الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألا إنه ما فارق الإلف دهره
…
ومالى إلى وصل الحبيب وصول
وهو يوازن بينه وبين قمرى يتغنى سحرا بأشواق ما ينى يرددها فى صحف الرياض ويمليها مخيّلا كأنه يشكو من آلام بين مبرّح ولا بين ولا فراق، فحبيبته بجانبه لم تفارقه ليلة، ولا أصابه لفراقها ضنّى ونحول. ويقسم له بالهوى لو ذاق أو جاعه وتباريحه ما ازدان تليله أو عنقه بطوق، ويقول له إنه لم يفارق أليفته يوما بينما هو يتلظى بنار الفراق والهجران. وكان يعرف الفارسية وقد ترجم عنها قوله:
ورق الغصون دفاتر مشحونة
…
مملوءة بأدلّة التوحيد
ولعل فيما قدمنا ما يدل على روعة غزلياته، وهو فيها دائما مشوق يتمنى الوصل وأن تذوب حجب الهجران. وما زال يردد هذا المعنى وما يتصل به، حتى لبى نداء ربه بدمشق لسنة 1024 للهجرة.
2 - شعراء الفخر والهجاء
موضوعا الفخر والهجاء من موضوعات الشعر القديمة منذ الجاهلية، ومعروف أن شعر الفخر والحماسة الحربية غلب عليها قديما، حتى سمى أبو تمام مختاراته الشعرية الكبرى باسم الحماسة تغليبا لهذا الموضوع على موضوعات الشعر الأخرى عند العرب فى جاهليتهم وإسلامهم، وكان يزحمه من قديم شعر الهجاء، إذ كانوا يفخرون بانتصاراتهم الحربية ويهجون خصومهم بهزائمهم، يستثيرون بذلك قبائلهم لتخوض معارك جديدة أشد فتكا فى الأعداء. وكانت معارك العرب-على مر السنين-بينهم وبين الأمم وقودا مستمرّا للفخر والهجاء، فلم تخمد لهما نار، بل لقد اشتد أوارها كلما تقدمنا مع الزمن، وكان شعراء الشام يشاركون فى تلك المعارك بسهام شعرهم النارية. ونكتفى بذكر شاعرين كبيرين قريبين من هذا العصر هما أبو تمام والبحترى، وكانا أشبه بمكاتبين حربيين، فهما يحضران المعارك مع ثوار إيران ومع الروم فى آسيا الصغرى، ويصوران كيف احتدمت الحرب وبلاء الجيوش العباسية وقوادها فيها وما أنزلوا بالأعداء من محق لا يكاد يبقى منهم باقية. وبجانب هذا الفخر والهجاء الحربى كان هناك الفخر والهجاء السلميان اللذان ينظمهما الشعراء لبيان ما يشتملون عليه هم وأقوامهم، أو هم أنفسهم، من مثالية خلقية رفيعة وما يتصف به أعداؤهم
أو بعض خصومهم من أخلاق شائنة يزدريها المجتمع. وهذا الفخر والهجاء الجماعيان والفرديان نجدهما عند أبى تمام والبحترى وغيرهما من الشعراء، وكثيرا ما كان يحدث ذلك بين الشعراء أنفسهم، فنجد-بعامل المنافسة-شاعرا يفاخر زميلا له ويهاجيه.
وكل ذلك نراه شائعا فى هذا العصر: عصر الدول والإمارات، وكانت الحرب محتدمة فى أوائله بين سيف الدولة الحمدانى أمير حلب وبين الروم، وكان يكيل لهم ضربات قاصمة، مما جعل كثيرين من الشعراء يمدحون بطولته وبطولة جيوشه العربية مفاخرين الروم وهاجين منذرين جموعهم بمعارك تدق أعناقهم دقا ولا تبقى ولا تذر. وبجانب ذلك نجد الفخر والهجاء الفرديين محتدمين بين بعض شعراء حاشيته على نحو ما حدث بين الخالديين والسّرىّ الرّفاء. وشاعر الفخر الشامى الذى لا يبارى فى القرن الرابع الهجرى أبو فراس الحمدانى، وسنخصه بترجمة مفردة.
