الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لى من هواك بعيده وقريبه
…
ولك الجمال بديعه وغريبه
يا من أعيذ جماله بجلاله
…
حذرا عليه من العيون تصيبه
إن لم تكن عينى فإنك نورها
…
أو لم تكن قلبى فأنت حبيبه
هل حرمة أو رحمة لمتيّم
…
قد قلّ منك نصيره ونصيبه
لم يبق لى سرّ أقول تذيعه
…
عنى ولا قلب أقول تذيبه
والنّجم أقرب من لقاك مناله
…
عندى وأبعد من رضاك مغيبه
والأبيات تسيل رقة ونعومة وهو فيها يحوط صاحبته بكل ما يستطيع من شباك التضرع والاستعطاف، فهو عاشق واله، وهى ليست جميلة فحسب بل هى أيضا جليلة، وهو يعيذ جمالها بجلالها حذرا من عيون الحاسدين. وهى نور عينه وحبّة قلبه، وهو يسألها متوسلا بالرحمة أو حرمة الحب لعلها تنيله شيئا من الود، ويعترف بأن آلامه فى حبها ذاعت وشاعت، وقلبه يصلى نار حبها حتى ذاب التياعا لطول يأسه من لقائها حتى ليظن أن النجم أقرب من لقائها منالا وأبعد من رضاها مغيبا. وهو فى غزله دائما ينصب شباك هذا التضرع الطريف كقوله:
بتثنّى قوامك الممشوق
…
وبأنوار وجهك المعشوق
جد بوصل أو زورة أو بوعد
…
أو كلام أو وقفة فى الطريق
أو بإرسالك السلام مع الرّ
…
يح وإلا فبالخيال الطّروق
وتدل تمنياته فى وضوح على خفة ظله، وأنه رقيق رقة مفرطة مع الدماثة والظرف والتدله فى الحب واتقاد جذوته فى فؤاده. ولكل ذلك سماه معاصروه بحق «الشاب الظريف» . وله وراء ما ذكرنا من شعره موشحات ورباعيات بنفس الروح ونفس اللغة.
حسن (1) البورينىّ
هو حسن بن محمد البورينىّ، ولد بالأردن فى قرية صفّورية لسنة 963 للهجرة، ونزل مع أبيه دمشق وهو غلام، واختلف فيها إلى حلقات العلماء، ولم يلبث أبوه أن بارحها إلى بيت
(1) انظر فى
حسن البورينى
وشعره ريحانة الألبا 1/ 42 وخلاصة الأثر 2/ 51
المقدس، وفيه أتم تعلمه. وعاد إلى دمشق فاشتغل فيها بالتدريس فى مدارسها والوعظ فى مساجدها، وتولى منصب القضاء فى الحج الشامى سنة 1020. وكان عالما ثبتا حفظة فصيح العبارة. وله شرح على ديوان ابن الفارض الصوفى بحسب المعنى الظاهر، دون أى محاولة لإقحامه بين المتصوفة المتفلسفين أصحاب أفكار الحلول ووحدة الوجود. وكان سنّيّا شافعيا. وله كتاب فى تراجم الأعيان لا يزال مخطوطا بدار الكتب المصرية، وأفاد منه المحبى فى كتابه خلاصة الأثر.
