المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٦

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌(ا) فتح العرب للشام

- ‌(ب) زمن الدولة الأموية

- ‌(ج) زمن الولاة العباسيين

- ‌(د) الطولونيون-القرامطة

- ‌1 - الطولونيون

- ‌2 - القرامطة

- ‌(هـ) الإخشيديون-الحمدانيون (سيف الدولة)

- ‌1 - الإخشيديون

- ‌2 - الفاطميون-بنو مرداس-السلاجقة-الصليبيون-آل زنكى (نور الدين)

- ‌(ا) الفاطميون

- ‌(ج) السلاجقة

- ‌(د) الصليبيون

- ‌3 - الأيوبيون (صلاح الدين) -المماليك-العثمانيون

- ‌(ب) المماليك

- ‌(ج) العثمانيون

- ‌4 - المجتمع

- ‌5 - التشيع: الإسماعلية والإمامية-النصيرية-الدروز-الإسماعيلية النزارية أو الفداوية أوالحشاشين

- ‌(ا) الإسماعلية والإمامية

- ‌(ب) النّصيريّة

- ‌(ج) الدروز

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا

- ‌(ا) علوم الأوائل

- ‌(ب) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والنقد والبلاغة

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الشام

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعر دورى-رباعيات-موشحات-بديعيات-تعقيدات

- ‌(ا) الشعر الدورى

- ‌(ب) الرباعيات

- ‌(ج) الموشحات

- ‌ أيدمر المحيوى

- ‌(د) البديعيات

- ‌(هـ) التعقيدات

- ‌4 - شعراء المديح

- ‌ابن الخياط

- ‌ ابن القيسرانى

- ‌ ابن الساعاتى

- ‌ الشهاب محمود

- ‌5 - شعراء الفلسفة والحكمة

- ‌أبو العلاء المعرى

- ‌ منصور بن المسلم

- ‌6 - شعراء التشيع

- ‌كشاجم

- ‌ابن حيّوس

- ‌ بهاء الدين العاملى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ عبد المحسن الصورى

- ‌ ابن منير

- ‌ الشاب الظريف

- ‌ حسن البورينى

- ‌2 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌عرقلة

- ‌ ابن عنين

- ‌ ابن النحاس

- ‌3 - شعراء المراثى والشكوى

- ‌ ابن سنان الخفاجى

- ‌الغزّىّ

- ‌ فتيان الشاغورى

- ‌ مصطفى البابى

- ‌4 - شعراء الطبيعة ومجالس اللهو

- ‌الوأواء الدمشقى

- ‌ مجير الدين بن تميم

- ‌ابن النقيب

- ‌[5 - ] شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ عبد العزيز الأنصارى

- ‌ محمد بن سوّار

- ‌ عبد الغنى النابلسى

- ‌6 - شعراء شعبيون

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌العماد الأصبهانى

- ‌الصّفدى

- ‌ابن حجّة الحموى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌(ا) رسائل أبى العلاء

- ‌(ب) رسائل متنوعة

- ‌3 - المقامات

- ‌ابن الوردى

- ‌4 - المواعظ والابتهالات

- ‌(ج) خطبة القدس بعد فتحه لمحيى الدين بن الزكى

- ‌(د) كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار

- ‌5 - أعمال أدبية: رسائل وغير رسائل:

- ‌(ج) كتاب الاعتبار

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

لكتاب المفتاح كتب له أن يذيع بين علماء البلاغة وأن يكتبوا له كثيرا من الشروح بحيث أصبح محور الدراسة للبلاغة وفنونها شرقا وغربا منذ زمنه إلى اليوم. وعنى ببسط قضايا علوم البلاغة:

المعانى والبيان والبديع فى كتاب ثان له سماه الإيضاح، وله نفس الشهرة التى حظى بها تلخيصه.

ويصنّف ابن قيم (1) الجوزية الدمشقى المتوفى سنة 751 كتابه «الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلوم البيان» وفيه يتحدث عن الفصاحة والبلاغة وفنون البيان والمعانى والبديع. وتنقص الكتاب دقة الترتيب والتبويب. وكان يعاصره الصفدى المتوفى سنة 764 وسنترجم له بين المورّخين، وعنى بثلاثة فنون من فنون البديع: الجناس وله فيه كتاب جنان الجناس وهو مطبوع، والتورية والاستخدام وله فيهما كتاب فض الختام فى التورية والاستخدام وبدار الكتب المصرية مخطوطة منه. ونصبح فى زمن تأليف البديعيات وشروحها وهى قصائد فى مديح الرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن كل بيت فيها محسنا من محسنات البديع. وينظم ابن حجة الحموى المتوفى سنة 837 بديعية فى مائة واثنين وأربعين بيتا أحصى فيها محسنات البديع، وقد بلغت عنده نحو مائة وأربعين محسنا وشرحها شرحا مفصلا سماه بحق خزانة الأدب، إذ يشتمل على نظرات تحليلية نقدية وبلاغية كثيرة تتصل بالشعر والشعراء وخاصة فى زمن الأيوبيين والمماليك، بحيث يصبح مصدرا مهما لمن يكتبون عن الأدبين المصرى والشامى فى تلك الحقب، مع منتخبات بديعة للشعراء والكتّاب تدل على ذوق أدبى مرهف، وسنترجم له بين الكتّاب. وظل نشاط البديعيات متصلا أيام العثمانيين، ولعبد الغنى النابلسى الذى سنترجم له فى غير هذا الموضع بديعيتان (2) ومع كل بديعية شرح خاص بها.

‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

أخذت الشام تعنى بقراءة الذكر الحكيم منذ دخلها الإسلام مع الأفواج الأولى من الصحابة، ومن أهم قرائها فى الصدر الأول أبو الدرداء قاضى دمشق المتوفى سنة 32 للهجرة وكان إذا صلّى الغداة فى جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه. ومرّ بنا ذكر ذلك وأنه كان

(1) راجع فى ابن القيم الدرر الكامنة لابن حجر 4/ 21 والبدر الطالع 2/ 143 والنجوم الزاهرة 10/ 249 وطبقات الحنابلة للشطى ص 61 وكتابنا «البلاغة: تطور وتاريخ» ص 319

(2)

انظر الحديث عنهما فى كتابنا البلاغة: تطور وتاريخ 364 وما بعدها

ص: 93

يجعل الناس عشرة عشرة ويجعل على كل عشرة عريفا، وعدّ يوما من يقرءون عنده فوجدهم ألفا وستمائة ونيفا، ولعل فى ذلك ما يوضح إقبال الناس فى الشام سريعا على قراءة الذكر الحكيم، وظلوا يدوّون به فى مساجدها. وخلف أبا الدرداء فى إقراء الناس بدمشق عبد (1) الله بن عامر اليمنى العربى المتوفى سنة 118 للهجرة وكان عريفا على عشرة عنده ممن يقرأون. ولم يكتف بأخذ القرآن وسماعه منه وعرضه عليه فقد أضاف إليه المغيرة بن أبى شهاب، فقرأ عليه القرآن، وكان المغيرة قرأه على عثمان بن عفان. واستطاع أن يبلغ من إحكام قراءته ما جعل ابن مجاهد بعد يختاره بين القراء السبعة المقدّمين، إذ كان بحق إمام أهل الشام فى القراءة، ويقول ابن مجاهد فى أوائل القرن الرابع: على قراءته أهل الشام والجزيرة ثم يعود، فيقول:«والغالب على أهل الشام قراءة ابن عامر» ويقول ابن الجزرى فى ترجمته: «لا زال أهل الشام قاطبة على قراءة ابن عامر تلاوة وصلاة وتلقينا إلى قريب من سنة خمسمائة» .