وربما كانت أروع قصيدة فخر نظمها شعراء الشام فى القرن الخامس الهجرى قصيدة أبى العلاء المعرى التى أشرنا إليها فى ترجمته وفيها يقول (1):
ألا فى سبيل المجد ما أنا فاعل
…
عفاف وإقدام وحزم ونائل
تعدّ ذنوبى عند قوم كثيرة
…
ولا ذنب لى إلا العلا والفضائل
وقد سار ذكرى فى البلاد فمن لهم
…
بإخفاء شمس ضوءها متكامل
وإنى وإن كنت الأخير زمانه
…
لآت بما لم تستطعه الأوائل
ولى منطق لم يرض لى كنه منزلى
…
على أننى بين السّماكين نازل
ولما رأيت الجهل فى الناس فاشيا
…
تجاهلت حتى ظنّ أنى جاهل
وواعجبا كم يدّعى الفضل ناقص
…
وواأسفا كم يظهر النّقص فاضل
ينافس يومى فىّ أمسى تشرّفا
…
وتحسد أسحارى علىّ الأصائل
والقصيدة تناقض شخصية أبى العلاء المتشائمة الزاهدة فى الحياة وكل ما فيها من مجد، وإما نظمها تقليدا ومحاكاة لسابقيه فى فن الفخر، وإما نظمها فى ساعة غضب ردا على بعض شانئيه وخصومه. ومع ذلك فهى تصور مكانته فى الأدب العربى، وأنه فيه-بحق-السابق المجلّى، وهو يقول: من أين يلحقنى الذم وأنا أنهض بكل ما يكسبنى المجد والشرف من العفاف الطاهر
(1) ديوان سقط الزند (طبع دار الكتب المصرية) 2/ 519.
والإقدام الجرئ والحزم النافذ والنائل أو الجود السابغ، ويقول إنه ليس فيه ذنوب ولا عيوب إلا إذا عدّت العلا والفضائل ذنوبا وعيوبا، ولن تعد المحاسن كذلك أبدا. وإن ذكره ليعم البلاد كما يعمها ضوء الشمس الغامر الذى لا يستطيع أحد إخفاءه، وإن كان زمانه قد تأخر فإنه أتى بما لم يستطعه الأوائل، ومع أنه بين السماكين فى السموات العلا لا يزال منطقه أو عقله يطلب منزلة أعلى شأنا. ولما رأى الجهل فاشيا تجاهل حتى ظن الأغبياء أنه جاهل، وتعجب من ادعاء الناقص الفضل وتحسّر على تظاهر الفاضل بالنقص. ويقول إن كل وقت يتمنى أن يكون فيه دون غيره من الأوقات، فأمسه يحسد عليه يومه وأصيل اليوم يحسد عليه سحره. ويمضى أبو العلاء فى القصيدة بهذا الصوت الضخم المجلجل كالرعد القاصف.
وكان يعاصر أبا العلاء ابن سنان الخفاجى المتوفى سنة 466 للهجرة، وله يفتخر بقومه وبلائهم فى حرب الثغور ضد الروم (1):
أهل الثغور إذا تلمّ ملمّة
…
بسطوا رماحا دونها وسواعدا
وأولو التّقى فإذا مررت عليهم
…
لم تلق إلا مكرما ومجاهدا
إن حاربوا ملئوا البلاد مصارعا
…
أو سالموا عمروا الديار مساجدا
بيت له النسب الجلىّ وغيره
…
دعوى تريد أدلّة وشواهدا
وهو يفخر ببأس قومه وتقواهم وأنهم فى الحرب يملئون ساحات المعارك بينهم وبين الروم صرعى مقتولين. وإذا أفضوا إلى السلم ملئوا الديار مساجد، ويقول إن بيتهم عريق فى العرب لا يطاوله أى بيت. ومن شعراء الفخر فى زمن الفاطميين والأيوبيين أسامة بن منقذ وسنفرد له ترجمة-ولابن الساعاتى المار ذكره (2):
وإنى لآبى الضّيم من كل صاحب
…
وأكره قلبى أن يكون له خدنا
وإن بلد لم أغد فيه مكرّما
…
نهضت فأعملت الجديليّة البدنا (3)
وما شان فضلى بين أهلى خموله
…
وقد بلغت غاياته الإنس والجنّا
فإنى كعود الهند هين بدوحه
…
وقد عبّقت أنفاسه السّهل والحزنا
(1) ديوان ابن سنان الخفاجى ص 23
(2)
ديوان ابن الساعاتى 2/ 214
(3)
الجديلية البدن: النوق الضخمة
فهو يأبى الضيم شاعرا بالكرامة شعورا عميقا، حتى لو أحسّ أن بلدا ينبو به رحل عنه إلى غير إياب، ويبالغ فى بيان فضله قائلا إنه شاع بين الإنس والجن، وإن اعتراه خمول بين أهله فمثله مثل عود الهند لا يعرف فضله فى دوحته، بينما رائحته العطرة تملأ السهل والحزن من الأرض.
