الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورجوع القهقرى. . الله أكبر، فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، وأذل الله من كفر».
والخطبة طويلة، وقد اكتفينا منها بهذه الشظايا الرائعة التى تصور فرحة السلمين بهذا الفتح المبين والنصر العظيم، وكأنما عادت المعجزة النبوية وأيام بدر وفتوح الشام ومصر والقادسية وهجمات خالد والصحابة الأولين، وما النصر إلا من عند الله.
(د) كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار
مؤلف هذا الكتاب الطريف ابن (1) غانم عبد السلام بن أحمد المقدسى الواعظ المشهور لزمنه المتوفى سنة 678، والكتاب فى 30 صفحة، ذكر فى مقدمته ما يفصح عن موضوعه قائلا:
«قد وضعت كتابى هذا مترجما عما استفدته من الحيوان برمزه، والجماد بغمزه، وما خاطبتنى به الأزاهير بلسان حالها، والشحارير عن مقار ارتحالها. وسميته كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار، وجعلته موعظة لأهل الاعتبار، وتذكرة لذوى الأبصار والاستبصار» . ويقول إنه خرج يوما ليتأمل فى الطبيعة وأسرارها، وانتهى إلى روضة رقّ نسيمها وغنّى عندليبها، وكان وحيدا وأخذ كل ما حوله يخاطبه بلسان الحال دالا على القدرة الإلهية وحكمة الله فى خلقه وعظيم صنعته، وسجل من ذلك عظات بليغة على ألسنة الأزهار ثم ألسنة الطير ثم ألسنة الحيوان. وبدأ بالنسيم رسول كل محب إلى حبيبه، وحامل شكوى كل عليل إلى طبيبه، ثم تركه إلى الأشجار وأحد عشر نوعا من الأزهار استهلها بالورد قائلا على لسانه «أنا الضيف، فاغتنموا وقتى فالوقت سيف، أعطيت نفس العاشق وكسيت ملاحة المعشوق، وأنا الزائر وأنا المزور، ومن طمع فى بقائى فإن ذلك زور، ثم من علامة الدهر المكدور، والعيش المحرور، أنى حيثما نبتّ رأيت الأشواك تزاحمنى وتجاورنى، فأنا بين الأدغال مطروح، وبنبال شوكى مجروح. وهذا دمى على عندمى يلوح، وهذا حالى وأنا ألطف الأوراد، وأشرف الورّاد، فمن صبر على نكد الدنيا بلغ المراد» .
وختم ابن غانم الكلمة بالعظة التى يريدها، وجعل الورد ضيفا على الطبيعة، لأن مدة بقائه فيها قصيرة، واستغل ما ينبت حوله من شوك ليدل على أن الدنيا مهما أذاقت الناس فيها من حلاوة العيش لا بد أن تجمع إليهم شيئا من مرارته فليست الدنيا وردأ خالصا ولا حياة لإنسان فيها دائما
(1) انظر فى ابن غانم وترجمته البداية والنهاية لابن كثير 13/ 289 ومرآة الجنان لليافعى 4/ 190 والشذرات لابن العماد 5/ 362.
مشرقة زاهية بل لا بد من ظلمة تغشاها، بل هى مزيج من خير وشر وأمل ويأس وسرور وحزن، وحرىّ بالإنسان فيها أن يصبر ويصابر حتى يبلغ مأموله. ويقول على لسان شجر البان الذى طالما ذكر المحبون فى لينه وتمايل أغصانه محبوباتهم.
«انظر إلى الورد وقد ورد، وإلى البرد وقد شرد، وإلى الزهر وقد اتّقد، وإلى الحبّ وقد انعقد، وإلى الغصن اليابس قد اكتسى بعدما انجرد، وإلى اختلاف المطاعم ومشربها قد اتحد، واعلم أن خالقها أحد، وصانعها صمد، وموجدها بالقدرة قد انفرد، لا يشاركه فى ملكه أحد، ولا يفتقر هو إلى أحد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.}
وهى عظه بليغة على لسان البان، فالربيع أقبل، وأقبل الورد معه، وشرد الشتاء والبرد:
وأضاء الزهر بألوانه واتقد، وحب الثمار قد انعقد، واكتست الغصون بعد العرى وسقوط الأوراق عنها، ودبت فيها نضرة الحياة، وما أعظم قدرة الله فالنباتات والأشجار تسقى بماء واحد وتختلف ثمارها وطعومها بين حلو وحامض، وكل ذلك شاهد على قدرة الله التى لا يشركه فيها أحد، إنه واحد صمد ليس كمثله شئ وهو على كل شئ قدير.
وينتقل ابن غانم من الحكاية على لسان الأزهار إلى الحكاية على لسان الأطيار، ويستهل كلامها بكلام الهزار وهو طائر حسن الصوت متعدد الألحان وعلى لسانه يقول:
والهزار فى أول العظة فرح بمقدم الربيع، وسرعان ما يفكر فى انتهائه، فيندب وينوح، إذ لا يجد روضة إلا وتضمحل بعد ازدهارها. ويتسع تفكيره حتى يشمل الحياة، فإذا كل ما فيها من صفاء لا يلبث أن تغشاه كدرة قاتمة، وكل ما فيها من عيش حلو لا يلبث أن ينقلب عيشا مرا، بل إن كل ما فيها هالك فان. وسعد من كتبت له السعادة، وشقى من كتب له الشقاء. وينتقل إلى
(1) الغياض: جمع غيضة وهى الشجر الملتف
(2)
عيدان هنا: جمع عود، وهو الآلة الموسيقية المعروفة