الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصف الحريق». وله رسالة بديعة فى وصف وباء الطاعون الذى فتك بآسيا وامتد من الصين والهند إلى الشام ومصر لسنة 749 ويسميها ابن حجر مقامة، وتسميتها-كما جاء فى الديوان- باسم رسالة أولى لغياب الرواية والحوار فيها، ومثلها رسالته التى كتب فيها مفاخرة بين السيف والقلم، وهى رسالة طريفة.
4 - المواعظ والابتهالات
فرض الإسلام الوعظ فى خطب المساجد كل يوم جمعة وفى العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى، ومعنى ذلك أن جميع البلدان الإسلامية طوال الأزمنة المختلفة كانت تموج بخطب الوعظ وإن لم تعن كتب الأدب بتسجيلها، لأنها كانت أكثر من أن يحيط بها حصر أو استقصاء، غير أنها بقيت منها شظايا، وأول ما يلقانا من ذلك فى الشام خطب الخلفاء منذ معاوية، ولعمر بن عبد العزيز من ذلك الحظ الأوفر. وكان القصّاص منذ معاوية يعظون الناس، وقد أمر معاوية أن يكون ذلك مرتين: مرة بعد صلاة الصبح ومرة بعد صلاة المغرب وعيّن للقصاص مرتبات (1) خاصة. ويشتهر فى زمن عمر بن عبد العزيز غير واعظ مثل رجاء بن حيوة المتوفى سنة 112 ومثل غيلان الدمشقى وكانت له رسائل مليئة بالوعظ. وظلت الشام تمتلئ بالوعاظ طوال القرن الثانى وفى مقدمتهم الأوزاعى صاحب المذهب المشهور. وبالمثل ظل الوعظ حيّا مزدهرا فى القرنين الثالث والرابع، ويلقانا فى حلب لزمن سيف الدولة واعظ كبير هو عبد الرحيم بن محمد المعروف باسم ابن نباتة، وسنقف قليلا عند خطبه، ولا نلبث أن نلتقى بأبى العلاء، والعظات وتمجيد الله والزهد فى متاع الدنيا يكثر فى أشعاره وكتبه، وما نفتح الصفحة الأولى من اللزوميات حتى نجده يقول:«إن من هذه الأوراق ما هو تمجيد لله الذى شرف عن التمجيد. . وبعضها تذكير للناسين، وتنبيه للرقدة الغافلين، وتحذير من الدنيا» . وله بجانب اللزوميات ديوان ثان فى العظة والزهد والاستغفار سماه: «استغفر واستغفرى» سقط من يد الزمن، وكان يشتمل كما يقول مترجموه على نحو عشرة آلاف بيت. وكان له فى النثر دعاء
(1) انظر فى ذلك كتابنا الفن ومذاهبه فى النثر العربى (طبع دار المعارف-الطبعة التاسعة) ص 75
يعرف بدعاء ساعة ودعاء يعرف بدعاء الأيام السبعة، وكتاب يعرف بالسجعات العشر فى الوعظ، وكتاب يعرف بسيف الخطب، وفيه خطب الجمع والعيدين والخسوف والكسوف والاستسقاء وعقد الزواج، وقد بنى سجعها على الحروف السهلة مثل الهمزة والباء والتاء والدال واللام والميم والنون، لأن الكلام المقول فى الجماعات ينبغى أن يكون لينا سهلا. وله كتاب تاج الحرة، وهو فى عظات النساء خاصة. وكل هذه الكتب سقطت قديما من يد الزمن، وبقى من عظاته قسم كبير من كتابه الفصول والغايات، وسنخصه بحديث عما قليل.
ويحتدم الوعظ منذ نزول الصليبيين الشام لبث الحمية الدينية فى نفوس الناس، حتى يجاهدوا فى سبيل الله، ويضربوا حملة الصليب الضربات القاضية. واشتهر كثيرون حينئذ بروعة وعظهم، منهم بنو العديم فى حلب لعهد نور الدين، ومنهم ابن نجا خطيب دمشق المولود بها سنة 508 والمتوفى بالقاهرة سنة 599، ومنهم محيى الدين محمد بن الزكى قاضى دمشق وخطيبها، وهو الذى خطب أول جمعة صلّيت بالقدس بعد فتحه، وسنلم بخطبته.