ونظل نستمع إلى هذا الصوت الأجش المعتز بنفسه وكرامته طوال أيام المماليك وبالمثل أيام العثمانيين كقول ابن الجزرى المار ذكره (1):
يقدّمنى عزمى وحظّى مؤخّرى
…
ويوصلنى حزمى ودهرى يقطّع
وهمّى من الدنيا المعالى ونيلها
…
وما همّ قلبى الرّقمتان ولعلع (2)
ولا رشأ أحوى ولا صوت قينة
…
ولا قدح فيه الرّحيق المشعشع (3)
ولكنما لدن وأجرد سابح
…
ومسرودة زغفا وأبيض يسطع (4)
وهو صاحب عزم وحزم ونفاذ فى الأمور وإن لم يسعفه الحظ والدهر. وهمه طلب المعالى والظفر بها لا بمن يسكن روضتى الرقمتين وجبل لعلع من سمر الشفاه، ولا بمن يتغنين غناء جميلا، ولا بالأقداح من رحيق الخمر وشرابه. إنما همه رمح لين قاتل وفرس مسرع ودرع واسعة محكمة وسيف ساطع يضئ فى غبار الحرب حين يسله على رقاب الأعداء. إنه من أهل العزم والحزم والمعالى لا يشغف بحب ولا بغناء ولا بخمر، إنما يشغف بالبأس فى الحرب وتقتيل الرجال وسفك دمائهم.
وبجانب هذا الفخر كان يدور هجاء كثير، وخاصة لمن لا يجزون الشعراء الجزاء الوفر وكثيرا ما كانت تحتدم بينهم المنافسات، فيفزعون إلى سهام الهجاء يصوبها الخصم منهم إلى خصمه صباح مساء. وقد يصبح الهجاء سهاما سامة قاتلة، وقد يصبح سخرية جارحة، وقد يصبح دعابة وإن لم تخل من مرارة، كقول عبد المحسن الصورى وقد نزل ضيفا على أخ له (5):
وأخ مسّه نزولى بقرح
…
مثل ما مسّنى من الجوع قرح
بتّ ضيفا له كما حكم الده
…
ر وفى حكمه على الحرّ قبح
(1) ريحانة الالبا 1/ 118
(2)
الرقمتان: قريتان فى شرقى نجد أو روضتان ويذكرهما شعراء الغزل. لعلع: جبل فى نجد
(3)
الرشأ: ولد الظبية وتشبه به الفتيات، والحوة: سمرة فى الشفة، الرحيق المشعشع: العسل الممزوج
(4)
اللدن: الرمح. أجرد. فرس. مسرودة: درع. زغفا: سابغة. أبيض: سيف
(5)
اليتيمة 1/ 300
قال لى إذ نزلت وهو من السّك
…
رة والهمّ طافح ليس يصحو
لم تغرّبت قلت قال رسول ال
…
لّه والقول منه نصح ونجح
سافروا تغنموا فقال وقد قا
…
ل تمام الحديث صوموا تصحّوا
وهى دعابة تلسع لسع الإبر، فقد صور نزوله على مضيفه بقرح وهو ما يصيب الإنسان من عضّ السلاح ونحوه، كأنما نزوله عليه كان كارثة، وقال إنه مسّه من الجوع قرح لا يزال ينزّ ألما، وكأنما يستلهم آية سورة آل عمران:{(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)} أى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر. ويقول إن الدهر هو الذى حكم عليه هذا الحكم القبيح، ولقد أصابته سكرة من الشح والهم، فسأله سؤالا مزريا: لم تغربت ونزلت عندى، فأجابه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: سافروا تغنموا، فبادر إليه يقول: تمام الحديث: صوموا تصحّوا، وكأنه يطلب إليه أن يظل جائعا بل أن يصوم ويظل صائما ما ظل عنده. ويقول الغزى المتوفى سنة 524 فى هجاء حاكم من حكام إيران يسمى شروانشاه (1):
رأيت لؤما مصوّرا جسدا
…
