الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
456 - على بن حمزة أبو الحسن الأسدىّ المعروف بالكسائىّ النحوىّ [1]
أحد الأئمة القراء من أهل الكوفة. استوطن بغداذ. كان الكسائى من أهل باحمشا «1» ، ودخل الكوفة وهو غلام، وكان يعلّم بها الرشيد ثم الأمين من بعده.
وكان قد قرأ على حمزة الزيات «2» ، فأقرأ زمانا بقراءة حمزة، ثم اختار لنفسه قراءة فأقرأ الناس بها، وقرأ عليه بها خلق كثير ببغداذ وبالرّقة وغيرهما من البلاد وحفظت عنه.
[1] ترجمته فى إشارة التعيين الورقة 33 - 34، والأنساب 482 ا- 482 ب، وبغية الوعاة 336 - 337، وتاريخ بغداد 11: 403 - 415، وتاريخ أبى الفدا 2: 17، وتاريخ ابن كثير 11: 201 - 202، وتلخيص ابن مكتوم 137 - 139، وتهذيب اللغة للأزهرى 1: 7 - 8، وابن خلكان 1: 330 - 331، وروضات الجنات 471، وشذرات الذهب 1: 321، وطبقات الزبيدى 88 - 91، وطبقات ابن قاضى شهبة 2: 147 - 154، وطبقات القرّاء 1: 535 - 540، وطبقات المفسرين للداودى 169 ب، 171 ا، وعيون التواريخ (وفيات 189)، والفهرست 29، 30، 65، 66، وكشف الظنون 1730، واللباب فى الأنساب 3: 40، ومراتب النحويين 120 - 122، ومرآة الجنان 1: 421 - 422، والمزهر 2: 407، 419، 423، 463، والمعارف لابن قتيبة 237، ومعجم الأدباء 13: 167 - 203، ومعجم البلدان 2: 28، 4: 293، والنجوم الزاهرة 2: 130، ونزهة الألباء 81 - 94.
وصنف معانى القرآن، والآثار فى القراءات. وكان قد سمع من سليمان بن أرقم «1» وأبى بكر بن عياش «2» ومحمد بن عبيد الله العرزمىّ «3» وسفيان «4» بن عيينة، وغيرهم.
روى عنه أبو توبة ميمون بن حفص «5» وأبو زكريا الفرّاء وأبو عبيد القاسم ابن سلّام وأبو عمر حفص بن عمر «6» الدّورىّ، وجماعة.
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولىّ: على بن حمزة الكسائىّ، هو على بن حمزة ابن عبد الله بن بهمن بن فيروز، مولى بنى أسد.
قال الفرّاء: إنما تعلّم الكسائىّ النحو على الكبر؛ وكان سبب تعلّمه أنه جاء يوما وقد مشى حتى أعيا، فجلس إلى الهبّاريّين- وكان يجالسهم كثيرا- فقال:
قد عيّيت، فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن! قال: كيف لحنت؟ قالوا له:
إن كنت أردت من التعب، فقل:«أعييت» ، وإن كنت تريد من انقطاع
الحيلة فقل: «عييت» (مخفّفة). فأنت من هذه الكلمة لحنت «1» . ثم قام من فوره ذلك يسأل عمن يعلّم النحو، فأرشدوه إلى معاذ الهراء «2» ، فلزمه حتى أنفد ما عنده.
ثم خرج إلى البصرة، فلقى الخليل وجلس فى حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت أسد الكوفة وتميمها وعندهما الفصاحة، وجئت إلى البصرة! فقال للخليل: من أين أخذت علمك هذا؟ فقال: من بوادى الحجاز ونجد وتهامة.
فخرج [ورجع]«3» وقد أنفذ خمس عشرة قنّينة حبر فى الكتابة عن العرب سوى ما حفظ. فلم يكن له همّ غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات، وقد جلس موضعه يونس النحوىّ، فمرت بينهم مسائل أقرّ له يونس فيها موضعه وصدّره.
وسئل: لم سميت الكسائىّ؟ فقال: لأنى أحرمت فى كساء. وقد قيل:
إنه دخل الكوفة، فجاء إلى مسجد السّبيع- وكان حمزة بن حبيب الزيات يقرئ فيه- فتقدّم الكسائىّ مع أذان الفجر؛ فجلس وهو ملتفّ بكساء من البرّكان «4» الأسود، فلما صلّى حمزة قال: من تقدّم فى الوقت يقرأ؟ قيل له: الكسائىّ أوّل من تقدّم- يعنون صاحب الكساء- فرمقه القوم بأبصارهم، وقالوا: إن كان حائكا فسيقرأ «سورة يوسف» ، وإن كان ملّاحا فسيقرأ «سورة طه» ، فسمعهم فابتدأ بسورة يوسف، فلما بلغ إلى قصّة الذئب، قرأ:(فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)
«5» بغير همز، فقال له حمزة الزيّات:[الذّئب]«6» بالهمز، فقال له الكسائىّ: وكذلك أهمز الحوت (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ)
«7» ؟ قال: لا. قال: فلم همزت «الذّئب» ولم تهمز
«الحوت» وهذا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)
وهذا (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ)
؟ فرفع حمزة بصره إلى خلّاد الأحول «1» - وكان أجمل غلمانه- فتقدّم إليه فى جماعة من أهل المجلس فناظروه، فلم يصنعوا شيئا. فقالوا: أفدنا- رحمك الله! فقال لهم الكسائىّ: تفهّموا عن الحائك؛ تقول إذا نسبت الرجل إلى الذّئب:
قد استذأب الرجل، ولو قلت: قد استذاب- بغير همز- لكنت إنما نسبته إلى الهزال، تقول: قد استذاب الرجل إذا استذاب شحمه (بغير همز)، فإذا نسبته إلى الحوت [تقول: قد استحات الرجل أى كثر أكله، لأن الحوت «2» ] يأكل كثيرا، ولا يجوز فيه الهمز. فلهذه العلة همز الذئب، ولم يهمز الحوت. وفيه معنى آخر: لا يسقط الهمز من مفرده ولا من جمعه، وأنشدهم:
أيها الذئب وابنه وأبوه
…
أنت عندى من أذؤب ضاريات
قيل: فسمّى الكسائىّ من ذلك اليوم.
وكان السبب فى اتصاله بالرشيد أنه كان عند المهدىّ مؤدّب يؤدّب الرشيد.
فدعا المهدىّ به يوما وهو يستاك، فقال له: كيف تأمر من السّواك؟ فقال:
«استك» يا أمير المؤمنين. فقال المهدىّ: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)
«3» ! ثم قال:
التمسوا لنا من هو أفهم من ذا. فقالوا: رجل يقال له علىّ بن حمزة الكسائىّ من أهل الكوفة، قدم من البادية قريبا. فكتب بإشخاصه من الكوفة. فساعة دخل عليه قال: يا علىّ بن حمزة، ما تأمر من السواك؟ قال: سك «4» يا أمير المؤمنين.
قال: أحسنت وأصبت. وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وذكر أن أبا يوسف القاضى «1» كان يقع فى الكسائىّ ويقول: أيش يحسن! إنما يحسن شيئا من كلام العرب. فبلغ الكسائى ذلك. فالتقيا عند الرشيد- وكان الرشيد يعظّم الكسائىّ لتأديبه إياه- فقال لأبى يوسف يا يعقوب: بأيش تقول فى رجل قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق؟ قال: واحدة. قال: فإن قال لها: أنت طالق أو طالق أو طالق. قال: واحدة. قال: فإن قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق. قال: واحدة. قال: فإن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق. قال: واحدة. قال [الكسائى]«2» : يا أمير المؤمنين، أخطأ يعقوب فى اثنتين وأصاب فى اثنتين.
أما قوله: طالق طالق طالق، فواحدة؛ لأن الثانيتين تأكيد؛ كما تقول: أنت قائم قائم قائم، وأنت كريم كريم كريم. وأما قوله: أنت طالق أو طالق أو طالق فهذا شكّ، وقعت فى الأولى التى تتيقّن. وأما قوله: طالق ثم طالق ثم طالق، فثلاث؛ لأنها نسق، وكذلك طالق وطالق وطالق.
وقال الشافعىّ رضى الله عنه: من أراد أن يتبحّر فى النحو فهو عيال على الكسائىّ.
وقال أبو حاتم سهل بن محمد السّجستانىّ: ورد علينا عامل من أهل الكوفة لم أر فى عمّال السلطان بالبصرة أبرع منه، فدخلت مسلّما عليه، فسألنى: من
علماؤكم بالبصرة؟ قلت: الزّيادىّ «1» أعلمنا بعلم الأصمعىّ، والمازنىّ «2» أعلمنا بالنحو، وهلال «3» الرأى أفقهنا، والشاذكونىّ «4» من أعلمنا بالحديث، وأنا- رحمك الله- أنسب إلى علم القرآن، وابن الكلبىّ «5» من أكتبنا للشروط. قال: فقال لكاتبه: إذا كان الغداة فاجمعهم إلىّ. قال: فجمعنا إليه، فقال: أيكم المازنىّ؟
قال أبو عثمان: هأنذا- يرحمك الله- قال: هل يجزئ فى كفّارة الظّهار «6» عتق عبد أعور؟ فقال المازنىّ: فلست صاحب فقه- يرحمك الله- إنما أنا صاحب عربية.
فقال: يا زيادىّ، كيف تكتب بين رجل وامرأة خالعها «7» على الثلث من صداقها؟ قال: ليس هذا من علمى، هذا من علم هلال الرأى.
قال: يا هلال، كم أسند «1» ابن عون «2» عن الحسن؟ «3» قال: ليس هذا من علمى، هذا من علم الشاذكونىّ.
قال: يا شاذكونىّ من قرأ: (تثنونى صدورهم)«4» ؟ قال: ليس هذا من علمى، هذا من علم أبى حاتم.
قال: يا أبا حاتم، كيف تكتب كتابا إلى أمير المؤمنين [تصف]«5» فيه خصاصة «6» أهل البصرة وما أصابهم فى الثمرة، وتسأله لهم النّظر والنّظرة؟ فقال:
لست- يرحمك الله- صاحب بلاغة وكتابة، أنا صاحب قرآن.
فقال: ما أقبح الرجل يتعاطى العلم خمسين سنة ولا يعرف إلّا فنّا واحدا، حتى إذا سئل عن غيره لم يحل فيه ولم يمرّ! ولكنّ عالمنا بالكوفة الكسائىّ لو سئل عن كلّ هذا لأجاب.
قال الكسائىّ: صلّيت بهارون الرشيد فأعجبتنى قراءتى، فغلطت فى آية ما أخطأ فيها صبىّ قط؛ أردت أن أقول:(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
«7» ، فقلت: لعلهم «يرجعين» . قال: فو الله ما اجترأ هارون أن يقول لى: أخطأت؛ ولكنه لما
سلّمت قال لى: يا كسائىّ، أىّ لغة هذه؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد يعثر الجواد. فقال: أمّا هذا فنعم! قال خلف «1» : كان الكسائىّ إذا كان شعبان وضع له منبر فقرأ هو على الناس فى كلّ يوم نصف سبع «2» ؛ يختم ختمتين فى شعبان، وكنت أجلس أسفل المنبر، فقرأ يوما فى سورة الكهف:(أنا أكثر)«3» [فنصب «أكثر» «4»] فعلمت أنه قد وقع فيه، فلما فرغ أقبل الناس يسألونه عن العلة فى (أكثر) لم نصبه؟ فثرت «5» فى وجوههم: إنه أراد فى فتحه أقلّ (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا)
«6» . فقال الكسائىّ (أَكْثَرُ)
، فمحوه من كتبهم. ثم قال لى: يا خلف، يكون أحد من بعدى يسلم من اللحن؟ قال: قلت: لا؛ إنما إذا لم تسلم منه أنت، فلم يسلم منه أحد بعدك، قرأت القرآن صغيرا، وأقرأت الناس كبيرا، وطلبت الآثار فيه والنحو.
وقال الفرّاء: سمعت الكسائىّ يقول: ربما سبقنى لسانى باللحن فلا يمكننى أن أردّه. أو كلاما نحو هذا.
واجتمع الكسائىّ واليزيدىّ «7» عند الرشيد فحضرت صلاة يجهر فيها، فقدّموا الكسائىّ يصلّى، فأرتج عليه قوله:(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)
فلما سلّم قال اليزيدىّ:
قارئ أهل الكوفة يرتج عليه (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)
! فحضرت صلاة يجهر فيها فقدّموا اليزيدىّ فأرتج عليه فى سورة «الحمد» فلما سلّم قال:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى
…
قال الفرّاء: قال لى قوم: ما اختلافك إلى الكسائىّ وأنت مثله فى العلم؟
فأعجبتنى نفسى فناظرته وزدت؛ فكأنى كنت طائرا أشرب من بحره.
قال خلف: أولمت وليمة، فدعوت الكسائىّ واليزيدىّ، فقال اليزيدىّ للكسائىّ: يا أبا الحسن، أمور تبلغنا وحكايات تتصل بنا، ننكر بعضها. فقال الكسائىّ: أمثلى يخاطب بهذا! وهل مع العالم من العربية إلا فضل بصاقى هذا! ثم بصق. فسكت اليزيدىّ.
قال أبو بكر الأنبارىّ: اجتمعت للكسائىّ أمور لم تجتمع لغيره؛ فكان واحد الناس فى القرآن يكثرون الأخذ عنه؛ حتى لا يضبط الأخذ عليهم. فيجمعهم ويجلس على كرسى، ويتلو القرآن من أوّله إلى آخره وهم يسمعون؛ حتى كان بعضهم ينقط المصاحف على قراءته، وآخرون يتبعون مقاطعه ومبادئه فيرسمونها فى ألواحهم وكتبهم. وكان من أعلم الناس بالنحو وواحدهم فى الغريب.
قال الكسائىّ: بعد ما قرأت القرآن على الناس رأيت النبىّ صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقال لى: أنت الكسائىّ؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: علىّ ابن حمزة؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: الذى أقرأت أمتى بالأمس القرآن؟
قلت: نعم يا رسول الله. قال: فاقرأ علىّ، قال: فلم يتأتّ على لسانى إلا:
(وَالصَّافَّاتِ)
، فقرأت عليه:(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً).
فقال: أحسنت، ولا تقل (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا)
نهانى عن الإدغام، ثم قال لى:
اقرأ، فقرأت حتى انتهيت إلى قوله تعالى:(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ)
فقال: أحسنت ولا تقل (يَزِفُّونَ)
«1» ثم قال: فلأباهيّن بك- شكّ الكسائىّ- القرّاء أو الملائكة.
واجتاز الكسائىّ بحلقة يونس بالبصرة- وكان شخص مع المهدىّ إليها- فاستند إلى أسطوانة تقرب من حلقته، فعرف يونس مكانه، فقال: ما تقول فى قول الفرزدق «1» :
غداة أحلّت لابن أصرم طعنة
…
حصين عبيطات «2» السّدائف والخمر «3»
على أىّ شئ رفع «الخمر» ؟ فأجاب الكسائىّ. فقال يونس: أشهد أن الذين رأسوا رأّسوك باستحقاق.
وقال القعقاع المقرئ: كنت عند الكسائىّ، فأتاه أعرابىّ فقال: أنت الكسائىّ؟ قال: نعم، قال (كَوْكَبٌ)
«4» ماذا؟ قال: (دُرِّيٌّ)
، و (درّىّ) و (درّئ). فالدّرىّ يشبّه بالدّرّ، والدّرىّ جار، والدّرّئ «5» يلمع، قال:
ما فى العرب أعلم منك.
قال أبو عمر الدّورىّ «6» : قرأت هذا الكتاب- معانى الكسائىّ- فى مسجد السوّاقين ببغداذ على أبى مسحل وعلى الطّوال وعلى سلمة وجماعة، فقال أبو مسحل: لو قرئ هذا الكتاب عشر مرات لاحتاج من يقرؤه أن يقرأه.
قال الفرّاء: لقيت الكسائىّ يوما فرأيته كالباكى، فقلت له: ما يبكيك؟
فقال: هذا الملك يحيى «1» بن خالد، يوجّه إلىّ فيحضرنى، فيسألنى عن الشئ؛ فإن أبطأت فى الجواب لحقنى منه عتب، وإن بادرت لم آمن الزلل. قال:
فقلت له ممتحنا: يا أبا الحسن، من يعترض عليك! قل ما شئت، فأنت الكسائى.
فأخذ لسانه بيده وقال: قطعه الله إذا إن قلت ما لا أعلم! قال أبو عمر الدّورىّ: لم يغيّر الكسائىّ شيئا من حاله مع السلطان إلا لباسه قال: فرآه بعض علماء الكوفيين وعليه جربّانات «2» عظام، فقال له: يا أبا الحسن، ما هذا الزّىّ؟ فقال: أدب من أدب السلطان، لا يثلم دينا، ولا يدخل فى بدعة، ولا يخرج عن سنّة.
وذكر ابن أبى طاهر أنّ الكسائىّ النحوىّ كتب إلى الرشيد بهذه الأبيات،- وهو يؤدّب ولده محمدا- واحتاج إلى التزويج:
قل للخليفة ما تقول لمن
…
أمسى إليك بحرمة يدلى
ما زلت مذ صار الأمين معى
…
عبدى يدى ومطيّتى رجلى
وعلى فراشى من ينّبهنى
…
من نومتى وقيامه قبلى
أسعى برجل منه ثالثة
…
موقورة منّى بلا رحل
وإذا ركبت أكون مرتدفا
…
قدام سرجى راكبا مثلى
فامنن علىّ بما يسكّنه
…
عنى وأهد الغمد للنّصل
فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء بآلتها وخادم معه برذون بسرجه ولجامه.
قلت: وهذا من الكسائىّ قبيح من وجوه: أحدها: «يدلى» لفظة قبيحة ولا سيّما فى هذه الحالة التى تعرّض لوصفها، ثم كونه ناط هذا الأمر بكون الأمين معه تغفّل، وقبيح معناه المفهوم منه: إذا رأى الأمين تحرّكت جوارحه؛ وهذا فى غاية الشّناعة. ووصف نفسه بالشّبق ردئ جدّا لمن يروم التعليم أو مقابلة الخليفة، ووصف كبر قمدّه وشدّة انتصابه أردأ وأقبح، ثم سؤاله عمّن يسكّنه عنه؛ إنما يسأل مثل هذا العرّ من يقود العاهرات. فسبحان من أذهب رشده فى هذه الصورة «1»! ومن شعر الكسائىّ فى وصف النحو:
إنما النحو قياس يتّبع
…
وبه فى كلّ أمر ينتفع
فإذا ما أبصر النحو الفتى
…
مرّ فى المنطق مرّا فاتسع
فاتقاه كلّ من جالسه
…
من جليس ناطق أو مستمع
وإذا لم يبصر النحو الفتى
…
هاب أن ينطق جبنا فانقطع
فتراه ينصب الرفع وما
…
كان من نصب ومن خفض رفع
يقرأ القرآن لا يعرف ما
…
صرّف الإعراب فيه وصنع
والذى يعرفه يقرؤه
…
وإذا ما شكّ فى حرف رجع
ناظرا فيه وفى إعرابه
…
فإذا ما عرف اللحن صدع
فهما فيه سواء عندكم
…
ليست السّنّة منا كالبدع
كم وضيع رفع النحو وكم
…
من شريف قد رأيناه وضع
قال الكسائىّ: وقفت على نجار فقلت: بكم هذان البابان؟ فقال:
بسلحتان، فحلفت ألّا أكلم عامّيا إلا بما يصلح.
مات الكسائىّ- رحمه الله فى صحبة الرشيد ببلد الرّىّ فى سنة ثمانين ومائة.
وقيل فى سنة ثلاث وثمانين ومائة. وفيها مات محمد بن الحسن «1» . وقال ثعلب:
ماتا فى يوم واحد، ودفنهما الرشيد بقرية اسمها رنبويه «2». وقال: اليوم دفنت الفقه والنحو؛ فرثاهما اليزيدىّ «3» فقال فيهما:
تصرّمت الدنيا فليس خلود
…
وما قد ترى من بهجة سيبيد
سيفنيك ما أفنى القرون التى مضت
…
فكن مستعدا فالفناء عتيد
أسيت على قاضى القضاة محمد
…
فأذريت دمعى والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا
…
بإيضاحه يوما وأنت فقيد!
وأوجعنى موت الكسائىّ بعده
…
وكادت بى الأرض الفضاء تميد
وأذهلنى عن كل عيش ولذّة
…
وأرّق عينى والعيون هجود
هما عالمان أوديا وتخرّما
…
وما لهما فى العالمين نديد
قال الفراء: لما صار الكسائى إلى رنبويه، وهو مع الرشيد فى سفره إلى خراسان اعتلّ فتمثّل «4»:
قدر أحلّك ذا النّجيل «1» وقد أرى
…
- وأبىّ «2» - مالك ذو النّجيل بدار «3»
إلّا كداركما بذى بقر «4» الحمى
…
هيهات ذو بقر من المزدار «5»
وبها مات. ويقال: بل مات بطوس هو ومحمد بن الحسن. ولما رجع الرشيد إلى العراق قال: خلفت الفقه والنحو برنبويه. وقيل: إنهما توفيا فى سنة تسع وثمانين، وبلغ عمره سبعين سنة.
قال أبو مسحل عبد الوهاب بن حريش: رأيت الكسائىّ فى النوم فقلت:
ما فعل الله بك؟ قال: غفر لى بالقرآن. قلت: ما فعل حمزة الزيات وسفيان الثورىّ؟ قال: فوقنا، ما نراهم إلا كالكوكب الدّرّى. قال محمد بن يحيى:
فلم يدع قراءته حيا ولا ميتا.
وحضر الكسائىّ حلقة يونس بالبصرة؛ فقال الكسائىّ ليونس: لم نصبت «حتّى» الفعل المستقبل؟ فقال له يونس: هذا حالها من يوم خلقت. فضحك منه الكسائىّ.
ولقى الرشيد الكسائىّ يوما فى بعض طرقه، فوقف عليه وسأله عن حاله فقال له الكسائىّ: لو لم أجتن من ثمرة الأدب إلا ما وهبه الله لى من وقوف أمير المؤمنين علىّ لكان كافيا.
وذكر أن الكسائىّ والفراء لم يقولا شعرا قطّ. وكان الكسائىّ فصيح اللسان، يتكلّم ولا يخيّل إليه أن يعرب عبارته، وهو يعرب.
وذكر محمد بن إسحاق النديم الكسائى فقال:
«ولما اشتدّت علة الكسائىّ بالرّى جعل الرشيد يدخل إليه يعوده دائما.
فسمعه يوما ينشد هذين البيتين:
قدر أحلّك ذا النّجيل وقد أرى
…
- وأبيك- مالك ذو النّجيل بدار
إلا كداركم بذى بقر الحمى
…
هيهات ذو بقر من المزدار
فقال «2» الرشيد بعد خروجه: مات الكسائى والله. قيل: وكيف يا أمير المؤمنين؟
قال: لأنه حدّثنى أن أعرابيا كان ينزل عليه فاعتل، فتمثّل شعرا قد أنشده الآن، ومات عنده. قال: فمات «3» الكسائىّ من يومه».
«وسمى الكسائىّ لأنه كان يحضر مجلس معاذ الهرّاء، والناس عليهم الحلل، وعليه كساء روذبارىّ» .
«وله من التصانيف والكتب: كتاب معانى القرآن «1» . كتاب مختصر النحو. كتاب «القراءات» . كتاب مقطوع القرآن وموصوله. كتاب اختلاف العدد. كتاب الهجاء. كتاب النوادر الأوسط. كتاب النوادر الكبير. كتاب هاءات الكناية «2» فى القرآن. كتاب الحدود فى النحو. كتاب العدد «3» ».
ذكره المرزبانىّ فقال: «أبو الحسن على بن حمزة بن عبد الله بن بهمن ابن فيروز مولى بنى أسد. روى أنه قيل للكسائىّ: لم سميت الكسائىّ؟ قال:
لأنى أحرمت فى كساء».
قال محمد بن داود بن الجراح: «ورد علىّ بن حمزة الكسائىّ بغداذ، وأدّب محمد بن الرشيد. وهو إمام أهل الكوفة فى النحو وفى القراءة، وأستاذ الفراء وعلى ابن المبارك الأحمر» .
وجمع الرشيد بينه وبين سيبويه البصرىّ فخطأه الكسائىّ وغلاماه «4» ، فأمر الرشيد بصرف سيبويه، ووصله بعشرة آلاف درهم. فلم يدخل البصرة، واستحيا مما وقع عليه، ومضى إلى فارس، فمات بها.
