الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو العلاء (1) المعرّىّ
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان التّنوخى، ولد فى ربيع الأول سنة 363 للهجرة فى بلدة تسمى «معرّة النعمان» من أعمال حمص بين حلب وحماة، وإليها ينسب، واشتهر بكنيته «أبى العلاء» وفى ذلك يقول:
دعيت أبا العلاء وذاك مين
…
ولكنّ الصحيح أبو النّزول
وأسرته تنحدر من قبيلة تنوخ إحدى القبائل العربية الجنوبية، وما إن بلغ الرابعة من عمره حتى اعتلّ علة الجدرى وذهب فيها بصره، وكان يقول:«لا أعرف من الألوان إلا اللون الأحمر لأنى ألبست فى الجدرىّ ثوبا مصبوغا بالعصفر، لا أعقل غير ذلك» . وكان بيته بيت قضاء وعلم وشعر، إذ ظل قضاء المعرة طويلا فيهم، وألم بهم ياقوت فى ترجمته له بمعجم الأدباء وذكر لهم طرائف من أشعارهم. وطبيعى أن يقتدى بهم فيكبّ بعد حفظه القرآن على كتب الدين الحنيف واللغة. وأيضا فإن فقده لبصره مبكرا جعله يعنى بطلب العلم. وتتلمذ على أبيه أولا ومن فى بلدته من تلامذة ابن خالويه، ولم يلبث حين أخذ ما عندهم جميعا أن رحل إلى حلب وحضر على علمائها وعاد منها وهو فى نحو العشرين من عمره سنة 384. وحين بلغ الثلاثين من عمره سأل ربه إنعاما، ورزقه صوم الدهر، فلم يفطر فى السنة والشهر إلا فى العيدين.
ورحل إلى بغداد فى أواخر سنة 398 وبقى بها نحو سنة وسبعة أشهر، وكان من أسباب عودته منها سريعا نشوب خصومة بينه وبين المرتضى العلوى أخى الشريف الرضى بسبب تعصبه للمتنبى، وأيضا كان قد وصله خبر بمرض أمه، فعاد عجلا، ووجدها قد لبّت نداء ربها. وأخذ نفسه منذ
(1) انظر فى ترجمة أبى العلاء وشعره معجم الادباء 3/ 108 وتعريف القدماء بأبى العلاء (طبع دار الكتب المصرية) وفيه كل ما كتب عنه تقريبا فى المراجع القديمة ومن أهمه رسالة الإنصاف والتحرى فى دفع الظلم والتجرى عن أبى العلاء المعرى لابن العديم الحلبى وهى دفاع قوى عنه ونفى لما قيل من إلحاده. وانظر فيه كتاب تجديد ذكرى أبى العلاء لطه حسين (طبع دار المعارف) وتاريخ الأدب العربى لبروكلمان (طبع دار المعارف 5/ 35 وكتبنا: كتاب الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة العاشرة) ص 376 والفن ومذاهبه فى النثر العربى ص 265 وفصول فى الشعر ونقده ص 107 وترجمته فى دائرة المعارف الإسلامية ومطالعات لعباس محمود العقاد ص 70 و
أبو العلاء المعرى
للدكتورة عائشة عبد الرحمن ومقدمتها لتحقيقها لرسالة الغفران. وطبع له سقط الزند بشروح مختلفة واللزوميات ورسالة الغفران والصاهل والشاحج ورسائله بتحقيق الدكتور عبد الكريم خليفة وكذلك بتحقيق الدكتور إحسان عباس. وانظر الحضارة الإسلامية لميتز 2/ 110.
هذا التاريخ فى سنة 400 بحياة زاهدة خشنة ملازما داره وبلدته لا يبرحها، وإلى ذلك يشير بقوله:
أرانى فى الثلاثة من سجونى
…
فلا تسأل عن الخبر النّبيث (1)
لفقدى ناظرى ولزوم بيتى
…
وكون النفس فى الجسم الخبيث
ثلاثة سجون أحاطت قضبانها به: سجن روحه فى جسده وسجن داره وسجن فقده لبصره، وظل يفرغ نحو خمسين عاما لنظم زومياته ولتأليف كتبه الكبرى، ومر بنا أن حلب تبعت مصر منذ سنة 407 إلى سنة 415 وكان أول ولاتها للحاكم بأمر الله الفاطمى عزيز الدولة فاتك الوحيدى وله ألف أبو العلاء كتاب الصاهل والشاحج متحدثا فيه على لسان فرس وبغل، وقد حققته الدكتورة عائشة عبد الرحمن ونشرته دار المعارف، ويقول ابن العديم إنه ألفه لفاتك بسبب حق على بعض أقربائه. وله أيضا صنع كتابه «القائف» وهو أمثال على طريقة كليلة ودمنة، ولم يكد يتم الجزء الرابع منه حتى توفى فاتك سنة 413 فعدل عن إتمامه. وولى حلب بعد فاتك سند الدولة الكتامى سنة 414 وقدّم له أبو العلاء الرسالة السّندية فى مجلد واحد.