شيمته الاحتيال والكذب
على سرير كالنّعش لا رهب
…
يعلوه من هيبة ولا رغب
يجبه بالهجر من يخاطبه
…
بين السّعالى وبينه نسب (2)
يفرقه الناس للسّفاهة وال
…
عقرب يخشى وخدّه ترب
للجمع والمنع قائم أبدا
…
كالفيل لا تنثنى له ركب
وهو هجاء لاذع كوى به جلد هذا الحاكم، بل لقد تحولت الأبيات فى يد الغزى إلى ما يشبه سياطا بل شواظا من نار يصبه فوق رأسه صبا، فهو تمثال للؤم والكذب، يجلس لا على سرير بل على نعش لا يظله رهب منه ولا رغب فى ماله، لما عرف عنه من شحّ بغيض، وأنه يصكّ مخاطبه بكلام قبيح، وكأنما هو ليس من البشر، بل إن بينه وبين الغيلان نسبا ذميما. والناس يخشونه لسفاهته كما يخشون العقرب وخدها ملطخ بالتراب، وكأنما خلق كالفيل قائما أبدا إذ لا ينام فعيناه مشدودتان دائما لجمع المال ومنعه عن مستحقيه شحّا بغيضا لا يدانيه شح. وكان العرقلة الكلبى المتوفى سنة 567 كثير الهجاء حتى هجا نفسه، وله من أبيات وقد أعطاه بعض من مدحهم لا مالا، بل شعيرا فقال (3):
(1) الخريدة (قسم الشام) 1/ 19
(2)
السعالى: الغيلان
(3)
الخريدة (قسم الشام) 1/ 182
يقولون لم أرخصت شعرك فى الورى
…
فقلت لهم إذ مات أهل المكارم
أجازى على الشعر الشعير وإنّه
…
كثير إذا استخلصته من بهائم
ومنذ زمن الغزّى يشكو الشعراء كثيرا من أنهم لا ينالون ما يستحقونه على أشعارهم من ممدوحيهم، بل إن منهم من يعطيهم رقعا مسطرة دون أن يفى بما فيها، وكأنها كلام كاذب بكلام.
ومن كبار الهجائين فى أيام الأيوبيين بدر الدين عبد الرحمن بن المسجّف المتوفى سنة 635 للهجرة، وله يهجو جماعة من إخوانه أو عصابته كما يقول (1):
يا ربّ كيف بلوتنى بعصابة
…
ما فيهم فضل ولا إفضال
متنافرى الأوصاف يصدق فيهم ال
…
هاجى وتكذب فيهم الآمال
جبنا إذا استنجدتهم لملمّة
…
لؤما إذا استرفدتهم بخّال
هم فى الرّخاء إذا ظفرت بنعمة
…
آل وهم عند الشدائد آل
وهو يخلى عصابته من كل فضل ويراها جديرة بكل مذمّة فى مهجوّ إذ تكذب فيها دائما الآمال. ويصف أفرادها بأنهم جبناء عند الشدائد، لؤماء بخلاء، وهم فى الرخاء أهل أو آل كما يقول، وفى الضراء سراب أو آل يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وولّى السلطان الظاهر بيبرس فى سنة 664 قضاة أربعة يمثلون المذاهب الفقهية: المذهب المالكى والحنفى والشافعى والحنبلى ولقّب ممثلى هذه المذاهب ما عدا المذهب المالكى بلقب شمس الدين، فاتخذ الشعراء ذلك موضوعا للهجاء الفكه الساخر. من مثل قول بعضهم (2):
أهل الشآم استرابوا
…
من كثرة الحكّام
إذ هم جميعا شموس
…
وحالهم فى ظلام
وكان شرب الحشيش المخدّر عرف بين أراذل الناس يدخنونه ويمضغونه وقد يبلعونه، وشدّد الظاهر بيبرس النكير على من يتعاطونه، ونظم كثير من الشعراء فى ذمه كقول الشاب الظريف (3):
(1) فوات الوفيات 1/ 539
(2)
النجوم الزاهرة 7/ 137 وانظر ذيل الروضتين لأبى شامة (الطبعة الأولى) ص 236.