وخلف ابن عامر على قراءته بدمشق يحيى (2) بن الحارث الذّمارى الدمشقى إمام الجامع الأموى المتوفى سنة 145 وخلفه بالقيام على قراءة ابن عامر تلميذان بدمشق: أيوب (3) بن تميم الدمشقى المتوفى سنة 198 وعنه أخذها عبد (4) الله بن ذكوان إمام جامع دمشق وشيخ الاقراء بالشام المتوفى سنة 242 والتلميذ الثانى عراك (5) بن خالد شيخ أهل دمشق فى زمنه المتوفى قبل المائتين، وعنه وعن أيوب بن تميم أخذها هشام (6) بن عمار إمام أهل دمشق وخطيبهم ومقرئهم ومحدثهم ومفتيهم المتوفى سنة 245. وبذلك أصبح لقراءة ابن عامر فى الشام طريقان: طريق ابن ذكوان وطريق هشام بن عمار، وهما تتقابلان فى كتاب السبعة لابن مجاهد: الأولى أخذها عن أحمد بن يوسف التغلبى، والثانية أخذها عن أحمد بن محمد بن بكر. ولا بد أن نلاحظ أنه كان بالشام من اختار لنفسه قراءة غير قراءة ابن عامر حتى منذ القرن الثانى فقد نزل المدينة عتبة بن حماد الدمشقى، فقرأ الموطأ على الإمام مالك وأخذ عن نافع أحد القراء المشهورين قراءته (7)، وبالمثل أخذها عنه أبو مسهر (8) الغسانى عبد الأعلى بن مسهر المتوفى سنة 218. ويغلب أن يكون هناك آخرون قرءوا بقراءة ابن كثير قارئ مكة أو غيره من القراء السبعة.

(1) راجع فى ابن عامر وقراءته وأسانيده كتاب السبعة لابن مجاهد بتحقيقى نشر دار المعارف ص 85، 101 وكتاب طبقات القراء لابن الجزرى 1/ 423

(2)

ابن الجزرى 2/ 367

(3)

ابن الجزرى 1/ 172

(4)

ابن الجزرى 1/ 404

(5)

ابن الجزرى 1/ 511

(6)

ابن الجزرى 2/ 354

(7)

ابن الجزرى 1/ 499

(8)

ابن الجزرى 1/ 355

ص: 94

ومرّ بنا ذكر ابن خالويه فى بلاط سيف الدولة وكان قد تصدّر فى حلب لإفادة الطلاب عشرات السنين، ونظن أنه عرض عليهم-فيما عرض القراءات السبع، إذ كان قد حملها عن ابن مجاهد كما ذكر ابن الجزرى، وأيضا فإن له فى توجيه تلك القراءات كتابا معروفا. ويشهد لما نقول أننا نجد بين تلاميذه الحلبيين قارثا كبيرا هو أبو الطيب عبد (1) المنعم بن غلبون الحلبى المتوفى سنة 389 وله كتاب الإرشاد فى القراءات السبع، ومن أهم تلاميذه ابنه طاهر (2) المتوفى سنة 399 مؤلف التذكرة فى القراءات الثمان وهو أستاذ أبى عمرو الدانى صاحب كتاب التيسير المشهور فى القراءات. وذكرنا فى مقدمة الطبعة الأولى لكتاب السبعة أنه كان من بين ما اعتمدنا عليه فى تحقيقه مخطوطة لكتاب الحجة فى علل القراءات السبع لأبى على الفارسى تلميذ ابن مجاهد تحتفظ بها مكتبة جامعة القاهرة ومجلداتها الأولى بخط طاهر بن عبد المنعم بن غلبون. وربما كان أبوه حمل هذا الكتاب عن أبى على الفارسى مباشرة حين مقامه بحلب، كما مر بنا. ويصنف عبد (3) الجبار الطرسوسى المتوفى سنة 420 كتاب المجتبى فى القراءات. ونلتقى بالحسن (4) بن على الأهوازى شيخ القراء بدمشق منذ سنة أربعمائة حتى وفاته سنة 446 وكان قد استوطنها منذ سنة 391 وكان يكثر من الحملة على الأشعرى والأشعرية، ومن أجله صنف ابن عساكر-فيما بعد-كتابه: تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى أبى الحسن الأشعرى، وكانت له مؤلفات كثيرة فى القراءات والقرآن وعلومه.

وما يزال التأليف فى القراءات والقرآن وعلومه مستمرا فى الشام حتى نلتقى بابن (5) الطحان عبد العزيز بن سلمة نزيل حلب المتوفى حول سنة 560 وله تصانيف مفيدة فى علوم القرآن منها كتاب الوقف والابتداء، وكان على علم واسع بالقراءات. ونلتقى فى أيام الأيوبيين بأبى اليمن (6) الكندى زيد بن الحسن نزيل دمشق المتوفى سنة 613 وهو من المعمّرين ويقال إنه قرأ القراءات العشر وهو

(1) انظر فى عبد المنعم بن غلبون طبقات القراء 1/ 470 وطبقات الشافعية للسبكى 3/ 338

(2)

راجع فى «طاهر» ابن الجزرى 1/ 339

(3)

انظر فى عبد الحبار ابن الجزرى 1/ 357

(4)

راجع فى الأهوازى ابن الجزرى 1/ 220 والنجوم الزاهرة 5/ 56

(5)

انظر فى ابن الطحان ابن الجزرى 1/ 395

(6)

راجع فى أبى اليمن ابن الجزرى 1/ 297 ومعجم الأدباء 11/ 171 وخطط الشام 2/ 47 والبداية والنهاية 13/ 71 وإنباه الرواة 2/ 10 وابن خلكان 2/ 339

ص: 95

ابن عشر سنين وظل يقرأ القراءات ثلاثا وثمانين سنة. ومن تلاميذه علم (1) الدين السخاوى على بن محمد شيخ مشايخ الإقراء بدمشق وقد ظل يقرئ الناس نيفا وأربعين سنة حتى توفى سنة 643 وله مصنفات كثيرة فى القراءات والتفسير منها شرح الشاطبية وهو أجل شروحها، ومنها جمال القراء وكمال الاقراء. ومن تلاميذه الذين تصدّروا القراءة فى دمشق أبو الفتح (2) محمد بن على ولى مشيخة القراءة بتربة أم الصالح، وأبو شامة المتوفى سنة 665 تولّى مشيخة الحديث الكبرى بالأشرفية، وسنذكر مصادر ترجمته بين المؤرخين، والقاضى عبد السلام الزواوى المتوفى سنة 681 وسنذكر مصادر ترجمته بين فقهاء المالكية، تولى مشيخة الإقراء الكبرى بالتربة الصالحية بعد وفاة شيخها أبى الفتح وإليه انتهت رياسة الإقراء بالشام. ومن كبار القراء بالشام فى القرن الثامن ابن (3) جبارة المقدسى، درس القراءات بمصر وطاف بدمشق وحلب ثم استقر فى بيت المقدس موطنه مدرسا للقراءات وعلوم العربية حتى توفى سنة 728. وكان يعاصره برهان (4) الدين الجعبرى استوطن بلدة الخليل بجوار بيت المقدس حتى توفى سنة 732 وكان يقرئ الناس بها وصنّف فى القراءات كتاب نزهة البررة فى القراءات العشرة. ونلتقى بابن البارزى قاضى حماة ومفتى الشام المتوفى سنة 738 وله شرح على الشاطبية وكتاب الشرعة فى قراءات السبعة. وما نزال نقرأ عن مؤلفات شامية فى القراءات حتى نصل إلى ابن (5) الجزرى محمد بن محمد المتوفى سنة 833 وله كتاب النشر فى القراءات العشر وهو منشور وكتاب غاية النهاية فى طبقات القراء وهو مصدرنا الأساسى فى الحديث عنهم. ومن كبار القراء والحفاظ بعده شمس الدين الرملى الدمشقى أحمد بن أحمد بن محمد، ولد بالرملة ورحل إلى دمشق للقاء علمائها وفيها أكب على القراءات والحديث والفقه، وتولّى مشيخة الإقراء بالجامع الأموى حتى توفى سنة 923. وظلت القراءات بالشام نشيطه أيام العثمانيين حتى العصر الحديث، يتجرّد لها العلماء تارة، وتارة ثانية يجمعون بينها وبين بعض العلوم كالتفسير أو الفقه أو علوم العربية.

