الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان العماد قد اختصر الرسالة، واكتفى بمطالعها أو فواتحها، فإننا زدناها اختصارا، وأكبر الظن، أنه قد اتضح جمال الأسلوب فى هذه الرسالة البديعة، فسجعها يطير عن الأفواه بخفته لرشاقة ألفاظه وبدع تصاويره. ويفتن النسر صوت البلبل وجمال تلاحينه، فيتجه إليه مسلما عليه، ويظهر العجب لأنه صغير حقير فى منظره، وله هذا اللحن المطرب، والصوت المعجب، ويصارحه بما فى نفسه، وأنه مع ضخامة جسمه ليست له حلاوة نغماته، فيقول له:«أما علمت أن الأرواح لطائف وهى أشرف من الأجسام، والأجسام كثائف والمعتبر فيها جودة الأفهام، وإنسان العين صغير ويدرك الأكوان والألوان، والإنسان عظيم والمعتبر منه الأصغران: القلب واللسان، ما يكون الدر بقدر الصدف، وشتان ما بينهما فى القيمة والشرف، ولا الآدمىّ كالفيل، وبينهما بون فى التفصيل. . وأما النغمة التى قرع سمعك سوط لذّتها. . فإننى رصّعت شذرها (1) فى عقد ألحانى على نغم بعض الأغانى» .
ويذكر البلبل للنسر أنه كوّن ألحانه من احتفال يعقد فى الروضة كل ليلة لملك يأتيها مع ندمائه، إذا ولّى النهار وصبغ الليل ثوب الكون بظلمته وتشعل له الشموع وتصطفّ القيان وصفوف الحور والولدان وترجّع الأنغام والألحان، وينقضى ليلهم فى لهو وسماع وطرب، ومنهم أخذ ألحانه وأنغامه. وعليه إذا أراد أن يكون له صوت حسن أن يحذو حذوه فى الاستماع إلى رنات الغناء فى هذا الحفل العجيب. ويدعو النسر إلى المبيت فى الروض غير أنه ينام، ويضيع منه مراده، ويعاتبه البلبل عتابا مرا قائلا: إن من استلذ المقام، عدم المرام، ووجّه إليه الملام.
وأكثر البلبل على النسر العتاب، فودّعه وطار، وقد عدم الأوطار. ويطيل المهذب فى العظة من هذه القصة وأن بلوغ المراد إنما يكون مع الاجتهاد، وبصدق الطلب يدرك الأرب. ويقول العماد إن المهذب أتم الرسالة بفصل وعظى ليس من شرط كتابه ذكره، وواضح أن وعظها دار حول الجد فى طلب المنى دون مهلة أو ما يشبه المهلة فضلا عن الغفلة وما يشبه الغفلة.
(ج) كتاب الاعتبار
(2)
مذكرات طريفة لأسامة بن منقذ أحد أبطالنا فى الحروب الصليبية، وقد مرت ترجمته بين الشعراء، والمذكرات أشبه بترجمة شخصية لأسامة، إذ صور فيها ذكرياته عن تربيته الأولى فى
(1) الشذر: قطع الذهب وصغار اللؤلؤ
(2)
نشر فيليب حتى هذا الكتاب فى برستون سنة 1931 وراجع ما كتبناه عنه فى كتابينا: الترجمة الشخصية والرحلات (طبع دار المعارف)
شيزر حصن آبائه وما وقع له فيها من أحداث، وقد عاش طويلا نحو مائة عام من سنة 488 إلى سنة 584 وتنقل-كما مر فى ترجمته-بين دمشق والقاهرة والموصل. . ووصف ما شاهده واشترك فيه من المعارك الحربية بين المسلمين وحملة الصليب، وشارك-كما مر بنا-فى أحداث مصر قبيل نهاية الدولة الفاطمية، وروى ما كان فيها من مؤامرات وخصومات بين الوزراء. ووصف وصفا حيا حربه تحت لواء نور الدين وأبيه للصليبيين، كما وصف وصفا حيا معيشة حملة الصليب بديار الشام إذ كانت تتصل بينهم وبين المسلمين-حين تضع الحرب أوزارها-علاقات من حسن الجوار، مما جعله ينزل بينهم فى بعض الأوقات. وقد وصفهم بأنهم «بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير» ويصورهم متأخرين حضاريا عن المسلمين. ويذكر فى صراحة أن المودة انعقدت بينه وبين بعض فرسانهم، ويقول إنه لا توجد عندهم غيرة على نسائهم، ويصورهم متخلفين فى الطب تخلفا شديدا، ويقص هذه النادرة:
وثابت الطبيب إنما قال الجملة الأخيرة سخرية من طبهم. ويتحدث أسامة طويلا عن
عاداتهم وما أخذوه من العادات الإسلامية الشرقية فى المطعم والملبس، مما يؤكد أنهم إذا كانوا قد غزوا ديارنا فقد غزتهم بمدنيتها وحضارتها.
