرهبنة والمعيشة الخالصة لتعبد الله والنسك فى الأديرة والصوامع عمّت هذه الروح فى الشام واعتزل كثيرون منه- فى أيام الرومان الظالمة-الحياة اليومية العاملة إلى الرهبنة. وتعتنق كثرة السكان فى الشام الدين الحنيف ويقبلون على تعاليمه وعبادة الله الواحد الأحد حق عبادته وعلى ما تدفع إليه من النسك والتقوى، مقتدين بمن نزل بينهم من جلّة الصحابة وبخاصة من أهل الصّفّة الذين كانوا يلازمون المسجد النبوى مقبلين على عبادة الله زاهدين فى الدنيا ومتاعها الزائل من أمثال بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبى عبيدة فاتح الشام مع خالد بن الوليد، وكان على غرارهما زهدا فى الدنيا معاذ بن جبل المتوفى مع أبى عبيدة فى سنة 18 للهجرة بطاعون عمواس، ويؤثر عنه أنه كان يقول حين نزل به القضاء:«مرحبا بالموت، مرحبا بزائر حبيب جاء على فاقة، اللهم إنك تعلم أنى كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، وإنى لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالرّكب عند حلقات الذكر» .
(1) انظر فى الزهد والتصوف بالشام كتب تراجم الصحابة، وبخاصة من سميناهم، وراجع فى معاذ تهذيب النووى وفى أبى الدرداء البيان والتبين للجاحظ: الجزء الثالث (انظر الفهرس) وانظر فى الأسماء التالية طبقات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى والطبقات الكبرى للشعرانى والرسالة القشيرية (طبعة عبد الحليم محمود) وكشف المحجوب للهجويرى (الترجمة العربية) وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر وأحسن التقاسيم للمقدسى والسلوك للمقريزى والدرر لابن حجر والأعلاق الخطيرة فى ذكر أمراء الشام والجزيرة، الجزء الخاص بمدينة دمشق (تحقيق د. سامى الدهان) ووفيات الأعيان وفوات الوفيات فى تراجم بعض المتصوفة والزهاد وابن تغرى بردى والبدر الطالع للشوكانى وروض الرياحين لليافعى وخلاصة الأثر للمحبى وسلك الدرر للمرادى وتاريخ الجبرتى وجولد تسيهر ودائرة المعارف الإسلامية والجزء الرابع من تاريخ الأدب العربى لبروكلمان
وعلى شاكلة معاذ فى الورع والتقوى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الشام أبو الدرداء الأنصارى، وهو أحد حفظة القرآن الكريم لعهد الرسول وأول من تقلد القضاء بدمشق إلى أن توفى سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، وهو من أهل الصّفّة الأتقياء، ويروى الجاحظ عنه أنه كان يقول «نعم صومعة المؤمن منزل يكفّ فيه نفسه وبصره، وإياكم والجلوس فى الأسواق فإنها تلهى وتحمل على اللغو فى الكلام» ويروى عنه أيضا قوله: «أضحكنى ثلاث وأبكانى ثلاث: أضحكنى مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدرى ساخط ربه أم راض، وأبكانى هول المطّلع (1)، وانقطاع العمل، وموقفى بين يدى الله لا يدرى أيؤمر بى إلى الجنة أم إلى النار» . وأخذ يتكاثر بعد جيل الصحابة فى الشام العباد والأتقياء ونلتقى بهم فى كل طائفة: فى القضاة والفقهاء والمحدّثين وقرّاء الذكر الحكيم.
واتسع ذلك حتى شمل بعض الحكام على نحو ما هو معروف عن الخليفة عمر بن عبد العزيز وهو يمثل نموذج الحاكم المتقشف الزاهد الذى يخشى الله فى كل ما يصدر عنه من قول أو فعل، ومرّ بنا أنه رفع المكوس وضرائب السدود والمعابر عن الناس وأنه سوّى بين المسلمين الجدد من الموالى والمسلمين من العرب فحطّ عنهم-مثلهم الجزية-واكتفى بالزكاة. وكتب إليه أحد عماله: إن أهل الذمة قد أقبلوا على الإسلام حتى يتخلصوا من الجزية، فأجابه: إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه جابيا. ويفيض ابن سعد فى ترجمته له بطبقاته فى بيان زهده ورفضه لمتاع الجباة من رقيق يملكه ومن عطر يتطيب به. وعمل بكل جهده على نشر العدل فى دولته ورفع المظالم عن الناس. وكان يجهد نفسه فى النسك والتعبد حتى اصفرّ لونه ونحل جسمه، وأنكر منه بعض الزهاد ممن كانوا يلمون به ذلك فقال له: كيف بك لو رأيتنى فى قبرى وقد سالت الحدقتان-بعد ثلاث ليال-على وجنتى وتقلّصت الشفتان لكنت إذن أشد نكرا. وطبيعى أن يكون عمر من أسباب اتساع موجة الزهد فى الشام. ونكتفى بذكر بعض من تموج بهم كتب القراء والفقهاء والتاريخ من هؤلاء الزهاد العباد. من ذلك ما يقولونه عن شيبان الراعى المتوفى سنة 158 وكان من كبار الفقهاء الزهاد وكان من أكابر أهل دمشق وعكف على النسك، وبلغ به ذلك أن ترك الدنيا واتخذ له صومعة فى جبل لبنان فانقطع بها يتعبد الله.
ونسمع كثيرا عن عباد انقطعوا بهذا الجبل مؤثرين الإقامة به للتعبد (2)، ومنهم من كان يتعبد الله فى جبال أنطاكية والمصّيصة، ومنهم من يتخذ الصوامع، وظل ذلك متبعا حتى زمن ابن
(1) الاستشراف للآخرة
(2)
راجع مقدمة أحسن التقاسيم للمقدسى.
جبير (1). وكان منهم من لا يبعد عن دمشق إلى الجبال النائية مثل فهر بن جابر الطائى المتوفى عام 220 فإنه لما بلغ الخمسين من عمره اعتزل الناس بجوار دمشق، وأخلص نفسه للتقوى والنسك، وله فى الزهد كتاب سماه:«العروج فى درج الكمال والخروج من درك الضلال» . ونلتقى بمعاصره أبى سليمان الدارانى عبد الرحمن بن أحمد بن عطية المتوفى سنة 215 وفيه يقول ابن تغرى بردى:
«كان من واسط وتحول إلى الشام ونزل قرية داريّا غربى دمشق، وكان إماما حافظا كبير الشأن فى علوم الحقائق والورع أثنى عليه الأئمة، وكان له الرياضات والسياحات، ويقول الهجويرى:
«كان ريحانة القلوب، اختص بالرياضات الشديدة والمجاهدات الشاقة» . وتسلكه كتب الصوفية، فى تراجمهم. ولم يكن التصوف حتى زمنه استقل عن الزهد بأحواله ومقاماته، فهو إلى أن يكون زاهدا أقرب منه إلى أن يكون متصوفا. وحمل عنه نزعته النسكية تلميذان أو مريدان، هما أحمد ابن عاصم الأنطاكى وابن أبى الحوارى الدمشقى، أما ابن عاصم فتوفى بعد أستاذه بخمس سنوات، ويسلكه المتصوفة بين أوائلهم ويقولون إنه كان يجمع بين الأصول والفروع فى الشريعة، وكان يقول:«أنفع الفقر ما كنت به متجملا وعنه راضيا» ويذكر بروكلمان له كتابا فى الزهد سماه «دواء القلوب ومعرفة همم النفس وآدابها» ويقول إن الغزالى ينقل عن هذا الكتاب كثيرا. وتلميذ الدارانى الثانى أو مريده ابن أبى الحوارىّ أحمد توفى سنة 230 وكان من بيت زهد، فأبوه من الورعين وكذلك ابنه عبد الله، وذكر عند الجنيد متصوف بغداد فقال:«ريحانة الشام» . وكان يعاصره الشيخ أبو عبيد وان عابدا تقيا صالحا توفى سنة 238 وقد وهب نفسه للغزو وجهاد أعداء الله.
ونلتقى فى طرسوس دار حرب الروم بالشيخ أبى الحارث الفيض بن الخضر الأولاسى المتوفى سنة 297 وكان أحد الزهاد العباد وله إشارات ولسان حلو وأقوال عالية، وهو منسوب إلى أولاس فى نواحى طرسوس، وكان بها حصن يسمى حصن الزهاد، وكأنما اتخذوه رباطا لحرب أعداء الإسلام. وهو شاهد على ما قلناه مرارا فى كتاباتنا من أن زهادنا ومتصوفتنا كانوا دائما يرون من تمام تصوفهم وزهدهم أن يجاهدوا العدو ويرابطوا له فى الثغور، حتى إذا كان نفير الحرب تقدموا الصفوف يقتلون أعداء الدين الحنيف ويستشهدون. وكان يعاصر الأولاسى أحمد بن يحيى
(1) يقول ابن جبير فى كلامه عن دمشق سنة 578 كان الخير ينثال على الغرباء من الخطباء والمعلمين لا فى دمشق وحدها بل أيضا فى القرى والضياع، ومن سئم المقام فيها متى سئم المقام يصعد إلى جبل لبنان أو إلى جبل الجودى (شمالى الموصل) فيلقى بهما المريدين المنقطعين إلى الله عز وجل فيقيم معهم ما شاء وينصرف إلى حيث شاء.
المعروف باسم ابن الجلاّء المتوفى سنة 306 تلميذ ذى النون المصرى مؤسس التصوف الإسلامى كما سنذكر ذلك فى حديثنا بجزء مصر، وتلمذته لذى النون تجعله أول متصوف شامى بالمعنى الحقيقى.
وكان ذو النون يجمع بين الشريعة وفروضها وبين الحقيقة الصوفية الروحية، فلا تعارض بين الشرع والتصوف، بل هما متلاحمان، وعنه أخذ ذلك ابن الجلاّء كما أخذ بقية مبادثه الصوفية من التوكل والحب الإلهى. ويقول ابن تغرى بردى إنه أحد مشايخ الصوفية الكبار، ويقول مريده وتلميذه الرّقّى محمد بن داود:«لقيت نيفا وثلاثمائة من المشايخ المشهورين، فما لقيت أحدا بين يدى الله وهو يعلم أنه بين يديه أهيب من ابن الجلاء» . وعاش الرقى بعده فى الشام إذ توفى بعد سنة 350. ومن مريديه وتلامذته فى الشام أبو عمرو الدمشقى المتوفى سنة 320 وكان يقول:
«التصوف رؤية الكون بعين النقص بل غض الطرف عن كل ناقص ليشاهد من هو منزه عن كل نقص» يريد تعلق التصوف بالرؤية الإلهية التى يغض فيها المتصوف بصره عن كل ما يشاهده فى الكون أملا فى أن يفنى فى الذات الربانية، وذكر مترجموه أن له كتابا فى الرد على القائلين بقدم الأرواح.
ومن كبار المشايخ فى الشام أحمد بن عطاء الروذبارى المتوفى سنة 369 وهو ابن أخت أبى على الروذبارىّ شيخ الصوفية فى الفسطاط، أما هو فكان شيخ الشام فى وقته، وكان ممن جمع بين الحقيقة وعلم الشريعة. ودخل الشام محمد بن خفيف الشيرازى شيخ المشايخ المتوفى سنة 371 ويحكى أنه: «دخل مدينة صور وهو جائع عطشان وفى وسطه خرقة المتصوفة، يقول:
فدخلت المسجد، فإذا شابّان مستقبلا القبلة فسلمت عليهما فما أجابانى، فقلت: ناشدتكما الله إلا رددتما علىّ السلام، فرفع أحدهما رأسه من مرقّعته الصوفية فنظر إلىّ وردّ السلام وقال لى: يا بن خفيف الدنيا قليل وما بقى من القليل إلا قليل، فخذ من القليل الكثير، فذهب جوعى وعطشى ونصبى (تعبى) فلما كان وقت العصر قلت له: عظنى، فقال: يا بن خفيف: نحن أصحاب المصائب ليس لنا عظة. وربما كان أهم تلامذة أحمد بن عطاء الروذبارى ومريديه محمد بن إبراهيم السوسى شيخ الصوفية بدمشق المتوفى سنة 386 وكان زاهدا عابدا ما عقد على درهم ولا دينار. وظل كثيرون من العباد والنساك يؤثرون جبال الشام ويقيمون بين ربوعها ويذكر المقدسى الجغرافى المتوفى حوالى سنة 375 أنه لقى فى جبل الجولان شرقى الشام أبا إسحق البلوطى فى أربعين رجلا يقتاتون البلوط، يفلقونه ويطحنونه ويخلطونه بشعير برّىّ ويلبسون الصوف.
وينبغى أن نذكر أن المتصوفة كانوا غالبا لا يستقرون فى أوطانهم، بل يرحلون سانحين للقاء مشايخ
الصوفية، ومعنى ذلك أن الشام كانت تستقبل كثيرين منهم. وكان يحدث كثيرا أن يتخذوها دار مقام كما صنع الدارانى الواسطى وأحمد بن عطاء الروذبارى، وغيرهما كثيرون مثل الختلى نزيل الشام المتوفى سنة 453 وهو أستاذ الهجويرى الغزنوى الأفغانى، وكانت أكثر إقامته بالديار الشامية. ومعنى ذلك أن الشام كانت دائما ساحة كبرى للنسك والتقوى والعبادة.
وما نصل إلى سنة 488 حتى ينزل الإمام الغزالى الطوسى الصوامع النائية فى مساجد بيت المقدس، وكانت قد انتابته أزمة روحية من الخلافات العنيفة بين الفرق والملل وحتى بين الفقهاء فى فروع الشريعة. وقد أوضحنا ذلك فى حديثنا عن الزهد والتصوف بإيران فى الجزء الخامس من تاريخ الأدب العربى وكيف أخذ يحمل على الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة، وحمل على فرقة الإسماعيلية الشيعية حملة عنيفة فى كتابه «فضائح الباطنية» . وكان قد رأى فى موطنه ضعف الوازع الدينى عند طوائف الصوفية، وأن جماعات منهم كانت تسقط عن نفسها الفرائض الدينية، بينما كان منهم من يؤمن بالحلول والاتحاد بالله والفناء فيه. وكل ذلك أشعل بينهم وبين الفقهاء حربا شعواء، وأخذ الغزالى يفكر فى كل ذلك على هدى ما كتبه أبو نصر السراج والقشيرى فى رسالته، ورءى أنه لا بد من الوصل بين التصوف والشرع، فلا تصوف بدون الفرائض والنوافل ولا صلاة بدون عمل القلب والإخلاص وصدق السريرة، وأخذ يؤلف موسوعته الرائعة «إحياء علوم الدين» بقصد تنمية الجوانب الروحية فى الفرائض الشرعية وبيان الوسائل إلى ذلك بحيث تصل النفس إلى مبتغاها من محبة الله. وأتمّ الكتاب فى دمشق. واستقبلته استقبالا عظيما لأن متصوفتها لم يكونوا قد انحرفوا بتصوفهم إلى مزالقه التى وصفناها فى إيران، بل كانوا دائما يجمعون بين التصوف والشريعة، إلا من دفعته السياحة إلى ديارهم من متصوفة إيران.
على كل حال كانت إقامة الغزالى بدمشق وبيت المقدس فاتحة التئام وثيق بين الفقهاء والمتصوفة، وزاد هذا الالتئام توثقا نزول حملة الصليب بديار الشام، ولعل ذلك ما جعل حكامها التابعين للدولة السلجوقية يأخذون فى العناية ببناء الخانقاهات للمتصوفة، من ذلك بناء دقاق بن تتش لخانقاه الطواويس بدمشق. ودعم هذا التصوف السنى عناية نور الدين ثم صلاح الدين وسلاطين الحكم الأيوبى ونساؤهم وأمراؤهم ببناء الخانقاهات والرّبط فى ديار الشام ووقف الرواتب والأموال التى تنفق على متصوفتها عن سعة. وقد عدّ ابن شداد فى الجزء المنشور من كتابه الأعلاق الخطيرة الخاص بدمشق خانقاهاتها وحدها فبلغت تسع عشرة وبالمثل عد رباطاتها فبلغت أيضا تسعة عشر رباطا. وكان لا يزال يخرج منها صفوف وجنود لجهاد حملة الصليب. وفى هذه
الأثناء ظهرت ببغداد طريقة صوفية سنية هى الطريقة القادرية لمؤسسها الشيخ عبد القادر الجيلانى المتوفى سنة 561 واعتنقها كثيرون لا فى العراق وحدها بل أيضا فى الشام والبلدان العربية. وتبعها ظهور طريقة صوفية سنية ثانية هى الطريقة الرفاعية لمؤسسها الشيخ أحمد الرفاعى المتوفى سنة 578 وانتظم فيها كثيرون فى العراق والشام وشاعت سريعا فى العالم العربى.
ومعنى ذلك أن التصوف السنى الجامع بين علم الحقيقة أو علم التصوف وبين علم الشريعة أو علم الفقه وما يتصل به من السنة تداخلت عوامل كثيرة فى أن يكون هو التصوف الشائع فى الديار الشامية. وحاول التصوف الفلسفى القائم على أفكار الحلول والاتحاد بالله أن يتسرب إلى الشام عن طريق يحيى السهروردى الإيرانى، وكانت له فلسفة صوفية إشراقية ألممنا بها فى حديثنا عنه فى الفصل الرابع من قسم إيران، وذكرنا هناك بأنه كان يؤمن بأن النبوات لا تنقطع وأن الحكيم الصوفى من أمثاله أفضل من الأنبياء، وكفرّه فقهاء حلب وحملوا الملك الظاهر بن صلاح الدين على قتله، فقتله سنة 587 للهجرة.
وكان من أثر دخول الشعوذة على التصوف، وخاصة فى إيران، ظهور فرقة بدمشق سنة 619 تسمى القلندرية وهم أتباع قلندر يوسف، لا يتقشفون ولا يتنسّكون ولا يصلون سوى الفرائض، ويحلقون لحاهم وحواجبهم. وتسرّب ثانية إلى الشام جدول صوفى فلسفى زاخر على لسان محيى الدين بن عربى المولود بمرسية فى الأندلس سنة 560 وقد تلقى تعاليمه فى إشبيلية وفارقها فى الثلاثين من عمره إلى المشرق لحج بيت الله الحرام. وظل فى مكة فترة ثم بارحها مطوّفا فى البلاد العربية ودخل الأناضول «وألقى عصاه بدمشق وبها توفى سنة 638» . وكان إماما فى التصوف الفلسفى القائل بوحدة الوجود وصنّف كثيرا من الكتب أهمها الفتوحات المكية والفصوص، وله غير ديوان، ومن أهم دواوينه ترجمان الأشواق، وكان شاعرا مبدعا كما كان كاتبا بارعا. وعلى الرغم من اتجاهه الفلسفى فى التصوف استطاع أن ينجو من العامة والفقهاء، فلم يحكموا عليه بالكفر أو الإلحاد كما حكموا على السهروردى، بل لقد وجد بينهم مريدين كثيرين مما هيأ فيما بعد لكى يظل التصوف الفلسفى-على قلة-حيّا بجانب التصوف السنى، وكانت عباراته فى كتاباته تحتمل ظاهرا وباطنا، ظاهرا مع السنة وباطنا مع التصوف الفلسفى، وجعل ظاهرها كثيرين يبرئونه من تهمة الإلحاد على نحو ما مر بنا فى مصر عند الشعرانى.
وتعنى دولة المماليك بالخانقاهات والرّبط وزوايا المتصوفة، وترصد لها أموالا كثيرة، مما كان سببا فى ازدهار التصوف وازدياد طرقه بجانب طريقتى القادرية والرفاعية السالفتين، فشاعت فيه
كما مر بنا آنفا الطريقة القلندرية. ودخلته الطريقة المولوية، ومؤسسها جلال الدين الرومى المتوفى سنة 673 وتبع هذه الطريقة كثيرون. ونزل الشام عفيف الدين التلمسانى المتوفى سنة 690 وكان صوفيا فلسفيا يؤمن بمذهب وحدة الوجود واحتمله فقهاء الشام فيما يبدو لحسن عشرته.
ولعل فقيها لم يحمل على الصوفية كما حمل ابن تيمية الحنبلى المتوفى سنة 728. وكان يحمل على أصحاب التصوف الفلسفى. وهذا طبيعى. وحمل أيضا على أصحاب التصوف السنى من أتباع الشيخ أحمد الرفاعى لما كانوا يأتون من أعمال شاذة كنفوذهم من النار المضطرمة، وأكلهم الحيات وهى حية، ولبسهم أطواق الحديد الثقيلة فى أيديهم، ولفهم شعورهم وتلبيدها. وثار عليهم ثورة عنيفة بدمشق واجتمع الناس إليه، فذهب بهم إلى نائب السلطان وعرّفه ما تصنعه هذه الطائفة من بدع عجيبة، فأمرهم بالكف عنها. أما أصحاب التصوف الفلسفى وما يتصل به من القول بالحلول ووحدة الوجود فقد أشعل ابن تيمية ضدهم نارا حامية ظل يذكيها بوقود جزل يزيدها لهبا واضطراما، واصطلى النار الباجريقى محمد بن عبد الرحمن، وكان قد تزهد وتصوف فصحبه جماعة من الأراذل، فهوّن لهم أمر الشرائع وأراهم بوارق شيطانية، وكان يقول لهم: إن الرسل طوّلت على الأمم الطريق إلى الله تعالى» وزعم أنه وصل فى سلوكه إلى السماء الرابعة، وحكم عليه بإراقة دمه فاختفى إلى أن مات سنة 724. ودعا إلى مقالاته بعده متصوف من متصوفة خانقاه السميساطية بدمشق يسمى عثمان بن عبد الله الدّوكالى، وشاع أمره فقبض عليه، وكان ممن شهد عليه فقيهان كبيران هما المزّىّ والذهبى، فحكم عليه بالقتل سنة 741.
وشاعت فى الشام لأواخر القرن الثامن وأوائل التاسع الهجرى الطريقة النقشبندية، ومؤسسها محمد النقشبندى المتوفى سنة 791. وأخذت تشيع معها لأواخر زمن المماليك الطريقة البكتاشية التى تدين بالنظريات الحلولية ولا تقيم وزنا للسنن والفرائض الدينية وتقدس عليا والأئمة من بعده.
ومنذ القرن الثامن الهجرى نحس بوضوح أن العامة تخضع لمشايخ الطرق الصوفية بأكثر مما تخضع للفقهاء وعلماء الدين ربما بسبب خضوعهم للحكام بخلاف مشايخ الطرق الصوفية فإنه لم يكن لهم أى تعلق بالدنيا وكانوا يكتفون بما يجرى على خانقاهاتهم من أموال ولم يكن الشيخ يمدّ يده للحاكم يأخذ منه مالا. وكانوا كثيرا ما يحملون على الحكام إذا رأوهم انحرفوا عن الطريق السّوىّ.
وتحول كثير من أتباعهم إلى دراويش يطوفون فى العالم الإسلامى، وكان لهم أثر غير قليل فى حفاظ العامة على الروح الإسلامية.
ونمضى إلى زمن العثمانيين فتنشط الطرق الصوفية لاهتمامهم بها ورعايتهم لها، وتشيع معها
الطريقة الخلوتية، ويعظم أمر الدراويش ويكثرون فى العالم الإسلامى. ومما لا شك فيه أنه كانت تكثر الطرق الصوفية المخلصة التى تعنى بالنسك والعبادة، وإن كان من الحق أنه أساء إلى هذه الطرق الدراويش المتسولون الذين كانوا يتكففون الناس. وهم دراويش رحّل كانوا يعيشون معيشة مطلقة، وقد يتحللون فيها من الفرائض الشرعية. وبدون ريب كان بينهم من يتخذ الدروشة خداعا للناس ووسيلة إلى البطالة. ومع ذلك لا نعدم أن نجد من حين إلى حين صوفيا حقيقيا يحاول النفوذ إلى معرفة أسرار الكون وخفاياه والتخلص من عالم الحس المادى للفناء فى عالم الحقيقة والحب الإلهى، على نحو ما نجد عند عبد الغنى النابلسى المتوفى سنة 1143 للهجرة وقد تقلب بين الطرق الصوفية وعكف على دراسة أئمة التصوف الفلسفى وغير الفلسفى، ولقى كثيرا من شيوخ الصوفية فى لبنان وفلسطين ومدن الشام والحجاز ومصر، وكان شاعرا كما كان ناثرا.