المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - شعراء المديح - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٦

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌(ا) فتح العرب للشام

- ‌(ب) زمن الدولة الأموية

- ‌(ج) زمن الولاة العباسيين

- ‌(د) الطولونيون-القرامطة

- ‌1 - الطولونيون

- ‌2 - القرامطة

- ‌(هـ) الإخشيديون-الحمدانيون (سيف الدولة)

- ‌1 - الإخشيديون

- ‌2 - الفاطميون-بنو مرداس-السلاجقة-الصليبيون-آل زنكى (نور الدين)

- ‌(ا) الفاطميون

- ‌(ج) السلاجقة

- ‌(د) الصليبيون

- ‌3 - الأيوبيون (صلاح الدين) -المماليك-العثمانيون

- ‌(ب) المماليك

- ‌(ج) العثمانيون

- ‌4 - المجتمع

- ‌5 - التشيع: الإسماعلية والإمامية-النصيرية-الدروز-الإسماعيلية النزارية أو الفداوية أوالحشاشين

- ‌(ا) الإسماعلية والإمامية

- ‌(ب) النّصيريّة

- ‌(ج) الدروز

- ‌الفصل الثّانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا

- ‌(ا) علوم الأوائل

- ‌(ب) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والنقد والبلاغة

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب الشام

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعر دورى-رباعيات-موشحات-بديعيات-تعقيدات

- ‌(ا) الشعر الدورى

- ‌(ب) الرباعيات

- ‌(ج) الموشحات

- ‌ أيدمر المحيوى

- ‌(د) البديعيات

- ‌(هـ) التعقيدات

- ‌4 - شعراء المديح

- ‌ابن الخياط

- ‌ ابن القيسرانى

- ‌ ابن الساعاتى

- ‌ الشهاب محمود

- ‌5 - شعراء الفلسفة والحكمة

- ‌أبو العلاء المعرى

- ‌ منصور بن المسلم

- ‌6 - شعراء التشيع

- ‌كشاجم

- ‌ابن حيّوس

- ‌ بهاء الدين العاملى

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ عبد المحسن الصورى

- ‌ ابن منير

- ‌ الشاب الظريف

- ‌ حسن البورينى

- ‌2 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌عرقلة

- ‌ ابن عنين

- ‌ ابن النحاس

- ‌3 - شعراء المراثى والشكوى

- ‌ ابن سنان الخفاجى

- ‌الغزّىّ

- ‌ فتيان الشاغورى

- ‌ مصطفى البابى

- ‌4 - شعراء الطبيعة ومجالس اللهو

- ‌الوأواء الدمشقى

- ‌ مجير الدين بن تميم

- ‌ابن النقيب

- ‌[5 - ] شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ عبد العزيز الأنصارى

- ‌ محمد بن سوّار

- ‌ عبد الغنى النابلسى

- ‌6 - شعراء شعبيون

- ‌الفصل الخامسالنثر وكتابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌العماد الأصبهانى

- ‌الصّفدى

- ‌ابن حجّة الحموى

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌(ا) رسائل أبى العلاء

- ‌(ب) رسائل متنوعة

- ‌3 - المقامات

- ‌ابن الوردى

- ‌4 - المواعظ والابتهالات

- ‌(ج) خطبة القدس بعد فتحه لمحيى الدين بن الزكى

- ‌(د) كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار

- ‌5 - أعمال أدبية: رسائل وغير رسائل:

- ‌(ج) كتاب الاعتبار

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - شعراء المديح

التصنع والتعقيد. وينشد العماد لابن قسيم مقطوعة طويلة تتوالى الكلمات فيها بحيث لا تخلو أولاها من صاد وثانيتها من سين أو العكس (1). ومما أنشده العماد فى خريدته من هذه الصور المتكلّفة قصيدة لشاعر من شعراء المعرة التزم فى كل كلمة من كلماتها أن لا تخلو من حرف النون (2)، وأنشد لشاعر آخر من شعراء المعرة قطعة تقرأ على سبعة أوزان (3). ولابن عنين حين ألم فى رحلته الكبيرة إلى المشرق بالفخر الرازى فى «هراة» قصيدتان (4) فى مديحه تشتمل كل كلمة فى أولاهما على حرف السين كقوله فيها.