واعتقل صالح بن مرداس أمير حلب فى سنة 418 سبعين رجلا من المعرّة هم مشايخها وأماثلها، واجتاز صالح بالمعرة، فخرج إليه أبو العلاء شافعا فيهم فقال له صالح:«قد وهبتهم لك أيها الشيخ» . وعاد إلى داره وهو ينشد:
بعثت شفيعا إلى صالح
…
وذاك من القوم رأى فسد
فيسمع منّى سجع الحمام
…
وأسمع منه زئير الأسد
ومنذ حبس نفسه فى داره أصبح ملاذا لطلاب العلم فى العالم العربى، فهم يغدون عليه ويروحون يأخذون عنه كتبه وشروحها، وبالمثل دواوينه وشروحها، وكثيرا من كتب اللغة وفى مقدمتها كتاب غريب الحديث لأبى عبيد القاسم بن سلام غير كتب لغوية أخرى كثيرة. ويقول ابن فضل الله العمرى:«أخذ عن أبى العلاء خلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل، كلهم قضاة وأئمة وخطباء وأهل تبحّر وديانات. . وكان له أربعة من الكتّاب المجوّدين يكتبون عنه ما يكتبه إلى الناس وما يمليه من النظم والنثر والتصانيف والإجازات والسماع لمن يسمع منه ويستجيزه» . وعقد ابن العديم فى كتابه عنه المسمى «الإنصاف والتحرى» فصلا ذكر فيه مشاهير تلاميذه.
(1) النبيث: الخفى.
وكان أبو العلاء آية خارقة فى الذكاء وقوة الحافظة حتى قالوا إنه كان يلعب النرد والشطرنج، وإذا سمع حديثا بلغة غير العربية حفظه بحذافيره، وقد تحول يعبّ وينهل من ثقافات عصره حتى استوعبها جميعا سواء المترجم عن اليونانية من فلسفة وغير فلسفة، أو المترجم عن الفارسية والهندية فكل ذلك مضافا إلى الثقافتين: الإسلامية والعربية تمثّله أبو العلاء تمثلا حيّا خصبا، يرفعه إلى أعلى منزلة، يتمثّل صاحبها التراث الإنسانى جميعه.
ومنذ سنّ الثلاثين اختار لنفسه صوم الدهر ما عدا أيام الأعياد كما أسلفنا، واختار لنفسه معه حياة زاهدة، وذكر ذلك فى شعره إذ قال إن طعامه العدس والتين أو كما يسميهما البلسن والبلس رافضا ما وراءهما من طيبات الطعام ولذائذه، إذ يقول:
يقنعنى بلسن يمارس لى
…
فإن أتتنى حلاوة فبلس
ويقول ناصر خسرو فى رحلته المسماة «سفرنامه» إنه زاره سنة 438 فوجده فى سعة من العيش مما جعل بروكلمان يشك فى أنه عاش معيشة زاهدة. وهو قول مدفوع بإجماع من ترجموا له من القدماء: أنه كان يعيش معيشة زهد وتقشف، حتى لنرى القفطى-وهو أحد من تحاملوا عليه ورموه بالإلحاد-يقول: لم يكن أبو العلاء من ذوى الأموال، وإنما خلّف له وقف يشاركه فيه غيره من قومه، وكانت له نفس تشرف عن تحمل المنن، فمشى حاله على قدر الموجود، فاقتضى ذاك خشن الملبوس والمأكل والزهد فى ملاذ الدنيا، وكان الذى يحصل له فى السنة مقدار ثلاثين دينارا قدّر منها لمن يخدمه النّصف، وأبقى النصف الآخر لمئونته، فكان أكله العدس-إذا أكل-مطبوخا وحلاوته التين، ولباسه خشن الثياب من القطن وفرشه من لباد (صوف) فى الشتاء وحصيرة من البردىّ فى الصيف، وترك ما سوى ذلك». وربما كان هذا الدخل القليل من أسباب تركه لأكل اللحم ومستخرجاته من البيض واللبن، لا أخذا بمذاهب الحكماء ولا اتباعا لمذهب البراهمة الهندى، كما قيل، بل لضيق ذات يده وإشفاقا على الحيوان، ولعله صنع ذلك مبالغة فى الزهد ورفض طيبات الحياة.
