الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تذكى بمسيل دمعها الهتّان نار الحرق (1)
…
ما أومض بارق الحمى أو خفقا
…
إلا وأجدّ لى الأسى والحرقا
هذا سبب لمحنتى قد خلقا
وتصويره لمسيل الدموع المتدفق بأنه يضرم نار الحرق تصوير بديع. وموشحات المحّار على هذا النمط تمتع الأذن والقلب والخيال بصفاء موسيقاها ورقتها وما يطوى فيها من جمال التصاوير.
(د) البديعيات
مرّ بنا أن الشام-منذ أواخر القرن الثانى الهجرى-تطورت بصور البديع الحسية التجديدية من جناس وطباق وتصاوير إلى إشراك صور جديدة معها من زخرف الفكر ووشيه على نحو ما هو معروف عن أبى تمام، نافذة بذلك إلى إرساء مذهب جديد فى فن الشعر سميته فى كتاب «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» باسم مذهب التصنيع أى التنميق الناشئ عن استخدام محسنات البديع المعروفة وأيضا عن استخدام طرائف فكرية لا تكاد تحصى. وتبع البحترى-كما ذكرنا-أستاذه أبا تمام فى المذهب ولم تكن له ثقافته الفلسفية ولا بعد غوره فى الأفكار. وكان أبو تمام يكثر من الجناس فلم يتابعه البحترى فى هذا الإكثار وإن ظل يستخدمه كما يستخدم الطباق والتصاوير من تشبيهات واستعارات. ونجد الجناس بعده على كل لسان فكل شاعر شامى يحاول أن ينفذ فيه إلى أبيات بديعة كقول أبى فراس الحمدانى (2):
وما السلاف دهتنى بل سوالفه
…
ولا الشّمول دهتنى بل شمائله
ولعل شاعرا شاميّا لم يكثر من استخدام الجناس كما أكثر أبو العلاء، وسنراه يدخل عليه ألوانا من التعقيد سنعرض لها عما قليل، وكان يعاصره ابن حيّوس المتوفى سنة 473 وكان يتابع أبا تمام فى الإكثار من المحسنات البديعية جناسا وغير جناس. ونرى العماد الأصبهانى فى الخريدة يتوقف مرارا ليثبت على هذا الشاعر أو ذاك كثرة استخدامه للجناس، وسجّل ذلك مرارا على الشعراء
(1) تذكى: تضرم.
(2)
الديوان تحقيق. د. سامى الدهان (طبع المعهد الفرنسى بدمشق) 2/ 302
الثلاثة الذين افتتح بهم الجزء الأول من شعراء الشام وهم الغزى وابن منير والقيسرانى وفيه يقول:
«صاحب التطبيق والتجنيس، وناظم الدر النفيس» (1). وعلى شاكلتهم شعراء الخريدة لا فى استخدام الجناس وحده بل فى استخدام المحسنات البديعية جميعا، وكذلك من تلاهم من الشعراء الشاميين.