وليس فى هذه الترجمة الشخصية لأسامة أى ترتيب زمنى ولا أى نسق تأليفى، بل الأخبار أو قل الذكريات يأخذ بعضها برقاب بعض، ذكرى من الكهولة وذكرى من الشباب وذكرى من الشيخوخة، أو قل إنها ذكريات مبعثرة، غير أنها كتبت بأسلوب قصصى ممتع لا تصنع فيه ولا تكلف، فلا سجع يداخله ولا محسن من محسنات البديع، بل يترك أسامة نفسه على سجيتها يصف ما شاهد وصفا نابضا بالحياة فى لغة سهلة، حتى لتقترب أحيانا من العامية. وتشهد بذلك القطعة المارة آنفا، ففيها بعض الخطأ فى الإعراب وفى نسق الأسلوب، غير أن ذلك لا يتصل فى الذكريات اتصالا من شأنه أن يخرجها من المجال الأدبى الفصيح، وجعل هذا المنحى أسامة يستخدم أحيانا كلمات إفرنجية وأخرى فارسية أو تركية، وكأنما يريد أداء الواقع بكل ما يتصل به من لغة الناس لزمنه. وفى الحق أن هذه الذكريات نفيسة إلى أبعد حد لما تحمل من أحداث حربية وسياسية وأحوال اجتماعية وخاصة لحملة الصليب، سجّلها مشاهد لها رآها تحت بصره.
(د) نسيم (1) الصّبا
مؤلف هذا الكتاب الذى يعد طرفة أدبية نفيسة بدر الدين الحسن بن عمر الدمشقى المعروف باسم ابن حبيب أحد أجداده، ولد لأبيه بدمشق سنة 710 ولم يلبث الأب أن عيّن محتسبا بحلب، فنشأ بها بدر الدين، ورحل فى طلب العلم والأدب إلى دمشق وأخذ عن ابن نباتة ثم إلى القاهرة والفسطاط سنة 736 وأقام فى الاسكندرية مدة، ثم تركها إلى القدس والخليل ومكة.
وعاد إلى حلب فطرابلس سنة 758 وناب عن الحكم بدمشق فى عهد الأمير سيف الدين منجك، وولى كتابة الإنشاء فترة وعاد إلى حلب وبها توفى سنة 779. وله تاريخ فى سلاطين المماليك سماه درة الأسلاك فى دولة الأتراك وهو مسجوع، وله تذكرة النبيه فى أيام المنصور (قلاوون) وبنيه، وله فى السيرة النبوية كتابان: النجم الثاقب فى أشرف المناقب، والمقتفى فى ذكر فضائل المصطفى.
(1) انظر فى نسيم الصبا ومؤلفه بدر الدين بن حبيب الدرر الكامنة لابن حجر 2/ 112 والنجوم الزاهرة 11/ 189 والشذرات 6/ 267 وتقاريظ الصفدى لنسيم الصبا بين يدى طبعته سنة 1290 هـ.
وأهم أعمال ابن حبيب الأدبية «نسيم الصّبا» وهو ثلاثون فصلا أو مقالة بتعبيرنا الحديث، اتخذ موضوعها الطبيعة أحيانا، إذ له فيها ثمانية فصول فى وصف السماء، والشمس والقمر، والمطر، والليل والنهار وفصول العام والبحر والنهر، والأشجار والثمار والروض والأزهار، وأحيانا اتخذ موضوعها الحيوان والطير، إذ له فيه أربعة فصول فى الخيل والإبل والوحش، والطيور، ورمى البندق أو الصيد. وأحيانا أخرى اتخذ موضوعها الأخلاق الاجتماعية كالكرم والشجاعة والعدل والإحسان. وقد يتخذ موضوعها الإنسان كوصف غلام أو وصف جارية، أو بعض علاقاته الإخوانية كالاستعطاف والشكر والثناء والتهنئة والرثاء، أو بعض شئونه المدنية كالكتابة، أو بعض شئونه الحربية كالسلاح والمعارك الحاطمة للاعداء، أو بعض علاقاته بالمرأة وما قد يحدث بينهما من الفراق أو يضنيه من العشق، وقد أدار الفصل الخاص به على مدحه وذمه، يذكر فيه محاسنه ومساويه. وبعض الفصول-كما يتضح من موضوعها-مفاخرات أو مناظرات، على نحو ما يلقانا عن فصول السنة فى الفصل الخامس. ونشعر دائما بالقدرة على التعبير المسجوع والتصوير الرائع كقوله فى الفصل السادس يصف البحر وسفينة شق بها عبابه:
«هزّتنى رياح الأمل البسيط، إلى امتطاء ثبج (1) البحر المحيط، فأتيت سفينة يطيب للسّفر مثواها، وركبت فيها {بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها} . يا لها سفينة، على الأموال أمينة، ذات دسر (2) وألواح، تجرى مع الرياح، وتطير بغير جناح، وتعتاض عن الحادى (3) بالملاّح، تخوض وتلعب، وترد (4) ولا تشرب، لها قلاع كالقلاع (5)، وشراع يحجب الشّعاع، وسكينة وسكّان (6) ومكانة وإمكان، وجؤجؤ وفقار (7)، وأضلاع محكمة بالقار (8). . بعيدة ما بين السّحر والنّحر (9)، من أحسن الجوارى (10) المنشآت فى البحر، معقود بنواصيها (11) الخير كالخيل، لا تملّ من سير النهار ولا من سرى الليل:
(1) ثبج: وسط.