ومن الوعاظ المشهورين حينئذ المهذب الدمشقى الذى لقيه العماد الأصبهانى-كما يقول بخريدته-بدمشق سنة 571 وسنلم برسالة أدبية له ذكرها العماد ويعدّ سبط ابن الجوزى يوسف بن قزوغلى أكبر واعظ شهدته دمشق طوال النصف الأول من القرن السابع الهجرى حتى وفاته سنة 654 وقد نزلها سنة 600 واتخذها مسكنا ودار إقامة. وكان قد نشأ فى حجر جده ابن الجوزى واستمع إلى مواعظه الرائعة التى نوهنا بها فى حديثنا عن العراق، وطارت شهرته فى الوعظ كما طارت شهرة جده، وكان يحضر مجلسه القضاة والأشراف والأعيان «ونالته السعادة والوجاهة عند الملوك، لا سيما الملك المعظم عيسى صاحب دمشق فإنه كان عنده بالمنزلة العظمى، وكان له لسان حلو فى الوعظ والتذكار ولكلامه موقع فى القلوب (1)» ويصف أبو شامة مجلس وعظه فى كتابه «ذيل الروضتين» فيقول: «كانت مجالس وعظه من محاسن الدنيا ولذاتها. وكان يزدحم فى مجلسه ما لا يحصى من الخلق رجالا ونساء، والنساء بمعزل عن الرجال فى جامع دمشق، وجامع الجبل، حضرت مجالسه صغرى وكبرى فى الموضعين مرارا، وكان لا يفارق أحد مجلسه إذا انفضّ إلا وشوقه مستمر إلى عودته فى الأسبوع الآخر. وكان يجلس [للوعظ] كل سبت وتبسط السجادات والحصر والبسط فى كل المواضع القريبة من المنبر ما بينه وبين القبة فى يوم الجمعة،
(1) النجوم الزاهرة 7/ 39
ويبيت الناس ليلة كل سبت حلقا، يقرءون القرآن بالشموع، كل ذلك فرحا بمجلسه ومسابقة إلى الأماكن» (1).
ومن كبار الوعاظ فى أوائل أيام المماليك ابن غانم المقدسى، وله حوار طريف مع إبليس سماه «القول النفيس فى تفليس إبليس» وهى رسالة صغيرة، أراد بها أن يعلم شياطين الإنس من أتباعه ضلالهم ومدى ما يتخبطون فيه من الغى. وأطرف من هذه الرسالة رسالة له سماها «كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار» وسنتحدث عنها بين الرسائل الأدبية. ومن خطباء دمشق ناصر الدين ابن البارزى المتوفى سنة 823 ولى خطابة الجامع الأموى فترة، ويقول ابن حجة:
«لما فوضت إليه خطابة الجامع الأموى لم يبق أحد من أعيان دمشق إلا حضر فى تلك الجمعة لأجل سماع خطبته، وكانت براعتها (فاتحتها): الحمد لله الذى أيد محمدا بهجرته، ونقله من أحبّ البقاع إليه لما اختاره من تأييده ورفعته (2)» . ولا ريب أن الخطابة الدينية اطرد لها ازدهارها أيام العثمانيين، وأن كانت كتب التراجم لم تصور ذلك تصويرا واضحا. ونقف عند طائفة من خطب المواعظ ورسائلها وكتبها البديعة.