(3)
النجوم الزاهرة 7/ 381
ما للحشيشة فضل عند آكلها
…
لكنه غير مصروف إلى رشده
صفراء فى وجهه خضراء فى فمه
…
حمراء فى عينه سوداء فى كبده
وهو يقبّحها غاية التقبيح بآثارها فى ما ضغها من صفرة تعترى وجهه وحمرة تشوب عينه وسواد لا يزول فى كبده. ويقول مجير الدين بن تميم المتوفى سنة 684 للهجرة فى هجاء كحّال (1):
دعوا الشيخ من كحل العيون فكفّه
…
يسوق إلى الطّرف الصحيح الدواهيا
فكم ذهبت من ناظر بسواده
…
وألقت بياضا خلفها ومآقيا
فكحله يعمى الأبصار ويقضى قضاء مبرما على سوادها ونظرها ولا يبقى بها بصيصا ولا غير بصيص. ولبعض شعراء دمشق فى هجاء القاضى شهاب الدين أحمد الباعونى الشافعى المتوفى سنة 816 للهجرة (2):
قضاء الشام أنشدنى
…
بدينى لا تبيعونى
صفعت بكلّ مصفعة
…
وبعد الكلّ باعونى
وكأنه أدخله فيما نزل بهذا القضاء من صفعات متوالية. وفى كلمة «باعونى» تورية واضحة فهو لا يقصد «باعونى» من البيع وإنما يقصد القاضى الباعونى.
ويظل الهجاء على ألسنة الشعراء يرمون بسهامه من لا يروقهم من الحكام ومن لا يسبغ عليهم نواله حتى أيام العثمانيين، على شاكلة قول يوسف بن عمران الحلبى المتوفى سنة 1074 للهجرة فى بخيل (3):
بخيل لو بيوم منه جادت
…
أنامله لغالته النّدامه
ولو فى النار ألقى ألف عام
…
لما عرفت له يوما سلامه
ولو صارت بسفرته رغيفا
…
ذكاء لما بدت حتى القيامه
فهو شحيح لو فاته شحّه يوما لظل نادما أبدا. وما ترجى له سلامة من النار بل سيظل خالدا فيها، وإن مائدته لتخلو دائما من كل طعام حتى من الخبز ورغفان العيش المستديرة كالشمس،
(1) فوات الوفيات 1/ 540
(2)
النجوم الزاهرة 14/ 124
(3)
ريحانة الألبا 1/ 108
ولو أنه ألقى رغيفا عليها ناسيا لا ستترت الشمس حتى القيامة كسوفا وخجلا أن يرى شبيهها على سفرته أو مائدته. وحرىّ بنا أن نترجم لنفر من شعراء الفخر والهجاء.
أبو فراس (1) الحمدانى
هو الحارث بن سعيد بن حمدان الحمدانى التغلبى، كان أبوه واليا على الموصل للخليفة الراضى، وكان مشهورا مثل إخوته وأبناء أسرته بالفروسية والشجاعة، واقترن برومية أنجب منها ابنه الحارث سنة 320 ولقبه أبا فراس وهى كنية الأسد رمزا لفروسيته المستقبلة وهو رمز حققته الأيام. ولم يلبث سعيد أن قتل غدرا وابنه يخطو فى سنته الثالثة، وعنيت به أمه، وأحضرت له المعلمين فى صباه. ولم يلبث ابن عمه وزوج أخته سيف الدولة الحمدانى أن اشترك مع الأم فى العناية والرعاية، حتى إذا اقتطع لنفسه حلب وبعض ثغور الشام انتقل إليها ومعه أسرته سنة 333 ومعه أبو فراس الذى كفله وقام على تربيته فارسا وأديبا خير قيام، إذ أعطاه لبعض المدربين يدرّبونه على الفروسية، ولبعض المعلمين والمؤدبين من مثل ابن خالويه. وسرعان ما ظهرت فروسيته ونجابته، فمنحه ضيعة بمنبج بلدة بقرب حلب، ولم يلبث أن ولاه عليها وهو شاب فى السادسة عشرة من عمره، وكان يلزم ابن عمه فى حروبه للروم وقد يسوق إليهم فيالق يقودها بنفسه ويعود إلى منبج، مفضيا أحيانا إلى الصيد وبعض اللهو، وفى ديوانه مزدوجة طردية. غير أن من الحق أنه لم يكن مشغوفا بصيد الحيوان إنما كان مشغوفا بصيد أعداء العروبة والإسلام من الروم. ومرّ بنا فى حديثنا عن شعراء التشيع أنه كان شيعى الهوى، وقد عرضنا لميميته الملقبة بالشافية التى دافع فيها عن العلويين ضد العباسيين دفاعا حارّا، وتشيّع الحمدانيين عامة مشهور وكانوا شيعة إمامية.
