الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمذهبه فى حرية الإرادة مذهب المعتزلة ومذهبه فيما يخرج عن إرادة الإنسان من نظام الكون والوجود مذهب الجبر ولا يخالفه معتزلى فى ذلك، لأن أحدا لا يستطيع أن يقول إنه يولد باختياره أو يموت باختياره، وإنما الجدل بين الجبرية والقدرية فى إرادة الإنسان إزاء تصرفاته وهل هو حر مختار يتصرف فى أفعاله وأعماله بمشيئته أو هو كريشة فى مهب رياح القضاء والقدر تسيّره كما تريد.
واختار القدرية والمعتزلة الرأى الأول، وهو ما اختاره أبو العلاء بين ما اختاره من الأفكار الاعتزالية وقد صرّح مرارا بما قاله المعتزلة من تنزيه الله عن التجسيد والشبه بالمخلوقات:
ولعل ما أسلفنا من الحديث يوضح فى إجمال كيف كان أبو العلاء فيلسوفا إسلاميا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وكيف أن فلسفته كانت تقوم على تشاؤم حاد يردّ إلى فقده لبصره صبيا وإلى ما أطبق على المجتمع لزمنه من شرور ومن حكم فاسد، كما تردّ إلى إحساسه العميق بآلام الإنسانية التى ملأت قلبه لوعة، مما جعله مفكرا إنسانيا عظيما. هذا جانب فى فلسفته، وجانب ثان استمدّه من الدين الحنيف وما فيه من دعوة إلى الزهد والتقشف والإيمان الصادق بالله وملائكته وكتبه وتكاليفه الشرعية واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، مع الاعتقاد بحدوث الكون وكلّ ما فيه من مادة وزمان وأفلاك وكواكب، فالله خالق الكون ومبدعه قال له: كن فكان. وجانب ثالث فى فلسفته استمده من الاعتزال وما فيه من تمجيد العقل وتقديسه، ومن وجوب العدل على الله وتنزيهه عن التجسيد، ومن الإيمان بحرية الإرادة للإنسان وأنه حر كامل الحرية فى أفعاله الشريرة الآثمة والخيّرة الطيبة.
منصور (1) بن المسلم
هو
منصور بن المسلم
التميمى الحلبى المعروف بالدّميك وبابن أبى الخرجين، ولد بحلب سنة 457 وبها نشأ وحفظ القرآن كعادة لداته «اختلف إلى شوخها، وشغف خاصة بالعربية وأساتذتها، فتزود منها خير زاد، وأنس من نفسه رغبة فى تعليمها وانتقل عن حلب وسكن دمشق، وتحول بها مؤدبا يعلم الصبيان فى مسجد الرماحين وغيره، وظل فى هذا العمل يشغل به حياته حتى توفى سنة نيف وعشرين وخمسمائة. وكان يتقن العربية، مما جعله يصنف كتابا فى الرد على ابن جنى فى كتابه «إعراب الحماسة» ويقول مترجموه إنه دلّ فيه على تعمق فى العربية وجودة
(1) انظر فى منصور بن المسلم الخريدة (قسم الشام) 2/ 169 ومعجم الأدباء لياقوت 19/ 194 وإنباه الرواة للقفطى 3/ 326
غوص. ويقول ياقوت كان له ديوان شعر وقفت عليه بخطه الرائق فوجدته مشحونا بالفوائد النحوية، وقد شرح ألفاظه اللغوية واعتنى بإعرابه فدلّ على تبحره فى علم العربية». وروى العماد الأصبهانى فى الخريدة طائفة من شعره، بينها غزل كثير يدل على رهافة حسه ودقة شعوره من مثل قوله:
أأحبابنا إن خلّف البين بعدكم
…
قلوبا ففيها للتفرّق نيران
رحلتم على أن القلوب دياركم
…
وأنكم فيها على النّأى سكّان
ونمضى معه فى هذا الغزل الملتاع وإذا هو يذكر غربته فى دمشق، وينتقل من الغزل إلى سرد بعض خبرات له فى الحياة، مما تعمق نفسه فى غربته الطويلة عن ملاعب صباه وشبابه وعن مجالس إخوانه وخلاّنه، يقول:
وما باختيار المرء تشعب نيّة
…
فتبرح أوطار وتنزح أوطان (1)
عسى مورد من ماء جوشن ناقع
…
فإنى إلى تلك الموارد ظمآن
وما كلّ إنسان ينال مراده
…
ويسعده فيما يحاول إمكان
وعيش الفتى طعمان حلو وعلقم
…
كما حاله قسمان: رزق وحرمان
وهو يألم لغربته ونزوحه عن وطنه، ويتمنى جرعة من ماء الآبار فى جبل جوشن المشرف على حلب ينقع بها لهيب ظمئه إلى موطنه ودياره. ويسوق ذلك فى عبارات عامة تحيل البيتين الأول والثانى حكمتين بديعتين، وكأنه يريد أن يعزى نفسه فينظم الحكمتين التاليتين، فليس كل إنسان تتحقق مناه ويعيش سعيدا، بل كان إنسان يذوق الحلو والمر فى حياته كما يذوق الرضا والحرمان.