[(ا)] خطب ابن (3) نباتة الفارقى
ابن نباته الفارقى هو الخطيب عبد الرحيم بن محمد، وفيه يقول ابن خلكان: «صاحب الخطب المشهورة. وقع الإجماع على أنه ما عمل مثلها وفيها دلالة على غزارة علمه وجودة قريحته، وكان خطيب حلب أيام سيف الدولة الحمدانى وكان كثير الغزوات، ولهذا أكثر ابن نباتة من خطب الجهاد ليحض الناس عليه، ويحثهم على نصرة سيف الدولة. ولد سنة 335 وتوفى سنة 374. وخلفه فى الخطابة ابنه أبو طاهر محمد المتوفى سنة 390 ثم حفيده أبو الفرج طاهر المتوفى عام 420. وطبعت خطبهم جميعا مرارا، وطبعت خطب عبد الرحيم مفردة وقد جعلها على عدد جمع السنة ابتداء من شهر المحرم إلى نهاية شهر ذى الحجة، ومن قوله فى الخطبة الثالثة لشهر صفر، بعد حمد الله والصلاة على رسوله الكريم:
«أيها الناس! تنزهوا عن حب الدنيا فإن متاعها قليل، وتزودوا بتقواكم فإن السفر طويل، ولا تطمعوا فى هذه الدنيا فإن البقاء فيها مستحيل، كيف لا والمنادى ينادى كل يوم يا عباد الله
(1) ذيل الروضتين (طبعة سنة 1947) ص 49
(2)
خزانة الأدب ص 20
(3)
انظر فى ابن نباتة الفارقى ابن خلكان 3/ 156 وعبر الذهبى 2/ 367 والشذرات 3/ 83
الرحيل الرحيل، هو الموت الذى ما فيه فوت ولا تعجيل، ولا يقبل الله فيه الفداء ولا يرضاه من بديل، كم ألحق عليلا بصحيح وصحيحا بعليل، وكم أخذ قريبا من قريب وخليلا من خليل، فكيف تطمعون فى الدنيا بالإقامة فيها وقابض الأرواح عزرائيل، فإلى متى هذه الغفلة والقساوة ولم يبق من العمر إلا القليل، ثم ترجعون إلى ربكم المتعالى فى كماله عن الشبيه والمثيل».
ولغة ابن نباتة فى خطابته عذبة سائغة، وقد بناها على السجع شأنه فى ذلك شأن الخطباء والكتاب فى العصر، فقد عم السجع حتى فى الكتابات التاريخية كما مر بنا عند العماد الأصبهانى، وسجعه يلذ الآذان حين تصغى إليه، لسهولته وخفته وبراعته فى صوغه حتى لتتوالى الخطبة مسجوعة على روى واحد، ويقول فى الخطبة الثانية من خطب شهر رمضان:
وبهذه اللغة الصافبة الحلوة كان ابن نباتة يعظ الناس فى أيام الجمع، فيبلغ الأعماق من قلوبهم وأفئدتهم ونحس بصلة قوية بين خطبه وخطب على بن أبى طالب فى نهج البلاغة، وبدون ريب كان يتأثر فى خطابته ببيانه الرائع.
(ب) الفصول (1) والغايات
هذا كتاب جميعه وعظ لأبى العلاء المعرى قصد به إلى تمجيد الله العلىّ الأعلى، بدأ تأليفه قبل ذهابه إلى بغداد وأتمه بعد رجوعه، وقد أثار ضجة حوله منذ ظهوره، إذ زعم بعض خصومه منذ زمنه إلى أنه وضعه معارضة (2) للقرآن الكريم، ونجد تلميذه ابن سنان الخفاجى الذى مرت ترجمته ينفى عنه بشدة هذه التهمة (3)، ولعل من أسبابها أنه سمى الكتاب:
(1) انظر الفصول والغايات (طبعة محمود زناتى) وقد نشر القسم الأول منها وينتهى فى الغايات إلى حرف الخاء.