وعلى نحو ما عنيت الشام بالقراءات عنيت بتفسير القرآن الكريم، حتى إذا أخرج الطبرى

(1) انظر فى علم الدين السخاوى معجم الأدباء 15/ 65 وابن خلكان 3/ 340 وإنباه الرواة 2/ 311 وطبقات القراء 1/ 568 والسبكى 8/ 297

(2)

راجع ابن الجزرى 2/ 211

(3)

انظر فى ابن جباره ابن الجزرى 1/ 122 والدرر رقم 667 والشذرات 6/ 87

(4)

راجع فى الجعبرى ابن الجزرى 1/ 21 والدرر رقم 130 والشذرات 6/ 97

(5)

ترجم ابن الجزرى لنفسه فى كتابه طبقات القراء 2/ 247 وألحقت بالترجمة زيادة عن سنة وفاته لبعض تلاميذه وانظر الفوائد البهية للكنوى 140 ودائرة المعارف الإسلامية

ص: 96

تفسيره أكبت عليه ندرسه، ويلقانا لها مفسر مهم هو عبد (1) الله بن عطية الدمشقى المفسر المتوفى سنة 383 كان يحفظ الآلاف من أبيات الشعر العربى واستخدمها فى تفسيره لمعانى الألفاظ القرآنية. ونلتقى بعده بسليم بن أيوب المتوفى سنة 547 وله تفسير (2) للقرآن الكريم. ويلقانا فى أيام نور الدين محمد بن ظفر المكى الذى عرضنا له فى الحديث عن شعراء الزهد فى الجزيرة العربية المتوفى سنة 565 استوطن حماة بأخرة من حياته وألف فيها تفسيره المسمى «ينبوع الحياة» (3).

واستوطن حلب تلميذ من تلامذة الزمحشرى هو عالى (4) بن إبراهيم الغزنوى وأقام بها يدرس ويصنف حتى وفاته سنة 582 وفيها ألف تفسيرا كبيرا فى مجلدين سماه تفسير التفسير. واستوطن دمشق الصوفى الكبير ابن عربى المتوفى سنة 638 وله تفسير صوفى لم يتمه وهو مطبوع. وللعز بن عبد السلام الفقيه الشافعى الدمشقى نزيل مصر الذى عرضنا له فيها بين فقهاء الشافعية تفسير بلاغى، وفى دار الكتب المصرية مخطوطة منه.

ونلتقى فى أوائل القرن الثامن بمفسرين كبيرين هما هبة الله بن البارزى وابن تيمية، أما هبة (5) الله فكان قاضيا لحماة وإليه انتهت مشيخة المذهب الشافعى بالشام وله شرح على الشاطبية فى القراءات، وله روضات الجنان فى تفسير القرآن فى عشر مجلدات توفى سنة 738. أما ابن تيمية فقد مر بنا حديث مفصل عنه فى الحركة العلمية، ونعرض هنا منهجه فى التفسير القرآنى وقد صوره فى رسالة عنوانها أصول التفسير، ومن خلالها أجملناه فى مقدمة كتابنا: «سورة الرحمن وسور قصار: عرض ودراسة» موضحين أنه حمل على الإسرائيليات المدسوسة فى التفاسير وعلى المعتزلة والشيعة الباطنية الذين يؤولون ألفاظ القرآن وعباراته كما حمل على المتصوفة فى تفاسيرهم من مثل تفسير ابن عربى، ورأى أن خير طرق التفسير تفسير القرآن بالقرآن فإن لم يف القرآن أحيانا رجع المفسر إلى الحديث النبوى وأقوال الصحابة والتابعين الذين عايشوهم وعرفوا منهم معانى القرآن الكريم. وبعد استيفاء ذلك كله وما يتصل به من إتقان العربية وتعمق علوم الشريعة والوقوف بدقة على دلالات القرآن وحسن تذوقه لخصائصه البلاغية يستطيع المفسر أن يجتهد فى التفسير ويستنبط استنباطات سديدة. وطبّق منهجه على سورة النور وسورتى المعوذتين القصيرتين

(1) انظر فى ابن عطية الدمشقى طبقات المفسرين للسيوطى رقم 43 والنجوم الزاهرة 4/ 165 وبروكلمان 4/ 15

(2)

خطط الشام لكرد على 4/ 41

(3)

تتمة المختصر لابن الوردى 2/ 87

(4)

راجعه فى تاج التراجم لابن قطلوبغا ص 49 والبداية والنهاية 13/ 114

(5)

انظر فى ابن البارزى الدرر ج 3 رقم 1103 وطبقات القراء 2/ 351 والشذرات 6/ 119

ص: 97

وخصّ سورة الإخلاص أو التوحيد بكتاب. ويتحول تفسيره للآية الكريمة إلى بحث فى مضمونها من خلال القرآن جميعه.

ونهج نهج ابن تيمية فى تفسير الذكر الحكيم تلميذه ابن قيم الجوزية على نحو ما يتضح فى كتابه. «التبيان فى أقسام القرآن» وفى تفسيره للمعوّذتين. وكان يعاصره السمين (1) الحلبى أحمد بن يوسف وكان نحويا مقرئا ونزل مصر وبها توفى سنة 756 وله تفسير ضخم فى عشرين مجلدا، وكتاب فى إعراب القرآن فى ثلاثة مجلدات باسم الدر المصون، وكتاب فى أحكام القرآن، وله شرح على الشاطبية فى القراءات، وشرح ثان على التسهيل لابن مالك فى النحو. ونلتقى بابن (2) كثير أكبر المفسرين الشاميين وأهمهم المتوفى بدمشق سنة 774 نشرت تفسيره مطبعة المنار فى تسعة أجزاء، وعداده فى التفسير بالمأثور من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والمفسرين السابقين، وفيه يقول ابن حجر ناقدا:«لم يكن ابن كثير على طريق المحدثين فى تحصيل العوالى وتمييز العالى من النازل ونحو ذلك من فنونهم وإنما هو من محدثى الفقهاء» ويقول الشوكانى مثنيا على تفسيره: «جمع فيه فأوعى ونقل المذاهب والأخبار والآثار وتكلم بأحسن كلام وأنفسه، وهو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها» ويصنف العليمى عبد الرحمن بن محمد الحنبلى المتوفى سنة 927 للهجرة تفسيرا للذكر الحكيم، وتؤلف كتب تفسير أخرى، ويظل تفسير ابن كثير التفسير المتداول بين علماء الشام إلى العصر الحديث.

وشغلت الشام منذ دخلت فى الدين الحنيف بتلاوة الذكر الحكيم وتفسيره كما شغلت بالحديث النبوى مكمّل الدين القيم ومبينه وموضح تعاليمه، وكان أول المحدثين بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حمله عنهم التابعون يحدثون به الناس من أمثال مكحول (3) مفتى الشام ومحدثها المتوفى سنة 118. وكان يعاصره محمد (4) بن شهاب الزهرى أول من دوّن الحديث تدوينا عاما، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه، وعاش بعد عمر ثلاثة وعشرين عاما إذ توفى سنة 124 ويقال إنه روى عن عشرة من

(1) راجع فى السمين الحلبى طبقات القراء 1/ 152 والدرر الجزء الأول رقم 846 والشذرات 6/ 179

(2)

انظر فى ترجمة ابن كثير الدرر ج 1 رقم 948 والشذرات 6/ 231 والبدر الطالع 1/ 153

(3)

راجع فى مكحول حلية الأولياء 5/ 177 وابن خلكان 5/ 280 وميزان الاعتدال 4/ 177 وتهذيب التهذيب 10/ 289 والشذرات 1/ 146

(4)

انظر فى الزهرى صفة الصفوة 2/ 77 وابن خلكان 4/ 177 وميزان الاعتدال 4/ 40 وتهذيب التهذيب 9/ 445 وطبقات القراء 2/ 262

ص: 98

الصحابة لحقهم، وقد أتاح للشام أن تكون أول جامعة وناشرة للحديث النبوى وكان موظفا لدى الأمويين وعمل قاضيا ليزيد بن عبد الملك، وعنه حمل الحديث الأوزاعى فقيه الشام المتوفى سنة 157 وعداده فى الفقهاء، كما حمله الإمام مالك فقيه المدينة والليث بن سعد فقيه مصر وسفيان ابن عيينة وسفيان الثورى فقيها العراق. وعن تلاميذ الزهرى والأوزاعى فى الشام حمل الحديث هشام ابن عمار مقرئ دمشق ومفتيها الذى مرّ بنا ذكره بين القراء. وممن حمل عنه الحديث القاضى عبد (1) الصمد بن عبد الله قاضى دمشق، وعنه روى الحديث أبو زرعة الدمشقى شيخ الشام فى الحديث. ونلتقى بخيثمة (2) بن سليمان الطرابلسى أحد الحفّاظ الثقات المشهورين المتوفى سنة 343. ولا تلبث بلدة طبريّة بالشام أن تقدّم سليمان (3) بن أحمد الطبرانى المولود سنة 260 والمتوفى سنة 360 صاحب المعاجم الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، وقد جمع فى الكبير أحاديث جميع الصحابة ما عدا أبا هريرة إذ أفرد له كتابا خاصا. وكان يعاصره الحسين (4) بن محمد الماسرجسىّ الحافظ المتوفى سنة 365 أخذ بدمشق عن أصحاب هشام بن عمار. صنّف المسند الكبير مهذّبا معلّلا فى ألف وثلاثمائة جزء ولم يصنّف فى الإسلام أكبر من مسنده وجمع حديث ابن شهاب الزهرى جمعا لم يسبقه إليه أحد وكان يحفظه مثل الماء.