حسنت سريرته وقدّس سنخه

وسما بأسلاف سراة شوس (5)

بينما تشتمل كل كلمة فى ثانيتهما على حرف الحاء. وتعلق كثير من الشعراء فى العصر بصنع الألغاز والإجابة عنها، وأفرد كثيرون لها أبوابا فى دواوينهم على نحو ما يلقانا فى ديوان ابن عنين وأيضا فى ديوان مامية الرومى الدمشقى فى زمن العثمانيين. وظل غير شاعر يتصنع لما لا يلزم فى بعض مقطوعاته وقصائده وكان للصاحب عبد العزيز الأنصارى مجلد كبير فيه (6).

‌4 - شعراء المديح

يكثر شعراء المديح فى الشام منذ القرن الثانى الهجرى، وذكرنا أسماء نفر منهم فى غير هذا الموضع، وقد أهدت الشام فى القرن الثالث إلى الشعر العربى أكبر شاعرين مدّاحين فيه، وهما أبو تمام والبحترى. ويتكاثر شعراء المديح كثرة مفرطة فى أول هذا العصر: عصر الدول والإمارات بحلب زمن بطلها سيف الدولة الحمدانى الذى تحول بها إلى أكبر مركز علمى وفلسفى وأدبى، على نحو ما مرّ بنا، وغدت مقصد الأدباء وحلبة الشعراء، وجاءوها من كل بلد فى العراق وإيران فضلا عن الشام، وفى مقدمتهم المتنبى. وظل سيف الدولة نحو عشرين عاما يمزق جموع البيزنطيين ويستولى على كثير من الحصون والبلدان، والشعراء من حوله ينثرون عليه قصائدهم

(1) الخريدة (قسم الشام) 1/ 447

(2)

الخريدة 2/ 45

(3)

الخريدة 2/ 108

(4)

الديوان ص 96.98

(5)

النسخ: الأصل، شوس جمع أشوس: الشجاع المقدام

(6)

فوات الوفيات 1/ 598

ص: 141

ومدائحهم بالعشرات-إن لم يكن بالمئات-مسجلين للبطل العربى مجده الحربى العظيم، وقد صورنا فى قسم العراق من هذا التاريخ للأدب العربى مدائح المتنبى فيه، ولن نستطيع أن نعرض هنا مدائح غيره من شعراء العراق مثل ابن نباتة وأبى الفرج الببغاء، فكتاب اليتيمة للثعالبى يحمل من مدائحها ومدائح غيرهما لسيف الدولة روائع بديعة. ويكفى أن نشير إلى من حفّوا به من شعراء الشام أمثال كشاجم والوأواء الدمشقى وأبى العباس أحمد بن محمد المصّيصىّ المشهور باسم النامى، وكان عند سيف الدولة يتلو أبا الطيب فى المنزلة والرتبة، وكان شاعرا بارعا، ومن قوله فيه بإحدى مدائحه (1):

أمير العلا إن العوالى كواسب

علاءك فى الدّنيا وفى جنّة الخلد

يمرّ عليك الحول، سيفك فى الطّلا

وطرفك ما بين الشّكيمة واللّبد (2)

ويمضى عليك الدّهر، فعلك للعلا

وقولك للتّقوى وكفّك للرّفد

فسيف الدولة دائما محارب يدق أعناق البيزنطيين بسيفه المسلول، ودائما ساهر شاكى السلاح وبصره مصوّب إلى فرسه الذى يعلك باستمرار شكيمته استعدادا للنزال. وما الإنسان إلا فعل وقول وفعل سيف الدولة دائما للعلا ومنازله الرفيعة وقوله للتقوى ومحافة الله، أما كفه فللعطاء والنوال السابغ.

وكان سيف الدولة-ومثله الحمدانيون عامة-من الشيعة الإمامية، مما جعل كثيرين من أهل حلب يعتنقون هذه النحلة، ومر بنا أن تفرعت عنها فرقة النّصيرية الشديدة الغلو لما تزعمه- كما مرّ بنا-من ألوهية على بن أبى طالب. ومكّن لانتشار التشيع فى الشام استيلاء الدولة الفاطمية على فلسطين ودمشق وكثير من بلدان سوريا منذ سنة 359 ونرى نفرا من شعراء الشام ينزلون القاهرة معتنقين-على ما يبدو-لتلك النحلة ويتغنون بمديح الخليفة الفاطمى العزيز (365 - 386 هـ) ووزيره يعقوب بن كلّس وفى مقدمتهم أبو الرّقعمق أحمد بن محمد الأنطاكى، وله فى الخليفة ووزيره غير قصيدة، ومن قوله فى ابن كلّس بإحدى قصائده (3):