(2)
راجع سفرنامه لناصر خسرو (الترجمة العربية طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 11 ودمية القصر 1/ 130 وتعريف القدماء بأبى العلاء ص 21
(3)
تعريف القدماء بأبى العلاء ص 426
«الفصول والغايات فى محاذاة السور والآيات» وهو لا يريد محاذاة القرآن فى أسلوبه وإنما يريد محاذاته فى تمجيد الله وتحميده والثناء عليه، وهو نفسه يقول فى كتابه:«علم ربنا ما علم، أنى ألفت الكلم، آمل رضاه المسلّم، وأتقى سخطه المؤلم، فهب لى ما أبلغ به رضاك من الكلم والمعانى الغراب» . والكتاب جميعه وعظ وزهد وخوف من الله وتقوى وورع وعبادة ونسك، مع الشعور الدائم بالتقصير إزاء ربه وعبادته المثلى حتى ليقول (1):
وهو يقول: مهما تنسك ومهما أدى من العبادات والأعمال فإنه لن يبرحه شعوره بعجزه وقصوره إزاء جلال الله وهيبته العظمى، حتى لو نقل مياه اللجج الزاخرة على منكبه فى جرار تلو جرار مفرغا لها على مناكب الجبال، وحتى لو جر كثبان الأرض كثيبا وراء كثيب فى زنابيل وألقاها فى لجج البحار تقربا إلى ربه، وحتى لو ابتنى من الثرى طبقات بعضها فوق بعض وبلغ بها عنان السماء إلى الثريا أو لو اتخذ من أوتاد العيدان أوتادا يتراكم بعضها فوق بعض، حتى يصل إلى وتد السعود، لظل شاعرا بوهنه وقصوره أمام ما توجبه تجلة الله وعظمته. وإنه ليصيح مبتهلا إلى ربه فى جزع لا يدانيه جزع:«إن كان الدمع يطفئ غضبك فهب لى عينين كأنهما غمامتا شتىّ (9) تبلان (10) الصباح والمساء (11)» إنه سيظل ما عاش باكيا ذارفا الدموع سائلا من ربه رضاه ورضوانه. ولهذه الصيحة أخوات كثيرة فى الكتاب، فأبو العلاء فيه دائما يناجى ربه ضارعا بل وجلا خائفا.
(1) الفصول والغايات 1/ 59
(2)
قداف: جرة
(3)
صرائم: جمع صريمة وهى القطعة من الرمل
(4)
جر، مشآة: زبيل
(5)
الخضر: اللجج
(6)
حفدا: خدمة
(7)
مراهص: طبقات
(8)
وتد السعود: سعد الأخبية: نجوم معروفة
(9)
شتى: من الشتاء ويريد سحابا دائم المطر
(10)
تبلان: تهطلان، من الوبل وهو المطر الغزير
(11)
الفصول والغايات 1/ 259
والكتاب منقسم إلى ثمانية وعشرين فصلا بعدد حروف المعجم، وكل فصل لحرف ينقسم إلى فقر، وكل فقرة تنتهى بالحرف الذى اختاره للفصل ويسمى غاية، ويلتزم أبو العلاء قبل غاياته الألف دائما. وليس هذا كل ما صعّبه على نفسه فى الكتاب، فقد التزم فى كثير من الفقر أن تشترك سجعاتها فى حرفين أو أكثر على طريقة ما نعرف فى لزومياته. والتزم بجانب ذلك أن يجلب إلى سجعات الكتاب كثيرا من الألفاظ الغريبة، وإنها لتغلب على سجعاته غلبة شديدة، حتى ليمكن أن نقول إنها إحدى خصائصه أو أحد التزاماته. وعلى عادته فى أشعاره كثيرا ما يضيف بعض ألوان البديع وخاصة الجناس. وكما رأينا فى اللزوميات يكثر فى الفصول والغايات من ذكر المصطلحات العلمية يجلبها من جميع العلوم، وكأنما يراها وشيا خليقا أن يضاف إلى فصوله وغاياته وفقره فيه، من ذلك قوله مستظهرا لبعض مصطلحات علم الصرف (1).
وعلماء الصرف يقولون إن واو يقوم أصلها يقوم فاستثقلت الضمة على الواو فنقلت إلى ما قبلها واعتلت، وأن كلمة «موقن» أصلها ميقن، فقلبت الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها، وأن الواو فى جدول وعجوز زائدة لأنهما مشتقتان من الجدل والعجز. ومعروف أن واو عمرو تكتب ولا تنطق تمييزا للكلمة من كلمة عمر. وكل ذلك يحشده أبو العلاء فى بعض وعظه بل إنه ليحشد كثيرا من دقائق المصطلحات العلمية لم نر حاجة إلى ذكرها. وحسبنا ما قدمناه لنأخذ صورة عن كتاب الفصول والغايات، وفى كتابنا «الفن ومذاهبه فى النثر العربى» كلمة عنه أكثر بسطا وتفصيلا وتحليلا.
(1) الفصول والغايات 1/ 142