الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجر أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول اللَّه، فما رأيت يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم، فسمعت سعيد بن المسيب، يومئذ يقول: واللَّه لوددت أنهم تركوها على حالها، يبيت ناس من أهل المدينة، ويقدم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهّد الناس في التكاثر والمفاخرة.
فصل في ذكر منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
اعلم ان المنبر النبوي عمل من طرفاء الغابة في سنة ثمان من الهجرة، وقيل في سنة سبع، وأن امرأة أنصارية من بنى ساعدة، أمرت غلامها حسنا ويقال إبراهيم، فصنعه، وقيل: بل هي امرأة من الأنصار، وقيل: بل صنعه
[ () ] وأبى الغوث القرعى، وعمرو بن شعيب، ونافع مولى ابن عمر، وحمران مولى العبلات، وعطاء بن أبى رباح وخلق.
وعنه عثمان ابنه، وشعيبة إبراهيم بن طهمان، وعبد الرحمن بن إسحاق بن أسيد الخراساني، وداود بن أبى هند، ومعمر، وابن جريح، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن يزيد، وجابر، والضحاك بن عبد الرحمن بن أبى حوشب، وشعيب بن زريق، وعمر بن المثنى، والقاسم بن أبى بزة بن عاصم الكلبي، ومالك بن أنس، وهشام بن سعد المدني، وآخرون.
قال ابن معين: ثقة وقال ابن أبى حاتم عن أبيه: ثقة صدوق. قلت: يحنج به؟ قال:
نعم وقال النسائي ليس به بأس، وقال الدارقطنيّ ثقة في نفسه إلا أنه لم يلق ابن عباس وقال أبو داود: ولم يدرك ابن عباس ولم يره. وقال حجاج بن محمد عن شعيبة ثنا عطاء الخراساني وكان نسيا وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر كان يحيى الليل وعن عطاء قال أوثق أعمالى في نفس نشر العلم قال ابنه عثمان بن عطاء مات سنة خمس وثلاثين ومائه وقال أبو نعيم الحافظ كان مولده سنة (50) . (تهذيب التهذيب) : 7/ 190، ترجمة رقم (395) .
غلام العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه واسمه صباح [ (1) ] ويقال: كلاب [ (2) ] .
وفي رواية: فأرسله إلى أثلة في الغابة، فقطعها، ثم عملها درجتين ومجلسا، ثم جاء بالمنبر فوضعه موضعه.
وقيل كان المنبر من أثلة قريب المسجد، وقيل: إنما عمله تميم الداريّ [ (3) ] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقيل: عمله غلام سعيد بن العاص، واسمه ناقول [ (4) ] وقيل: عمله غلام لرجل من بنى مخزوم، ويقال: إنما عمله يا قوم باني الكعبة لقريش [ (5) ] .
[ (1) ] هو صباح، مولى العباس بن عبد المطلب، روى عمر بن شبة، من طريق صالح بن ابى الأخضر، عن عمر بن عبد العزيز، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل صباحا مولى العباس بن عبد المطلب، فأعطاه عمالته.
وقرأت في المبهمات لابن بشكوال قال: قرأت بخط ابن حبان قال: ذكر عبد اللَّه بن حسين الأندلسى في كتابه في الرجال عن عمر بن عبد العزيز أن المنبر عمله صباح مولى العباس (الإصابة) : 3/ 404- 405، ترجمة رقم (4035) .
[ (2) ] هو كلاب، مولى العباس بن عبد المطلب.
ذكر ابن سعد، وأخرج بسند فيه الواقدي، عن أبى هريرة، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن القيام قد شق عليّ، فقال تميم الداريّ ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه. فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمله، فأرسله إلى أثله بالغابة فقطعها وعمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء فوضعه في موضعه اليوم، فقام عليه، وقال: منبري على ترعة من ترع الجنة. (الإصابة) 5/ 616- 617 ترجمة رقم (7445) .
[ (3) ] سبقت له ترجمة وافية في (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 9/ 38، فصل في ذكر من حدث عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
[ (4) ] لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من مراجع.
[ (5) ] القباطي: نوع من القماش.
وكان صلى الله عليه وسلم يجلس على المنبر، ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولى أبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولى عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولى عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فعل ذلك ستة سنين من خلافته، ثم علا إلى موضع النبي صلى الله عليه وسلم وكسا المنبر قبطية، وكان أول من كساه، فسرقتها امرأة، فأتى بها، فقال لها: سرقت؟ قولي: لا، فاعترفت، فقطعها، وكساه معاوية ابن [أبى] سفيان بعد عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه لما حج، ثم كساه عبد اللَّه بن الزبير رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فسرقتها امرأة، فقطعها كما قطع عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه وكساه الخلفاء من بعده.
وكان طول المنبر ذراعان في السماء وثلاثة أصابع، وعرضه ذراع راجح، وطول صدره، وهو مسند النبي صلى الله عليه وسلم ذراع وطول رمانتى المنبر اللتين كان يمسكهما بيديه الكريمتين إذا جلس شبر وإصبعان، وعدد درجاته ثلاث بالمقعد، وفيه خمسة أعواد من جوانبه الثلاثة.
فلما كان في خلافة معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، زاد مروان ابن الحكم وهو على المدينة في المنبر من أسفله ست درجات، ورفعوه عليها، فصار المنبر تسع درجات بالمجلس، فصار طوله بعد الزيادة أربعة أذرع، ومن أسفل عتبته إلى أعلاه تسعة أذرع وشبر.
ثم تعاقب المنبر النبوي على طول الزمان، فجدده بعض خلائف بنى العباس منبرا، واتخذ من بقايا أعواد المنبر النبوي أمساطا للتبرك بها، فلم يزل المنبر المجدد حتى أحرق ليلة حريق المسجد أول ليلة من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة، فبعث المظفر يوسف صاحب اليمن منبرا في سنة ست وستين، فخطب عليه مائة واثنتان وثلاثون سنة إلى أن بعث الظاهر برقوق من مصر منبرا في سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
[خرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللَّه القارئ القرشي الإسكندراني، حدثنا أبو حازم بن دينار، قال: إن رجالا أبو سهل رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه، كانت تسعة، بعضها من جريد، مطين بالطين، وسقفها من جريد، وبعضها من حجارة مرصوصة بعضها على بعض، مسقفة بالجريد أيضا [ (1) ]] .
وخرج البخاري في (الأدب المفرد) من [طريق] حديث ابن السائب قال: سمعت الحسن يقول: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في خلافة عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فأتناول سقفها بيدي.
وخرج من طريق عبد اللَّه قال: أنبأنا داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشى من خارج مسوح الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة، قال: باب البيت نحوا من ست أذرع أو سبع أذرع.
وأحرز البيت الداخل عشر أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والتسع، ووقفت عند باب عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فإذا هو مستقبل المغرب.
ومن طريق إبراهيم بن المنذر، حدثنا محمد بن أبى فديك عن محمد بن هلال، أنه رأى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد بمسوح الشعر، فسألته عن بيت عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، فقال: كان بابه مواجه الشام، فقلت:
مصراعا كان أو مصراعين؟ قال: كان بابا واحدا، فلت: من أي شيء؟ قال عن عرعر.
ومن طريق مالك بن إسماعيل- وقد امتاروا في المنبر مم عوده؟ - فسألوه عن ذلك، فقال: واللَّه إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم صنع، وأول يوم جلس إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى فلانة- امرأة قد سماها سهل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها- مري غلامك النجار أن يعمل أعوادا أجلس عليهم إذا كلمت الناس، فأمرته بعملها من طرفاء الغاية ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأمرها فوضعت هاهنا، ثم رأيت رسول اللَّه
[ (1) ] ما بين الحاصرتين لذا بالأصل ولم أجد له معنى ولا توجيها فيما بين يدي من مراجع، رغم إشارة المؤلف إلى تخريج كل من البخاري ومسلم وأبى داود والنسائي لهذا الحديث، ولعله خطأ من الناسخ، واللَّه تبارك وتعالى أعلم.
صلى اللَّه عليه وسلّم صلى عليها وكبر عليها ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس فقال أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي.
ذكره البخاري [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] في كتاب الجمعة وترجم عليه البخاري باب الخطبة على المنبر، وترجم عليه أبو داود باب اتخاذ المنبر، وترجم عليه النسائي باب الصلاة على المنبر [ (3) ] .
[ (1) ](فتح الباري) : 2/ 504، كتاب الجمعة، باب (26) الخطبة على المنبر، وقال أنس رضى اللَّه تبارك وعنه: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر.
قوله: «باب الخطبة على المنبر» أي مشروعيتها، ولم يقيدها بالجمعة ليتناولها، ويتناول غيرها.
قوله: «وقال أنس: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر» هذا طرف من حديث أورده المصنف في الاعتصام، وفي الفتن مطولا، وفيه قصة عبد اللَّه بن حذافة، ومن حديثه أيضا في الاستسقاء في قصة الّذي قال:«هلك المال» .
قوله: «امتروا» من المماراة، وهي المجادلة، وقال الكرماني: من الامتراء، وهو الشك، ويؤيد الأول قوله في رواية عبد العزيز بن أبى حازم عن أبيه عند مسلم «أن تماروا» فإن معناه تجادلوا، قال الراغب: الامتراء والمماراة المجادلة، ومنه فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وقال أيضا: المرية التردد في الشيء، ومنه فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ.
وقوله: (واللَّه إني لأعرف مما هو) فيه القسم على الشيء لإرادة تأكيده للسامع، وفي قوله:«ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه «زيادة على السؤال، لكن فائدته إعلامهم بقوة معرفته بما سألوه عنه، وقد تقدم في باب الصلاة على المنبر أن سهلا قال: «ما بقي أحد أعلم به منى» .
قوله: (أرسل إلخ) هو شرح الجواب.
قوله: (إلى فلانة امرأة من الأنصار) في رواية أبى غسان عن أبى حازم «امرأة من المهاجرين» كما سيأتي في الهبة، وهو وهم من أبى غسان لإطباق أصحاب أبى حازم على قولهم:«من الأنصار» ، وكذا قال أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في أيمن عن جابر كما سيأتي في علامات النبوة، وقد تقدم الكلام على اسمها في «باب الصلاة على المنبر» في أوائل الصلاة.
_________
[ () ] وقوله: (مري غلامك النجار) سماه عباس بن سهل عن أبيه فيما أخرجه قاسم بن أصبغ وأبو سعد في «شرف المصطفى» جميعا من طريق يحيى بن بكير عن ابن لهيعة حدثني عمارة ابن غزية عنه ولفظه «كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة. فلما كثر الناس قيل له: لو كنت جعلت منبرا. قال وكان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون فذكر الحديث،
وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعيد الأنصاري عن ابن عباس نحو هذا السياق ولكن لم يسمه، وفي الطبراني من طريق أبى عبد اللَّه الغفاريّ «سمعت سهل بن سعد يقول: كنت جالسا مع خال لي من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أخرج إلى الغابة وأتنى من خشبها فاعمل لي منبرا»
الحديث. وجاء في صانع المنبر أقوال أخر:
أحدهما: اسمه إبراهيم أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أبى نضرة عن جابر، وفي إسناده العلاء من مسلمة الرواس وهو متروك.
ثانيها: باقول بموحدة وقاف مضمومة رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف منقطع. ووصله أبو نعيم في (المعرفة) لكن قال باقوم آخره ميم وإسناده ضعيف أيضا.
ثالثها: صباح بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة وآخره مهملة أيضا ذكره ابن بشكوال بإسناد شديد الانقطاع.
رابعها: قبيصة أو قبيصة المخزومي مولاهم ذكره عمر بن شبة في (الصحابة) بإسناد مرسل.
خامسها: كلاب مولى العباس كما سيأتي.
سادسها:
تميم الداريّ رواه داود مختصرا والحسن بن سفيان والبيهقي من طريق أبى عاصم عن عبد العزيز بن أبى رواد «عن نافع عن ابن عمر أن تميما الداريّ قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما كثر لحمه: ألا نتخذ لك منبرا يحمل عظماك؟ قال: بلى فاتخذ له منبر
أ «الحديث وإسناده جيد، وسيأتي ذكره في علامات النبوة فإن البخاري أشار إليه ثم،
روى ابن سعد في (الطبقات) من حديث أبى هريرة» أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع فقال: إن القيام قد شق على فقال له تميم الداريّ: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمل
«الحديث رجاله ثقات إلا الواقدي. سابعها: ميناء، ذكره ابن بشكوال عن الزبير بن بكار: «حدثني إسماعيل» هو ابن أبى أويس عن أبيه، قال: عمل
_________
[ () ] المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بنى سلمة- أو من بنى ساعدة أو امرأة لرجل منهم- يقال له ميناء» .