وظل يركب فى مقدمة الصفوف مع ابن عمه وصهره لدقّ أعناق الروم، وحاول أن يستخلفه عنه بحلب فى إحدى غزواته، فاستعطفه راجيا أن يصحبه فى حربه. وكان دائما يبلى بلاء حسنا فى تقتيلهم وتمزيقهم شر ممزق، وفى يوم من أيام شوال سنة 351 كان عائدا إلى منبج من الصيد مع
(1) انظر فى أبى فراس وشعره اليتيمة 1/ 35 وما بعدها وتهذيب ابن عساكر 3/ 439 وزبدة الحلب 1/ 157 وابن خلكان 2/ 58 والشذرات 3/ 24 وتاريخ الأدب العربى لبروكلمان 2/ 92 ومقدمة د. سامى الدهان لتحقيقه لديوانه وقد قابله على 40 مخطوطة محفوظة فى مكتبات العالمين العربى والغربى ووضع حواشيه ورتب فهارسه.
غلمانه وإذا بكتيبة من الروم بقيادة «تيودور» تباغته فيدافع إلى أن تثخنه الجراح ويصيبه سهم فى فخذه ويبقى نصله فيه، ويؤسر البطل المغوار، ويقدم به تيودور إلى خرشنة ويظل بها فترة. ثم ينقل إلى القسطنطينية، ويذوق ذل الإسار وألم الجراح، غير أن نفسه تظل صلبة عاتية لا تنكسر أبدا، بل تزداد مع الأيام عتّوا وصلابة. ويكبر الروم فى أبى فراس فروسيته وبطولته فينزلونه فى قصر على البحر ويخصصون له خادما يقوم بأمره، ويأبى أن يخلع دروعه وسلاحه، فيظل بهما فى أسره.
ويطول الأسر أربع سنوات، فتكثر أشعار أبى فراس إلى أهله وسيف الدولة وإخوانه مؤملا فى الإسراع بفدائه، وكان مما أخره أن سيف الدولة يريده فداء عاما له ولكل من معه من المسلمين ممن وقعوا قهرا فى شراك الروم. وفى سنة 355 يتفق الروم وسيف الدولة على اللقاء لفداء أسرى الطرفين، وفى شهر رجب ينزل أبو فراس مع ثلاثة آلاف أسير عربى بخرشنة، ويقدم سيف الدولة بأسرى الروم يفتدى بهم أبا فراس ومن معه من أسرى العرب. ويتم الفداء ويعود أبو فراس إلى حلب. وتأثر تأثرا شديدا لمرض سيف الدولة وما أصاب جنوده من انكسارات وانهزامات متلاحقة. ويتوفّى سيف الدولة فى السنة التالية، ويدور العام، ويحاول أبو فراس الاستيلاء على حمص من يد ابن سيف الدولة أبى المعالى ويلقاه مولاه قرغويه فى جمادى الأولى سنة 357 ويكون فى ذلك حتفه، ويقال إنه سقط جريحا فى ساحة الحرب وشعر بدنو أجله فأنشد أبياتا يخاطب بها ابنته معزيا قائلا فى ختام أبياته بلسان حالها:
زين الشباب أبو فرا
…
س لم يمتّع بالشباب
