الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
495 - على بن المبارك الأحمر النحوىّ [1]
صاحب على بن حمزة الكسائىّ. كان مؤدب الأمين، وهو أحد من اشتهر بالتقدّم فى النحو واتساع الحفظ. وجرت بينه وبين سيبويه مناظرة لما قدم بغداذ.
[1] ترجمته فى الأنساب للسمعانى 20 ا- 21 ب، وبغية الوعاة 334، وتاريخ بغداد 12:
104 -
105، وتلخيص ابن مكتوم 155 - 157، وطبقات الزبيدى 95، وطبقات ابن قاضى شهبة 2: 180، ومراتب النحويين، والمزهر 2: 410، ومعجم الأدباء 13:
5 -
11. واسمه فى معجم الأدباء: «على بن الحسن». والأحمر فى الأصل: صفة للرجل الذى فيه الحمرة. قال السيوطى فى البغية ص 436: «الأحمر أربعة؛ أشهرهم اثنان: خلف البصرىّ وعلى بن الحسن الكوفى. والثالث أبان بن عثمان الطولونىّ والرابع أبو عمرو الشيبانىّ إسحاق ابن مرار» .
قال أبو العباس أحمد بن يحيى: كان علىّ بن المبارك الأحمر مؤدب «1» الأمين يحفظ أربعين ألف بيت شاهد فى النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب. ولما أحضر سيبويه فى دار يحيى بن خالد البرمكىّ لمناظرة الكسائىّ حضر الأحمر قبل حضور الكسائىّ، فألقى الأحمر على سيبويه مسألة. فأجاب فيها. فقال له الأحمر: أخطأت. وألقى عليه أخرى فأجاب، فقال له: أخطأت،- وكان الأحمر حادا حافظا- فغضب سيبويه، فقال له الفراء:[إن «2»] معه عجلة. وأخذ الفراء فى الكلام مع سيبويه «3» .
وقال على بن المبارك الأحمر هذا: قعدت مع الأمين ساعة من نهار، فوصل إلىّ فيها ثلاثمائة ألف درهم. فانصرفت وقد استغنيت. ولم يصر إلى أحد قط من التأديب ما صار إليه. وقد ذكر أن اسمه على بن الحسن.
قال عبد الصمد بن المعذّل: رأيت الأصمعىّ بمكة، وقد جاءه الأحمر؛ فألقى إليه مسائل من الغريب، فجعل يجيبه. وكان الأحمر كأنه مجنون فى سؤاله وحركته.
ولما انقضت المسائل تمثل بشعر ابن مقبل «4» :
وقد بريت قداحا أنت مرسلها
…
ونحن راموك فانظر كيف ترمينا
ثم سأله الأصمعىّ عن بيت فلم يجبه، فسأله عن ثان فلم يجبه، ثم سأله عن ثالث فلم يجبه وتلجلج، فقال الأصمعىّ «5»:
تلجلج مضغة فيها أنيض
…
أصلّت فهى فوق الكشح داء «1»
غصصت بنيئها فبشمت عنها
…
وعندى لو طلبت «2» لها دواء
فقال الأحمر للأصمعىّ: ما يتعرض لك فى اللغة إلّا مجنون.
وكان الأحمر هذا فى أوّل أمره من الجند، من رجالة النوبة على باب الرشيد، وكان يحب علم العربية ولا يقدر على مجالس الكسائى إلا فى أيام غير نوبته، وكان يرصد مصير الكسائىّ إلى دار الرشيد، ويعرض له فى طريقه كل يوم؛ فإذا أقبل تلقّاه وأخذ بردائه حتى ينزل، ثم أخذ بيده وماشاه إلى أن يبلغ إلى الستر، وسأله فى طريقه عن المسألة بعد المسألة، فإذا دخل الكسائىّ رجع إلى موضعه، فإذا خرج الكسائى من الدار تلقاه إلى الستر، وأخذ بيده فماشاه، وسأله حتى يركب ويتجاوز الموضع، ثم ينصرف إلى مكانه. ولم يزل كذلك يتعلم المسألة بعد المسألة حتى قوى وتمكن.
