الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن كانت العبرة بخصوص السبب، وهو قصد المضارة، فالأنبياء عليهم السلام [منزهون عن] ذلك، فيتجه عدم الانحصار.
وإن نظرنا إلى عموم اللفظ، فيتجه الانحصار، واللَّه تبارك وتعالى أعلا وأعلم.
الثانية: في انعقاد نكاحه صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة
فيه وجهان: أحدهما: لا ينعقد كغيره، وأصحهما يصح، وهو ما قطع به الإمام الغزالي، لقوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ (1) ] وعلى هذا لا يجب المهر بالعقد ولا بالدخول كما هو مقتضى الهبة.
وهل يشترط لفظ النكاح من جهته صلى الله عليه وسلم؟ أو يكفى لفظ الإيهاب؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط كما في حق المرأة، وأصحهما في (أصل الروضة)[ (2) ] ، والرافعي يشترط، قال الرافعي: أنه الأرجح عند الشيخ أبى حامد، لظاهر قوله تعالى: أَنْ يَسْتَنْكِحَها فاعتبر في جانبه صلى الله عليه وسلم النكاح.
وفي (الحاوي) للماوردى: أباحه اللَّه تعالى أن يملك نكاح الحرة بلفظ الهبة من غير بذل يذكر مع العقد، ولا يجب من بعد، فيكون مخصوصا به من بين أمته من وجهين:
أحدهما: أن يملك الحرة بلفظ الهبة، ولا يجوز ذلك لغيره من أمته.
والثاني: ان يسقط عنه المهر ابتداء مع العقد، وانتهاء فيما بعد، وغيره من أمته يلزمه المهر فيما بعد.... إلى آخر كلامه، ورجح الرافعي والنووي اشتراط لفظ النكاح من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلا بقوله تعالى:
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ](روضة الطالبين) : 5/ 353، كتاب النكاح، باب في خصائص رسول اللَّه في النكاح غيره.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها [ (1) ] وفيه نظر. لأن اللَّه تعالى لما اشترط إرادة النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها، فلو قال: أردت، كان كافيا، ولفظ الرافعي: هل يشترط لفظ النكاح من جهته وجهان:
أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط من جهة الواهبة.
والثاني: نعم، لظاهر قوله: أَنْ يَسْتَنْكِحَها، وهذا أرجح، عند الشيخ أبى حامد.
ووقع في (الجواهر) للقمولى: أن فيها وجهين، أرجحهما عند الشيخ ابى حامد أنه يكفى لفظ الإيهاب، وهذا مغاير لنقل الرافعي، والجمع بينهما: أن الشيخ أبى حامد نقل أن الصحيح ما عزاه إليه الرافعي، ثم بحث، فرجح ما عزاه إليه القمولي، ومن تأمل كلامه ظهر له ذلك.
قال الأصحاب: وينعقد نكاحه صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة، حتى لا يجب مهرا ابتداء أو انتهاء.
وفي وجه غريب أنه يجب المهر، والّذي خص به انعقاد نكاحه بلفظ الهبة دون معناها.
وقال الماوردي مرة بسقوط المهر، ومرة قال: اختلف أصحابنا في من لم يسم لها مهرا في العقد، هل يلزمه مهر المثل؟ على وجهين: وجه المنع، أن المقصود منه التوصل إلى ثواب اللَّه تعالى.
قال: واختلف العلماء هل كانت عنده صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة أم لا؟ من أجل اختلاف القراء في فتح إن وكسرها من قوله تعالى: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فعلى الثاني: تكون شرطا مستقبلا، وعلى الأول: تكون خبرا عن ماض.
قال أبو حيان في (التفسير)[ (2) ] : قرأ الجمهور وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالنصب إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها بكسر الهمزة، أي أحللناها لك إِنْ وَهَبَتْ، إِنْ أَرادَ فهما شرطان.
[ (1) ] الأحزاب: 50.
[ (2) ](البحر المحيط) : 8/ 492- 493.
والثاني: في معنى الحال، كأنه شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته صلى الله عليه وسلم هي قبول الهبة، وبه تتم، وإذا اجتمع شرطان، فالثاني شرط في الأول، متأخر في اللفظ، متقدم في الوقوع، ما لم تدل قرينة على الترتيب.
وقرأ أبو حيوة: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، أي أحللناها لك.
وقرأ أبى والحسن وغيرهما: أن بفتح الهمزة، وتقديره: لأن وهبت، وذلك حكم امرأة بعينها، فهو فعل ماض، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها، دون واحدة بعينها.