(2)
دسر: حبال:
(3)
الحادى: سائق الإبل بالحداء وهو الغناء للإبل
(4)
ترد: من ورود الماء وبلوغه
(5)
قلاع الأولى: شراع السفينة جمع قلع. وقلاع الثانية: جمع قلعة وهى الحصن
(6)
سكينة: وقار. وسكان السفينة: دفتّها
(7)
الجؤجؤ: صدر السفينة. الفقار: جمع فقارة وهى الواحدة من عظام سلسلة الظهر
(8)
القار: القطران
(9)
السحر: الرئة، النحر. أعلى الصدر
(10)
الجوارى: السفن
(11)
نواصيها: مقدماتها. وفى الخيل: الشعر فى مقدمة الرأس
ما رأى الناس من قصور على الما
…
ء سواها تسير سير القداح (1)
كأنها وعل (2) ينحطّ من شاهق، أو عرباض (3) سابق يحثّه سائق، أو عقرب شائله (4)، أو عقاب صائله (5). . حاكمها (6) عادل فى حكه، عارف بنقض أمرها وبرمه (7)، يهتدى بالنجوم، ويبتدئ باسم الحى القيّوم. . وبينما نحن من البحر فى قاموسه (8)، كتب الجوّ حروف الغيم فى طروسه، وثارت ريح عاصف، يتبعها رعد قاصف، فمالت بنا الفلك (9) واضطربت، ودنت شفتها من رشف الماء واقتربت، واستمرت تعلو على الأوتاد (10)، وتهيم فى كل واد.
وتضرم فى الكبود نار ناجر (11)، إلى أن (بلغت القلوب الحناجر (12)). . ثم نظر إلينا من لا تخفى عليه السرائر، وأمر الجارية (13) بحمل عبيده إلى بعض الجزائر».
ونزلوا الجزيرة وتنزهوا فى رياضها ورأوا فيها نهرا أرضه ذهب وحصباؤه درر. ويمضى ابن حبيب فى الوصف بهذه اللغة النقية الصافية وذلك السجع القصير الذى يمتع الآذان والأذهان بجرسه وما بين الألفاظ من ملاءمات تجعل السجع يلذ الألسنة حين تنطق به، ويسر القلوب حين تستمع إليه. وبحق يقول ناصر الدين بن البارزى فى الكتاب مقرظا له:«لقد أشبه الدر فى انتظامه، والثغر فى ابتسامه، وقطر الندى فى انسجامه، وزهر الروض فى البكر إذا غنت على غصونه مطربات حمامه. . فهو فى اللطافة كالماء فى إروائه، وكالهواء المعتدل فى ملاءمة الأرواح بجوهر صفائه، وكالسلك إذا انتقى جوهره وأجيد فى انتقائه» . وقد ختمه ابن حبيب بفصلين بديعين فى الحكم والمواعظ، ودائما يوشّى أسجاعه بمحسنات البديع من الجناس وغيره.