وطبيعى أن لا يكون المديح الموضوع الذى يستنفد شعر هذا الأمير الفارس، إذ لم يكن فى حاجة إلى التكسب بشعره، وأن يكون الفخر هو الموضوع الذى يستغرق شعره: فخره بقبيلته تغلب وأمجادها منذ الجاهلية، وبأسرته الحمدانية ومناقبها وما قدمته للعباسيين من انتصارات على الخوارج والقرامطة، وعلى الروم البينزيطيين، وفخر بمثاليته الخلقية الكريمة وبطولته. وتعدّ رومياته أو أشعاره فى أسر الروم القطع الأرجوانية فى ديوانه، وفيها غزل ورثاء واستعطاف كثير لابن عمه سيف الدولة كى يرد إليه حريته ليعود معه لمنازلة الروم وقراعهم قراعا لا يبقى منهم ولا يذر، وبين قصائدها بائية يرد بها ردا عنيفا على الدمستق حين طعن فى العرب وبسالتهم الحربية، وفيها أخذ يذكره باندحاراتهم أمام سيف الدولة ومقتل أخيه فى مرعش وجرح أبيه بها فى
وجهه وأسر ابن أخته فى اللّقان وما كان من فراره على وجهه لا يلوى. وهو فى رومياته يحنّ إلى ملاعب صباه وشبابه ويشتاق إلى زوجه وأبنائه ويرثى لأمه العليلة وهى تسأل عنه الركبان حين أسر قائلا على لسانها:
يا من رأى لى بحصن خرشنة
…
أسد شرى فى القيود أرجلها
ويرد عليها مسرعا
يا أمّتا هذه مواردنا
…
نعلّها تارة وننهلها (1)
فمواردهم الحرب، يقتلون الأعداء وتقتلهم ويأسرون الأعداء وتأسرهم ولا تنال القيود الثقيلة من أقدامهم. ويقول فى قصيدة ثانية: لولا أمى العجوز ما خفت أسباب المنية ولا طلبت الفداء من ابن عمى أبدا. ويقول لها:
يا أمّتا لا تيأسى
…
لله ألطاف خفيّه
أوصيك بالصبر الجمي
…
ل فإنه خير الوصيّه
فهو واثق فى الله ثقة تامة، وهو لا ييأس أبدا من فضله ورعايته، مع عزة نفس لا تماثلها عزة بل مع صلابة روح لا تشبهها صلابة، وتبدو هذه الصلابة منذ أيامه الأولى فى الأسر ونزولهم به فى خرشنة، إذ سرعان ما أنشد:
إن زرت خرشنة أسيرا
…
فلقد حللت بها مغيرا
ولئن لقيت الحزن في
…
ك فقد لقيت بك السرورا
ويقول إنهم طالما فتكوا بأهلها وسبوا نساءهم الحور الفاتنات، وكم أشعلوا بها نيرانا التهمت المنازل والقصور وأتت عليها كأن لم تكن شيئا مذكورا. ونشعر كأنما تجسدت فى روح أبى فراس كل معانى القوة العاتية التى تميز بها العرب وفتحوا بها العالم القديم من أواسط آسيا إلى شمالىّ إسبانيا، على الرغم من أسره وما كان يعانيه من ألم وحزن، وكأنما يحمل بين جنبيه روحا لا يمكن أن تقهر مهما نزل بها من كوارث وخطوب.
وربما كان أروع قصائد أبى فراس حينئذ قصيدته الرائية التى نظمها حين قال الروم إن
(1) نعلّها: نشربها تباعا. ننهلها: نشربها ابتداء
أبا فراس وحده من بين الأسرى هو الذى لم نسلب منه سلاحه، وقد بدأها بحوار بينه وبين إحدى صواحبه.