وقرأ زيد بن على: إذ وهبت بالذال. وإذ ظرف، فهو في امرأة بعينها أيضا.
وقرأ الجمهور: خالصة بالنصب. وهو مصدر مؤكد، يعنى خلوصا، ويجيء المصدر فاعل وفاعلة.
وقرئ خالِصَةً لَكَ بالرفع، وقال: الظاهر أن قوله: خالِصَةً لَكَ من صفة الواهبة، فقراءة النصب على الحال، والرفع خبر مبتدإ محذوف، أي هي خالصة لك، أي هبة النساء أنفسهن مختص بك وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره.
وفي (الحاوي) : للماوردى: واختلف في الواهبة، فقيل: أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب قاله عروة: وقيل: خولة بنت حكيم. قالت عائشة، وقيل: غزية، قاله ابن عباس، وقيل: زينب بنت خزيمة أم المساكين. قاله الشعبي.
وزاد أبو حيان مع ابن عباس قتادة، وقال: في الأولى هو قول على بن الحسين، والضحاك، ومقاتل، وزاد مع الشعبي عروة، وزاد مع عائشة عروة أيضا.
فتلخص في الواهبات من الزوجات ثنتان: هما ميمونة وزينب ومن غير الزوجات: أم شريك. واختلف في اسم أم شريك، فقيل: عامرية اسمها
غزية أو غزيلة، وقيل: غفارية، وقول الماوردي في نسبتها يدل على أنها عامرية، فقال: قيل: إنها أم شريك بنت عوف بن عمرو بن جابر بن صباب.
وقيل: هي بنت وردان بن عوف بن عمرو بن عامر، وقد قيل أيضا:
هي ليلى بنت الخطيم، وقيل: فاطمة بنت شريح [ (1) ] .
[ (1) ] فاطمة بنت شريح: هي أم شريك القرشية العامرية، من بنى عامر بن لؤيّ، نسبها ابن الكلبي، فقال: بنت دودان بن عوف بن عمرو بن خالد بن ضباب بن حجير بن معيص بن عامر. وقال غيره: عمرو بن عامر بن رواحة بن حجير. وقال ابن سعد: اسمها غزية بنت جابر بن حكيم، كان محمد بن عمر يقول: هي من بنى معيص بن عامر بن لؤيّ. وكان غيره يقول: هي دوسية من الأزد، ثم أسند عن الواقدي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: كانت أم شريك من بنى عامر بن لؤيّ معيصية وهبت نفسها للنّبيّ فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت.
وقال أبو عمر: كانت عند أبى العكر بن سمى بن الحارث الأزدي ثم الدوسيّ، فولدت له شريكا، وقيل: إن اسمها غزيلة، بالتصغير، ويقال غزية بتشديد الياء بدل اللام، وقيل بفتح أولها وقال ابن مندة: فاختلف في اسمها فقيل غزيلة. وقال أبو عمر: من زعم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نكحها قال: كان ذلك بمكة. وهو عجيب، فإن قصة الواهبة نفسها إنما كانت بالمدينة، وقد جاء من طرق كثيرة أنها كانت وهبت نفسها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو نعيم، من طريق محمد بن مروان السدي- أحد المتروكين، وأبو موسى، من طريق إبراهيم بن يونس، عن زياد، عن بعض أصحابه، عن ابن الكلبي، عن أبى صالح، عن ابن عباس، قال: ووقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، وهي إحدى نساء قريش ثم إحدى بنى عامر بن لؤيّ، وكانت تحت أبى العكر الدوسيّ، فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتى شيء موطأ ولا غيره، ثم تركونى ثلاثا لا يطعموني ولا يسقوني. قالت: فما أتت على ثلاث حتى ما في الأرض شيء أسمعه، فنزلوا منزلا، وكانوا إذا تزلوا وثقونى في الشمس واستظلوا وحبسوا عنى الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا أنا بأثر شيء على
_________
[ () ] بد منه، ثم رفع، ثم عاد فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلا ثم نزع منى، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضا، ثم رفع فصنع ذلك مرارا حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي. فلما استيقظوا فإذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت، فأخذت سقاءنا فشربت منه. فقلت: لا، واللَّه ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، وأسلموا بعد ذلك.
وأقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهبت نفسها له بغير مهر، فقبلها ودخل عليها، فلما رأى عليها كبرة طلقها.