(1) القداح: السهام
(2)
الوعل: ما عز الجبل الوحشى
(3)
العرباض: البعير الضخم
(4)
شائلة: رافعة ذنبها
(5)
صائلة: واثبة جائلة
(6)
حاكمها: ربانها
(7)
برم الحبل ضد نقضه والاستعارة واضحة
(8)
القاموس: البحر ويريد هنا لجة العظيم
(9)
الفلك: السفينة
(10)
الأوتاد: الجبال
(11)
ناجر: أشد أشهر الصيف حرارة
(12)
أى نبت عن أماكنها فى الصدور فبلغت الحلاقم، والآية كناية عن شدة ما أصاب القلوب من الفزع
(13)
الجارية: السفينة
(هـ) فاكهة (1) الخلفاء ومفاكهة الظرفاء
مؤلف هذا الكتاب ابن عربشاه أحمد بن محمد الدمشقى الحنفى، ولد بدمشق سنة 791 ونشأ بها وطلب العلم فيا، حتى كانت طامّة تيمور ومحاصرته لدمشق ونهب جنوده التتار لها وإشعالهم النيران فيها، مما جعل أسرة ابن عرب شاه ترحل إلى الأناضول، ومنها رحلت إلى إيران وأو غلت إلى سمرقند عاصمة تيمور، واستوطنها ابن عربشاه مدة. وحبّبت الرحلة ولقاء الشيوخ إليه، فطاف بكثير من البلدان وأخذ عن علمائها وأدبائها، واستقر فى الأناضول أو آسيا الصغرى عند السلطان العثمانى محمد الأول (805 - 824 هـ) وولاه ديوان الإنشاء فكان يكتب عنه إلى أمراء الأطراف باللغات الثلاث التى كان يحسنها: العربية والفارسية والتركية، وترجم له عن الفارسية كتاب جوامع الحكايات لمحمد عوفى الذى أتم تأليفه سنة 633 للهجرة، ويقال إن عدد حكاياته كان يزيد على ألفى حكاية. وعاد بعد وفاة هذا السلطان العثمانى إلى الشام وأقام بحلب، وخلص حينئذ للدرس والتصنيف. وهاجر إلى القاهرة فى عهد السلطان الظاهر جقمق (842 - 857 هـ) ومر بنا فى الفصل الثانى أنه كتب له سيرة، وتحتفظ دار الكتب المصرية منها بمخطوطة. ومر أيضا أنه كتب سيرة لتيمور سماها عجائب المقدور فى نوائب تيمور، وهى مسجوعة، وطبعت مرارا. وكان يحسن النظم والنثر ويجيد الكتابة-كما أسلفنا-فى العربية والفارسية والتركية، وصنف فى الفارسية كتابا على غرار كتاب محمد عوفى سماه «مرزبان نامه» طبع قديما، وعنه نقل كتابه «فاكهة الخلفاء» نثرا مسجوعا. وتوفى بالقاهرة عام 854 للهجرة.
وكتابه «فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء» يشتمل على حكايات كثيرة، وهى موزعة على عشرة أبواب مروية عن الشيخ أبى المحاسن حسان يرويها عن الحكيم «حبيب» ، وهو الابن الصغير لملك، ترك خمسة إخوة تملك أحدهم وأطاعه إخوته، ثم دب الحسد فى نفوسهم، فرأى أخوهم الصغير «حبيب» اعتزالهم، فاستأذن أخاه الملك فى العزلة وذكر له أنه يعتزم تأليف كتاب يشتمل على فنون من الحكمة، فاستصوب رأيه غير أن وزيرا له شككه فى مقصد أخيه وأن ذلك منه مكر وخديعة، وأشار عليه أن يجمع بينه وبين حبيب ليظهر زوره ومينه أو كذبه. فجمع الملك
(1) طبع هذا الكتاب فى مصر مرارا وانظر فى ابن عربشاه النجوم الزاهرة 15/ 549 والضوء اللامع للسخاوى 2/ 126 وكذلك كتابه التبر المسبوك ص 325 وشذرات الذهب 7/ 280 والبدر الطالع 1/ 109 ومقدمة كتابه: «فاكهة الخلفاء»
أعيان الدولة وعلماءها وفضلاءها وأخذ حبيب يسوق حكمه ووعظه فى أسلوب قصصى مسجوع بديع، وكان من ذلك هذا الكتاب بأبوابه العشرة الطريفة. والباب الأول فى ذكر ملك العرب، ومعه أربع قصص: قصة الضحاك الملك الفارسى الأسطورى القديم، وقصة قابوس بن وشمكير أحد أمراء الأسرة الزيارية التى حكمت طبرستان وجرجان فى القرن الرابع الهجرى وقتل أعوانه له، وقصة بهرام جور الملك الساسانى الذى كان مشهورا بالفروسية وكثرة الصيد مع الفتاة التى رآها وسرعان ما صادته-كما يقول ابن عرب شاه-بلحظها المكسور فأمسى قلبه وهو فى يدها مأسور وما كان من اقترانه بها، وقصة ابن آوى مع الحمار وكان قد حاول أن يقدمه مأدبة لذئب فقدم الحمار مأدبة للكلاب. والباب الثانى فى وصايا ملك العجم وفيه قصص طريفة منها قصة تحكى ما جرى لابن سلطان بابل مع عمه الظالم الخاتل. والباب الثالث فى قصة خاقان الأتراك مع ختنه أو صهره الزاهد شيخ النساك. والباب الرابع قصص عن الإنسان وعالم الجن والعفاريت.