وكان فطنا حريصا، فلما أصاب الكسائىّ الوصح «3» فى وجهه وبدنه كره الرشيد ملازمته أولاده، وأمره أن يرتاد لهم من ينوب عنه ممن يرتضى به. وقال له:
إنك قد كبرت، ونحن نحبّ أن نريحك؛ لسنا نقطع عنك جاريك «4» ، فجعل يدافع بذلك، وينوى أن يأتيهم برجل فيغلب على موضعه. إلى أن ضيق عليه الأمر وشدد وقيل له: إن لم تأتنا أنت من أصحابك برجل ارتدنا لهم من يصلح- وكان قد بلغه أن سيبويه يريد الشخوص إلى بغداذ والأخفش- فقلق لذلك، وأراد أن يدخل إليهم من لا يخشى عاقبته، فقال للأحمر: هل فيك خير؟ قال: نعم،
قال: قد عزمت على أن أستخلفك على أولاد الرشيد، فقال الأحمر: لعلى لا أفى بما يحتاجون إليه. فقال له الكسائىّ: إنما يحتاجون فى كل يوم إلى مسألتين فى النحو، وبيتين من معانى الشعر وأحرف من اللغة، وأنا ألقّنك فى كل يوم قبل أن تأتيهم ذلك، فتحفظه وتعلّمهم، فقال: نعم. فلما ألحوا عليه قال: قد وجدت لكم من أرضاه، وإنما أخّرت ذلك حتى وجدته- وأسماه لهم- فقالوا له:
اخترت لنا رجلا من رجال النوبة، ولم تأت بأحد متقدّم فى العلم. فقال:
ما أعرف فى أصحابى فى الفهم والصيانة مثله، ولست أرضى غيره لكم. فأدخل الأحمر إلى دار، وفرش له البيت الذى فيه بفرش وخيش.
وكان الخلفاء إذا أدخلوا مؤدّبا إلى أولادهم فجلس أوّل يوم أمروا عند قيامه بحمل كل ما فى المجلس إلى منزله مع ما يوصل به، ويوهب له. فلما أراد الأحمر الانصراف إلى منزله دعى له بحمّالين، فحمل معه ذلك كله مع بزّ كثير.
فقال الأحمر: والله ما يسع بيتى هذا، وما أنا إلا فى غرفة ضيّقة فى بعض الخانات ليس فيها من يحفظه غيرى، وإنما يصلح هذا كلّه لمن له دار وأهل وكلّ شىء يشاكله. فأمر بشراء دار له وجارية، وحمل على دابة، ووهب له غلام، وأقيم له جار له ولمن عنده. وجعل يختلف إلى الكسائىّ كل عشيّة، فيتلقّن ما يحتاج إليه أولاد الرشيد ويغدو عليهم فيلقّنهم. وكان الكسائىّ يأتيهم فى الشهر مرّة أو مرّتين، فيعرضون عليه بحضرة الرشيد ما علّمهم الأحمر. وكان الكسائىّ لا يسألهم إلّا عمّا لقّنهم الأحمر، فيجيبوه عنه، فيثنى على الأحمر بذلك ويرضاه.
ولم يزل الأحمر كذلك حتى صار نحويّا، وحسنت حاله، وعرف بالأدب حتى قدّم على سائر أصحاب الكسائى. ولم يكن قبل ذلك له ذكر، ولا يعرف. ولما تمكّن
فى الرياسة صارت له الهيئة الجميلة، والتجمّل التام، والجماعة المتوقّرة، والطعام السرىّ. وإذا حضر الطلبة إلى منزله رأوا منزلا كمنازل الملوك ينفح منه الطيب، ويوسّع لهم فى المأكل والورق والأقلام والمداد، ويريهم بشرا وسرورا؛ فلا ينفصل أحد عنه إلّا شاكرا.
وكان ينصرف من مكتبه يوم الثّلاثاء فينقطع فى ذلك اليوم عن الخروج، ويجمع إليه إخوانه وأصحابه، ويوسعهم فضلا وإفضالا، فلذلك قال أبو فقعس أو أبو الجراح:
قالوا: ثلاثاؤه خصب [ومكرمة]
…
وكلّ أيّامه يوم الثلاثاء
والأحمرىّ إذا لاذوا فملوذه
…
من الطّريق ندى فى رأس ميثاء
وجاءته قريبة الدّبيريّة تسأله فلم [يفهم] ما أرادت، فقالت:
الأحمرىّ الأحمق الطّرماذ «1»
…
أحمق شخص ضمّه بغداذ
ليس له من خزيه ملاذ
وكان بين الفرّاء والأحمر وحشة؛ وذلك أن الأحمر كان قد اقترض من الفرّاء عشرة آلاف درهم، وردّها عليه مقطّعة، فاستوحشا لذلك.
ولما مات الأحمر بطريق مكّة نعى إلى الفراء، فذكره بخير وأثنى عليه. فقال أهل زمانه: لم يذكره لمحبّته له، وإنما ذكره ليكاثر أهل البصرة بأهل الكوفة.
قال الطّوال: ومات الأحمر قبل الفرّاء بمدّة. قال: أحسبه سنة أربع وتسعين ومائة، ومات الفراء سنة أربع ومائتين.