وأخرج أبو موسى أيضا من وجه آخر عن الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس- شبيهة بالقصة التي في الخبر المرسل، وحاصله أنه اختلف على الكلبي في سياق القصة، ويتحصل منها- إن كان ذلك محفوظا- أن قصة الدلو وقعت لأم شريك ثلاث مرات، قال ابن الأثير: استدل أبو نعيم بهذه القصة على أن العامرية هي الدوسية.
قلت: فعلى هذا يلزم منه أن تكون نسبتها إلى بنى عامر، من طريق المجاز، مع أنه يحتمل العكس بأن تكون قريشية عامرية، فتزوجت في دوس فنسبت إليهم.
وأخرج الحميدي في مسندة، من رواية مجالد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: اعتدى عند أم شريك بنت أبى العكر،
وهذا يخالف ما تقدم أنها زوج أبى العكر، ويمكن الجمع بأن تكون كنية والدها وزوجها اتفقتا أو تصحفت بنت بالموحدة والنون من بيت بالموحدة والتحتانية، وبيت الرجل يطلق على زوجته، فتنفق الروايتان.
وجاء عن أم شريك ثلاثة أحاديث مسندة، ولم تنسب في بعضها، ونسب في بعضها مع اختلاف في الرواية في النسبة الأولى،
أخرجه مسلم في الفتن، والترمذي في المناقب، من رواية الزبير، عن جابر، عن أم شريك، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يتفرق الناس من الدجال قالت أم شريك: يا رسول اللَّه، فأين العرب يومئذ؟ قال: هم قليل.
وأخرج ابن ماجة من حديث أبى أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الدجال، قال: ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، ويدعى ذلك اليوم يوم الحلام.
قالت أم شريك بنت أبى العكر: يا رسول اللَّه، فأين العرب يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل،
ذكره في حديث طويل.
وفي الصحيحين [ (1) ] من حديث عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، كانت خولة [بنت حكيم][ (2) ] من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت
[ () ] وهذا يوافق ما
أخرجه الحميدي، وغيره، من طريق مجالد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لها اعتدى عند أم شريك بنت أبى العكر،
وعلى هذا- إن كان محفوظا- فهي الأنصارية المتقدمة، فكأن نسبتها كذلك مجازية أيضا.
الثاني: أخرجه الشيخان من رواية سعيد بن المسيب، عن أم شريك- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ، ولم ينسب في هذه الرواية إلا في رواية لأبى عوانة عن سماك.
والثالث: أخرجه النسائي، من رواية هشام بن عروة، عن أم شريك- أنها كانت ممن وهبت نفسها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، ورجاله ثقات ولم ينسبها. وقد أخرجه ابن سعد، عن عبيد اللَّه بن موسى، عن سنان عن فراس عن الشعبي، قال: المرأة التي عدل عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أم شريك الأنصارية. وهذا مرسل. رجاله ثقات.
ومن طريق شريك القاضي وشعبة، قال شريك عن جابر الجعفي، عن الحكم، عن على بن الحسين- أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم شريك الدوسية، لفظ شريك. وقال شعبة في روايته: إن المرأة التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وسلم أم شريك امرأة من الأزد.
وأخرج ابن سعد من طريق عكرمة، ومن طريق عبد الواحد بن أبى عون في هذه الآية: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ. قال: هي أم شريك، وفي مسندهما الواقدي ولم ينسبها.
والّذي يظهر في الجمع أن أم شريك واحدة، اختلف في نسبتها أنصارية، أو عامرية من قريش، أو أزدية من دوس، واجتماع هذه النسب الثلاث ممكن، كأن يقول قرشية تزوجت في دوس فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار فنسبت إليهم، أو لم تتزوج بل هي نسبت أنصارية بالمعنى الأعم.
لها ترجمة في (الإصابة) : 8/ 238- 241، ترجمة رقم (12099)، (الاستيعاب) :
4/ 1943، (طبقات ابن سعد) : 8/ 110.
[ (1) ](فتح الباري) : 9/ 204، كتاب النكاح، باب (30) هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟ حديث رقم (5113) ، رواه أبو سعيد المؤدب ومحمد بن بشر وعبدة عن هشام، عن أبيه عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، يزيد بعضهم على بعض.
_________
[ () ] وأخرجه البخاري أيضا في كتاب التفسير، باب (7) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ، حديث رقم (4788)، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل اللَّه تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
قال الحافظ في (الفتح) وحكى الواحدي عن المفسرين أن هذه الآية نزلت عقب نزول آية التخيير، وذلك أن التخيير لما وقع أشفق بعض الأزواج أن يطلقهن وقوله: وهبن أنفسهن هذا ظاهر في أن الواهبة أكثر من واحدة.