وقصص هذه الأبواب جميعا تدور حول السيرة الحميدة للحكام وما ينبغى أن يأخذوا به الرعية من العدل مع بيان الأخلاق الذميمة ومع استعمال الحكمة وحسن التدبير حتى ينال الإنسان ما يأمل، ويأمن ما يحذر.
والأبواب الخمسة التالية قصص عن الحيوان والطير على طريقة كليلة ودمنة، وقد أشار إلى ذلك المؤلف فى مقدمة كتابه قائلا إن الحكمة إذا قيلت على ألسنة الوحوش وما هو غير مألوف الطباع من البهائم والسباع وأصناف الأطيار وسائر الهوام مالت إليها الأسماع ورغبت فى مطالعتها الطباع، لأن المألوف منها اقتراف الشرور والافتراس ونقص المعرفة والفطنة فإذا أسندت إليها مكارم الأخلاق من الوفاء وغير الوفاء أصغت الآذان إلى استماع أخبارها، وتلقتها الصدور بالانشراح، ونفوس الناس بالارتياح. وتتخلل هذه الأبواب جميعا قصص بديعة، وكثير منها فارسى الأصل كما يدل عنوانها مثل قصة كسرى القديم مع وزيره بزرجمهر الحكيم وسقوط خاتمه الثمين منه فى الماء والتقام بطة له وحزنه عليه ورجوعه إليه. وذكر فى الباب العاشر قصة كسرى أنوشروان مع الشيخ الهرم الذى رآه يغرس فى بعض البساتين مع انحناء قامته وبياض هامته ومع شدة عنائه وتعبه فى زرع غرسه ونصبه. وختم الكتاب ابن عرب شاه بقصة جنكز خان الذى طمّ العالم بالفساد، وأهلك العباد والبلاد.
والكتاب زاخر بدقائق الحكمة والفطنة التى تهذب النفوس والتى تعود على الناس بالتهذيب فى معاملتهم والعدل فى حكمهم والكسب فى معاشهم والعمل الصالح لمعادهم. ويلحّ الكتاب على
أن المال الذى فى خزائن الحاكم إنما هو مال الرعية فينبغى أن ينفق فى مصالحها وحوائجها، وهو فى يد الحاكم أمانة، وصرفه فى غير وجهه خيانة. ويرسم الكتاب دائما لقارئه الأخلاق الحميدة والشمائل الكريمة مع نفسه ومع أبناء جنسه مع رفق ولين للمساكين، ومع صلابة فى الدين. وفى كل قصة وكل جانب منها تلقانا النصائح والحكم المعينة على الرشاد فى الحياة، مع الاستضاءة من حين إلى حين بالآيات القرآنية. والكتاب مسجوع، غير أن لغته واضحة وقلما يكون فيها لفظ غريب. وقصصه رائعة، وحرى أن تعرض على الناشئة مع إخلائها مما جاء فى بعضها من ألفاظ مفحشة أو نابية. ولا نشك فى أن ابن عرب شاه جلب فيها من الأقاصيص خير ما قرأه فى الفارسية والعربية من قصص الملوك والحكام وعلية الناس وصعاليكهم. ولا بد أنه أضاف إلى ذلك بعض القصص من خياله، وقد رأى أن يحاكى كليلة ودمنة بقصص كثيرة، كما أسلفنا. والقصص جميعا تكتظ بالحكم على شاكلة ما قرأه فى كتاب سلوان المطاع فى عدوان الأتباع الذى ألممنا به فى حديثنا عن الجزيرة العربية، وقد ذكر ذلك صراحة فى مقدمته للكتاب، وحكمه كحكم هذا الكتاب تتردد بين الشعر والنثر.
وفى الحق أنه كتاب بالغ الروعة بما يعلّم من شئون السياسة والحكم وبما يهدى إليه من البصر بالحياة وما فيها من فضائل تكتسب، ورذائل تجتنب، وما أروع الحكمه التى أجراها على لسان بعض الملوك فى قوله لأبنائه ناصحا:«يا بنىّ اكتسبوا العلم والفضل وادّخروا الحلم والعدل، فإن احتجتم إلى ذلك كان مالا، وإن استغنيتم عنه كان جمالا» .