أراك عصىّ الدمع شيمتك الصّبر
…
أما للهوى نهى عليك ولا أمر
بلى! أنا مشتاق وعندى لوعة
…
ولكنّ مثلى لا يذاع له سرّ
معلّلتى بالوصل والموت دونه
…
إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر
تسائلنى من أنت؟ وهى عليمة
…
وهل بفتى مثلى على حاله نكر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى
…
قتيلك قالت أيّهم فهم كثر
وقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا
…
فقلت معاذ الله بل أنت والدّهر
وهو حوار وغزل فيهما فتوة وقوة، فهو لا يبكى، بل هو صابر صبر الرجال الأشداء، مع ما يستعر فى قلبه من لوعة إزاء معللته بوصل لا يناله، وكأنما تغيّر كل ما فيه فلم تعرفه وتسأله من أنت؟ تجاهل العارف، فيقول لها قتيلك، فتسأله أيهم فهم كثيرون. وتقول له: لقد نال منك الدهر، يكنى بذلك عن أسره، فيقول لها معاذ الله: بل أنت والدهر. ويمضى فى حوارها قائلا لها: لا تنكرينى يا ابنة العم فإننى غير منكر فى معمعان المعارك وقيادة الكتائب المعوّدة النصر واقتحام المخاوف والمخاطر المهلكة إلى الروم أسفك دماءهم وأسبى نساءهم دون أن أهتك لهم سترا أو أكشف لهم ثوبا، وما يلبث أن يصيح بكل فتوته:
أسرت وما صحبى بعزل لدى الوغى
…
ولا فرسى مهر ولا ربّه غمر (1)
ولكن إذا حمّ القضاء على امرئ
…
فليس له برّ يقيه ولا بحر
يمنّون أن خلّوا ثيابى وإنما
…
علىّ ثياب من دمائهم حمر
سيذكرنى قومى إذا جدّ جدّهم
…
وفى الليلة الظّلماء يفتقد البدر
ونحن أناس لا توسط بيننا
…
لنا الصّدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا فى المعالى نفوسنا
…
ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
أعزّ بنى الدنيا وأعلى ذوى العلا
…
وأكرم من فوق التراب ولا فخر
يقول: أسرت وورائى صحبى يشهرون السيوف فى الحرب ولا يغمدونها أبدا، إنهم فرسان
(1) غمر: قليل التجربة. عزل: لا يحملون سلاحا
أبطال، وما أسرت جبنا ولا كان فرسى مهرا صغيرا بل كان مدربا على القتال، وكان صاحبه فارسا شجاعا يحسن النزال والفتك بالأعداء، وإنما هو القضاء الذى لا معدى عنه ولا مفر منه فى بر أو بحر. ويتجه إلى الروم غاضبا لقولهم إنهم منّوا عليه بتركه لابسا لأمته وعدته الحربية، وهو استشعار للفتوة والقوة ما بعده استشعار. ويقول إن دروعه ملطخة بدمائهم، إذ طالما دقّ نصال سيوفه فى أعناقهم وصدورهم. ويلتفت إلى قومه فيقول إنهم سيذكرونه حين تدق أجراس الحرب، سيذكرون فروسيته وبطولته وبلاءه فى الأعداء. وكأنما يضع قوانين الشباب العربى والأمة العربية، إنها ترمى بنفسها فى أتون الحرب فإما الصدر دون العالمين أو القبر، وإن رجالها وأبطالها ليبذلون أرواحهم فى نيل المعالى، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر ولم يعده باهظا، بل إنه يقدمه راضيا حتى لو كان روحه وقلبه. ويقول من مثلنا: نحن أعز الناس وأعلاهم وأكرمهم بذلا. والقصيدة تعويدة رائعة لفتوة العرب وصلابتهم، وهى جديرة بأن يضمّها كل شاب عربى إلى صدره وذاكرته يحفظها ويترنم بأبياتها البديعة. وحانت منه التفاته-وهو فى سجنه-إلى شجرة عالية فرأى على أحد غصونها حمامة وسمعها تنوح، فأنشد:
أقول وقد ناحت بقربى حمامة
…
أيا جارتا هل تشعرين بحالى
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النّوى
…
ولا خطرت منك الهموم ببال (1)
أتحمل محزون الفؤاد قوادم
…
على غصن نائى المسافة عالى (2)
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
…
تعالى أقاسمك الهموم تعالى
أيضحك مأسور وتبكى طليقة
…
ويسكت محزون ويندب سالى
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة
…
ولكنّ دمعى فى الحوادث غالى
وقد أثار نواح هذه الحمامة بمرأى منه ومسمع الشجون فى نفسه، ويعيذها من نوى وفراق كفراقه وغربة كغربته وهموم كهمومه. ويتساءل هل تحمل قوادم هذه الحمامة فؤادا محزونا؟ ويقول إن الدهر لم ينصف بينهما ويتساءل كيف يضحك أسير فقد حريته وتبكى حرة طليقة؟ بل كيف يسكت محزون ويخرس لسانه وتندب سالية ندبا متصلا؟ ولا يلبث أن يقول لها: لقد كنت أولى منك بالبكاء بكاء لا تنقطع دموعه بل تظل منهمرة، غير أن دمعى فى الحوادث والنكبات غال لا يسيل أبدا، وإنه ليتجشّم أثقالها ويتحملها فى قوة. وشعر أبى فراس وراء رومياته يكتظ بالفخر
(1) النوى: الفراق
(2)
القوادم: ريشات أربع كبار فى مقدم الجناح