وكان أبو العلاء يحسّ بعمق آلام الإنسان فى دنياه، ولعل ذلك ما جعله يعزف عن الزواج حتى لا يرزق بولد يكابد من دنياه ما كابده وصرّح بذلك قائلا:
هذا جناه أبى علىّ
…
وما جنيت على أحد
ويقال إنه أوصى بكتابة هذا البيت على قبره حين أوشك على مفارقة الدنيا فى سنة 449. وله
رسائل كثيرة جمع منها أخيرا الدكتور عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردنى نحو أربعين رسالة، ونشرها فى ثلاث مجموعات، بدأها بالرسالة المنيحية التى أرسل بها إلى الوزير البغدادى أبى القاسم المغربى وتلاها بالرسالة الإغريضية المرسلة إلى الوزير نفسه. ويبدو أنه أرسل بالرسالتين إليه بعد فراره لعهد الحاكم بأمر الله من مصر، وسنعرض لهذه الرسائل فى غير هذا الموضع. ولأبى العلاء أيضا رسالة الملائكة وهى فى مسائل التصريف، طبعت قديما بالقاهرة.
ورسالة الغفران له مشهورة، وسنلم بها وبكتابه الفصول والغايات فى حديثنا عن النثر. وله «ملقى السبيل» فى الوعظ والزهد، وهو فيه يصوغ المعنى نثرا ثم يصوغه شعرا. وله ديوان صغير سماه الدّرعيات وهو أشعار فى وصف الدروع، وقد طبع ملحقا بديوانه الكبير سقط الزّند.
ونقف قليلا لنتحدث عن السقط ثم عن ديوانه الكبير الثانى اللزوميات، والسّقط أول ما يخرج من نار الزند وشرره، سمى أبو العلاء ديوانه الأول بهذا الاسم إشارة إلى أنه أول ما نظم وسمح به خاطره فشبهه بالسقط. وهو يجمع شعر الصبا ومنه قصيدة نظمها فى رثاء أبيه وهو فى الرابعة عشرة من عمره وشعر الشباب وبعض شعر له فى الكهولة ومنه قصيدة نظمها فى رثاء أمه وأخرى أرسل بها شاكرا مثنيا إلى خازن دار العلم ببغداد. وشرح أبو العلاء هذا الديوان وسمىّ شرحه «ضو السقط» وقد طبع فى مصر قديما. وطبعت دار الكتب المصرية الديوان ومعه ثلاثة شروح: شرح لتلميذه التبريزى وشرح لأبى محمد البطليوسى الأندلسى وشرح لأبى الفضل قاسم الخوارزمى، وهو فى خمس مجلدات كبيرة. والديوان يكتظ بالمديح والرثاء والفخر والنسيب والوصف وأكثره فى المديح، وجمهوره فى مديح أشخاص خياليين، وذكر ذلك فى مقدمته قائلا «لم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد ولا مدحت طلبا للثواب وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السّوس (الطبع) فالحمد لله الذى ستربغفّة (بلغة) من قوام العيش» . ونفس ممدوحيه القليلين لم يوجّه إليهم مديحه-كما قال-طلبا للثواب أو النوال وإنما هم بعض أصدقائه كتبوا إليه فرأى أن يحبيهم شعرا، وربما مدحهم شاكرا صنيعا لهم على نحو ما ذكرنا من ثنائه على خازن دار العلم ببغداد واصفا عونه الحميد له فى أثناء تردده على تلك الدار ومكتبتها الكبرى المشهورة. وطبيعى أن يخلو هذا الديوان من الهجاء والخمريات ووصف الصيد. وهو فى الديوان-بعامة-يحاكى المتنبى، وكان يرفعه فوق جميع الشعراء، وشرح ديوانه وسمّاه معجز أحمد بينما سمّى شرحه لديوان أبى تمام:«ذكرى حبيب» وشرحه لديوان البحترى «عبث الوليد» ويفجؤنا فى الديوان فخر عنيف على نحو ما نقرأ فى قصيدته:
ألا فى سبيل المجد ما أنا فاعل
…
عفاف وإقدام وحزم ونائل
وإنى وإن كنت الأخير زمانه
…
لآت بما لم تستطعه الأوائل
وهذا الصوت القوى المفاخر المباهى بالمجد والعبقرية يكاد يختفى بعد ذلك من الديوان، إذ يعود أبو العلاء إلى صوته الحقيقى: صوت اليأس من الناس والحياة والمعرفة بالدهر وتصاريف أيامه ولياليه. وهو يذكر الليل وظلمته كثيرا، ولعل ذلك بسبب فقده لبصره، وأيضا بسبب تشاؤمه وما حمل من أثقال الدنيا دون أن يجد معينا. وقد شكا كثيرا من أنه لا يجد فى الدنيا صديقا ولا أخا يصفيه الوداد، مع كثرة بغضه للانفراد، حتى ليقول:
ولو أنّى حبيت الخلد فردا
…
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علىّ ولا بأرضى
…
سحائب ليس تنتظم البلادا
ويبالغ أبو العلاء فى سوء ظنه بالناس فى نفس هذه القصيدة الدالية، فيقول إن الجوزاء منزل عطارد المنسوب إليه السّلم لو خبرت الناس خبرته وبلاءه وجرّبت من كيدهم ما جرّب وعرفت من خبث سرائرهم ما عرف لما طلعت عليهم ليلا ولا تراءت لهم مخافة أن يصل إليها كيد من كيدهم، يقول:
فظنّ بسائر الإخوان شرّا
…
ولا تأمن على سرّ فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبرى
…
لما طلعت مخافة أن تكادا
ومضى يخفف حدة التشاؤم الأسود المعتم ببروق كثيرة من الفخر، فمكانه فى السؤدد فوق السموات السبع رفعة وعلاء، وإنه ليفلّ نوائب الأيام وكوارثها وحده بقوته ومضائه.
وفى رأينا أن أروع قصائد أبى العلاء فى سقط الزند مراثيه لأنها تفصل من ذات نفسه ومن أهمها مرثيته لصديقه الفقيه.
غير مجد فى ملّتى واعتقادى
…
نوح باك ولا ترنّم شادى
وشبيه صوت النّعىّ إذا قي
…
س بصوت البشير فى كل نادى
وواضح أنه يقول فى مطلعها إن البكاء الحزين كالغناء الفرح دلالتهما واحدة، إذ سرعان ما تتحول البشارة بالمولود-مهما طالت حباته-صراخا عليه، حتى لكأن الصوتين متشابهان أو مختلطان اختلاط شجو الحمامة فلا يدرى السامع أتبكى محزونة أم تغنى مبتهجة. ويمضى
أبو العلاء فى مثل هذه الأفكار العميقة طالبا من قارئه أن يخفف من وطء أقدامه على الأرض.
لأن ترابها من أديم آبائه وأجداده، وكأن الأرض مقبرة كبرى، وكم من لحد فيها يضحك من تزاحم الأضداد فيه بين صالح وطالح. ولا يلبث أن يقول إن الحياة كلها تعب وعناء وشقاء لاضفاف له، وإن الحزن على الميت والفجيعة فيه لأضعاف السرور ساعة ميلاده. ولأبى العلاء مرثية ثانية يرثى بها صديقا من أبناء عمومته، وهى تكتظ بالحكم من مثل قوله:
لو عرف الإنسان مقداره
…
لم يفخر المولى على عبده
أضحى الذى أجّل فى سنّه
…
مثل الذى عوجل فى مهده
ولا يبالى الميت فى قبره
…
بذمّه شيّع أم حمده
والواحد المفرد فى حتفه
…
كالحاشد المكثر فى حشده
وربّ ظمآن إلى مورد
…
والموت لو يعلم فى ورده
وديوانه الثانى اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم هو الأهم لأنه يحمل فلسفته أو تفكيره الفلسفى بجميع أسسه وشعبه، وقد تكلف فيه-كما يقول فى مقدمته-ثلاث كلف: الأولى أنه ينتظم حروف المعجم جميعها، والثانية أن رويّه يجئ بالحركات الثلاث ثم بالسكون، والثالثة أنه التزم مع كل روى فيه شيئا لا يلزم من باء أوتاء أو غير ذلك من حروف. وقد أوضحنا فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى أنه أضاف إلى هذه الكلف الثلاث كلفا كان يشغل بها الفراغ الطويل الذى نظم فيه اللزوميات إذ امتد الى نحو خمسين عاما. ومن هذه الكلف الدائمة ومنها العارضة أما الدائمة فاستخدامه للفظ الغريب وللجناس وقد التمس فيه ضروبا من التعقيد، كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، إذ يجانس تارة بين القافية وكلمة فى البيت وتارة ثانية بينها وبين أول كلمة فيه وقد يضيف إليها حرفا أو أكثر من الكلمة التالية ليستتم نسق الجناس. وبجانب هاتين الكلفتين الدائمتين فى اللزوميات نجد كلفا عارضة من تصنعه الواسع لألفاظ الثقافات المختلفة، بحيث يعدّ أول من وسّع استعارة الشعراء لاصطلاحات العلوم والفنون فى أشعارهم.
