الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
النثر وكتابه
1 - الرسائل الديوانية
عرفت الشام الرسائل الديوانية منذ عهد معاوية أول خلفاء بنى أمية، لما كان من اتخاذه لديوان الرسائل، واتخذ معه ديوانا للخراج وديوانا ثانيا للخاتم (1) أو ختم الرسائل التى تصدر عنه إلى الولاة، ويهمنا خاصة الديوان الأول: ديوان الرسائل، إذ مضى معاوية ومن تلاه من الخلفاء الأمويين على اختيار من يقومون عليه، بحيث يكونون فى الذروة من البيان والبلاغة لزمنهم، وقد ظلوا طوال القرن الأول يختارونهم من العرب، ويذكر الجهشيارى أثباتا طويلة بأسمائهم. أما ديوان الخراج فكان يقوم عليه كتاب من الموالى فأصبح كتابه من العرب، وسرعان ما عنى الكتاب الأجانب بتعلم العربية وأخذوا يشاركون فى ديوان الرسائل (2)
وما نصل إلى زمن الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك (104 - 124 هـ) حتى يصبح زمام ديوان الرسائل فى دمشق بيد مولى لهشام هو سالم (3)، وكان يتقن اليونانية ونقل عنها بعض رسائل لأرسططاليس (4)، ومعنى ذلك أنه كان مثقفا ثقافة عريضة بالعربية والإسلام واليونانية، وعدّه صاحب الفهرست أحد البلغاء العشرة الأول فى تاريخ العرب وأدبهم ويقول إن له رسائل تبلغ نحو مائة ورقة (5) واحتفظ الطبرى برسالة له كتبها عن هشام إلى خالد القسرى، وهى تحمل عناية واضحة بالأسلوب وما يوفره له من الازدواج والترادف الصوتى. وتبعه فى النهوض بالرسائل
(1) الوزراء والكتاب للجهشيارى (طبعة الحلبى) ص 24.
(2)
انظر فى ذلك الفن ومذاهبه فى النثر العربى ص 103.
(3)
الجهشيارى ص 62.
(4)
الفهرست ص 171.
(5)
انظر الفهرست ص 171، 182.
السياسية تلميذان: أحدهما من بيته هو ابنه عبد الله، وثانيهما من غير بيته هو عبد الحميد الكاتب الذى انتهت إليه رياسة ديوان الرسائل فى أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية، وهو أبلغ كتاب الدواوين وأشهرهم حتى زمنه، لبلاغته وقد ضربت بها الأمثال، فقيل:«بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد» (1) ويقول ابن النديم: «عنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا، وهو الذى سهّل سبيل البلاغة فى الترسل (2)» ويقول المسعودى إنه «أول من استخدم التحميدات فى الكتب (3)» واشتهر برسالة وجّه بها إلى الكتاب، وهى تدل على نمو طائفتهم وأنهم أخذوا يشكّلون فئة بارزة فى حياة الدولة والمجتمع، وفيها ينصحهم أن يلموا بالثقافة الإسلامية والعربية والأجنبية (4). وكان يعرف الفارسية، ويقول صاحب الصناعتين إنه استخرج أمثلة الكتابة التى رسمها لمن بعده من اللسان الفارسى فحوّلها إلى اللسان العربى (5)» وذكر الجاحظ أنه ترجم بعض كتب من الفارسية. وتحتفظ الكتب الأدبية ببعض رسائله السياسية، ومنها رسالة (6) طويلة كتب بها عن لسان مروان بن محمد إلى ابنه وولى عهده عبد الله حين وجّهه لمحاربة بعض الخوارج، وهى أشبه بكتّيب يشتمل على دستور محكم لقواد الدولة يضع لهم نظاما دقيقا لجيوشهم وتدبير شئونها من الوجهتين المادية والحربية. وبمجرد أن تحولت الخلافة من الأمويين إلى العباسيين وحلت بغداد محل دمشق أصبحت هى والشام جميعه ولاية تابعة للعباسيين، ولم يعد لديوان الإنشاء كبير أمر فى عصر الولاة والطولونيين والإخشيديين، بل لقد تعطل تماما، ولم نعد نسمع لدمشق أو للشام بكاتب كبير، إذ تحولت الكتابة الديوانية وتحول معها ديوان الإننشاء إلى بغداد، وأصبحنا طوال القرون: الثانى والثالث والرابع مشدودين إلى ديوان بغداد وكتّابه العظام، وأخذت الدولة الطولونية تعنى فى الفسطاط بهذا الديوان وظهر فيه ابن عبد كان وأضرابه، واستمر هذا النشاط زمن الإخشيديين ولكن شيئا منه لم يسقط إلى الشام، إذ كانت حينئذ ولاية تابعة للطولونيين والإخشيديين جميعا، وظل كثير من بلدانها تابعا لمصر فى زمن الدولة الفاطمية، ولم ينشأ حينئذ فى دمشق أو غيرها ديوان إنشاء ينهض الكتاب فيه بالكتابة الديوانية، حتى إذا أظلّ دمشق حكم دولة الأتابكة البوريين (497 - 549 هـ) رأيناها تعنى
(1) اليتيمة للثعالبى (تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد) 3/ 154.
(2)
الفهرست ص 170.
(3)
مروج الذهب للمسعودى (طبعة دار الرجاء) 3/ 178
(4)
الجهشيارى ص 73 وما بعدها
(5)
الصناعتين (طبعة الحلبى) ص 69
(6)
صبح الأعشى للقلقشندى 10/ 195 وما بعدها.
بهذا الديوان، ويشتهر ببلاغه الكتابة فيه كتاب مختلفون، لعل أهمهم سنى الدولة (1) ابن أخى الشاعر ابن الخياط الذى ترجمنا له بين شعراء المديح، ويذكر له العماد قطعا مختلفة من منشوراته وتقاليده، من ذلك قوله فى منشور بالوزارة:
وكتاباته على هذا النحو دائما مسجوعة سجعا فيه غير قليل من الرشاقة والعذوبة. وكتب بعده لسلاطين دمشق البوريين عبد الله بن أحمد الحميدى المعروف باسم ابن النقاد (2) الكاتب الدمشقى، وظل يكتب لهم إلى أن تملكها منهم نور الدين محمود، وكتب له مدة يسيرة، وتوفى سنة ثمان أوتسع وستين وخمسمائة، ولم يذكر العماد شيئا من كتاباته.
ويظلّ حلب ودمشق. وبلدان الشام الشمالية عهد نور الدين (541 - 569 هـ) وكان وزيره ومستوفى دواوينه وكتابة الإنشاء فيها خالد بن محمد بن القيسرانى، وهو ابن الشاعر المترجم له بين شعراء المديح، ويقول العماد فيه:«كان نور الدين رفعه واصطنعه، وبلغ منه مبلغا من الأمر كأنه أشركه فى الملك معه» (3) ويذكر له ابن واصل توقيعا كتبه باسم نور الدين لرفع المكوس والضرائب الباهظة عن كاهل رعيته فى البلدان التى أظلها حكمه جاء فيه (4).
ويلى ذلك بيان بما أسقط نور الدين عن كل بلد من المكوس والضرائب. وكان من كتابه أبو اليسر (5) شاكر بن عبد الله المعرى كاتب الإنشاء بدمشق، واستعفاه من الخدمة سنة 563
(1) انظر فى سنى الدولة الخريدة (بداية الشام) ص 227.
(2)
الخريدة (قسم الشام) 1/ 314 وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 277 والنجوم الزاهرة 6/ 65.
(3)
الخريدة 1/ 125.
(4)
انظر مفرج الكروب لابن واصل 1/ 270 وما بعدها.
(5)
الخريدة (قسم الشام) 2/ 35 وراجع فى أبى اليسر تعريف القدماء بأبى العلاء ص 504.
فأقام العماد الأصبهانى مقامه، وأضاف إليه-كما هو معروف-التدريس فى مدرسته المعروفة باسم المدرسة النورية الشافعية. ووصله القاضى الفاضل بصلاح الدين فرسم باستكتابه فى ديوانه بالشام، وسنفرد له ترجمة مجملة، وهو أكبر كتاب الدولة الأيوبية فى دمشق والشام غير منازع.
وتتحول الشام إلى إقطاعات بعد زمن صلاح الدين، حتى ليوشك أن يكون لكل بلد أمير أيوبى، ويتخذ كل أمير لنفسه كاتب رسائل نابه، وكان بينهم غير مصرى مثل ابن النبيه كاتب الأشرف موسى، وهو مشهور بين شعراء الغزل فى مصر، ومثل عبد الرحيم بن على بن شيث المتوفى سنة 625 صاحب ديوان الإنشاء للمعظم عيسى الأيوبى صاحب دمشق، وله كتاب فى عمل الدواوين وتقاليد الكتابة الديوانية لزمن الدولة الأيوبية سماه «معالم الكتابة ومغانم الإصابة» وهو مطبوع قديما ببيروت، وهو أحد مصادر كتاب صبح الأعشى للقلقشندى. ويكثر منذ هذه الدولة ودولة المماليك أن يعهد برياسة ديوان الإنشاء بمصر إلى من يظهرون تفوقا فى إسناد هذا الديوان إليهم بدمشق، ونذكر منهم تاج الدين أحمد بن الأثير الحلبى المنشئ المتوفى سنة 691 للهجرة، عمل فى ديوان الإنشاء بدمشق، ثم انتقل منه إلى ديوان الإنشاء بالقاهرة فى عهد الظاهر بيبرس وقلاوون، وظل يترقى إلى أن ولى كتابة السر، ويقول ابن تغرى بردى:«لكلامه رونق وطلاوة» ويذكر من إنشائه كتابا عن قلاوون إلى صاحب اليمن بفتحه لطرابلس واستيلائه عليها من أيدى الصليبيين نوّه فيه باستعلاء قلاوون على غيره من الحكام القاعدين عن منازلة حملة الصليب الغارقين فى اللهو، يقول (1):
ويريد بالسكة ضرب النقود ونقش أسمائهم عليها كما يريد بالخطبة دعاء خطباء المساجد لهم فى ختام خطابتهم يوم الجمعة. وتولى بعده كتابة السر فى القاهرة ابنه عماد الدين حتى توفى سنة 699 وشغل مكانه أخوه علاء الدين على فى عهد محمد الناصر بن قلاوون.