وكان البورينى شاعرا مجيدا، وجمع ديوان شعره، ومنه مخطوطة فى مكتبة كوبريلى بالآستانة، ويقول فيه الشهاب الخفاجى:«ديباجة الدنيا ومكرمة الدهر، ونكتة عطارد التى يفتخر بها الفخر» وروى له طائفة من غزله، وهو فيه يستقى من نفس المعين الذى استقى منه الشاب الظريف، ونقصد معين الشعر الصوفى وما فيه من وجد ملتاع، ويكفى أنه قرأ ديوان ابن الفارض بل لقد شرحه ووقف عند كل معنى من معانيه وكل لفظ من ألفاظه، فطبيعى أن يتأثر بحبه الإلهى الظامئ أبدا وما فيه من خوالج وخواطر لا تكاد تحصى، تصور الحب الملتاع الذى يصحبه دائما الفراق والحرمان، فما يكاد يهنأ بالحب لحظة حتى ينعق له غراب البين، ويظل فى نعيقه وهو يتلهف أشد التلهف على رؤية صاحبته بمثل قوله:
يقولون فى الصبح الدعاء مؤثّر
…
فقلت نعم لو كان ليلى له صبح
ويا عجبا منّى أروم لقاءه
…
وفى جفنه سيف ومن قدّه رمح
وإنسان عينى كيف ينجو وقد غدا
…
يطول له فى لجّ مدمعه سبح
وليس عجيبا أنّ دمعى أحمر
…
وفى مهجتى قرح وفى مقلتى رشح
فهو يعيش بدون صاحبته فى ليل لا آخر له، ويعجب كيف يريد لقاءها وهى مسلحة بجفنها الساحر وقوامها الممشوق، إنه لم يعد له منها سوى الدموع التى يغرق فيها إنسان عينيه، وما زالت عيناه تدمع حتى استحال دمعها دما، ويشعر كأن فى مهجته جرحا لا يبرأ وفى مقلته رشحا لا يرقأ.
ويقول:
وكنّا كغصنى بانة قد تألّفا
…
على دوحة حتى استطالا وأينعا
يغنّيهما صدح الحمام مرجّعا
…
ويسقيهما كأس السحائب مترعا
سليمين من خطب الزمان إذا سطا
…
خليّين من قول الحسود إذا سعى
ففارقنى من غير ذنب جنيته
…
وأبقى بقلبى حرقة وتوجّعا
عفا الله عنه ما جناه فإننى
…
حفظت له العهد القديم وضيّعا
وهى قطعة طريفة، إذ يتصور البورينى أنه هو وصاحبته كانا مثل غصنين لشجرة ضخمة من شجر البان ولدا معا وعاشا معا صيفا وشتاء وتغذيا معا وتناولا الحياة تناولا واحدا، ينعمان بشدو الحمام وينهلان من كئوس السحاب منتشين هانئين، لا عذول ولا حسود. وفجأة تهجره صاحبته من غير ذنب جناه. ويصطلى قلبه بنار الحب المحرقة وأوجاع الهجران المؤلمة، ومع ذلك يدعو الله أن يغفر لصاحبته جنايتها، إذ ضيعت العهد والميثاق القديم، أما هو فلا يزال ذاكرا له بل حافظا أمينا. ويقول:
منازل هذا القلب كنّ أو اهلا
…
وها هى من بعد الفراق طلول
ويا ظبى هل بعد النّفار تأنّس
…
ويا بدر هل بعد الأفول قفول
ويا منزل الأحباب أين ترحّلوا
…
وهم فى فؤادى-ما حييت-نزول
يميلون عنى للوشاة وإننى
…
إليهم وإن طال الصدود أميل
علىّ لهم حفظ الوداد وإن جنوا
…
وليس إلى نقض العهود سبيل
وقد فارقته صاحبته وأصبحت منازل قلبه طلولا دارسة، وإنه ليتساءل متحسرا هل بعد النفور تألف وهل بعد أفول البدر قفول ورجوع، ويسأل منزل الجيبة وقومها أين ترحلوا، ويقول إنهم نزول فى قلبه لا يفارقونه أبدا، وحتى إن هم سمعوا للوشاة وأطالوا له الصدود والهجران فسيظل متعلقا بهم حافظا لودادهم لا ينقض العهود ولا ينكثها، بل سيزداد تعلقه وحبه واستمساكه. وما يلبث أن يخاطب فى نفس القصيدة قمريا أو كما يسميه ابن ورقاء أى حمامة رمادية اللون قائلا:
وما هاجنى إلا ابن ورقاء سحرة
…
له فوق أفنان الرياض هديل
يردّد فى صحف الرياض قصائدا
…
من الشوق يمليها لنا ويميل
يخيّل أن البين آذى فؤاده
…
وكيف ولما ينأ عنه خليل
ولم تحتكم فيه الليالى ولم يبن
…
عليه لبين رقّة ونحول
أما والهوى لو ذقت ما ذقت فى الهوى
…
لما ازدان بالأطواق منك تليل