وهذا يحتمل أن يعود الضمير فيه على الأقرب، فيكون ميناء اسم زوج المرأة، وهو بخلاف ما حكيناه في «باب الصلاة على المنبر والسطوح» ، عن ابن التين، أن المنبر عمله غلام سعد بن عبادة، وجوزنا أن تكون المرأة زوج سعد وليس في جميع هذه الروايات التي سمى فيها البخاري شيء قوى السند إلا حديث ابن عمر، وليس فيه لتصريح بأن الّذي اتخذ المنبر تميم الداريّ، وقد تبين من رواية ابن سعد أن تميما لم يعلمه.
وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال: هو ميمون، لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضا، وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جدا أن يجمع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة. وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله، فيمنع منه قوله في كثير من الروايات السابقة: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد «إلا ان كان يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه. واللَّه تعالى أعلم.
ووقع عند الترمذي وابن خزيمة وصححاه من طريق عكرمة بن عمار عن إسحاق بن أبى طلحة، عن أنس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب، فجاء إليه رومي فقال: ألا أصنع لك منبرا؟ «الحديث. ولم يسمه فيحتمل أن يكون المراد بالرومي تميم الداريّ لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم.
وقد عرف مما تقدم سبب عمل المنبر، وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة، وفيه نظر لذكر العباس وتميم فيه وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع.
وجزم ابن النجار بأن عمله كان في سنة ثمان، وفيه نظر أيضا لما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت: «فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم حتى سكتوا «فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر وإلا فهو أصح مما مضى.
وحكى بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قيل أن يتخذ المنبر الّذي من خشب، ويعكر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب، ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله
_________
[ () ] وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بين بكار في (أخبار المدينة) بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن ابن عوف قال: «بعث معاوية إلى مروان- وهو عامله على المدينة- أن يحمل إليه المنبر، فأمر به فقلع، فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب وقال: إنما أمرنى أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا، وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم» . ورواه من وجه آخر قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم وقال: «فزاد فيه ست درجات وقال: إنما زدت في حين كثر الناس «قال ابن النجار وغيره: استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق، ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا فأزيل منبر المظفر، فلم يزل ذلك إلى هذا العصر فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرا جديدا، وكان أرسل في سنة في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا، شكر اللَّه له صالح عمله آمين.
قوله: (فعملها من طرفاء الغابة) في رواية سفيان عن أبى حازم «من أثلة الغابة» كما تقدم في أوائل الصلاة، ولا مغايرة بينهما فإن الأثل هو الطرفاء وقيل يشبه الطرفاء وهو أعظم منه، والغابة بالمعجمة وتخفيف الموحدة موضع من عوالي المدينة جهة الشام، وهي اسم قرية بالبحرين أيضا، وأصلها كل شجرة ملتف.
قوله: (فأرسلت) أي المرأة تعلم بأنه فرغ.
قوله: (فأمر بها فوضعت) أنث لإرادة الأعواد والدرجات، ففي رواية مسلم من طريق عبد العزيز بن أبى حازم «فعمل له هذه الدرجات الثلاث» .
قوله: (ثم رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى عليها) أي على الأعواد، وكانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر.
قوله: (وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى) لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبيرة، وقد تبين ذلك في رواية سفيان عن أبى حازم ولفظه «كبر فقرأ» وركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى» والقهقرى بالقصر المشي إلى خلف.
والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة، وفي رواية هشام بن سعد عن أبى حازم عند الطبراني «فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر «فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة.
_________
[ () ] قوله: (في أصل المنبر) أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه.
قوله: (ثم عاد) زاد مسلم من رواية عبد العزيز حتى فرغ من صلاته.
قوله: (ولتعلموا) بكسر اللام وفتح المثناة وتشديد اللام أي لتتعلموا، وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض ويستفاد منه أن من فعل شيئا يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه.
وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكل خطيب خليفة كان أو غيره. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة، وكذا الكثير إن تفرق، وقد تقدم البحث فيه وكذا في جواز ارتفاع الإمام في «باب الصلاة في السطوح» وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد إما شكرا وإما تبركا.
وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر، وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض.
وتعقبه الزين بن المنير بأن هذا خارج عن مقصود الترجمة ولأنه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الراشدين فهو سنة متبعة، وإن كان من غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة.
قلت: ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة، أشار بها إلى أن هذا التفصيل غير مستحب، ولعل مراد من استحبه أن الأصل أن لا يرتفع الإمام عن المأمومين.
ولا يلزم من مشروعية ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ثم لمن ولى الخلافة أن يشرع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين وتعليمهم بعض أمور الدين. واللَّه الموفق.