ومع كل هذه الكلف والصعوبات التى ضيّق بها الممرات إلى قوافى الديوان استطاع أن ينظم مجلدين ضخمين من الشعر، ضمنهما فلسفته أو تفكيره الفلسفى المتشائم وهو تفكير شغل فيه بإنسان عصره والإنسان عامة وبالقضية التى طالما شغلت كبار المفكرين قضية الشر الذى يصب على الإنسان والحياة الإنسانية صبّا دون أن يعرف أسبابه ودون أن يستطيع له دفعا أو ردّا. ويتسع به
التفكير فى شرور الحياة الإنسانية وآلامها ويستولى عليه تشاؤم لا أول له ولا آخر، كما يستولى عليه يأس يثقل عليه ثقلا طويلا ويملأ نفسه شقاء وعناء. وإذا كانت الحياة على هذا النحو من الشر ففيم إذن تلقى الأبناء لها من آبائهم وفيم الزواج وهى شر متصل، شر يؤذن دائما بالكوارث والخطوب وتلاحق الفواجع والنكبات، ولا منقذ ولا مخلص:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربّه
…
ويخرج من أرض له وسماء
إنه أسير شرور الحياة وهو لا يستطيع منها فكاكا ولا خلاصا، وحرىّ به أن لا يتخذ ولدا حتى لا يرمى به فى أتون هذه الشرور المهلكة. ولا تشغل أبا العلاء فى لزومياته الشرور الكبرى التى تقع دائما على عاتق الإنسان بل تشغله أيضا الشرور الصغرى التى تحيط بإنسان عصره، وأى شرور؟ شرور الحكم الفاسد لمصر والشام: حكم الفاطميين الذين أحاطهم دعاتهم بهالة قدسية، حتى زعموا أن قدرة الله انتقلت إليهم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، ولججوا فى نعتهم بصفات الله حتى آمنت طائفة فى زمن أبى العلاء بتجسد الألوهية فى الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمى.
وهذا البهتان فى العقيدة كان يروّج له دعاتهم وخطباؤهم فى المساجد، وفى رأينا أنهم المقصودون بحملة أبى العلاء على علماء الدين فى أيامه بمثل قوله:
نادت على الدين فى الآفاق طائفة
…
يا قوم من يشترى دينا بدينار
جنوا كبائر آثام وقد زعموا
…
أنّ الصغائر تجنى الخلد فى النار
وهو يتهمهم بأنهم باعوا باتباعهم المذهب الفاطمى دينهم بثمن بخس دراهم معدودة. وكما حمل على علماء الدين المروّجين للعقيدة الفاطمية حمل على الصوفية لقولهم بالحلول، وسخر كثيرا من ذكرهم وتواجدهم فيه، وسماه رقصا ومن قوله فيهم:
تزيّوا بالتصوف عن خداع
…
فهل رزت الرجال أو اعتميت (1)
وقاموا فى تواجدهم فداروا
…
كأنهم ثمال من كميت (2)
وهاجم الحكّام عامة الذين يرهقون الشعب بضرائب فادحة، دون أن يؤدوا بها أى نفع له أو أى مصلحة، وفى ذلك يقول:
(1) راز: اختبر، اعتمى: اختار
(2)
الكميت: الخمر، ثمال: سكارى.
