الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا تقل ليت صرف الدهر ساعدنى
…
فإنّ فى ليت أوما يقطع اللّيتا (1)
والصورة فى البيت الأول بديعة، فحبل المنى كحبل الشمس مبتوت غير موصول، فلا تقل أحداث الدهر ساعدتنى فإن فى ليت أوما أو عطشا شديدا دون ريه انبتات الليت أو صفحة العنق. فدع المنى والتمنى فإنهما يتعبان ولا يثمران شيئا. ووراء هذه الشكوى من الزمن والناس فى شعر الغزى مدائح وغزليات-كما قلنا-رائعة، وهو ديوان كبير جمعه بنفسه فى نحو خمسة آلاف بيت، ومنه نسخ كثيرة فى مكتبات العالم.
فتيان (2) الشاغورى
هو فتيان بن على الأسدى الشاغورى ولد فى أوائل العقد الرابع من القرن السادس الهجرى ببانياس على ساحل حمص، وانتقل به أبوه صبيا إلى دمشق، وسكن الشاغور إحدى ضواحيها حينئذ وهى الآن من أحيائها، وألحقه بكتاب حفظ فيه القرآن، حتى إذا أتم حفظه أكبّ-مثل لداته-على دروس الشيوخ اللغوية والشرعية فى الجامع الأموى، وحين أتقن العربية وعلومها فكر فى أن يصبح معلما لها، يعلمها الناشئة ويدربهم عليها. واختار قرية الزّبدانى بالقرب من دمشق مقاما له لجمال الطبيعة فيها، فسكنها واتخذ لنفسه كتّابا يعلم فيه الناشئة، وله فى هذه القرية أشعار بديعة تصور مفاتن الطبيعة فيها. ومنذ أخذ صلاح الدين فى أواسط العقد الثامن من القرن يواقع الصليبيين ويسحقهم بجيشه المظفر نراه مثل غيره من شعراء الشام يشيد به وبانتصاراته فى مدائح كثيرة. وكان صلاح الدين قد أعطى ابنه الأفضل نور الدين دمشق منذ سنة 582 وظل بها بعد وفاة أبيه حتى سنة 592، واتخذ الأفضل مودود بن المبارك-وهو أخو عز الدين فرّخشاه ابن عم الأفضل لأمه-شحنة دمشق أو بعبارة أخرى ضابطا لشئونها ومصرفا لها. ويلتحق فتيان بخدمة مودود. ويقول مترجموه إنه اتخذ له حلقة لتعليم العربية بالجامع الأموى، ونظن ظنا أنه ابتدأها فى أثناء تلك الخدمة أى منذ العقد التاسع من القرن السادس، إن لم يكن بعد هذا التاريخ.
(1) أوما: عطشا شديدا. اللّيت: صفحة العنق.
(2)
انظر فى
فتيان الشاغورى
وشعره الخريدة (قسم الشام) 1/ 247 وابن خلكان 4/ 24 والنجوم الزاهرة 6/ 274 ومطالع البدور للغزولى 1/ 28 والشذرات 3/ 63. وديوانه طبعه مجمع اللغة العربية بدمشق بتحقيق أحمد الجندى وتقديمه.
وكان فتيان يمدح بجانب صلاح الدين بعض قواده وكاتبه عماد الدين الأصبهانى والأفضل نور الدين وأخاه غازى صاحب حلب منذ أعطاها له أبوه سنة 582 حتى وفاته سنة 613. أما مودود بن المبارك فله فيه أكثر من عشرين قصيدة، ويقول مترجموه إنه عهد إليه-فيما عهد- بتعليم أولاده الخط والعربية. ونراه حين أصبح العادل مالك زمام الدولة الأيوبية بعد أخيه صلاح الدين يخصه ببعض مدائحه ويكثر من مديح وزيره المصرى صفى الدين بن شكر، ويبدو أنه كان يرسل إليه بمدائحه، لأنه لم يغادر الشام طوال حياته. وكان العادل قد جعل دمشق لابنه المعظم عيسى، وله فيه عشر مدائح، كما أعطى العادل ابنه الأشرف موسى الرها والجزيرة وله فيه نحو خمس عشرة مدحة. ومدح كثيرين من البيت الأيوبى فى مقدمتهم صاحب حماة تقى الدين عمر (574 - 587 هـ) أعطاها له عمه صلاح الدين، ومدح صاحب بعلبك فرّوخشاه (575 - 578 هـ) وابنه بهرام شاه (578 - 627 هـ). وعلى هذا النحو ظل يقدم مدائحه للأيوبيين حتى وفاته بدمشق سنة 615. وقد أنشدنا له فى حديثنا عن شعراء التشيع أشعارا تدل بوضوح على تشيعه. وطبيعى-وهو شاعر مدح كبير-أن تكون له مراثى لمن لبى نداء ربه من ممدوحيه، وخاصة من كان وثيق الصلة بهم، وكذلك لكبار رجال زمنه وشيوخه وعلمائه الأعلام. ومن أروع مراثيه مرثيته لشيخه الحافظ المؤرخ ابن عساكر المتوفى سنة 571، ويقول العماد الأصبهانى إنها مشتملة على حقيقة الشيخ وطريقته ووفائه ووفاته، وفيها يقول:
أىّ ركن وهى من العلماء
…
أىّ نجم هوى من العلياء
إنّ رزء الإسلام بالحافظ العا
…
لم أمسى من أعظم الأرزاء
أقفرت بعده ربوع الأحادي
…
ث وأقوت معالم الأنباء
كان من أعلم الأنام بأسما
…
ء رجال الحديث والعلماء
كان علاّمة ونسّابة لم
…
يخف عنه شئ من الأشياء
أنت أعلى من أن تحدّ بوصف
…
بلغته بلاغة البلغاء
وفتيان فى المرثية محزون الفؤاد مكبر لفجيعة دمشق فى محدّثها الذى لا يبارى ومؤرخها الذى لا يجارى. وهو فى البيت الثانى يصور فى ألم إقفار المدرسة النورية من محدثها الأكبر وإقواء أو إقفار دمشق من مؤرخها العظيم صاحب تاريخها الذى يقال إنه كان يقع فى ثمانين مجلدا. وحقا كان من أعلم علماء عصره-إن لم يكن أعلمهم-بالحديث النبوى ورجاله وبتاريخ دمشق وأعلامها من
مختلف الأجيال، مع الحلم ومع التقوى والورع، ومع ما ألقى عليه من محبة أهل زمنه وإجلالهم.
ويتوفى بعده فى السنة التالية القاضى ابو الفضل كمال الدين محمد بن الشّهرزورى وكان قد ولى القضاء لعماد الدين زنكى فى الموصل، وتوفّى فالتحق بابنه نور الدين فولاّه القضاء فى دمشق وارتقى عنده إلى درجة الوزارة، وأقرّه صلاح الدين بعد وفاة نور الدين على عمله ومنصبه، ولم يلبث أن توفى. وفيه يقول فتيان من مرثية طويلة:
عدم الإسلام معدوم المثال
…
وهوت من أوجها شمس المعالى
ولسان الشّرع قد ألبس عيّا
…
بعد أن كان جريئا فى المقال
وسماء الدين قد ران على
…
بدرها النّقصان من بعد الكمال
والقضايا قاضيات نحبها
…
إثره حزنا على تلك الخلال
مات من كان لأهل العلم كهفا
…
وثمالا محسنا أىّ ثمال (1)
وهو يبكى الإسلام والقضاء وعلوم الشريعة فيه، إذ كان له القضاء والفتوى كما كان له الفقه والشريعة. وكانت له فضائل كثيرة بجانب علمه وفقهه، إذ كان جوادا وغيثا مدرارا، كما كان مرجعا للعلماء-كما يقول فتيان-وثمالا وسندا لهم وموئلا. ويتوفّى تقى الدين عمر صاحب حماة فيؤبنه بمرثية يقول فيها:
أباح ثغور الكفر بالسيف عنوة
…
وسدّ ثغور السّلم بالطّعن فى الثّغر
وكيف يلام المسلمون على الأسى
…
وقد عدم الإسلام ناصره عمر
لقد كان يلقى المرهفات بوجهه
…
وسمر القنا بالصّدر فى الورد والصّدر (2)
وكان يردّ الجحفل المجر وحده
…
يمسّون بالأيدى الظهور من الخور (3)
وهو يشيد ببسالته فى حرب حملة الصليب ويصور حزن المسلمين عليه، إذ خسروا فيه بطلا من أبطالهم طالما دوّخ الصليبيين، وطالما نازلهم راميا بنفسه فى أتون الحرب مقبلا دائما معرّضا وجهه للسيوف وصدره للرماح، وكم ردّ من جحافلهم الكثيرة وولوا أدبارهم فزعين مروّعين.
ويتوفّى الملك الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب، فيؤبنه بمثل قوله:
لئن كان خلق الخلق من طين آدم
…
فمن نور خلق الله خلقك يا غازى
(1) الثمال: الملجأ والغياث
(2)
المرهفات: السيوف. القنا: الرماح
(3)
المجر: الكثيف