الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحيوانات ويختم حديثه عنها بكلام على لسان النملة إذ تقول:
والكتاب بذلك كتاب تعليم ووعظ ودفع للإنسان يسير فى الطريق السديد، واعيا لحكمة الله فى خلقه، متعظا بما تورده عليه الحيوانات والأطيار والأزهار من مواعظ وحكم وأمثال وأضواء تنير له دنياه، وتعده إعدادا حسنا لأخراه. ولغة الكتاب سهلة بسيطة قريبة من لغة الحياة اليومية لأنه أريد به إلى الوعظ والإرشاد، وهو حقا مسجوع، ولكن ليس فيه ألفاظ آبدة غريبة، وتتخلله أبيات شعرية سائغة، تدل على حسن ذوق المؤلف ودقة اختياره. وبجانب الأبيات المختارة أبيات من نظمه تدل على أن ابن غانم كان يحسن الشعر والنثر جميعا.
5 - أعمال أدبية: رسائل وغير رسائل:
خلّفت الشام فى هذا العصر أعمالا أدبية كثيرة، ويلقانا فى مفتتحه كشاجم، وله كتاب المصايد والمطارد عرض فيه الصيد وآلاته وما قيل فيه من الأشعار عرضا طريفا، وله بجانبه كتاب فى البيرزة أو بعبارة أخرى فى جوارح الصيد، وكتاب فى أدب النديم. ولأبى العلاء المعرى أعمال أدبية نثرية كثيرة، لعل أهمها رسالة الغفران، وسنلم بها عما قليل، وفى خريدة القصر قسم الشام رسالة أدبية بديعة هى رسالة النسر والبلبل، وسنفرد لها كلمة موجزة، وفى الخريدة أيضا رسالة (1) طريفة ليعمر بن عيسى المتوفى شابا سنة ثمان أو تسع وستين وخمسمائة، وموضوعها معاشرة الإخوان واغتنام الفرصة قبل أن تصبح غصّة فى دنيالا يدوم نعيمها ولا تندمل كلومها، وعنده أن الفرصة هى الإقبال على اللهو والقصف والصيد والقنص. ويفيض فى وصف الصيد وما ركبوا فيه من خيل وما حملوا فيه معهم من فهود وكلاب وبزاة وشواهين، ويطيل فى بيان صيد
(1) انظر الرسالة فى الخريدة (قسم الشام) 1/ 354 - 389
له مع بعض رفاقه إلى نحو عشرين صحيفة، وهى رسالة أدبية بارعة كتبها أديب حاذق فى فنه وسجعاته وجرسها الموسيقى وفى تصاويره وتلاوينه.
وربما كان أهم من عنى فى القرن السادس الهجرى بكتابة أعمال نثرية أدبية أسامة بن منقذ الذى مرت ترجمته بين الشعراء، وله كتاب العصا جمع فيه ما نظم من شعر، وهو منشور، وله كتاب لباب الآداب، وهو زاخر بالأشعار والحكم والنوادر والآداب الفردية والاجتماعية، جعله فى سبعة كتب: فى الوصايا والسياسة والكرم والشجاعة والآداب والبلاغة والحكمة، واشتمل منها كتاب الآداب على خمسة عشر فصلا: فى الأدب وكتمان السر والأمانة والتواضع وحسن الجوار وحفظ اللسان والقناعة والصبر والحياء وترك الرياء والإصلاح بين الناس والتعفف عن السؤال والتحذير من الظلم والإحسان والحض على فعل الخير. وعادة يورد فى كل كتاب ما يتصل به من القرآن والأحاديث النبوية والأشعار وما روى عن العرب والعجم من أقوال. ولأسامة كتاب ثالث هو المنازل والديار ألفه بعد حدوث زلزال شديد سنة 652 أتى على حصن شيزر موطنه وأحاله أنكاثا وأنقاضا، ويقول فى مقدمته:«دعانى إلى جمع هذا الكتاب ما نال بلادى وأوطانى من الخراب، فإن الزمان جرّ عليها ذيله، وصرف إلى تعفيتها (1) حوله وحيله (2)، فأصبحت (كأن لم تغن بالأمس) موحشة العرصات بعد الأنس، قد دثر عمرانها، وهلك سكانها، فعادت مغانيها (3) رسوما، والمسرات بها حسرات وهموما» وهو كتاب ضخم فى نحو 500 صفحة، اختار فيه أطرف ما له ولسابقيه من أشعار بديعة، وقد جعله فى ستة عشر فصلا: فى المنازل والديار والمغانى والأطلال والربع والدّمن (4) والرسم والآثار والمساكن والأرض والأوطان والمدن والبلاد والديار والبيت وبكاء الأهل والإخوان. وأطرف أعماله الأدبية جميعا كتابه الاعتبار وهو سيرة شخصية وسنخصه بكلمة. ونمضى إلى زمن المماليك ويلقانا بدر الدين بن حبيب وكتابه نسيم الصبا، وهو أشبه بمقالات أدبية فى الطبيعة والطير والحيوان والأخلاق وسنلمّ به عما قليل.
ونلتقى فى زمن المماليك بابن حجة الحموى وكتابه «ثمرات الأوراق» وقد طبع مرارا وهو أشبه بكتب المحاضرات، فيه نثر ورسائل وشعر ونوادر وعظات وأخبار وقصص عن الأجواد والبخلاء والعلماء والحمقى والأطباء، مع بعض الأحداث فى زمن المؤلف وبعض الحكايات والفكاهات.
(1) تعفيتها: دثورها وطمسها
(2)
الحيل: الحول والقوة
(3)
مغانيها: منازلها
(4)
الدمن: آثار الديار
وبأخرة من عصر المماليك نلتقى بابن عرب شاه وكتابه «فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء» وسنفرد له كلمة.
ونتقدم إلى أيام العثمانيين، ونلتقى ببهاء الدين العاملى الذى ترجمنا له بين شعراء الشيعة، وله المخلاة، وهى كتاب شعر ونثر وحكم وأمثال ومواعظ وأخبار ونوادر، وأهم منها كتابه الكشكول، وهو فى مجلدين، وبه شذرات من مختلف العلوم الإسلامية والرياضية والطبية، ومن بحوث التاريخ والفلسفة والتصوف، ويفيض بمختارات بديعة من الشعر لمتصوفة ومتفلسفة ولشعراء الغزل والحماسة والحكمة، وحرى بنا أن نلم بما وعدنا بالحديث عنه من أعمال أدبية.
(ا) رسالة (1) الغفران
رسالة طويلة فى نحو مائتى صفحة من القطع الكبير أملاها أبو العلاء ردا على رسالة لعلى بن منصور الحلبى المعروف بابن القارح، وهى تنقسم قسمين: قسما يتحدث فيه عن نهوض ابن القارح من قبره يوم البعث ويتصور له نزهة فى الجنة يلقى بها طائفة من شعراء الجاهلية وصدر الإسلام ويسألهم: بم غفر لهم، ويتردد السؤال فيما بعد مما جعل الرسالة تسمى رسالة الغفران ويرد أبو العلاء بن القارح إلى يوم المحشر ليصور أهواله وأهوال الصراط مع الناس انتظارا لمصيره وقد ظل فى المحشر واقفا حتى تعب من شدة الحر والظمأ، وكان معه صك التوبة ففكر فى دخول الجنة عن طريق خداعه لسدنتها ونظم القصائد الطوال فى مدح رضوان ولم يفهم عنه شيئا، وتركه إلى سادن آخر، فنبهه إلى أن يتشفع بالرسول صلى الله عليه وسلم وحاول الوصول إليه. ولقى حمزة بن عبد المطلب فتوسل به إلى الإمام على بن أبى طالب، ورأى أبا على الفارسى يحاوره نفر من شعراء البادية فى تأويله لبعض كلامهم، وطلب على بن أبى طالب منه شاهدا على توبته فاستشهد بقاض من حلب، وسقاه على من الحوض، وقال له: لا سبيل إلى دخول الجنة قبل الحساب، ورأى استخدام الحيلة فتعلق بركاب إبراهيم بن الرسول صلى الله عليه وسلم: ويسأله رضوان هل معك من جواز؟ ويجذبه إبراهيم معه، فيدخلها ويلتقى ثانية بالشعراء ويحاورهم. ويقيم ابن القارح مأدبة يدعو إليها كل من فى الجنة من شعراء وعلماء وأدباء، ثم يركب بعض دواب الجنة ويسير فيصل إلى مدائن غريبة، ويطلع فيرى طائفة من الجن، ممن آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويسأل شيخهم عن
(1) انظر فى رسالة الغفران (طبعة أمين هندية) و (طبعة د. بنت الشاطئ) وهى طبعة محققة (نشر دار المعارف)
أشعارهم التى جمع منها المرزبانى قطعة صالحة فيقول الشيخ: إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، ثم يرخى من عنان دابته حتى يصل إلى أقصى الجنة حيث يلتقى بالحطيئة والخنساء وهى تنظر إلى أخيها صخر فى الجحيم، وينظر مثل الخنساء، فيجد إبليس وبشارا وامرأ القيس وعنترة واثنى عشر شاعرا معهم من شعراء الجاهلية والأخطل التغلبى ويحاورهم جميعا. ويعود فيلتقى بآدم عليه السلام وببعض الحيّات التى ظلمت فى الدنيا، وكوفئت فى الآخرة بدخول الفردوس ونزولها فى روضة الحيات. ويمر بجنة الرّجّاز، ويحاورهم فى أرجازهم حوارا طريفا. وتنتهى رحلة ابن القارح على الصراط وما شاهد من عذاب فى الجحيم ومن نعيم لا يماثله نعيم فى الجنة، ويفضى ابن القارح إلى المتاع بهذا النعيم.
وهذا هو القسم الأول فى الرسالة، وقد كان له تأثير عميق فى الآداب العالمية، إذ كتب دانتى الشاعر الإيطالى المتوفى سنة 1321 م على غراره الكوميديا الإلهية، وشغل بالبحث فى ذلك كثير من الباحثين الغربيين ولا يزالون مشغولين.
والقسم الثانى من الرسالة خاص بسؤال ابن القارح لأبى العلاء عن الزندقة والزنادقة، وقد استهلها أبو العلاء بالثناء على ابن القارح لوفائه فى زمن يعز فيه الوفاء: وتحدث عن حرفة الأدب وهمومها، ودفع عن المتنبى ما يقال من زندقته أو إلحاده إذ كان متألها كما تشهد بذلك أشعاره، وشك فى عقيدة دعبل. وذكر بعض الشعراء الزنادقة وفى مقدمتهم بشار وصالح بن عبد القدوس والوليد بن يزيد، وتعرض لكثير من النحل المارقة فى زمنه، وفى مقدمتها القرامطة وغلاة الشيعة كعبد الله بن سبأ وعبد الله بن ميمون القداح رأس العقيدة الاسماعيلية والقائلين بالتناسخ كالهنود وبالحلول من الصوفية كالحلاج، وأصلى ابن الراوندىّ الزنديق (1) هو وكتبه: التاج والدامغ والقضيب والفريد والمرجان التى طعن فيها على الدين الحنيف نارا حامية من الذم والتقريع، ومن قوله فى التاج وهو أهم كتب ابن الراوندى الكافرة: لا يصلح أن يكون نعلا، وأفّ وتفّ، وجورب وخفّ وهما واديان بجهنم. ويعود إلى حديث ابن القارح، ويعرض لتوبته وتمثيله جالسا للوعظ فى مسجد بحلب، ويلم بأول سماعه عنه وبشيوخه وببعض علماء حلب وبتلبيات العرب فى الجاهلية وببعض مسائل فرعية.
(1) راجع فى ابن الراوندى وإلحاده والرد عليه كتاب من تاريخ الإلحاد فى الإسلام، لعبد الرحمن بدوى
والرسالة نفيسة إلى أبعد حد لا لأن أبا العلاء صوّر فيها المحشر والجحيم والنعيم فحسب، بل أيضا لأنه ساق فى حواره مع الشعراء نقدا لغويا وعروضيا ونحويا، مع تعرضه لقضية الانتحال على القدماء، ومع جودة استحسانه لما ساقه من أبيات الشعراء وما ذكر من قصائدهم. وقد عرض فى القسم الثانى للنحل الكثيرة فى زمنه وما فيها من خروج على الدين وإلحاد ومروق، وقد أنحى بذم عنيف على كل المارقين الملحدين، ومع ذلك يقال إنه حمّل الرسالة سخرية من الدين الحنيف، والرسالة من ذلك بريئة كل البراءة.
ولم نعرض لأسلوبه فيها، وهو نفس أسلوبه العام الذى ألفناه، أسلوب يقوم على استخدام الألفاظ المبعدة فى الغرابة، تعبيرا عن ثقافته وعلمه الواسع بالعربية، علما لعل أحدا من أدباء العرب على مر أزمنتهم وعصورهم لم يحظ به، وهو لا يكتفى بالإغراب فى ألفاظ سجعه، بل يضيف إليها كما قلنا فى غير هذا الموضع وشيا من المحسنات البديعية وخاصة الجناس. وقد ذكر فيها أبو العلاء شبل الدولة بن صالح بن مرداس أمير حلب (420 - 429 هـ) مما يؤكد أنه أملى رسالته لعهده فى العقد الثالث من القرن الرابع.
(ب) رسالة (1) النّسر والبلبل
هى رسالة بديعة للمهذب أبى طالب محمد بن حسان الدمشقى، ترجم له العماد الأصبهانى فى خريدته. وقال إنه زاره فى مدرسته العمادية التى كان يدرس بها لطلابه فى ربيع الأول سنة 571 وأنشد بعض أشعاره، ثم قال: ونقلت له من رسالة وسمها «بالنّسر والبلبل» فاختصرتها وأولها. . .» ثم ذكر-فيما يبدو فاتحتها، وهى تصور نسرا شاهد روضا فاتنا خلب لبه، ولم يلبث أن استمع إلى بلبل ملأه غبطة وفتنة، فسأله من أين لك هذا الصوت الساحر وأنا مع أنى ملك الطيور ليس لى شئ من سحره وجماله؟ وأجابه إن الصانع الحكيم لا يهب الأصوات حسب الأجسام.
