الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ذكره من جلده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
خرج البخاري [ (1) ] من حديث يحى بن بكير قال: حدثني الليث قال حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبى هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه أن رجلا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد اللَّه وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتى به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم فقال اللَّهمّ العنة ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فو اللَّه ما علمت إنه يحب اللَّه ورسوله.
وخرج من حديث بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر يضربه، فمنا من ضربه بيده، ومنا من ضربه بنعله، ومنا من ضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه اللَّه! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم.
ترجم عليهما ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة [ (2) ] .
[ () ] وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة: لا تقطع الخمس إلا في الخمسة دراهم، وقد روى ذلك عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه خلاف الرواية الأولى.
[ (1) ](فتح الباري) : 12/ 89، كتاب الحدود، باب (5) ما يكر من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج عن الملة، حديث رقم (6780) .
[ (2) ](المرجع السابق) : حديث رقم (6781) . قال الحافظ في (الفتح) : قوله: «باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة «يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب من النهى عن لعنه وما تضمنه حديث الباب الأول
وأن المراد به نفى كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، وعبر بالكراهة هنا إشارة إلى أن النهى للتنزيه في حق من يستحق اللعن إذا قصد به اللاعن محض السب لا إذا قصد معناه الأصلي وهو الإبعاد عن رحمة اللَّه، فأما إذا قصده فيحرم ولا سيما في حق من لا يستحق اللعن
_________
[ () ] كهذا الّذي يحب اللَّه ورسوله ولا سيما مع إقامة الحد عليه، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمغفرة، وسبب هذا التفصيل عدل عن قوله في الترجمة كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله:
«ما يكره من» فأشار بذلك إلى التفصيل، وعلى هذا التقرير فلا حجة فيه لمنع الفاسق المعين مطلقا، وقيل: إن المنع خاص بما يقع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحق لذلك، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله في
حديث أبى هريرة «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»
وقيل المنع مطلقا في حق من أقيم عليه الحد، لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور، وقيل المنع مطلقا في حق ذي الزلة والجواز مطلقا في حق المجاهرين.
قال النووي في (الأذكار) : وأما الدعاء على إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي فظاهر الحديث أنه لا يحرم وأشار الغزالي إلى تحريمه وقال في «باب الدعاء على الظلمة» بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز قال الغزالي: وهي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء حتى على الظالم مثل «لا أصح اللَّه جسمه» وكل ذلك مذموم انتهى. والأولى حمل كلام الغزالي على الأول.
أما الأحاديث فتدل على الجواز كما ذكره النووي في
قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال له كل: بيمينك فقال: لا أستطيع فقال «لا استطعت
فيه دليل على جواز الدعاء من خالف الحكم الشرعي، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد والمنع بعد إقامته.
وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين، لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي أو يقنطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهى عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريبا.
واحتج شيخا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والّذي قاله شيخنا أقوى فإن الملك معصوم والتأسي بالمعصوم مشروع البحث في جواز لعن المعين وهو الموجود.
_________
[ () ] قوله: (إن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد اللَّه وكان يلقب حمارا) ذكر الواقدي في غزوة خيبر من (مغازيه) عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال ووجد حصن الصعب ابن معاذ فذكر ما وجد من الثياب وغيرها إلى أن قال: (وزقاق خمر فأريقت، وشرب يومئذ من تلك الخمر رجل يقال له عبد اللَّه الحمار) وهو باسم الحيوان المشهور، وقد وقع في حديث الباب أن الأول اسمه والثاني لقبه وجوز ابن عبد البر أنه النعيمان المبهم في حديث عقبة بن الحارث فقال في ترجمة النعيمان «كان رجلا صالحا وكان له ابن انهمك في الشراب فجلده النبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون كل من النعيمان وولده عبد اللَّه جلد في الشرب.
وقوى هذا عنده بما أخرجه الزبير بن بكار في (المفاكهة) من حديث محمد بن عمرو بن حزم قال: كان بالمدينة رجل يصيب الشراب فكان يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم ويحثون عليه التراب، فلما كثر ذلك منه قال له رجل هل الشارب النعيمان أو ابن النعيمان والراجح النعيمان فهو غير المذكور هنا لأن قصة عبد اللَّه كانت في خيبر فهي سابقة على قصة النعيمان فإن عقبة بن الحارث من مسلمة الفتح والفتح كان بعد خيبر بنحو من عشرين شهرا.
قوله (وكان يضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي يقول بحضرته أو يفعل ما يضحك منه، وقد
أخرج أبو يعلى من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم بسند الباب «ان رجلا كان حمارا وكان يهدى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العكة من السمن والعسل فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبسم ويأمر به فيعطى «ووقع في حديث محمد ابن عمرو بن حزم بعد قوله: «يحب اللَّه ورسوله» قال: «وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول ألم تهده إلى؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر بثمنه»
وهذا مما يقوى أن صاحب الترجمة والنعيمان واحد واللَّه أعلم.
قوله: (قد جلده في الشراب) أي بسبب شربه الشراب المسكر وكان فيه مضمرة أي كان قد جلده، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم بسنده هذا عند عبد اللَّه الرزاق «أتى برجل قد شرب الخمر فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد أربع مرات» .
قوله: (ما أكثر ما يؤتى به) في رواية الواقدي «ما يضرب» وفي رواية معمر «ما أكثر ما يشرب وما أكثر ما يجلد» .
_________
[ () ] قوله: (لا تلعنوه)
في رواية الواقدي «لا تفعل يا عمر»
وهذا قد يتمسك به من يدعى اتحاد القصتين، وهو لما بينته من اختلاف الوقتين، ويمكن الجمع بأن ذلك وقع للنعيمان ولابن النعيمان وأن اسمه عبد اللَّه ولقبه حمار، واللَّه أعلم.
قوله: (فو اللَّه ما علمت إنه يحب اللَّه ورسوله)
كذا للأكثر بكسر الهمزة، ويجوز على رواية ابن السكن الفتح والكسر، وقال بعضهم الرواية بفتح الهمزة.
وفي هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب وقد تقدم القول فيه في كتاب الأدب، وهو محمول هنا على أنه كان لا يكرهه، أو أنه ذكر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يسمى بعبد اللَّه، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نسب إلى البلادة فأطلق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك. وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهى عن لعنه والأمر بالدعاء له. وفيه أن لا تنافى بين ارتكاب النهى وثبوت محبة اللَّه ورسوله في قلب المرتكب لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب اللَّه ورسوله مع وجوب ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة اللَّه ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفى الايمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفى كماله كما تقدم، ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة اللَّه ورسوله في قلب العاصي مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه شيء حتى يسلب منه، نسأل اللَّه العفو والعافية. وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة.
وله من طريق أخرى عن أبى هريرة، أخرجها عبد الرزاق، وأحمد، والترمذي تعليقا، والنسائي، كلهم من رواية سهيل بن أبى صالح، عن أبيه عنه بلفظ «إذا شربوا فاجلدوهم ثلاثا، فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم «وروى عن عاصم بن بهدلة عن أبى صالح فقال أبو بكر بن عياش عن أبى صالح عن أبى سعيد كذا أخرجه حبان من رواية عثمان بن أبى شيبة عن أبى بكر.
أخرجه الترمذي عن أبى كريب عنه فقال: «عن معاوية» بدل «أبى سعيد» وهو المحفوظ. وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عنه، وتابعه الثوري وشيبان بن عبد الرحمن وغيرهما عن عاصم، ولفظ الثوري عن عاصم «ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه»
وخرج البخاري [ (1) ] وأبو داود [ (2) ] من حديث يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه قال أبو هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك اللَّه فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا لا تعينوا الشيطان عليه.
***
[ () ] ووقع في رواية أبان عند أبى داود «ثم إن شربوا فاجلدوهم» ثلاث مرات بعد الأولى ثم قال:» إن شربوا فاقتلوهم» .
ثم ساقه أبو داود من طريق حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال: «وأحسبه قال في الخامسة ثم إن شربها فاقتلوه «قال وكذا في حديث عطيف في الخامسة، قال: أبو داود «وفي رواية عمر بن أبى سلمة عن أبيه وسهيل بن أبى صالح عن أبيه كلاهما عن أبى هريرة في الرابعة «وكذا في رواية عبد اللَّه بن عمرو بن العاص والشريد.
وفي رواية معاوية: «فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه
«وقال الترمذي بعد تخريجه:
وفي الباب عن أبى هريرة والشريد وشرحبيل بن أوس وأبى الرمداء وجرير وعبد اللَّه بن عمرو وقلت: وقد ذكرت حديث أبى هريرة، وأما حديث الشريد وهو ابن أوس الثقفي فأخرجه أحمد والدارميّ والطبراني وصححه الحاكم بلفظ «إذا شرب فاضربوه» وقال في آخره «ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه.
[ (1) ](فتح الباري) : 12/ 77، كتاب الحدود، باب (4) الضرب بالجريد والنعال، حديث رقم (6777) ، وأخرجه أيضا في باب (5) ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج عن الملة، حديث رقم (6780) ، وقد سبق تخريجه وشرحه.
[ (2) ](سنن أبى داود) : 4/ 620، كتاب الحدود، باب (36) الحد في الخمر، حديث رقم (4477) .