ويستهل قصيدة أخرى بالغزل أيضا وما يلبث أن يفضى إلى الحكم قائلا:
رأيت الفتى يأتيه ما لا يناله
…
بسعى ولو أنضى الرّكائب والرّكبا (2)
ومن رام إدراك المنى بفضيلة
…
فقد رام أمر ليس يدركه صعبا
ويذهب بالودّ المراء ويمترى
…
حفائظ لا تبقى على صاحب صحبا (3)
توقّ قليل الشرّ خوف كثيره
…
ولا تحقرنّ النّزر ربّتما أربى
فإن صغير الشئ يكبر أمره
…
وكم لفظة جرّت إلى أهلها حربا
(1) تشعب: تبعد
(2)
أنضى: أتعب. الركائب: الابل
(3)
يمترى: يستثير: حفائظ جمع حفيظة وهى الغضب والحمية.
وهو يتكلم فى أول الأبيات عن الحظ وما يغدقه على الإنسان، دون سعى، من منى لو أضنى فيها الركائب والركب ما نالها أبدا، ومهما تذرع لها من فضيلة وخصال طيبة ما دنت قطوفها منه بحال، وينصح الأصدقاء أن لا ينشب بينهم مراء ولا جدال مقيت لأنه يثير حفائظهم ومكامن الغيظ منهم ويقطع ما بينهم من صلات. ويوصى الإنسان أن يتجنّب قليل الشر حتى لا يقع فى وهاده الكثيرة السيئة، وأن لا يظنه-مهما صغر وتضاءل-شيئا لا يؤبه به، فقد ينمو كما تنمو النار من بعض الشرر، وكم من شر قليل حقير نما واستفحل واستعصى علاجه، وكم من لفظة حمقاء أو قدت نار حرب مستطيرة. وينثر فى قصيدة ثالثة طائفة من الحكم كقوله:
وقد يحبب الإنسان ما فيه نقصه
…
ويبغض ما ينمى به ويزيد
نريد من الأيام تصفو من الأذى
…
وتضفو ولا يقضى بذاك وجود (1)
وكيف نروم العيش خلوا من القذى
…
وللماء من بعد الصّفاء ركود
إذا كان يعطى المرء ما يستحقّه
…
تساوى شقىّ فى القضا وسعيد
ومن جرّب الدنيا على سوء فعلها
…
يعيب ذميم العيش وهو حميد
وقد ألهمه البيت الأول قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرّ لكم) ويقول إننا نريد من الأيام صفاء من الشوائب وأن تكون ضافية سابغة رغدة ولا تقضى بذلك سنة الوجود، حتى فى الطبيعة، فالماء يركد بعد صفء وحركة دائبة. ولو أن كل شخص نال ما تمنى لخالف ذلك سنة الحياة وأن الناس منهم شقى وسعيد، وجدير بمن خبر الدنيا أن يرضى بميسور عيشه وأن يصبح فى رأيه حميدا لا كريها مذموما. ومن طريف شعره.
الناس كالأرض ومنها هم
…
من خشن اللّمس ومن لين
مرو توقّى الرّجل منه الأذى
…
وإثمد يجعل فى العين (2)
وهو تقسيم بديع للناس فهم كأمهم الأرض معادن مختلفة، منهم الصّلد الذى لا يأتى بخير بل قد يؤذى، ومنهم الكحل النافع الذى يبرئ العين ويزيدها حسنا وبهاء وجمالا. ولمنصور وراء ذلك أشعار يدعو فيها إلى الزهد فى الدنيا والتقوى والعمل الصالح.