ونلتقى بحافظ من صيداء هو أبو الحسين (5) محمد بن أحمد الغسانى المولود سنة 305 والمتوفى سنة 402 وله مسند على ترتيب أوائل أسماء الرواة. ويلقانا حافظ من صور هو محمد (6) بن على الصورى المتوفى سنة 446 قدم بغداد وأخذ عنه حفاظها الثقات. ويلقانا حافظ بيت المقدس محمد (7) بن طاهر المقدسى المعروف باسم ابن القيسرانى المتوفى سنة 507 وله مصنفات فى الحديث النبوى متعددة، منها:«أطراف الكتب الستة» وهى صحيح البخارى ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى وابن ماجة.

(1) راجعه فى النجوم الزاهرة 3/ 193 وانظر فى أبى زرعة النجوم 3/ 87

(2)

انظر فى خيثمة تذكرة الحفاظ للذهبى (طبع حيدر آباد) 3/ 75 والشذرات 2/ 334

(3)

راجع فى الطبرانى تهذيب تاريخ ابن عساكر 6/ 240 وابن خلكان 2/ 207 والنجوم الزاهرة 4/ 59 وعبر الذهبى 2/ 315

(4)

انظر فى الماسرخسى النجوم الزاهرة 4/ 111

(5)

راجع الغسانى فى النجوم 4/ 231 وبروكلمان 3/ 214

(6)

انظر فى الصورى تاريخ بغداد 3/ 103 وتذكرة الحفاظ للذهبى 3/ 311 وبروكلمان 3/ 231

(7)

راجع فى ابن القيسرانى المنتظم 9/ 177 وابن خلكان 4/ 287 والوافى للصفدى 3/ 166 وميزان الأعتدال 3/ 587 وعبر الذهبى 4/ 14 والشذرات 4/ 18

ص: 99

وينشط المحدثون أيام نور الدين والأيوبيين فى مقدمتهم أبو القاسم (1) بن عساكر المتوفى سنة 671 وبنى له نور الدين دار الحديث النورية بدمشق، وله فى الحديث مصنفات كثيرة مفيدة، منها «الأطراف» جمع فيه ما اتفق عليه الأئمة الثقات فى الحديث، وله وراء ذلك أمال كثيرة.

وجاء بعده عبد (2) الغنى الجمّاعيلى المتوفى سنة 600 وله كتاب فى أحاديث الأحكام الشرعية سماه «عمدة الأحكام فى معالم الحلال والحرام عن خير الأنام» وكتبت له الأجيال التالية شروحا كثيرة، وهو صاحب كتاب الكمال فى معرفة أسماء الرجال. وكتب له جمال الدين يوسف المزّى الآتى ذكره تكملة بعنوان «تهذيب الكمال» وله مختصرات كثيرة. وأكمل التهذيب مغلطاى بعنوان إكمال تهذيب الكمال، ونلتقى بابن (3) الصلاح عثمان بن صلاح الدين المتوفى سنة 643 وهو حافظ كبير تولى مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق وله كتاب أقصى الأمل والشوق فى علوم حديث الرسول، طبع مرارا بعنوان مقدمة ابن الصلاح فى علوم الحديث وله مختصرات كثيرة.

ويلقانا محيى الدين النووى الفقيه الكبير المتوفى سنة 676 وعداده بين فقهاء الشافعية، وكان حافظا متقنا، وله شرح على صحيح مسلم هو أهم شروحه، وله رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين وكتاب الأذكار المنتخب من كلام سيد الأبرار وله الأربعون النووية وكتاب التقريب فى مصطلح الحديث وكتاب تهذيب الأسماء واللغات، ودرّس بدار الحديث الأشرفية فى دمشق وغيرها.

وكان يعاصر النووى اليونينى على (4) بن محمد بن أحمد شرف الدين المتوفى سنة 701 وله خدمة عظيمة أداها لصحيح البخارى، اذ حاول أن يخرج من مخطوطاته نسخة فى أدق صورة ممكنة لمنفعة المسلمين فى العالم الإسلامى، واختار أصلا لهذا الإخراج نسخة وثيقة كانت موقوفة بمدرسة أقبغا آص بالقاهرة وقابلها فى واحد وسبعين مجلسا على أصل مسموع للحافظ أبى ذر الهروى وأصل ثان مسموع للحافظ أبى محمد الأصيلى وأصل ثالث مسموع لأبى القاسم بن عساكر المذكور آنفا وأصل رابع مسموع على الشيخ أبى الوقت بقراءة السمعانى. وكان بجواره فى تلك المجالس الإمام النحوى ابن مالك للمراجعة والتصحيح مما جعله فيما بعد يملى كتابا مستقلا

(1) مرت مصادر ترجمته فى ص 563.

(2)

راجع فى الجماعيلى تذكرة الحفاظ 4/ 160 وطبقات الحفاظ للسيوطى 18 وكتابه حسن المحاضرة 1/ 354 والعبر 4/ 313

(3)

انظر فى ابن الصلاح ابن خلكان 3/ 243 وتذكرة الحفاظ 4/ 1430 والسبكى 8/ 326 والبداية والنهاية 13/ 168 والشذرات 5/ 221

(4)

راجع اليونينى فى الدرر لابن حجر 3/ 171 والسلوك 1/ 524 والنجوم الزاهرة 8/ 198 والشذرات 6/ 3

ص: 100

بعنوان «شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح» وكان أمام اليونينى فى مجالسه المذكورة جمع من طلاب الحديث وعلمائه وفى أيديهم نسخ من صحيح البخارى للمقابلة. واتخذ اليونينى رموزا لرواة تلك النسخ ولرواة آخرين بحيث بلغت رموزه خمسة عشر رمزا. وقد طبعت مطبعة بولاق الكتاب من نسخة فرعية لتلك النسخة اليونينية، وهى نسخة ابن مالك وعليها شهادة من اليونينى بسماعه النسخة عليه، وشهادة من ابن مالك بسماعها منه. وهى ذروة فى التحقيق لم يبلغها أحد بعد اليونينى، كما أشرنا إلى ذلك فى كتابنا «البحث (1) الأدبى» .

ومن كبار المحدثين فى القرن الثامن الهجرى المزّى (2) يوسف بن عبد الرحمن المتوفى سنة 742 وإليه انتهت رياسة المحدثين بالشام، ومن تصانيفه تحفة الإشراف بمعرفة الأطراف» طبع فى الهند، وله «تهذيب الكمال» المجمع على أنه لم يصنف مثله. وكان يعاصره الذهبى محمد بن أحمد المتوفى سنة 748 حافظ الشام وهو مع المزى من مفاخر دمشق فى زمنهما وله فى الحديث تصانيف كثيرة مثل مختصر سنن البيهقى ومختصر الأطراف للمزى والمعجم الكبير والصغير، وسنعود للحديث عنه بين المؤرخين. ومن محدثى القرن التاسع بدر (3) الدين العينى المتوفى سنة 855 صاحب كتاب «عمدة القارى فى شرح صحيح البخارى» والخيضرى (4) الدمشقى محمد بن محمد بن عبد الله المتوفى سنة 894 وله تعليقات على شرح ابن حجر للبخارى المسمى بالفتح البارى. وظل هذا التراث الضخم بأعين المحدثين أيام العثمانيين، وكان أكثر اهتمامهم بكتب الصحاح الستة وخاصة بشروح ابن حجر والقسطلانى على صحيح البخارى وشرح النووى على صحيح مسلم.

وطبيعى أن يكون الفقه نشيطا فى الشام مع الدراسات الدينية السابقة لحاجة أهل الشام إلى الفتوى فى القضايا الشرعية وما يعرض لهم منها فى حياتهم اليومية، وفعلا تكوّن للشام إمام أنشأ مذهبا فقهيا ظل فيها طويلا بجوار المذاهب الأربعة المشهورة: مذهب أبى حنيفة ومالك والشافعى

(1) البحث الأدبى (طبع دار المعارف) ص 186 وما بعدها

(2)

انظر المزى فى الدرر 5/ 233 والنجوم الزاهرة 10/ 76 وشذرات الذهب 6/ 136 والبداية والنهاية 14/ 191 والسبكى 10/ 395 وتاريخ ابن الوردى 2/ 332 وطبقات الحفاظ للسيوطى 517 والدارس فى أخبار المدارس 1/ 35 وتذكرة الحفاظ 4/ 1498 والبدر الطالع 2/ 353

(3)

انظر فى العينى حسن المحاضرة 1/ 473 والفوائد البهية 207 والضوء اللامع ج 10 رقم 545 والشذرات 7/ 286 والبدر الطالع 2/ 394

(4)

راجع فى الخيضرى الضوء اللامع ج 9 رقم 305

ص: 101

وابن حنبل ونقصد الإمام الأوزاعى (1) صاحب المذهب المنسوب إليه أصحابه من الأوزاعية، وقد توفى سنة 157 للهجرة، ومولده ببعلبك ومنشؤه ببيروت، واتخذها موطنه إلى وفاته، ويقول السبكى إنه: «لم يكن يلى القضاء بدمشق والخطابة والإمامة-قبل ظهور مذهب الشافعى فيها لأواخر القرن الثالث كما سيتضح عما قليل-إلا أوزاعىّ على مذهب الإمام الأوزاعى (2). ويذكر المؤرخون أنه ولى القضاء بدمشق يحيى بن حمزة منذ سنة 154 إلى سنة 183 ثم وليه بعده ابنه محمد (3) إلى سنة 231. وأكبر الظن أن كلام السبكى يشملهما وأنهما كانا يقضيان بين الناس بمذهب الأوزاعى. ويبدو أنه ظل بعدهما من كان يقضى بهذا المذهب، إذ يذكر ابن تغرى بردى أنه توفى لسنة 347 قاضى دمشق أحمد (4) بن سليمان بن حذلم الأوزاعى المذهب، ويقول إنه كان له حلقة بالجامع الأموى وأكبر الظن أنه كان يدرس للناس فيها المذهب. ومعنى ذلك أن مذهب الأوزاعى كان لا يزال حيّا فى دمشق والشام إلى أواسط القرن الرابع الهجرى. ومعروف أن الأمويين فى أول تأسيس حكمهم بالأندلس كانوا على مذهب الأوزاعى مثل أهل الشام وظلوا عليه إلى أن انتقلوا عنه إلى مذهب مالك فى أواخر القرن الثانى للهجرة (5)، وكأنهم كانوا أسبق من أهل الشام انفصالا عن مذهب الأوزاعى.

وتذكر كتب التراجم والتاريخ أن أبا يوسف تلميذ أبى. حنيفة حين ولى قضاء القضاة لعهد الخليفة الرشيد وأصبح هو المسيطر على تولية القضاة فى الدولة الإسلامية كان لا يولى قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال أفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه الحنفى، ونظن ظنا أنه كان يوجد فى دمشق أحيانا قاض حنفى بجانب القاضى الأوزاعى، وربما كانا يتداولان الحكم.

وممن تذكرهم كتب التاريخ من قضاة الأحناف قاضى دمشق على (6) بن محمد بن كاس المتوفى سنة 325 للهجرة، ونظن ظنا أن حلب كانت أسرع من دمشق فى الانصياع لمذهب أبى حنيفة

(1) انظر فى الأوزاعى الجزء السابع من طبقات ابن سعد والأنساب للسمعانى 53 وابن خلكان 3/ 126 وتاريخ بغداد 10/ 199 وتذكرة الحفاظ 1/ 58 وشذرات الذهب 1/ 141 والنجوم الزاهرة 2/ 30 ومحاسن المساعى فى مناقب الأوزاعى (طبع القاهرة) صنفه مؤلف مجهول سنة 850 وضحى الإسلام 2/ 98

(2)

طبقات الشافعية للسبكى 1/ 326

(3)

انظر فيه وفى أبيه النجوم الزاهرة 2/ 22، 113، 260

(4)

راجع فى ابن حذلم النجوم الزاهرة 3/ 320 وفى السبكى 3/ 196: ابن خديم

(5)

تاريخ الفكر الأندلسى لبالنئيا ترجمة الدكتور حسين مؤنس ص 413، 417

(6)

النجوم الزاهرة 3/ 260

ص: 102

بحكم قربها أكثر من العراق، ومثلها فى ذلك أنطاكية، ويلقانا فيها ابن أبى الفهم (1) التنوخى الأنطاكى المتوفى سنة 342 وكان فقيها حنفيّا بارعا. ونلتقى فى حلب بأحمد (2) بن يحيى بن زهير الحلبى المتوفى سنة 424 وله كتاب ذكر فيه الخلاف بين أبى حنيفة وأصحابه من مثل أبى يوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى تلميذيه، وأخذ عن ابن زهير المذهب بحلب جد بنى أبى جرادة هبة الله بن أحمد، وتولى القضاء بمدينته، وكانت أسرته على ثراء غير قليل فأكبت على المذهب تدرسه وتتعمقه منذ هبة الله إلى حفيده عمر بن العديم فى القرن السابع كما سنذكر عما قليل.

ونخلص من ذلك إلى أنه كان من الأسباب المهمة فى دخول مذهب أبى حنيفة إلى الشام أن كثيرين من القضاة منذ أواخر القرن الثانى كانوا أحنافا، فأخذ المذهب يشيع، وتكاثر طلاب العلم الذين يبغون اعتناقه، وأخذ يدرسه لهم غير عالم حنفى. ويلقانا المفضل (3) بن محمد المعرى الحنفى المتوفى سنة 444 تلميذ الإمام القدورى الحنفى البغدادى ولى القضاء ببعلبك وناب فى القضاء بدمشق، ومن تصانيفه كتاب فى الرد على الإمام الشافعى. ويلقانا البلاساغونى (4) محمد بن موسى المتوفى سنة 506 مصنف «أصول الفقه» على مذهب أبى حنيفة، ولى قضاء بيت المقدس ودمشق مدة. وكان القضاة قبله فى الشام شافعية وكذلك كان أئمة الجامع الأموى، فحاول أن يقيم فيه إماما حنفيّا، فأغلق أهل دمشق الجامع ولم يمكّنوه وعزل وعاد القضاء فى دمشق إلى الشافعية.

وكانت قد أخذت المدارس تنشأ بالشام وكانت قد أسّست فى دمشق-كما مر بنا-المدرسة الصادرية سنة 491 ويعدّ ابن شداد من فقهائها حتى سنة 658 أحد عشر فقيها حنفيّا، وذكر النعيمى بعده فقهاءها إلى نهاية أيام المماليك. وقد ذكر ابن شداد بجوارها فى دمشق وضواحيها حتى سنة 670 أربعا وثلاثين مدرسة للأحناف ويذكر أسماء فقهائها حتى سنة 670 ويتابع ذلك النعيمى. ويصنع ابن شداد نفس الصنيع بحلب وما أنشئ فيها من مدارس حنفية منذ أسست فيها المدرسة الزجاجية سنة 516 وكانت حلب قد أقبلت أكثر من دمشق-على المذهب الحنفى من قديم كما مرّ بنا. واشتهرت فيها أسر بتوارث هذا المذهب مثل أسرة بنى العديم، وعنى نور الدين

(1) النجوم الزاهرة 3/ 310 وتاج التراجم رقم 135

(2)

انظر ابن زهير فى تاج التراجم رقم 41 وقابل بمعجم الأدباء 16/ 5 وما بعدها.

(3)

راجع المفضل فى النجوم الزاهرة 5/ 52 وتاج التراجم رقم 224

(4)

انظر فى البلاساغونى النجوم الزاهرة 5/ 204 والسبكى 1/ 326

ص: 103

بالمذهب وكان حنيفا وأسس له مدرستين: مدرسة بحلب وأخرى بدمشق سميت كل منهما بالمدرسة النورية. ومضى الأيوبيون بعده يعنون بالمذهب ومدارسه، وكانوا شافعية، وانفرد من بينهم المعظم عيسى صاحب دمشق (615 - 624 هـ) باعتناقه المذهب الحنفى وتعمقه فيه، على هدى من أستاذه جمال الدين الحصيرى (1) الذى انتهت إليه رياسة المذهب بدمشق والمتوفى سنة 636 وله شرحان على الجامع الكبير لمحمد بن الحسن الشيبانى: شرح مفصل فى ثمان مجلدات سماه التحرير، وشرح مختصر فى مجلدين سماه الوجيز، ومع إيجازه زاد فيه 1630 مسألة مع الإيضاح بالنظائر والشواهد. وشرح أيضا للشيبانى كتاب السير الكبير وهو فى الأحكام الفقهية المتعلقة بالغزوات والحرب، وله كتاب فى الخلاف بين الشافعية والحنفية، ودفع المعظم للتعمق فى المذهب حتى ألف فيه كتابا (2). وليس ذلك فحسب، فقد كلّف الحصيرى وفقهاء المذهب بتأليف كتاب جامع فيه، فألفوا كتابا فى عشر مجلدات سموه كتاب التذكرة.

وتظلّ الشام أيام المماليك ويقرر الظاهر بيبرس أن لا يقتصر فى مصر على قاض شافعى كما كان الشأن منذ عهد صلاح الدين، بل يشترك معه فى القضاء قاض حنفى وقاض مالكى وقاض حنبلى وعمم ذلك فى دولته بدمشق وحلب وغيرهما من مدن الشام، واطرد العمل بذلك إلى أيام العثمانيين، فكان من الأسباب المهمة فى ازدهار المذهب الحنفى بديار الشام بجوار ما كان له من مدارس، مما دفع إلى حركة علمية نشيطة فيه، وكان أول من تولى القضاء بدمشق من فقهاء الأحناف حسب قرار بيبرس عبد (3) الله بن محمد بن عطا الأذرعى المتوفى سنة 673، وتوالى القضاة الأحناف فيها بعده، منهم شمس الدين الأذرعى المتوفى سنة 722 ولى قضاء دمشق عشرين سنة ودرّس طويلا بمدارسها الحنفية. وتتكاثر أسماء القضاة والفقهاء الأحناف فى كتب التاريخ والتراجم، وحسبنا أن نعرف أن نشاطا وافرا أداه فقهاء الأحناف فى ديار الشام بالحقب التالية. وظل هذا النشاط أيام العثمانيين، ولبرهان (4) الدين الحلبى المتوفى سنة 956 كتاب ملتقى

(1) راجع فى الحصيرى الفوائد البهية فى طبقات الحنفية 84 والجواهر المضية لابن أبى الوفا 2/ 155 وتاج التراجم رقم 208 والبداية والنهاية 13/ 152 والنجوم الزاهرة 6/ 213

(2)

انظر فى المعظم عيسى ونشاطه فى الفقه الحنفى مختصر مرآة الزمان 426

(3)

انظر فى الأذرعى النجوم الزاهرة 7/ 246 والسلوك للمقريزى 1/ 619

(4)

راجع فى برهان الدين دائرة المعارف الإسلامية وبروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/ 433

ص: 104

الأبحر فى فروع الفقه الحنفى، وقد ترجم قديما إلى التركية والفرنسية. وصنف شمس الدين العمرتاشى الغزى المتوفى سنة 1004 للهجرة كتاب تنوير الأبصار وجامع البحار فى الفقه الحنفى، ومنه ومن شروحه مخطوطات بدار الكتب المصرية.

وكان أقل المذاهب الفقهية الأربعة الكبرى انتشارا وأتباعا فى الشام المذهب المالكى، ويأخذ فى النشاط هناك متأخرا زمن الدولة الأيوبية، منذ بنى صلاح الدين بدمشق للمالكية مدرسته الصلاحية بالقرب من البيمارستان النورى، ويذكر ابن شداد من أساتذتها المهمين ابن الحاجب المتوفى سنة 646 وقد مرّ بنا ذكره بين النحاة وله مختصران نفيسان فى الفقه المالكى وعلم الأصول، ودرّس الفقه المالكى أيضا فى زاوية المالكية الملاصقة لغربى الجامع الأموى، بناها أيضا للمالكية صلاح الدين. وخلفه فى المدرسة الصلاحية عبد (1) السلام الزواوى المتوفى سنة 681 وإليه انتهت رياسة المالكية بالشام ومشيخة القرّاء، وكان معمرا، توفى عن 92 عاما.

ولا يذكر ابن شداد للمالكية وراء المدرسة الصلاحية سوى مدرسة واحدة هى مدرسة الشرابيشى فى حين ذكر للحنفية كما أسلفنا أربعة وثلاثين مدرسة. وكان قد انتعش المذهب المالكى كغيره من المذاهب حين قرر الظاهر بيبرس سنة 663 إسناد الحكم فى بلدان الشام الكبرى: دمشق وغيرها إلى أربعة قضاة بينهم قاض مالكى، وكان أول من تولى القضاء المالكى بدمشق حينئذ عبد السلام الزواوى المذكور آنفا، وتعاقب بعده القضاة، كما تعاقب فقهاء المالكية يدرسون للناس المذهب، ومن أهمهم عيسى (2) بن مسعود مدرس الفقه المالكى بالجامع الأموى المتوفى سنة 743 وله شرح جيد على مختصر ابن الحاجب، وشرح المدونة للفقه المالكى لمصنفها سحنون ناشر المذهب فى الديار المغربية، وله شرح موسع على صحيح مسلم وكتاب فى مناقب مالك، وإليه انتهت رياسة المالكية فى الشام. ويلقانا فى كتب التراجم كثيرون يتنقلون بين القاهرة ودمشق متولين لمنصب القضاء المالكى. ويأخذ نشاط المالكية أيام العثمانيين فى التضاؤل والشحوب.

وكان أول من أدخل مذهب الشافعى-فيما يبدو-إلى الشام أبو زرعة (3) بن عثمان الدمشقى ولى القضاء بالقاهرة ثمانى سنوات، ثم ولى القضاء بدمشق سنة 292 حتى توفى سنة 302 ويقول

(1) راجع فى عبد السلام الزواوى النجوم الزاهرة 7/ 356 وطبقات القراء 1/ 386 والبداية والنهاية 13/ 300 والسلوك 1/ 542

(2)

انظر فى ابن مسعود الدرر الكامنة لابن حجر 3/ 290

(3)

راجع أبا زرعة فى قضاة دمشق لابن طولون (طبع دمشق) 22 والبداية والنهاية 11/ 122 والشذرات 2/ 239. والسبكى 3/ 196 وقابل على 1/ 326

ص: 105

السبكى فى كتابه طبقات الشافعية: لم يل القضاء بعده فى الشام إلا شافعى المذهب غير ابن حذلم قاضى الشام فإنه كان أوزاعى المذهب كما مرّ بنا. ومرّ بنا أيضا أنه ولى قضاء الشام حتى توفى سنة 325. ويغلب أن يكون هذا شذوذا وأن تكون عبارة السبكى صحيحة، كما يتضح ذلك لمن يرجع إلى كتاب قضاة دمشق لابن طولون. ومنهم عبد (1) الله بن محمد القزوينى قاضى الرملة المتوفى سنة 315 والحسين (2) بن أبى زرعة محمد بن عثمان المتوفى سنة 327 وكان قاضيا لدمشق فى زمن الإخشيد، وأبو (3) يحيى البلخى زكريا بن أحمد المتوفى سنة 330 وكان مثل سابقه قاضيا لدمشق. ومنهم أيضا أيام الفاطميين أبو بكر الميانجىّ قاضى دمشق المتوفى سنة 375. ويبدو أنه تجرد فى القرن الرابع فقهاء شافعية لعرض المذهب الشافعى ودراسته فى مدن الشام الكبرى، إذ نجد عبد المنعم بن غلبون الحلبى المتوفى سنة 389 مقرئ حلب يسلكه السبكى بين فقهاء الشافعية، ويقول إنه تلقن المذهب على الحصائرى (4) الحسن بن حبيب الدمشقى إمام مسجد باب الجابية بدمشق المتوفى سنة 338، ويلقانا فى القرن الخامس فقيه شافعى هو أبو (5) الخير المروزى يستوطن المعرّة سنة 418 ويدرس بها للطلاب حتى وفاته سنة 447 وله كتاب فى فقه الشافعى يسمى الذخيرة حمله عنه طلابه. ونلتقى من قضاة دمشق بأبى المظفر عبد (6) الجليل بن عبد الجبار المتوفى سنة 479 وكان يعاصره نصر (7) بن إبراهيم المقدسى المتوفى سنة 490 تفقه على الفقيه سليم بصور ودرس فيها عشر سنوات ثم انتقل إلى دمشق يدرس ويفتى ويحدّث. وكان قد نزل بصوامع بيت المقدس ودمشق الإمام الغزالى منذ سنة 488 وله ثلاثة كتب فى الفقه الشافعى: البسيط والوسيط والوجيز، وشغف بها الشافعية منذ زمنه فى الشام وغير الشام.

ويدخل مذهب الشافعى فى مرحلة كبرى جديدة ينتشر فيها بالشام أوسع انتشار، ونقصد مرحلة تأسيس مدارس الشافعية منذ تأسيس المدرسة الأمينية فى سنة 514 ويعدّ ابن شداد فى

(1) انظر قضاة دمشق 26 والبداية والنهاية 11/ 157 والعبر 2/ 162 والسبكى 3/ 320

(2)

راجع الحسين فى السبكى 3/ 281 وقضاة دمشق 27

(3)

انظر البلخى فى قضاة دمشق 28 والسبكى 3/ 298 والشذرات 2/ 326 والعبر 2/ 222

(4)

راجع فى الحصائرى السبكى 3/ 255 وقارن مع ابن غلبون فى السبكى 3/ 338

(5)

انظر أبا الخير فى السبكى 4/ 299

(6)

راجع فى أبى المظفر قضاة دمشق 42 والسبكى 5/ 100

(7)

انظر نصر بن إبراهيم فى تهذيب الأسماء واللغات 2/ 125 والسبكى 5/ 351 والعبر 3/ 329 ومرآة الجنان 3/ 152 والنجوم الزاهرة 5/ 160 والشذرات 3/ 395

ص: 106

كتابه «الأعلاق الخطيرة» من مدرسى هذه المدرسة حتى زمن تأليفه لكتابه حوالى سنة 670 عشرة من كبار فقهاء الشافعية، ولا تتجاوز مدارس الشافعية بدمشق حتى عهد نور الدين عد أصابع اليد الواحدة، حتى إذا خلص الأمر لصلاح الدين والأيوبيين-وكانوا شافعية إلا ما كان من اعتناق المعظم عيسى للمذهب الحنفى-ازدهر المذهب الشافعى منذ هذا التاريخ، وقد جعل صلاح الدين قاضى القضاة بدمشق شافعيا، وبلغت مدارس الشافعية-كما أحصاها ابن شداد-أربعين مدرسة حتى أيامه. وإذا تصورنا أن المدرسين النابهين لكل مدرسة من هذه المدارس بلغوا حتى زمنه فى المتوسط أربعة من المدرسين يكون معنى ذلك أن المذهب الشافعى حظى حتى أواخر القرن السابع الهجرى فى دمشق وحدها بما لا يقل عن مائة وستين فقيها نابها، واطرد العمل بذلك فى هذه المدارس بدمشق وفيما أحصاه بعدها النعيمى فى كتابه «الدارس» وأيضا فيما قابلها من مدارس للشافعية فى حلب وغيرها من بلدان الشام الكبرى.

ومن المؤكد أن قرار الظاهر بيبرس بأن يكون للمذاهب الكبرى بجانب مذهب الشافعى قاض لم يحدث أثرا عكسيا فى المذهب كما كان يظنّ، إذ كان زمام القضاء فى أيام الأيوبيين بيد الشافعية وحدهم، بل ظل للمذهب ازدهاره، وظل له الجمهور الأكبر من الناس والفقهاء فى الشام، ونكتفى بالوقوف عند بعض مشهوريهم، فمنهم ابن (1) أبى عصرون قاضى القضاة بدمشق لعهد صلاح الدين المتوفى سنة 585 وبنى له قبل ذلك نور الدين المدارس بحلب وحماة وحمص وبعلبك، وبنى هو لنفسه مدرستين بحلب ودمشق، ويقول السبكى عنه: ملأ البلاد تصانيف وتلامذة، ويذكر من تصانيفه «صفوة المذهب» فى سبع مجلدات وكتاب الانتصار فى أربع مجلدات وكتاب المرشد فى مجلدين وكتاب الذريعة فى معرفة الشريعة، إلى غير ذلك من مصنفات كثيرة. ومن كبار فقهاء الشام بعده العز بن عبد السلام، ذكرناه بين فقهاء الشافعية بمصر، إذ استوطنها حتى وفاته.

وفى رأينا أن أعظم فقيه شافعى أنجبته الشام هو محيى الدين النووى (2) المتوفى سنة 676 عن

(1) انظر فى ابن أبى عصرون خريدة الفصر (قسم شعراء الشام) 2/ 351 وابن خلكان 3/ 53 والسبكى 5/ 132 ونكت الهميان 186 وطبقات القراء 1/ 455 والعبر 4/ 256 والنجوم الزاهرة 6/ 109 وتذكرة الحفاظ 4/ 1357 والبداية والنهاية 12/ 333 والشذرات 4/ 283

(2)

راجع فى النووى السبكى 8/ 395 والبداية والنهاية 13/ 278 وتذكرة الحفاظ 4/ 1470 والنجوم الزاهرة 7/ 278 والعبر 5/ 312 وشذرات الذهب 5/ 354 والسلوك 1/ 648 والدارس فى أخبار المدارس 1/ 24

ص: 107

خمسة وأربعين عاما، ومر بنا ذكره بين المحدثين، وكان إماما مجتهدا واسمه يتردد فى كتب الفقه الشافعى بعده وكذلك آراؤه، ومن أهم مصنفاته فى فقه الشافعية منهاج الطالبين لخص به كتاب المحرّر للرافعى القزوينى، واختصر المنهاج فيما بعد الشيخ زكريا الأنصارى، وسمى مختصره المنهج، وصنف النووى فى فتاويه الفقهية كتابين: كبير وصغير. ومن فقهاء الشافعية الكبار فى زمنه وبعد زمنه علاء (1) الدين الباجى المتوفى سنة 714 وكمال الدين محمد الزّملكانى حفيد عبد الواحد الذى ذكرناه بين البلاغيين توفى سنة 727. وتفيض كتب التراجم والتاريخ بأسماء جلّة من هؤلاء الفقهاء، ولا بد أن نلاحظ أن كثيرين من فقهاء الشافعية الكبار بمصر كانوا ينزلون فى الشام مثل تقى الدين السبكى قاضى قضاة الشام وابنه تاج الدين عبد الوهاب خطيب الجامع الأموى مؤلف طبقات الشافعية، ويظل المذهب الشافعى مزدهرا بالشام أيام المماليك والعثمانيين.

وكان المذهب الحنبلى فى الشام أقل أشياعا وأنصارا من المذهب الشافعى والحنفى، ومن أوائل من أدخلوه إلى دمشق والشام علم من أعلام المذهب الحنبلى هو أبو القاسم الخرقىّ عمر (2) بن الحسين المتوفى بدمشق سنة 334 وكان قد استوطنها بأخرة من عمره ودرس المذهب فيها، وله كتاب دوّت شهرته هو «المختصر» فى الفقه الحنبلى، ظل طلاب المذهب يعتمدون عليه طويلا، ويقال إن عدد مسائله بلغ 2300 مسألة. وظل المذهب لا ينتعش فى ديار الشام حتى قيّض له فى القرن الخامس أبو الفرج (3) الشيرازى المقدسى الدمشقى المتوفى سنة 486 وكان قد تفقه فى بغداد على أبى يعلى صاحب طبقات الحنابلة، وقدم الشام فسكن بيت المقدس ونشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل فيما حوله من بلدان فلسطين، ثم انتقل إلى دمشق وأقام بها وأخذ ينشر المذهب حتى أصبح له أتباع وتلامذة كثيرون لا فى دمشق فحسب بل أيضا فى بيت المقدس وغيرهما من بلدان الشام، وله تصانيف عدة فى الفقه الحنبلى والأصول، منها: المبهج والإيضاح، ومختصر فى الحدود وفى أصول الفقه، والتبصرة فى أصول الدين، وله كتاب الجواهر فى التفسير ثلاثون

(1) انظر فى علاء الدين الباجى الدرر الكامنة 3/ 176 وطبقات الشافعية للسبكى 10/ 339 وفوات الوفيات 2/ 150 وحسن المحاضرة 1/ 544 والشذرات 6/ 34

(2)

انظر فى الخرقى تاريخ بغداد 11/ 234 وطبقات الحنابلة لابن أبى يعلى 331 والأنساب للسمعانى 195 وابن خلكان 3/ 441 والنجوم الزاهرة 3/ 289

(3)

ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (طبعة دمشق) 1/ 85 وما بعدها

ص: 108

مجلدا. وكان يعاصره الفقيه الحنبلى عبد (1) الوهاب بن طالب التميمى نزيل دمشق وإمام مسجد الريحان.

وخلف أبا الفرج الشيرازى على المذهب ابنه عبد الوهاب المتوفى سنة 536 وتخرج من بيته فقهاء حنابلة كثيرون، ويعرفون فى دمشق والشام ببيت ابن الحنبلى، ولعبد الوهاب مثل أبيه تصانيف فى الفقه الحنبلى والأصول، منها المنتخب فى الفقه الحنبلى فى مجلدين والبرهان فى أصول الدين. ولعبد الوهاب على المذهب فى الشام يد سابغة، فقد بنى له بدمشق مدرسة تعرف بالمدرسة الحنبيلة، ويذكر ابن شداد أساتذتها من الحنابلة الفقهاء حتى أيام تأليف كتابه «الأعلاق الخطيرة» بعد سنة 670. ويذكر بدمشق معها تسعة مدارس أخرى للحنابلة بنيت بعدها حتى زمن ابن شداد. ونشط بناء المدارس الحنبلية فى بيت المقدس وظل بعد ابن شداد على نحو ما يصوره ذلك النعيمى فى كتابه «الدارس فى تاريخ المدارس» . وكان مما ضاعف نشاط هذا المذهب قرار الظاهر بيبرس أن يكون للحنابلة فى ديار الشام-كما فى ديار مصر-قاض فى كل بلد كبير بجانب قضاة الحنفية والمالكية والشافعية. ويتضح هذا النشاط وتتضح معه كثرة الفقهاء من الحنابلة منذ أيام الأيوبيين، ومن كبارهم حينئذ موفق (2) الدين بن قدامة الجمّاعيلى المقدسى عبد الله بن أحمد المتوفى بدمشق سنة 620 وهو من أئمة المذهب، وله كتب كثيرة فى الفقه الحنبلى وأصوله وأصول الدين، منها المغنى شرح به مختصر الخرقى المار ذكره فى عشر مجلدات، وهو مطبوع، والكافى فى أربع مجلدات، وله فى أصول الفقه كتاب روضة الناظر، وفى أصول الدين كتاب الاعتقاد. ويلقانا بعده فقهاء كثيرون من بيته يتردد ذكرهم طوال القرنين السابع والثامن.

وما نكاد نبلغ نهاية القرن السابع أيام المماليك حتى يتألق فى المذهب اسم الإمام ابن (3) تيمية المتوفى سنة 728 وقد صورنا جانبا من تحرره الفكرى واجتهاده فى غير هذا الموضع، ومرّ بنا حديثنا عن منهجه فى التفسير القرآنى، وله عشرات الرسائل والكتب فى المسائل التشريعية والعقيدية، ويقول الذهبى فى تذكرة الحفاظ إن مصنفاته التى سارت بها الركبان نحو ثلاثمائة مجلد، ومن أهم كتبه الفقهية فتاويه وهى مطبوعة قديما فى خمسة مجلدات كبار. ومن أعلام الفقهاء الحنابلة بعده تلميذه ابن قيم الجوزية المذكور بين البلاغيين وهو حامل فقهه وعلمه وناشرهما فى الناس وأضاف

(1) ابن رجب 1/ 96

(2)

راجع فى ابن قدامة ابن رجب 2/ 170 والبداية والنهارية 13/ 99 والشذرات 5/ 88 والنجوم الزاهرة 6/ 256

(3)

مرت مصادر ابن تيمية فى الحركة العلمية ص 551

ص: 109

إليهما كثيرا من روائع الكتب، مع نزعة صوفية قوية فيه. وتصدى فى دمشق بعد أستاذه للإقراء والإفتاء وصنّف كثيرا فى الفقه والتفسير والحديث والأصول والفروع، ومن تصانيفه إعلام الموقعين وشرح منازل السائرين، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وطرق السعادتين، ويقول ابن حجر فى الدرر: هو طويل النفس فى كتاباته يحاول الإيضاح جهده فيسهب جدا، ويقول الشوكانى فى البدر الطالع:«له من حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين بحيث تعشق الأفهام كلامه وتميل إليه الأذهان وتحبه القلوب» . ويزخر كتاب النجوم الزاهرة بأسماء فقهاء الحنابلة وقضاتهم بدمشق وغيرها حتى نهاية زمن تأليفه سنة 872.

ويلقانا بأخره من أيام المماليك مجير الدين العليمى عبد الرحمن بن محمد قاضى بيت المقدس المتوفى سنة 927 وله كتاب فى طبقات الحنابلة سماه «المنهج الأحمد فى تراجم أصحاب الإمام أحمد» .

ويظل للفقهاء الحنابلة نشاطهم أيام العثمانيين مثلهم فى ذلك مثل بقية أصحاب المذاهب الثلاثة الأخرى.

ومنذ ظهرت المذاهب الفقهية والكلامية والجدل يحتدم بين أصحابها، مما أتاح مبكرا لنشأة علم الجدل وما تبعه من نشأة علم آداب البحث والمناظرة، ويكثر التأليف فيهما لهذا العصر كما يكثر التأليف فى علم الأصول الذى وضعه الإمام الشافعى وفاق الأولين والآخرين فيه الآمدى الذى سنلم به فى حديثنا عن علم الكلام بجزء مصر، وكان قد نزل مصر ثم استوطن حماة حتى وفاته سنة 631، وكتابه «الإحكام فى أصول الأحكام» ربما كان أروع كتاب فى علم الأصول على مدى الأزمنة الماضية. والشام-مثل مصر-انصرفت عن الاعتزال وعن الفرق الكلامية الكثيرة التى نشأت فى بغداد، حتى إذا ظهر الأشعرى المتوفى سنة 324 وانضم تحت لوائه شافعية خراسان انضم مثلهم شافعية الشام ومصر بحيث تعانق المذهبان. الشافعى والأشعرى فى كل مكان. ولم يلبث أن خاصمهما الحنابلة الآخذون بظاهر الكتاب والسنة، واستمر هذا الخصام على مدار السنين فى أزمنة الأيوبيين والمماليك. ومن حين إلى آخر يتوقف السبكى فى طبقاته ليصور تعصب بعض الحنابلة ضد الأشاعرة وخاصة أستاذه الذهبى، فقد كان يتعصب تعصبا شديدا ضدهم على نحو ما سنعرض ذلك فى غير هذا الموضع. وفى الوقت نفسه يشيد بفقهاء الشافعية الذين يردّون على خصوم الأشعرية، على نحو ما أشاد بفخر الدين بن عساكر فى رده المفحم على الحسن بن على الأهوازى المار بين القراء فى كتابه «تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى أبى الحسن الأشعرى» . ويشيد السبكى

ص: 110