لم يدع للعزيز فى سائر الأر

ض عدوّا إلا وأخمد ناره

(1) اليتيمة 1/ 225

(2)

الطلا: جمع طلية أو طلاة كما مر: وهى العنق أو صفحته: الشكيمة: الحديدة المعترضة فى فم الفرس من اللجام

(3)

اليتيمة 1/ 310

ص: 142

كلّ يوم له على نوب الدّه

ر وكرّ الخطوب بالبذل غاره

ولأبى العلاء المعرى ديوان معروف يسمى «سقط الزّند» أكثره مدائح نظمها على سبيل التمرين لا قصدا لمديح شخص بعينه إلا ما ندر، فهو لم ينظم كثرتها طلبا للكسب ونيل العطاء، وإنما على سبيل التدريب اتباعا لشعراء المديح المنتشرين بزمنه فى كل مكان، ومن قوله على طريقتهم فى المديح بأولى قصائد سقط الزند:

مكلّف خيله قنص الأعادى

وجاعل غابه الأسل الطّوالا

تكاد قسيّه من غير رام

تمكّن من قلوبهم النّبالا

فالخيل لكثرة ما جعلها الممدوح تمارس القتال تقتنص بنفسها الرجال. وإنه لأسد حقا غير أن عرينه ليس غابا بل رماحا طوالا تخطف الأرواح خطفا، وإن قسيّه لتصيب أعداءه فى الصميم دون رام ينزع عنها النبل والسهام، وهى مبالغة مألوفة عند أصحاب المديح لأيامه.

ومرّ بنا أن بنى مرداس خلفوا الحمدانيين فى حلب، وعنى منهم خاصة محمود بن نصر بجمع الشعراء حوله فاجتمع فى حاشيته كثيرون منهم عبد الواحد الحلبى الربعى وابن حيّوس الدمشقى وابن النحاس الحلبى وابن سنان الخفاجى. وحدث أن قطبان أنطاكية أو بطريقها استولى فى شعبان سنة 461 على حصن «أسفونا» ونكّل تنكيلا شديدا بأهله، فحاصره محمود بن نصر وفتك بجميع رجاله، وكانوا نحو ألفين، وردّ محمود الحصن على أهله، وهنّأه ابن سنان الخفاجى بهذا النصر المبين قائلا فى إحدى قصائده (1).

إن أظهرت لعلاك أنطاكيّة

حزنا فقد ضحكت على قطبانها

لما أطلّ له لواؤك خافقا

عرفت وجوه الذّلّ فى صلبانها

وحين زار حلب نظام الملك وزير ألب أرسلان السلجوقى قدّم له كثيرون من شعرائها مدائحهم، وكان وافر العقل بصيرا بتدبير الملك سيوسا بعيد النظر، فساس الدولة السلجوقية خير سياسة، وهو مؤسس المدارس أو الجامعات النظامية فى العراق وإيران، وله يقول محمد بن أحمد الشطرنجى الحلبى من مدحة طويلة على أبواب حلب (2)

(1) زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن؟ ؟ ؟ 2/ 14 وما بعدها والديوان طبعة بيروت ص 113.

(2)

دمية القصر 1/ 199

ص: 143

يا خير من خفقت عليه راية

وأجلّ معقود عليه لواء

لك كلّ يوم منّة سيّارة

فى الخافقين وغارة شعواء

وذكرنا-فيما أسلفنا-أن بنى عمار استطاعوا أن يكوّنوا لهم فى النصف الثانى من القرن الخامس الهجرى إمارة بطرابلس، وكانوا يقرّبون منهم الشعراء ويجزلون لهم فى العطاء، وذكر العماد الأصبهانى فى الخريدة نفرا من شعرائهم فى مقدمتهم ابن العلاّنى المعرى، وله من مدحة فى عمار بن محمد بن عمار: آخر أمرائهم (1):

يحتاطك التوفيق لا يألوك فى

تسهيله لك كلّ صعب أوعر

دامت لك النعماء موصول بها

توفيق منصور اللواء مظفّر

وسقطت من يده طرابلس فى حجر الصليبيين، وكانت لذلك مناحة كبيرة بين المسلمين.