والرسالة تبدأ بوصف النسر على هذا النمط:
طار طائر عن بعض الشجر، وقد هبّ نسيم السحر، وانفلق عمود الفلق (2) وانخرق قميص الغسق (3) مشهور بالقسر (4)، موسوم بالنّسر، والليل قد شابت ذؤابته (5)، وابيضّت قمته. .
(1) انظر الرسالة فى الخريدة (قسم الشام) 1/ 340 وانظر معها ترجمة صاحبها محمد بن حسان وانظره فى كتاب المحمدون من الشعراء والوافى بالوفيات 2/ 330
(2)
الفلق: الصبح
(3)
الغسق: الليل.
(4)
القسر: القهر
(5)
الذؤابة: شعر مقدم الرأس، والاستعارة واضحة
كأنما أجنحته ركّبت من العواصف، واستلبت من البروق الخواطف. . كأنه سهم رشق (1) عن قوس القضاء، أو نجم أشرق فى أفق السماء. . يقبض أجنحته ويبسط، ويصعد إلى السماء ويهبط يجرح بأسنة قوادمه (2) أعطاف القبول (3) وأطراف الصّبا، ويقدّ الشمال بخوالف (4) كأنها غروب (5) الظّبا، ويفتق بخوافيه (6) جيوب الجنوب (7)، ويخرق بصدره صدر الرياح فى الهبوب. . حتى أشرف. . على روض أريض (8). وظلّ عريض، وأنهار متدفّقة، وأشجار مونقة، وطلّ منثور، وورد ومنثور (9)، ومكان بهج، وزهر أرج. . فمن ورد فضىّ الأوراق، ذهبى الأحداق، كافورى الصّبغة، مسكى الصّيغة، مائىّ الجسم، هوائى الرسم، حاكت (10) الصّبا إهابه، وخاطت الشمال أثوابه، وفتّحت الجنوب أكمامه، وحسرت (11) الدّبور عن وجه جماله لثامه، فظهر فى أفق الشجر، كأنه شهب السّحر، أو خدود الحور فى القصور، ظهرت فى غلائل من الكافور، ومن غصون تجتمع وتفترق، وتترنّح وتعتنق، والنسائم تحلّ عقد أزرار الزّهر. . . والشمس تسفر وتنتقب، وحاجب الغزالة (12) يبدو ويحتجب. . فوقف [النسر] فى الهواء حين رآها وقال: هذه غاية النفس ومناها. . أين المذهب، وقد حصل المطلب، وأين الرواح وقد أسفر الصباح. . وبينا هو صافّ الأجنحة عليها ينظر من الأفق بعين التعجب إليها، إد سمع صوتا من بلبل سحرىّ على وكر شجرىّ، يناغى النسائم بنغمة مزماره، ورنّة أوتاره. . وألحان أعذب من نقرات المزاهر، ينثر درّا من عقود ألحانه ولؤلؤا من صدف افتنانه بين أفنانه (13)، ويرجّع قراءة مكتوب غرامه، ويتلو آيات حزنه من مصحف آلامه. . كأنها ما قيل عن مزامير آل داود وتسابيحهم فى الركوع والسجود. . أو أصوات رهبان الصوامع، أو تلاوة من تتجافى (14) جنوبهم عن المضاجع. . ثم هوى إلى القرار، لينظر من النافخ فى المزمار، فرأى البلبل يرجّع سجع ألحانه فى ربع أحزانه».
(1) رشق: رمى
(2)
القوادم: الريش الطويل فى مقدم الجناح
(3)
القبول: ريح الصبا الشرقية
(4)
خوالف: جمع خالفة هى الريش فى مؤخر النسر
(5)
غروب: جمع غرب وهو طرف الحد-والظبا: جمع ظبة وهى الحد للرمح ونحوه
(6)
الخوافى: الريش القصير فى الجناح
(7)
الجنوب: ريح جنوبية
(8)
أريض: كثير النباتات حسن المنظر
(9)
المنثور: زهر له رائحة ذكية
(10)
حاكت: نسجت
(11)
حسرت: كشفت. والدبور ريح تهب من الغرب
(12)
الغزالة: الشمس.
(13)
أفنانه: أغصانه.
(14)
هم المسلمون الأتقياء تتجافى جنوبهم عن المضاجع ليلا للعبادة والصلاة.