(1) تضفو: تصبح رغدة هانئة
(2)
المرو: الحجر الصلد. الإثمد: الكحل
حسين (1) الجزرى
هو حسين بن أحمد الجزرى الحلبى، ولد بحلب وبها نشأ لزمن العثمانيين فحفظ القرآن الكريم ثم اختلف إلى حلقات الشيوخ والأدباء وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة، وقصد به الرؤساء والحكام فى دمشق والعراق ودخل القسطنطينية واصطفاه بنو سيفا أمراء طرابلس لأنفسهم، فنظم فيهم كثيرا من مدائحه، وفيه يقول ابن معصوم:«أحد صاغة القريض. . العالم بشعار الأشعار والمقتفى لأبكار الأفكار. . راقت بدائع آدابه ورقّت، وملكت روائعه حرّ الكلام واسترقّت» ويقول الشهاب الخفاجى: «أديب له أوصاف حسنى، ومناقب هن الوشى بهجة وحسنا» توفى سنة 1034 للهجرة. وله ديوان شعر نشر فى بيروت أولا ثم نشره الطباخ مع ديوانى مصطفى البابى والفتح بن النحاس فى مجموعته: العقود الدرية. وأشعاره موزعة بين المديح والغزل والفخر والشكوى، وكان يشغف بالحكمة ينثرها فى الشعر قائلا:
الشعر ما شاقتك منه حكمة
…
لا ما يشوّقك الكثيب الأوعسا (2)
فليس الشعر فى رأيه ما يصور نزعة الحب الإنسانية وإنما الشعر ما يفيد تجربة وخبرة وبصرا بالحياة. وهو لذلك لا يعد الشعر المشوق لديار الحبيبة ومعاهدها من كثبان وعساء وغير وعساء شعرا رفيع المنزلة فأرفع منه ما يزيدك إدراكا بالحياة من حولك، ويعرّفك كنهها وحقيقتها، يقول فى تضاعيف غزل له:
إن المحبّة محنة لا منحة
…
ومن الغرام برى المحبّ المغرما
وإذا منعت الماء أول مرّة
…
ووردته أخرى تذكّرت الظّما
فى كل يوم روعة أو لوعة
…
والفذّ تقعده الحوادث توأما
ولقد ملئت تحاربا وتجاربا
…
لن تلقنى إلا إناء مفعما
وهى أفكار يعطيها صفة التعميم مما يجعلها حكما وأمثالا، فالحب محنة لا منحة يضنى صاحبه، ومن تصدّه صاحبته أول مرة كمن يصدّ عن الماء وهو شديد الظمأ إذ لا يزال يذكر ذلك حتى لو
(1) انظر فى ابن الجزرى وشعره سلافة العصر ص 393 وريحانة الألبا 1/ 113 وخلاصة الأثر 2/ 81 وانظر ديوانه فى مجموعة العقود الدرية
(2)
الكثيب: تل الرمل. الأوعس: الذى تغيب فيه الأرجل للينه
أتيح له الورود، فظمؤه ولهفته القديمان لا يبرحان ذاكرته، وهل فى الحب إلا صدّ وامتناع وعذاب، والمحب يصلى الروعة بعد الروعة واللوعة بعد اللوعة، ويقول إنه مفعم بالتجارب كما يفعم الإناء بالماء، وينشد:
أرى اليأس عزّا والرّجا ذلّة الفتى
…
وطول المنى عجزا وحبّ الغنى فقرا
فلا تضجرن من حالة مستحيلة
…
كما نلتها عسرا ستتركها يسرا
وإن الفتى كالغصن مادام نابتا
…
فآونة يكسى وآونة يعرى
وهو يرى اليأس من الناس وتحقيق الآمال لا إحدى الراحتين فحسب، بل عزّا ما بعده عز، كما يرى الرجاء وخاصة فى الناس ذلا ما بعده ذل، واتساع الأمانى عجزا لا يشبهه عجز، والتطلع إلى الغنى فقرا لا يماثله فقر. فخير للانسان أن يقنع وأن يرضى من دنياه بالكفاف. ويوصيه أن لا يضجر من شدة تنزل به لانها لا بد أن تستحيل وتتحول، فكل عسر معه يسر، وما أشبه الإنسان بغصن شجرة يعرى من الأوراق ويكسى بها كل عام. ويقول:
إن خصّنى بالبؤس دهرى دائما
…
دون الورى فأنا بذلك أفضل
هذى عقاقير العطارة كلّها
…
لم يحترق منهن إلا المندل
فهو يتقبل البؤس راضيا ويتعلل لبؤسه بأنه أشبه ما يكون بالمندل أو العود الطيب الرائحة فإنه يحرق وحده دون ما عند العطار من صنوف عطارة كثيرة. ويتردد فى أشعاره ذكر الحرمان وأن الكريم لا تضره قلة المال بينما اللئيم لا يجديه ولا ينفعه الثراء، ويحاول أن يجد له ولأمثاله من الأدباء والفضلاء تعلّلات للتضييق على نفر منهم فى الرزق بمثل قوله:
لا تحسب الأرزاق تقسم باطلا
…
كلا لقد ساوى المهيمن بينها
فإذا رزقت الجهل أدركت المنى
…
وإذا حرمت الجدّ أعطيت النّهى
وكأن أهل الأرض فى رأيه اثنان: جاهل ثرى له كل ما يأمل ويتمنى وكأن الدنيا طوع أمره، وعاقل (أديب أو عالم) فقير حرم الجدّ أو الحظ وحرم معه إكسير الحياة من المال والثراء والنعيم.
ويقول:
غير بدع إذا ظلمت بدهر
…
رزق الغمر فيه حظّا عظيما
فالهواء الصحيح يدعى عليلا
…
واللّديغ المصاب يدعى سليما