وكانت قد تكونت بمصر منذ أواخر أيام الفاطميين مدرسة حملت لواء المحسنات البديعية وأشاعتها فى شعرها ونثرها مضيفة إليها لونا جديدا هو لون التورية الذى يصور مزاج المصريين وميلهم من قديم إلى النكتة، وكان من السابقين إلى حمل هذا اللواء بأخرة من الدولة الفاطمية ابن قادوس وابن قلاقس، وحمله بعدهما القاضى الفاضل وابن سناء الملك وغيرهما. وكانت ديار الشام جميعها توحدت مع مصر لعهد صلاح الدين، وسرعان ما وجدنا ذوق هذه المدرسة المصرية يعم بلدان الشام، كما لاحظ ذلك الصفدى ونقله عنه ابن حجّة الحموى فى خزانته إذ ذكر السابقين فى المدرسة من شعراء مصر ثم قال:«وجاء من شعراء الشام جماعة تأخر عصرهم وتأزّر نصرهم» وعدّ منهم سيف الدين المشد المتوفى سنة 656 والشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصارى شيخ شيوخ حماة المتوفى سنة 662 وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبى المتوفى سنة 680 ومجير الدين بن تميم المتوفى سنة 684 والشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف المتوفى سنة 688 ومحيى الدين بن قرناص الحموى المتوفى سنة 712 وتمثل ابن حجة فى خزانته بأشعارهم فى محسنات البديع المختلفة وفتح لكل منهم فصلا طريفا فى باب التورية، واستطاعوا فى أحوال كثيرة أن يجعلوا لتورياتهم نفس خفة الروح التى تلقانا فى توريات المصريين مثل قول ابن لؤلؤ (2):
يمرّ بى كلّ حين
…
وكلما مرّ يحلو
وهو لا يريد «مر» من المرور وهو المعنى المتبادر لكلمة يمر فى أول البيت، وإنما يريد مرّ من المرارة عكس الحلاوة، وهو المعنى البعيد، ومثل قول مجير الدين بن تميم (3):
أيا حسنها من روضة ضاع نشرها
…
فنادت عليه فى الرياض طيور
ولضاع معنيان: أولهما من ضاع الزهر يضوع إذا فاحت رائحته، وثانيهما من ضاع الشئ
(1) الخريدة (قسم الشام) 1/ 96
(2)
خزانة الأدب للحموى ص 328
(3)
فوات الوفيات 2/ 542
يضيع إذا فقد والأول المراد. ومثل قول الشاب الظريف وقد احتجب بعض أصحابه عنه (1):
ولقد أتيت إلى جنابك قاضيا
…
باللّثم للعتبات بعض الواجب
وأتيت أقصد زورة أحظى بها
…
فرددت-يا عينى-هناك بحاجب
وواضح أنه ليس المراد حاجب العين، وإنما البوّاب المشرف على الزيارة. وتظل التورية شائعة على ألسنة الشاميين، ويشيد الحموى فى خزانته باستخدام الوداعى على بن المظفر المتوفى سنة 716 لها وإكثاره منها كقوله (2):
قال لى العاذل المفنّد فيها
…
يوم وافت فسلّمت مختاله
قم بنا ندّعى النبوّة فى العش
…
ق فقد سلّمت علينا الغزاله
وللغزالة معنيان: معنى قريب وهو الشمس ومعنى بعيد وهو صاحبته الجميلة التى تشبه الغزالة وهو المراد.
ويتتبع ابن حجة ما أخذه ابن نباتة من موائد التورية عند الوداعى، وبالمثل يتتبع ما أخذه الصفدى من ابن نباتة من تورياته البديعة، وكان الصفدى يعنى عناية شديدة باصطناع المحسنات البديعية وخاصة التورية والجناس، وله فيهما كتابان.
ومضى شعراء الشام-بعد الصفدى-كشعراء مصر يعنون بتلك المحسنات بقية زمن المماليك، يشترك فى ذلك فتح الدين بن الشهيد المتوفى سنة 793 وعلى بن أيبك الدمشقى المتوفى سنة 801 وابن الأدمى المتوفى سنة 816 وابن حجّة الحموى صاحب الخزانة المتوفى سنة 837. ويطرد اصطناع المحسنات البديعية فى أيام العثمانيين، ومن أهم ألوانها الاقتباس من القرآن الكريم وتضمين شطور أو أبيات فى قصيدة الشاعر لشعراء سابقين، وقد اقتبس الصاحب شرف الدين عبد العزيز الأنصارى فواصل «سورة الشمس» فى قطعة غزلية له مستهلا لها بقوله (3).
قسما بشمس جبينه وضحاها
…
ونهار مبسمه {(إِذا جَلاّها)}
(1) خزانة الأدب للحموى ص 334
(2)
الخزانة ص 343
(3)
ديوان الصاحب شرف الدين الأنصارى (نشر مجمع اللغة العربية بدمشق-تحقيق د. عمر موسى) ص 515