وعند ابن أبى حاتم من حديث عائشة: التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم هي خولة بنت حكيم، ومن طريق الشعبي قال: من الواهبات أم شريك. وأخرجه النسائي من طريق عروة. وعند أبى عبيدة معمر بن المثنى أن من الواهبات فاطمة بنت شريح. وقيل: إن ليلى بنت الحطيم ممن وهبت نفسها له ومنهن زينب بنت خزيمة، جاء عن الشعبي وليس بثابت، وخولة بنت حكيم وهو في هذا الصحيح، ومن طريق قتادة عن ابن عباس قال: التي وهبت نفسها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم هي ميمونة بنت الحارث، وهذا منقطع. وأورده من وجه آخر مرسل وإسناده ضعيف.
قوله: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي ما أرى اللَّه إلا موجدا لما تريد بلا تأخير، منزلا لما تحب وتختار. وقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخرن بغير قسم، وهذا قول الجمهور، وأخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبى رزين وغيرهم، وأخرج الطبري أيضا عن الشعبي في قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قال: كن نساء وهبن أنفسهن للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخل ببعضهن وأرجا بعضهن لم ينكحهن، وهذا شاذ، والمحفوظ أنه لم يدخل بأحد من الواهبات كما تقدم.
وقيل: المراد بقوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أنه كان هم بطلاق بعضهن، فقلن له: لا تطلقنا واقسم لنا ما شئت، فكان يقسم لبعضهن قسما مستويا، وهن اللاتي آواهن، ويقسم للباقي ما شاء وهن اللاتي أرجاهن.
فحاصل ما نقل في تأويل تُرْجِي أقوال: أحدها: تطلق وتمسك، ثانيها: تعتزل من شئت منهن بغير طلاق وتقسم لغيرها، ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات وترد من شئت.
_________
[ () ] وحديث الباب يؤيد هذا والّذي قبله، واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة. وظاهر ما حكته عائشة من استئذانه أنه لم يرج أحدا منهن، بمعنى أنه لم يعتزل، وهو قول الزهري:«ما أعلم أنه أرجا أحدا من نسائه» أخرجه ابن أبى حاتم، وعن قتادة أطلق له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية. (فتح الباري) : 8/ 673- 675.
(باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد) أي فيحل له نكاحها بذلك، وهذا يتناول صورتين:
إحداهما: مجرد الهبة من غير ذكر مهر، والثانية: العقد بلفظ الهبة. فالصورة الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح، وأجازه الحنفية والأوزاعي، ولكن قالوا: يجب مهر المثل، وقال الأوزاعي: إن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر لم يصح النكاح. وحجة الجمهور قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فعدوا ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم وأنه يتزوج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال ولا في المآل، وأجاب المجيزون عن ذلك بأن المراد أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة.
والصورة الثانية ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث، وذهب الأكثر إلى أنه يصح بالكنايات، واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز بصرائحه وبكناياته مع القصد.
قوله: (حدثنا هشام) هو ابن عروة عن أبيه (قال: كانت خولة) هذا مرسل، لأن عروة لم يدرك زمن القصة، لكن السياق يشعر بأنه حمله عن عائشة. وقد ذكر المصنف عقب هذه الطريق رواية من صرح فيه بذكر عائشة تعليقا.
قوله: (بنت حكيم) أي ابن أمية بن الأوقص السلمية، وكانت زوج عثمان بن مظعون، وهي من السابقات إلى الإسلام، وأمها من بنى أمية.
قوله: (فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها) وفي رواية محمد بن بشر الموصولة عن عائشة أنها كانت تعير اللائي وهبن أنفسهن.
قوله: فلما نزلك: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ في رواية عبدة بن سليمان: فأنزل اللَّه ترجى وهذا أظهر في أن نزول الآية بهذا السبب، قال القرطبي: حملت عائشة على هذا التقبيح الغيرة التي طبعت عليها النساء وإلا فقد علمت ان اللَّه أباح لنبيه ذلك وان جميع النساء لو ملكن لرقهن لكان قليلا.
قوله: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) في رواية محمد بن بشر «إني لأرى ربك يسارع لك في هواك «أي في رضاك، قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدلال والغقيرة، وهو من نوع قولها: ما أحمدكما ولا أحمد إلا اللَّه، وإلا فإضافة الهوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تحمل على ظاهره، لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يفعل بالهوى، لو قالت: إلى مرضاتك لكان أليق، ولكن الغيرة يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك. (فتح الباري) : 9/ 204- 205.
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .