الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السادسة عشرة: أنه يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يلعن شيئا غير سبب يقتضيه لأن لعنته رحمه، واستبعد ذلك من عداه
.
ذكر ابن القاصّ أنه يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يلعن شيئا من غير سبب يقتضيه، لأن لعنته رحمة، واستبعد ذلك من عداه، والتحقيق أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه إذا سب رجلا ليس بذلك حقيقا أن يجعل اللَّه سب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له كفارة.
ودليله: ما
في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اللَّهمّ إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر، فأى المؤمنين آذيته، أو شتمته، أو لعنته، فاجعلها له صلاة، وزكاة، وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة [ (1) ] .
[ () ] كان ينوب في القضاء بمصر وله تصانيف. وقال السلفي: كان من الثقات الأثبات، شافعيّ المذهب والاعتقاد، مرضى الجمة، مات بمصر سنة أربع وخمسين واربع مائة.
(تهذيب سير أعلام النبلاء) : 2/ 357- 358، (سير أعلام النبلاء) : 18/ 92- 93، (الأنساب) :
10/ 181- 182، (اللباب) : 3/ 43، (وفيات الأعيان) : 4/ 212- 213، (مرآة الجنان) : 3/ 75، (الوافي بالوفيات) : 3/ 116- 117، (كشف الظنون) : 1/ 165، (شذرات الذهب) : 3/ 293، (هداية العارفين) : 2/ 71، (الرسالة المستطرفة) :76.
[ (1) ]
رواه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من آذنيه فاجعله زكاة ورحمة، ومسلم في البر والصلة، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سب ودعا عليه، حديث رقم (2601) ، (2602) .
قال الإمام النووي: وفي رواية: أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة، وفي رواية: فأى المؤمنين شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة، وزكاة، وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة.
وفي رواية: إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه.... وفي رواية: إني اشترطت على ربى فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا، وزكاة وقربة.
ولهذا لما ذكر مسلم رحمه الله في صحيحه فضل معاوية بن أبى سفيان، أورد أولا هذا الحديث ثم أتبعه بحديث:
لا أشبع اللَّه بطنه.
فتحصل منهما مزية لمعاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] . وهذا من جملة أمانة مسلم رحمه الله، وقد أوردت كلا الحديثين بطرقهما في موضعهما من هذا الكتاب [ (2) ] .
[ () ] هذه الأحاديث مبينة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته، والاعتناء بمصالحهم، والاحتياط لهم، والرغبة في كل ما ينفعهم.
وإنما كان يقع هذا منه صلى الله عليه وسلم النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا، ولا متفحشا، ولا لعانا، ولا منتقما لنفسه، وقد سبق
أنهم قالوا: ادع على دوس، فقال صلى الله عليه وسلم: اللَّهمّ أهدد دوسا، وقال: اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.
واللَّه تعالى أعلم. (شرح النووي) .
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 16/ 392- 393، كتاب البر والصلة والآداب، باب (25) من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة،
حديث رقم (2604) ولفظه: عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة، وقال: اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: لا أشبع اللَّه بطنه.
قال ابن المثنى: قلت لأمية: ما حطأني؟ قال: قفدنى قفدة.
الحطء: بفتح الحاء، وإسكان الطاء بعدها همزة، هو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين.
وإنما فعل هذا بابن عباس ملاطفة وتأنيسا، وأما دعاؤه على معاوية أن لا يشبع حين تأخر، ففيه الجوابان السابقان: أحدهما: أنه على اللسان بلا قصد، والثاني: أنه عقوبة له لتأخره.
وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية، لأنه في الحقيقة يصير دعاء له.
وفي هذا الحديث جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام، وفيه جواز إرسال صبي غيره ممن يدل عليه في مثل هذا، ولا يقال: هذا تصرف في منفعة الصبى، لأن هذا قدر يسير، ورد الشرع بالمسامحة به للحاجة، واطرد به العرف، وعمل المسلمين. واللَّه تعالى أعلم.
[ (2) ](إمتاع الأسماع) : بتحقيقنا: 2/ 250.
وقال الرافعي في قوله صلى الله عليه وسلم اللَّهمّ إني اتخذت عندك عهدا.... الحديث، وهذا قريب من جعل الحدود كفارات لأهلها. قال العلماء: وذلك في حق المسلمين، كما نطق به الخبر، فإنه دعا على الكفار والمنافقين ولم يكن لهم رحمة.
فإن قيل: إن كان المدعو عليه يستحق الدعاء فكيف يجعله رحمة له؟
وإن كان لا يستحقه فكيف يدعو على من لا يستحق الدعاء؟.
أجيب بأنه يجوز أن يكون مستحقا للدعاء عليه شرعا غير أن رأفته صلى الله عليه وسلم وشفاعته تقتضي أن يدعو له لارتكابه ما نهى عنه، والعاصي أولى وأحق أن يدعو له. وقد يكون الدعاء عليه سببا لزيادة عصيانه، ويجوز أن لا يكون مستحقا للدعاء في الباطن، وهو يستحقه ظاهرا، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحكم بالظاهر.
ويجوز أن يكون المراد به ما صدر منه على صيغة الدعاء، واللعن، والسب، وليس المراد حقيقة ذلك، كما جرت به عادة العرب في كلامها، كقوله: تربت يمينك، وعقرا وحلقا. فخشي صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة، فسأل اللَّه أن يجعل ذلك رحمة وكفارة.
فإن قيل: قد قال في الحديث: إنما أنا بشر، أغضب كما يغضب البشر، وذلك يقتضي أن سبه ولعنه للغضب.
أجيب بأن الماوردي قال: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعاءه وسبه وجلده، كان مما خير فيه بين أمرين: أحدهما: هذا، والثاني: زجره بأمر آخر، فحمله الغضب للَّه على أحد الأمرين المخير فيهما، وهو السب، واللعن، والجلد، فليس ذلك خارجا عن حكم الشرع، وعدّ القضاعي هذه مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم دون الأنبياء قبله.
***