وأكبر كتاب الشام الذين رأسوا ديوان الإنشاء بدمشق والقاهرة الشهاب محمود المتوفى سنة 725، وقد مرت ترجمته بين شعراء المديح واحتفظ القلقشندى فى صبحه بنماذج كثيرة من رسائله
(1) النجوم الزاهرة 7/ 323 وراجع فى ترجمته 8/ 34
وتوقيعاته الديوانية، وذكر هو نفسه منها طائفة فى كتابه «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» وذكر ابن حجر عن الصفدى أن رسائله تدخل فى ثلاثين مجلدا وأن بعض الفضلاء اختار منها مجلدين، ومن قوله فى التهنئة بتقليد سيف (1):
ومن كبار كتاب الشام الذين عملوا فيها وفى مصر فى دواوين الإنشاء صلاح الدين الصفدى المتوفى سنة 764 وسنخصه بكلمة، ومنهم ناصر الدين محمد بن محمد الحموى المعروف بابن البارزى المتوفى سنة 823 تولى قضاء حماه ثم كتابة سرها وصحب السلطان المؤيد شيخ أيام نيابته بدمشق، وقدم معه إلى مصر حين تسلطن عليها سنة 815 وعينه كاتب السر بها إلى أن توفى، وقد احتفظ القلقشندى له بعهد عن الإمام المستعين (الخليفة العباسى المقيم بمصر حينئذ) للسلطان المؤيد شيخ، وفيه يقول (2):
وقدرة ابن البارزى الإنشائية تتضح فى هذه السطور، إذ يطيل سجعاته وقد جعل الدال قوافيها جميعا، وهو إنما يطيل سجعاته ليضيف إليها الجناس كما فى «بادئة وبائدة» و «أحكام وإحكام» و «الرّداء: الثوب (كناية عن الأحوال) والرّدى: الهلاك. ويفسح أيضا للسجع الداخلى فى السجعة مثل: «عوارف العدل ومعارف الفضل» .
(1) حسن التوسل إلى صناعة الترسل طبع المطبعة الوهبية ص 100. وفرند السيف: لمعان صفحته. والقوادم: ريشات الطائر الكبار فى جناحه. ونجاد السيف: حمائله.
(2)
صبح الاعشى 10/ 121 وانظر فى ترجمته النجوم الزاهرة 14/ 161.
وعيّن ابن البارزى فى ديوان الإنشاء أديبا مواطنا له هو ابن حجّة الحموى المتوفى سنة 837 وسنفرد له كلمة قصيرة، وخلف ابن البارزى فى كتابة السر ابنه كمال الدين، وكان تارة يعزل وتارة يعود إلى كتابة السر حتى وفاته سنة 856.
ووراء هؤلاء الكتاب الديوانيين الذين بلغ من نبوغهم فى الكتابة الديوانية أن نقلتهم الدولة إلى القاهرة فى ديوانها الكبير كتّاب كثيرون كانوا يكتبون لحكام البلدان الشامية، وأهمهم كتّاب ديوان دمشق إذ كان بها نائب السلطان، وكان ديوانها لذلك أهم الدواوين الشامية، ونذكر من كتّابها علاء الدين على بن محمد بن سلمان المعروف بابن غانم المتوفى سنة 737 ومن نثره فى وصف قلعة (1):
ونذكر من أهم كتّاب السر فى دمشق أو بعبارة أخرى رؤساء ديوان الإنشاء بها حفيد تاج الدين بن الأثير المذكور آنفا، وهو كمال الدين محمد بن إسماعيل ثم ابنه عبد الله، تولّى كتابة السر بدمشق فترة وعزل سنة 764 وتولاها فتح (2) الدين بن الشهيد حتى توفى سنة 793 وكان بارعا فى الشعر وكتابة الرسائل، ونظم السيرة لابن هشام فى رجز بلغت عدته خمسين ألف بيت. ومنهم صدر الدين على بن محمد المعروف بابن الأدمى المتوفى سنة 816 ولى نظر جيش دمشق، ثم كتابة سرها ثم قاضى قضاتها، ونقله معه المؤيد شيخ حين أصبح سلطانا لمصر سنة 815 وجمع له بين القضاء والحسبة وفيه يقول صاحب النجوم الزاهرة:«كان إماما بارعا أديبا فصيحا ذكيا (3)» .
وما زالت الكتابة الديوانية مزدهرة بدمشق إلى أن استولى عليها العثمانيون سنة 922 وأصبحت اللغة التركية اللغة الرسمية للدواوين فيها وفى غيرها من بلدان الشام. ونقف قليلا عند ثلاثة من كتابها النابهين.
(1) فوات الوفيات 2/ 159. النظر الشزر: المستهين، فرات: حلو. أجاج: شديد الملوحة.
(2)
النجوم الزاهرة 12/ 125
(3)
النجوم الزاهرة 14/ 122