وقال الجاحظ: تعلّم الكسائىّ النحو بعد الكبر، فلم يمنعه ذلك من أن برع فيه. ولقى أعراب الحطمة «5» ، وكثر سماعه منهم، وقرأ القرآن وبرع فيه؛ حتى
قوى عليه وعرف إعرابه، واختار حرفا «1» فقرأ به. وكتب فى النحو كتبا مفهومة حسنة الشرح. وكان أثيرا عند الخليفة؛ حتى أخرجه من طبقة المؤدّبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين.
وقال يحيى الفرّاء: مدحنى رجل من النحوييّن وقال لى: ما اختلافك إلى الكسائىّ فأنت أعلم منه، أو مثله فى العلم!. قال: فأعجبتنى نفسى، فناظرته وسألته؛ فكأننى كنت طائرا يغرف من البحر.
وقال ابن قادم: قلت للفراء: قد بقى فى نفسك شىء من النحو؟ قال:
أشياء كثيرة. قال: فمن تحب أن تلقى فيها؟ قال: كنت أحبّ لو بقى الكسائىّ- وكان قد مات- رحمه الله.
وكان أبو زيد سعيد بن أوس الأنصارىّ يقول: كان الكسائىّ إذا أخذ معى فى اللغة والشعر هوى، وإذا أخذ فى النحو علا.
وقال الأصمعىّ: أرسل إلىّ الكسائىّ بأبى نصر، وقال: لست أعرض لك فى الشعر والغريب والمعانى، فدعنى والنحو. فوجّهت إليه: ما كلمتك قطّ فى النحو إلا بحجة أصحابى، وقد تركت ذلك لك.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ: ما رأيت فى الصّنعة أحذق من أربعة:
الأصمعىّ بالشعر، والكسائىّ بالنحو، ومنصور زلزل بضرب العود، وبرصوما «2»
بالزمر. قيل له: وما بلغ من حذقهم؟ قال: كنت إذا رأيت كتاب إنسان منهم فى صناعته لم تنازعك نفسك إلى أن تكون فى تلك الصناعة على أكثر مما سمعت.
وقال الأخفش سعيد بن مسعدة: قدم الكسائىّ إلينا البصرة مرتين؛ كان فى الأولى كذا وكذا؛ فأما فى الثانية فلم يتعلّق عليه بشىء.
وقال أحمد بن الحارث الخزّاز: كان الكسائىّ ممّن وسم بالتعليم، واكتسب به مالا كثيرا، وكان سخيا جميل الأخلاق.
وقال أبو حاتم: سمعت الكسائىّ يقول: رأيت بالبادية أعرابيين؛ أحدهما أسود والآخر أحمر، فسألت الأسود فلم أجد عنده شيئا، وسألت الأحمر فكأنما يأخذ العلم من شاربه. فقال لى الأحمر: ما رأيت رجلا أعلم بكلمة إلى جنبها كلمة أشبه شىء بها، أبعد شىء منها منك. قال: فكتبت هذا الكلام عنه.
وروى الفرّاء عن الكسائىّ قال: كنت أسأل أعرابيا عن كلمة صواب، وأسأله عن كلمة خطأ يقارب لفظها؛ أمتحنه بذلك، فقال لى: ما رأيت رجلا يأتى بكلمة إلى جنبها كلمة، أشبه شىء بها، أبعد شىء منها منك.
وروى إبراهيم بن إسماعيل الكاتب قال: قال أبو زياد الكلابىّ: ما رأيت أحدا أوقع على كلمة إلى جنبها كلمة أقرب شىء بها أبعد شىء منها منك.
وروى سلمة «1» عن الفراء عن الكسائىّ: قال: كنت بالبادية، فرآنى أعرابىّ وأنا أكتب فقال لى: ما رأيت رجلا يكتب الكلمة ومعها أخرى تشبهها كأنها أختها أو أمها مثلك.
وروى سلمة عن الأخفش قال: كان الكسائىّ جاءنا البصرة، فسألنى أن أقرأ عليه، أو أقرئه كتاب سيبويه ففعلت. فوجه إلىّ خمسين دينارا وجبة وشى.