وأرى ملوكا لا تحوط رعيّة
…
فعلام تؤخذ جزية ومكوس
ويقول فيهم:
ظلموا الرعيّة واستجازوا كيدها
…
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
فهم أجراء عند الشعب يأخذون رواتبهم من كدّه ويعتصرونها من عرقه، ومع ذلك يظلمونه ويبغون عليه ويكيدون له ويأتمرون به. ويتسع بحملته، فيشمل بها الناس من حوله فلا أخ كما مر بنا ولا صديق، وقد شاع الطمع والحقد والمكر والخديعة والخلق الزرىّ المشين. ولم ينس المرأة فى إعلان هذا السخط، فقد وصفها بأنها لا تنصف فى الود ولا تفى للعهد، ولم ينصح بتعلمها، فحسبها فى رأيه-الغزل والنسيج والرّدن أو الحياكة:
علّموهنّ النّسج والغزل والرّد
…
ن وخلّوا كتابة وقراءه
وإنما دفعه إلى ذلك-فى رأينا-فساد المجتمع فى بعض جوانبه. وقد دفعه شعوره بالرحمة على الفقراء لزمنه والرأفة بهم أن دعا إلى المساواة بين الناس فى السرّاء والضرّاء، يقول:
كيف لا يشرك المضيقين فى النع
…
مة قوم عليهم النّعماء
وكل هذه جوانب تمس إنسان عصره وما كان يريد له من حياة كريمة، وليس هذا هو الشطر الأكبر فى اللزوميات، فقد أودعها كما مرّ بنا آنفا كل ما شعر به من آلام الإنسان وأصابه وأوجاعه فى دنياه إزاء ما يصبّ عليه من شرورها وهمومها وأفاعيها التى تلدغه صباح مساء.
ويشيع أبو العلاء فى أشعاره حيرة تتراءى ظلالها فى اللزوميات مما جعل بعض القدماء والمعاصرين يقولون إنه كان يشك فى كل شئ ويتخذ الشك عقيدة له-كما اتخذه السوفسطائيون-ويسلطه على ما حوله حتى على الديانات، واستدلوا على ذلك بمثل قوله:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
…
ويهود حارت والمجوس مضلّله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
…
دين وآخر ديّن لا عقل له
والبيتان فى هجاء أصحاب هذه الديانات لزمنه لا الديانات نفسها، إذ توزعوا أيامه فرقا كثيرة، وكل فرقة تكفّر أختها فى داخل الدين الواحد، وكان المذهب الإسماعيلى الفاطمى قائما فى مصر ويدعو له الحكام وعلماء الدين فى الشام. وطبيعى أن يعجب ممن يدعو لهذا المذهب المسرف
فى الغلو غلوّا شديدا، بل المسرف فى الانحراف عن الإسلام انحرافا مفرطا. وقد استعرضنا فى مقالنا عن التفكير الفلسفى فى شعر أبى العلاء بكتابنا «فصول فى الشعر ونقده» الأشعار التى قالوا إنه هاجم بها الديانات ووصموه من أجلها بالإلحاد وأثبتنا أن بينها منحولا كثيرا انتحله عليه خصومه. ويبدو أن أيادى شريرة امتدت إلى اللزوميات قديما وأدخلت عليها فسادا غير قليل، يدل على ذلك دلالة قاطعة أننا نقرأ فيها:
قد ترامت إلى الفساد البرايا
…
واستوت فى الضلالة الأديان
والبيت على هذا النحو يلصق تهمة الالحاد بأبى العلاء، إذ ينسب الضلالة إلى جميع الأديان، غير أننا إذا رجعنا إلى كتاب شرح المختار من لزوميات أبى العلاء لابن السيد البطليوسى المتوفى سنة 521 بعد أبى العلاء بسبعين عاما وجدناه ينشده على هذا النمط.
قد ترامت إلى الفساد البرايا
…
ونهتنا-لو ننتهى-الأديان
ورواية البطليوسى للبيت أوثق من رواية اللزوميات المطبوعة لأنها أقدم من مخطوطاتها التى اعتمدت عليها وأيضا من النسخ الخطية المحفوظة فى دار الكتب المصرية، مما يدل بوضوح على أن تحريفات (1) مقصودة لبعض ذوى الأهواء الملحدين أدخلت على اللزميات من قديم. ومن المؤكد أنه أضيفت إليه بعض أشعار الزنادقة (2) مثل ابن الراوندى. وقرأ بعض المعاصرين عنده أبياتا ظنوا منها أنه يؤمن بقدم المادة والزمان والكواكب وخلودها مخالفا بذلك رأى المتكلمين المسلمين فى حدوثها جميعا وأنها ليست قديمة فلا قديم سوى الله، وهى فى واقع الأمر أبيات شبّهت عليهم من مثل قوله:
أرى زمنا تقادم غير فان
…
فسبحان المهيمن ذى الكمال
وقوله:
يا شهب إنك فى السماء قديمة
…
وأشرت للحكماء كلّ مشار
(1) أشار د. حامد عبد المجيد محقق شرح البطليوسى فى مقدمته إلى أن المحتار فيه من اللزوميات يصحح بعض ما حرّف من شعر أبى العلاء ووضع عليه واستشهد على ذلك بالبيت المذكور.