(فتح الباري) : 2/ 504- 508، باب (26) الخطبة على المنبر، حديث رقم (917) ، باختلاف يسير في اللفظ.
[ (2) ](سنن أبى داود) : 1/ 651- 652، كتاب الصلاة، باب (221) في اتخاذ المنبر، حديث رقم (1080) .
قال الخطابي في (معالم السنن) : الغابة: موضع قريب من المدينة من عواليها من ناحية الشام. والطرفاء: شجر من شجر البادية واحدها طرفة بفتح الطاء مثل قصبة وقصباء.
قلت: الغابة الفيضة وجمعها غابات وغاب. ومنه قولهم ليث غاب قال الشاعر:
وألفاظهم في هذا الحديث قريبة جدا، ولم يذكر مسلم له لفظا، بل أحاله على حديث عبد العزيز بن أبى حازم، عن ابنه، قال: إن نفرا جاءوا إلى سهل ابن سعد رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قد تماروا في المنبر، من أي عود هو؟ فقال: أما واللَّه إني لأعرف ما عوده، ومن عمله. ورأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس عليه.
قال: فقيل له: يا أبا عباس! فحدثنا. قال: أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى امرأة- قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ- انظري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها، فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوضعت بهذا الموضع، فهي من طرفاء الغابة، وقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام فكبر، وكبر الناس، ورآه وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال:
يا أيها الناس، إنما صنعت هذا المنبر لتأتموا بى، ولتصلوا بصلاتي.
وذكره البخاري في كتاب البيوع [ (1) ] ، من حديث قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن أبى حازم، عن أبى حازم بنحو أو قريب مما تقدم.
[ () ]
وكنا كالحريق أصاب غابا
…
فتخبو ساعة وتهب ساعا.
وفيه من الفقه: جواز أن يكون مقام الإمام أرفع من مقام المأموم إذا كان ذلك لأمر يعلمه الناس ليقتدوا به، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة وإنما نزل القهقرى لئلا يولى الكعبة قفاه.
فإما إذا قرأ الإمام السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فإنه إذا أراد النزول لم يقهقر ونزل مقبلا على الناس بوجهه حتى يسجد وقد فعله عمر بن الخطاب.
وعند الشافعيّ أنه إن أحب أن يفعله فعل. فإن لم يفعله أجزأه، وقال أصحاب الرأى:
ينزل ويسجد، وقال مالك: لا ينزل ولا يسجد ويمضى في خطبته.
[ (3) ](النسائي) : 2/ 390- 391، كتاب المساجد، باب (45) الصلاة على المنبر، حديث رقم (738) .
[ (1) ](فتح الباري) : 4/ 400، كتاب البيوع، باب (32) النجار حديث رقم (2094) .
وذكره بهذا الإسناد في كتاب الصلاة [ (1) ] مختصرا، في باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد.
وذكره في كتاب الهبة [ (2) ] من حديث أبى غسان قال: حدثني أبو حازم، عن سهل رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة من المهاجرين- وكان لها غلام نجار- قال: مري عبدك فليعمل لنا أعواد المنبر، فأمرت عبدها، فذهب، فقطع من الطرفاء [ (3) ] ، فصنع له منبرا، فلما قضاه، أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد قضاه، قال صلى الله عليه وسلم: أرسلوا به إليّ فجاءوا به،
[ (1) ](فتح الباري) 1/ 715، كتاب الصلاة، باب (64) الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، حديث رقم (448) .
[ (2) ]
(فتح الباري) : 5/ 250، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (3) من استوهب من أصحابه شيئا، وقال أبو سعيد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اضربوا لي معكم سهما» حديث رقم (2596) .
قوله: «باب من استوهب من أصحابه شيئا» أي سواء كان عينا أو منفعة جاز، أي بغير كراهية في ذلك إذا كان يعلم طيب أنفسهم.
قوله: «وقال أبو سعيد» هو الخدريّ.
قوله: «اضربوا لي معكم سهما» هو طرف من حديث الرقية وقد تقدم بتمامه مشروحا في كتاب الإجارة.
قوله: «حدثنا أبو غسان» هو محمد بن مطرف، وسهل هو ابن سعد، وتقدم الحديث مشروحا في كتاب الجمعة، وفيه استيهابه من المرأة منفعة غلامها، وقد سبق ما نقل في تسمية كل منهما. وأغرب الكرماني هنا فزعم أن اسم المرأة مينا وهو وهم، وإنما قيل ذلك في اسم النجار كما تقدم وأن قول أبى غسان في هذه الرواية إن المرأة من المهاجرين وهم، ويحتمل أن تكون أنصارية حالفت مهاجريا وتزوجت به أو العكس، وقد ساقه ابن بطال في هذا الموضع بلفظ «امرأة من الأنصار» والّذي في النسخ التي وقفت عليها من البخاري ما وصفته.
[ (3) ] الطرفاء: نخل لبني عامر بن حنيفة باليمامة، وإياها عنت بقولها:
هل زاد طرفاء القصب
…
بالقرب مما احتسب؟
(معجم البلدان) : 4/ 35 موضع رقم (7906) .
فاحتمله النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعه حيث ترون. ترجم عليه باب من استوهب من أصحابه شيئا.
وخرج أبو داود [ (1) ] من حديث أبى عاصم، عن أبى روّاد عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدّن قال: له تميم الداريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ألا أتخذ لك منبرا يا رسول اللَّه يجمع أو يحمل عظامك؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، فاتخذ له صلى الله عليه وسلم منبرا مرقاتين.
خرج البخاري [ (2) ] في كتاب البيوع، في باب النجار، من حديث خلاد قال: حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قال: «إن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول اللَّه! ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن شئت.
فعملت له المنبر. فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الّذي صنع فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها، حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبى الّذي يسكت حتى استقرت.
قال صلى الله عليه وسلم: بكت على ما كانت تسمع من الذكر» .
وذكره في كتاب علامات النبوة في الإسلام [ (3) ] وفي كتاب الجمعة [ (4) ]
كما ستأتي طرقه إن شاء اللَّه تعالى في ذكر المعجزات.
[ (1) ](سنن أبى داود) : 1/ 653، كتاب الصلاة، باب (221) في اتخاذ المنبر، حديث رقم (1081)، قوله «بدّن» قال: أبو عبيد روى للتخفيف، إنما هو بالتشديد، أي كبر وأسنّ، وهو بالتخفيف: البدانة وكثرة اللحم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سمينا.
[ (2) ](فتح الباري) : 4/ 400، كتاب البيوع، باب (32) النجار حديث رقم (2095) .
[ (3) ](فتح الباري) : 6/ 746- 747، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (2583- 2584) .
قوله: «كصوت العشار» بكسر المهملة بعدها معجمه خفيفة جمع عشراء، تقدم شرحه في الجمعة، والعشراء الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر، ووقع في رواية عبد الواحد بن أيمن «فصاحت النخلة صياح الصبى» وفي حديث أبى الزبير عن جابر عن النسائي في (الكبير)«اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج» انتهى. والخلوج بفتح الخاء
وقد اختلف في اسم هذا النجار، فقيل: مينا، وقيل: ناقول مولى العاص بن أمية، وقيل: ميمون، وقيل: صباح غلام العباس بن عبد المطلب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وقيل: بل عمله غلام قبيصة المخزومي، وقيل: عمله غلام سعد بن عبادة، وقيل: غلام امرأة من الأنصار.
وكان عمله في سنة سبع بعد عوده من خيبر، وقيل: عمله سنة ثمان، وقال ابن زبالة: وكان المنبر من أثلة كانت قريبا من المسجد، والّذي زاد في درجة معاوية بن أبى سفيان.
قال سفيان بن حمزة: قال كثير: فأخبرني الوليد بن رباح، قال:
كسفت الشمس يوم زاد معاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في المنبر، حتى رئيت النجوم.
[ () ] المعجمة وضم اللام الخفيفة وآخره جيم الناقة التي انتزع منها ولدها، وفي حديث أنس عن ابن خزيمة «فحنت الخشبة حنين الوالد» وفي روايته الأخرى عن الدارميّ وابن ماجة «فلما خار الجذع حتى تصدع وانشق» وفي حديثه «فأخذ أبى بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد فلم يزل عنده حتى بلى وعاد رفاتا» . وهذا لا يتنافى ما تقدم من أنه دفن، لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف فأخذه أبى بن كعب،
وفي حديث بريدة عن الدارميّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «اختر أن أغرسك في المكان الّذي كنت فيه فتكون كما كنت- يعنى قبل أن تصير جذعا- وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك أولياء اللَّه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اختار أن أغرسه في الجنة» .
قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف. وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق اللَّه لها إدراكا كالحيوان بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لقول من يحمل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ على ظاهره.
وقد نقل ابن أبى حاتم في (مناقب الشافعيّ) عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعيّ قال: ما أعطى اللَّه نبيا ما أعطى محمدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك. (فتح الباري) .
[ (4) ] سبق تخريجه.
وذكر الواقدي وغيره: أنه لما كانت سنة خمسين، أمر معاوية بن أبى سفيان بحمل المنبر إلى الشام، وقال: لا يترك هو وعصا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة [ (1) ] .
وهم قبله [ (2) ] عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فطلب العصا- يعنى العنزة وهي عند سعد القرظ، فلما حرك المنبر ليخرج من موضعه كسفت الشمس حتى رئيت النجوم بادية، فأعظم الناس ذلك، فترك المنبر على حاله.
وقيل: بل أتاه جابر بن عبد اللَّه، وأبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فقالا له: يا أمير المؤمنين! لا يصلح أن تخرج منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه فيه، ولا تنقل عصاه إلى الشام. فترك المنبر، وزاد فيه ست درجات، واعتذر مما صنع [ (3) ] .
وذكر ابن زبالة، من حديث عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: بعث معاوية بن [أبى] سفيان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، إلى مروان بن الحكم، عامله على المدينة، يأمره أن يحمل إليه منبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ما وضعه، فأمر به أن يقلع، فأظلمت المدينة، وأصابتهم ريح شديدة، فخرج مروان، فخطب فقال: يا أهل المدينة! إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إلى منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليزيله! وأمير المؤمنين أعلم باللَّه من أن يغير منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ما وضعه عليه، إنما أمرنى أن أكرمه وأرفعه، ودعا نجارا- وكان ثلاث درجات- فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم، ووضعه موضعه، وكان من طرفاء الغابة [ (4) ] .
وعن عبد اللَّه بن زياد، عن ابن فطن، قال: قلع مروان بن الحكم منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان درجتين والمجلس، وأراد أن يبعث به إلى معاوية،
[ (1) ](الكامل في التاريخ) : 3/ 463- 464، ذكر إرادة معاوية نقل المنبر إلى المدينة [في أحداث سنة خمسين] .
[ (2) ] كذا في (الأصل) وفي (المرجع السابق) : «قتله» .
[ (3) ](الكامل في التاريخ) : 3/ 463- 464، ذكر إرادة معاوية نقل المنبر إلى المدينة [في أحداث سنة خمسين] .
[ (4) ] المرجع السابق.
فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم! فزاد فيه ست درجات، وخطب الناس فقال:
إني إنما رفعته حين كثر الناس، ولما ولى عبد الملك بن مروان الخلافة، همّ بنقل المنبر، فقال له قبيصة بن ذؤيب: أذكرك اللَّه أن تفعل، إن معاوية حركه فكسفت الشمس!
وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من حلف على منبري كاذبا فليتبوَّأ مقعده من النار [ (1) ] ،
وهو مقطع الحقوق بينهم بالمدينة، فتركه عبد الملك.
فلما ولى الخلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وحجّ، همّ بذلك، فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: كلم صاحبك لا يتعرض لذلك، فكلمه، فتركه.
ثم لما كانت خلافة سليمان بن عبد الملك، وحجّ، أخبره عمر بن عبد العزيز رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه بما كان من عبد الملك، ومن الوليد، فقال: ما كنت أحب أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا، ولا عن الوليد، ما لنا ولهذا؟ أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه فنحمله، هذا ما لا يصلح [ (2) ] .
فلما حج أمير المؤمنين محمد المهدي في سنة ستين ومائة، قال لمالك ابن أنس: إني أريد أن أعيد منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى حاله التي كان عليها، فقال له مالك: إنه من طرفاء، وقد سمّر إلى هذه العيدان [وثبت] ، فمتى نزعته خفت أن يتهافت وتهلك، ولا أرى أن تعيده، فانصرف رأى المهدي عن تغييره [ (3) ] .
[ (1) ](موطأ مالك) : 515، ما جاء في الحنث على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (1406) من حديث جابر بن عبد اللَّه الأنصاري.
[ (2) ](المرجع السابق) .
[ (3) ] قال ابن جرير الطبري: وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها- فيما ذكر- مالا عظيما، وفي أهل المدينة كذلك، فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فنزعت، وأراد أن ينقص منبر رسول اللَّه