وكان ابن العلانى-فيما يبدو-شيعيا، ولعله لذلك رحل إلى القاهرة وقدّم مدائحه إلى الوزير الأفضل بن بدر الجمالى، وله يقول فى إحدى مدائحه (2):

ليزدد علوّا ملك مصر فإنها

به حرم الله العزيز المحرّم

فمكة مصر، والحجيج وفوده

ويمناه ركن البيت، والنّيل زمزم

ومن كبار الشعراء الذين نشأوا فى حجر بنى عمار واستظلوا بما أحدثوا فى طرابلس من حركة أدبية الشاعر الدمشقى ابن الخياط وسنخصه بترجمة مستقلة.

وأمراء حصن شيرز: بنو مقلّد بن منقذ على شاكلة بنى عمار فى طرابلس يتردد مديحهم على ألسنة الشعراء منذ استخلص على بن مقلد بن منقذ «شيزر» من أيدى الروم سنة 474 وظلت أسرته تحكمها حتى أتى عليها زلزال شديد سنة 552 هدمها من قواعدها وأهلك سكانها. وتغنى الشعراء طويلا باسم محررها فى القرن الخامس على بن منقذ وبخلفائه فى حكمها، كما نجد عند ابن منير والقيسرانى.

ويلقانا فى أواخر القرن الخامس والربع الأول من القرن السادس شاعر فلسطينى هو الغزّى إبراهيم بن يحيى المتوفى سنة 524 وقد ترك غزة مسقط رأسه مبكرا إلى دمشق يختلف الى شيوخها، ثم رحل إلى بغداد وظل بالمدرسة النظامية فترة طويلة مدح فيها ورثى كثيرين من علمائها، ثم تركها

(1) الخريدة (قسم الشام) 2/ 78

(2)

الخريدة 2/ 82

ص: 144

إلى كرمان وشيراز فى فارس وهراة فى أفغانستان وكلما ألم ببلد مدح أمراءها ووزراءها حتى وفاته فهو شاعر جوّال، وله أشعار كثيرة رائعة فى المديح وغير المديح، وله فى ابن مكرم وزير كرمان مدائح بديعة من مثل قوله (1):

ما دعوناه من بنى الدّهر إلا

أهّل الدّهر نفسه للتّهانى

جمع الأسد والكواكب والأب

حر والناس منه فى إنسان

واستجابت له مناقب شتّى

لم تجل فى خواطر الإمكان

ويتنبه البطل المغوار أتابك الموصل عماد الدين زنكى منذ أوائل العقد الثالث من القرن السادس الهجرى إلى أن تخاذل المسلمين أمام حملة الصليب مرجعه إلى تفرق البلدان الإسلامية المجاورة لهم وأنه لا بد من جمع كلمتها تحت لواء واحد. ويستولى على حلب وبعض بلدان سوريا الشمالية، وما توافى سنة 534 للهجرة حتى يسوق إلى الصليبيين جيشا جرارا بقيادته، وينازلهم بالقرب من حماة ويعصف بجموعهم، ويستولى على حصن بارين بين حماة وحلب. وكأنما استيقظ الشعر حينئذ من سباته الطويل. ويتبارى الشعراء فى مديحه والإشادة بانتصاره، وفى مقدمتهم ابن منير والقيسرانى. ولم يلبث فى سنة 539 أن فتح مدينة الرّها مزيلا منها جوسلين ودولته الصليبية إلى غير رجعة، وهلل الشعراء فى كل مكان لهذا الفتح المبين، وفيه يقول ابن منير (2):

فتح أعاد على الإسلام بهجته

فافترّ مبسمه واهتزّ عطفاه

أين الخلائف عن فتح أتيح له

مظلّل أفق الدنيا جناحاه

ومضى ابن منير فى القصيدة يعلى-بحق-هذا الفتح على فتح المعتصم لعمّورية أكبر مدن آسيا الصغرى فى زمنه، فقد قضى زنكى على المملكة الرابعة لحملة الصليب، وكانوا قد أسسوها شمالى العراق. وبدا حينئذ-فى الأفق-أمل كبير فى أن ممالكهم التى أسسوها فى أنطاكية وطرابلس وبيت المقدس لا بد أن تسقط فى أيدى المسلمين مهما طال الزمن.

وامتدت إلى عماد الدين سنة 541 يد آثمة فى الظلام ففتكت بالبطل الباسل، وحمل الراية بعده ابنه نور الدين ومضى يجاهد الصليبيين، وغرّت الأمانى جوسلين فعاد إلى الرّها، واستردها

(1) الخريدة (قسم الشام) 1/ 51

(2)

الروضتين لأبى شامة 1/ 39 وانظر مفرج الكروب لابن واصل تحقيق الدكتور الشيال 1/ 93

ص: 145

سريعا نور الدين وفرّ جوسلين، وهنّأه الشعراء بهذا الفتح المبين، وفى مقدمتهم ابن قسيم الحموى بمثل قوله (1):

تبدو الشجاعة من طلاقة وجهه

كالرمح دلّ على القساوة لينه

والدين يشهد إنه لمعزّه

والشّرك يعلم إنه لمهينه

فتح الرّها بالأمس فانفتحت له

أبواب ملك لا يذال مصونه (2)

وولّى نور الدين وجهه نحو سوريا فاستولى من حملة الصليب على حصن أرتاح سنة 544.

ونازل صاحب أنطاكية وجموعه؛ وخرّ صريعا بيد أسد الدين شيركوه وفرّت جموع الصليبيين مهزومة مدحورة. وعاد نور الدين إلى حلب، والشعراء يهللون بمثل قول ابن منير فى مطلع قصيدة له (3).

أقوى الضلال وأقفرت عرصاته

وعلا الهدى وتبلّجت قسماته

وظلت أيام نور الدين محمود أعياد نصر على حملة الصليب، وظل الشعراء يدبجون فيه مدائح رائعة، وقد استولى من الصليبيين على أفامية سنة 545 واستولى من بيت طغتكين على مدينة دمشق سنة 549 ويهنئه عالمها وحافظها ابن عساكر قائلا (4).

لقد بلغت بحمد الله منزلة

عليّة فاقصد العالى من القرب

وطهّر المسجد الأقصى وحوزته

من النّجاسات والإشراك والصّلب

وفى نفس السنة يهزم الصليبيين بدلوك من ثغور حلب، ويتنازل له حملة الصليب فى أنطاكية عن نصف أعمال حارم. واستولى على شيزر وبعلبك وصرخد، وشغل بإرسال نور الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين إلى مصر سنة 558 وتطورت الظروف وتملك صلاح الدين مصر. ونور الدين محمود يعدّ بحق منشئ الدولة الأيوبية. ولم يلبث فى سنة 559 أن استولى على مدينة حارم، وأخذت حصون كثيرة تتساقط فى يده، ويتغنى بانتصاراته الرائعة العماد الأصبهانى قائلا فى مطالع إحدى قصائده (5)

(1) الخريدة (قسم الشام) 1/ 474 وما بعدها

(2)

يذال: يهان.

(3)

الروضتين 1/ 58 ومفرج الكروب 1/ 122 أقوى: أقفر. عرصاته: ساحاته. تبلجت: أضاءت.

(4)

الخريدة (قسم الشام) 1/ 277

(5)

الخريدة (بداية قسم الشام) ص 54

ص: 146

يا واحدا فى النّصر غير مشارك

أقسمت مالك فى البسيطة ثان

كم وقعة لك فى الفرنج حديثها

قد سار فى الآفاق والبلدان

وجعلت فى أعناقهم أغلالهم

وسحبتهم هونا على الأذقان

ويحمل الراية بعد نور الدين فى منازلة حملة الصليب البطل المظفر صلاح الدين مؤسس الدولة الأيوبية، وفتوحه العظيمة مصوّرة فى الجزء الخاص بمصر، وما وافت سنة 583 حتى تمت له هذه الفتوح بعد وقعة حطين المباركة التى استولى بعدها على بيت المقدس أهم مملكة كانت لحملة الصليب كما استولى على كثير من الحصون على الساحل الشامى، ولم يبق فى الشام ولا فى الموصل والعراق شاعر إلا وتغنى بفتوح هذا البطل الباسل، تغنى بها سبط بن التعاويذى البغدادى وموفق الدين الإربلىّ والشاتالى الموصلى وابن الساعاتى الدمشقى وله مدائح كثيرة متناثرة فى كتاب الخريدة، وللعماد فى هذه الفتوح قصيدة رائعة أنشدنا منها قطعة فى الجزء الخاص بمصر، ولابن الشحنة الموصلى فيه مدحة طارت شهرتها لقوله فيها هذين البيتين السائرين (1):

وإنى امرؤ أحببتكم لمكارم

سمعت بها والأذن كالعين تعشق

وقالت لى الآمال إن كنت لا حقا

بأبناء أيوب فأنت الموفّق

ودار الزمن ودانت مصر والشام-بعد صلاح الدين-لأخيه العادل، ولابن عنين الدمشقى فيه وفى ولديه المعظم عيسى والأشرف موسى مدائح مختلفة. وبينها رائية بديعة فى العادل يستعطفه بها فى العودة إلى دمشق وكان صلاح الدين نفاه منها لكثرة أهاجيه فى أهلها، وأذن له العادل فى العودة، وفيها يقول (2):

العادل الملك الذى أسماؤه

فى كل ناحية تشرّف منبرا

نسخت خلائقه الكريمة ما أتى

فى الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا

ملك إذا خفّت حلوم ذوى النّهى

فى الرّوع زاد رزانة وتوقرّا

ومعروف أن آل أيوب توزعوا فيما بينهم بلدان الشام، وكان لكل منهم شاعره الذى يتغنى بمناقبه وأعماله، ونذكر من بينهم نور الدين مودود شحنة دمشق ابن أخى صلاح الدين لأمه،

(1) النجوم الزاهرة 6/ 58

(2)

ديوان ابن عنين (تحقيق خليل مردم-طبع دار صادر) ص 6

ص: 147

وهو ممدوح فتيان الشاغورى دبّج فيه مدائح كثيرة. وحرى بنا أن نذكر ملوك حماة الأيوبيين، وكانوا ممدّحين. وممن أسبغ عليهم مدائحه الصاحب شرف الدين عبد العزيز الأنصارى، وله فى صاحبها المظفر محمود (626 - 642 هـ) وابنه المنصور سيف الدين محمد (642 - 683 هـ) مدائح كثيرة، وكان للثانى موقف محمود حين أحس بأن التتار سيغزون الشام إذ التجأ بأسرته إلى مصر حتى إذا التحم القتال بين المصريين والتتار فى عين جالوت كان فى مقدمة المحاربين البسلاء، ونوّه الصاحب الأنصارى بهذا الموقف الشجاع طويلا بمثل قوله (1):

بعين جالوت خضت بحر وغى

يخال فلكا بالأسد مشحونا

وكنت للجيش غرّة شدخت

أنوفهم فانثنوا مولّينا

وطوال أيام المماليك كان يرتفع صوت الشعر للتنويه بأعمالهم. وكان لانتصاراتهم على التتار أو المغول بعد موقعة عين جالوت حظ كبير من الشعر، ومرّ بنا فى قسم مصر أن الظاهر بيبرس كان دائما يتعقبهم فى الموصل وعلى شواطئ الفرات وسمع بحشود لهم على شاطئه الشرق فخاض إليها لججه وخاضها جيشه معه ومزقهم شر ممزّق، وفى هذه الغزوة يقول الموفق عبد الله الأنصارى الدمشقى (2).

الملك الظاهر سلطاننا

نفديه بالأموال والأهل

اقتحم الماء ليطفى به

حرارة القلب من المغل

ولم يستول الظاهر بيبرس ولا قلاوون ولا الأشرف خليل على حصن أو بلد من حملة الصليب إلا وجلجل الشعر، حتى إذا أنهى الأشرف خليل الحروب الصليبية باستيلائه على عكا آخر حصونهم أخذ شعر المديح فى الشام يتحوّل إلى شعر مناسبات لمديح الحكام حين يستولون على أزمة الأمور أو حين تمر بهم بعض الأعياد أو بعض الأحداث.

ويظل الشعراء أيام العثمانيين يقدمون مدائحهم للحكام، وكان شعراء الشام حينئذ قريبين من إستامبول وكانوا لا يزالون غادين عليها رائحين، مما جعلهم يكثرون من مديح سلاطينهم، على نحو

(1) الديوان (بتحقيق عمر موسى-نشر مجمع اللغة العربية بدمشق) ص 475

(2)

النجوم الزاهرة 7/ 160

ص: 148