(2)
انظر «أبو العلاء المعرى» للدكتورة عائشة عبد الرحمن ص 234 وراجع معاهد التنصيص (طبعة بولاق) ص 71 وقارن بإنباه الرواة للقفطى 1/ 75.
وهو فى البيت الأول جعل الله مسيطرا على الزمان مشيرا بذلك إلى أنه محدث من صنعه، وكل ما هناك أنه قال إن الزمان تقادم أى تعمق فى القدم، وجعل الشهب فى البيت الثانى قديمة وهو لا يقصد بالقدم فى البيتين ما يناقض الحدوث إنما يقصد ما يناقض الحداثة بشهادة قوله:
وليس اعتقادى خلود النجوم
…
ولا مذهبى قدم العالم
فهو لا يقول بخلود الأفلاك والكواكب والمادة ولا بقدمها كما كان يقول فلاسفة اليونان. وإنما دخل الخطأ على بعض الباحثين من فهمهم القدم فى مثل البيتين السالفين-كما قلنا-بأنه يعنى نقيض الحدوث وهو إنما يعنى نقيض الحداثة، وقد بسطنا ذلك فى مقالنا عن أبى العلاء بكتابنا المذكور آنفا، وأوضحنا أنه فى أشعاره مؤمن إيمانا عميقا بالديانات السماوية والدين الحنيف ورسالته السامية، كما أوضحنا أن هذا الايمان أصل أساسى من أصول تفكيره الفلسفى العلائى، وأنشدنا له طائفة من الأشعار التى تصور بوضوح إيمانه بالتكاليف الشرعية وبالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكل ما يتصل به من بعث ونشور من مثل قوله:
أقيم خمسى وصوم الدهر آلفه
…
وأدمن الذكر أبكارا بآصال
فهو صائم الدهر، فرض على نفسه الصوم حين بلغ الثلاثين من عمره كما مر بنا، وهو دائما يتجه إلى ربه مصليا الصلوات الخمس دون أى انقطاع واصلا صلاته بالصيام والدعاء والذكر والتبتل والاستغفار. ويعترف مرارا بالبعث والحساب وأن ملكين يكتبان عن يمينه وشماله حسناته وسيئاته، يقول:
قد راعنى للحساب ذكر
…
وغرّنى أنه بعيد
وعن يمينى وعن شمالى
…
بصحبتى حافظ قعيد
وهو يستلهم فى البيتين قوله تعالى: (إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). ويعترف بحساب القبر وسؤال الملكين منكر ونكير فيه للناس، يقول مخاطبا الليالى:
خلّصينى من ضنك ما أنا فيه
…
واطرحينى لمنكر ونكير
ويشعر فى عمق بأنه مقصّر مهما قدم لربه من عبادة، ويأمل دائما فى عفوه ومغفرته يوم النشور، يقول ضارعا:
ومغفرة الله مرجوّة
…
إذا أصبحت أعظمى فى الرّمم
ويا ليتنى هامد لا أقوم
…
إذا نهضوا ينفضون اللّمم
ونادى المنادى على غفلة
…
فلم يبق فى أذن من صمم
وجاءت صحائف قد ضمّنت
…
كبائر آثامهم واللّمم (1)
وليت العقوبة تحريقة
…
فصاروا رمادا بها أو حمم (2)
فهو آمل فى غفران الله. ومع حياته الزاهدة الناسكة يخاف لقاء ربه حتى ليتمنى أن لا يبعث يوم القيامة {يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ} كما جاء فى سورة ق، فيهبّ الناس من رقادهم.
ويقول أبو العلاء إنهم يسمعون النداء أو الصيحة بآذانهم، ويستلهم مثل قوله تعالى:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً.} وما يلبث أن يقول ليت العقاب يوم القيامة كان تحريقا يصبح العصاة به رمادا أو حمما فيستريحون، ولكنه عذاب خالد، وقد تكرر ذلك فى القرآن كثيرا مثل:{أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.}
ولعل فى ذلك ما يسقط كل ما قاله عنه بروكلمان فى ترجمته له من أنه كان لا يعترف برسالة الإسلام وأيضا ما قاله بعض المعاصرين عنه من أنه كان منكرا للنبوات جاحدا بالرسالة المحمدية، وكيف يقال عنه إنه كان يجحدها، وله قصيدة رائعة فى مديح الرسول صلى الله عليه وسلم ختمها بقوله بعد إشادة رائعة به وبرسالته النبوية:
فصلّى عليه الله ما ذرّ شارق
…
وما فتّ مسكا ذكره فى المحافل
واقترن ذلك عنده-كما مر بنا-بالزهد والتقشف وهو فيهما يصدر عن الإسلام وروحه، وحقا كان متشائما تشاؤما عميقا يملأ حنايا نفسه، ولكن كان لا يزال يومض له بريق الأمل فى رحمة ربه وعفوه، يقول:
وما أنا بائس من عفو ربّى
…
على ما كان من عمد وسهو
وذهب بعض المعاصرين إلى أنه اتخذ العقل إماما له، لا يثق ولا يستسلم ولا يلقى مقاليده إلا إليه، لمثل قوله:
كذب الظنّ لا إمام سوى العق
…
ل مشيرا فى صبحه والمساء
(1) اللمم: الذنوب الصغيرة
(2)
الحمم: ما أحرق من خشب وغيره
وظنوا أن فى ذلك ما يتصل من بعض الوجوه لإنكاره-فى رأيهم للنبوات، وفاتهم أنه متابع فى تمجيده للعقل واعتزازه به للمعتزلة وقد مرت بنا فى كتاب العصر العباسى الأول أبيات بشر بن المعتمر المعتزلى الرائعة فى تمجيد العقل، وما زال المعتزلة يشيدون به حتى نفذ الجبّائى وابنه أبو هاشم إلى إثبات شريعة عقلية بجانب شريعة الوحى السماوى وهى لا تخالفها بل تشهد لها وتسندها.
وأبو العلاء يتابع الجبائى وابنه، وكان يخالفهما الأشعرى، ولذلك حمل عليه أبو العلاء فى رسالة الغفران. وكان-مثل المعتزلة-يفسح للظن، إذ الظن أساس المعرفة وأساس ما يصل إليه الإنسان من اليقين وفى ذلك يقول:
أما اليقين فلا يقين وإنما
…
أقصى اجتهادى أن أظنّ وأحدسا
فمبلغ علمه الوصول إلى الظن، وهو بذلك يتفق مع المعتزلة القائلين بأن كثيرا من التكاليف العقلية والشرعية مرجعه فى الاجتهاد إلى الظن.
ويذهب بعض دارسى أبى العلاء إلى أنه كان يؤمن بالجبر مكرّرا أن الإنسان يدخل الدنيا كارها ويخرج منها كارها، يقول:
خرجت إلى ذى الدار كرها ورحلتى
…
إلى غيرها بالرّغم والله شاهد
وأبو العلاء إنما كان يؤمن بالجبر فى حياته وموته ووجوده فكل ذلك يحدث بإرادة الله ولا دخل لإرادة الإنسان فيه، إذ لا نخرج إلى الدنيا اختيارا ولا نرحل عنها اختيارا، وهو ما لا ينكره عليه أحد من القائلين بحرية الإرادة للإنسان إذ يريد بها المعتزلة-وهو معتزلى مثلهم-إرادة الأعمال والأفعال، ويقدّم على ذلك دليلا قاطعا حاسما قائلا:
إن كان من فعل الكبائر مجبرا
…
فعقابه ظلم على ما يفعل
وهو بذلك ينكر الجبر صراحة فيما يقترف الإنسان من كبائر، ويرتب أبو العلاء عليه-عند القائلين به-نسبة الظلم إلى الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وهو بذلك يصدر عن فكرة المعتزلة القائلة بوجوب العدل على الله كما يصدر عن فكرتهم أن الإنسان حر تام الحرية فى أفعاله وتصرفاته أما ما وراء ذلك من الأعمال الكونية فخاص بالله وارادته العليا ولذلك يقول:
لا تعش مجبرا ولا قدريّا
…
واجتهد فى توسّط بين بينا