الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه
.
[2473]
حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ، وَكَانُوا يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا فَنَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا، فَأَكْرَمَنَا خَالُنَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا، فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَالَفَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ، فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا عَلَيْنَا الَّذِي قِيلَ لَهُ، فَقُلْتُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ، وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ، فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا، فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا بِحَضْرَةِ مَكَّةَ، فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا، فَأَتَيَا الْكَاهِنَ، فَخَيَّرَ أُنَيْسًا فَأَتَانَا أُنَيْسٌ بِصِرْمَتِنَا، وَمِثْلِهَا مَعَهَا قَالَ: وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا ابْنَ أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِ سِنِينَ، قُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّي، أُصَلِّي عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ، حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ، فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي، فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَرَاثَ عَلَيَّ، ثُمَّ جَاءَ، فَقُلْتُ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: شَاعِرٌ كَاهِنٌ، سَاحِرٌ،
وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ، قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ قَالَ: قُلْتُ: فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ قَالَ: فَأَتَيْتُ مَكَّةَ، فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَقَالَ: الصَّابِئَ، فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلٍّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ قَالَ:
فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ قَالَ: فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ، فَغَسَلْتُ عَنِّي الدِّمَاءَ، وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَا ابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ قَالَ: فَبَيْنَا أَهْلِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانَ، إِذْ ضُرِبَ عَلَى أَسْمِخَتِهِمْ، فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ، وَامْرَأَتَيْنِ مِنْهُمْ تَدْعُوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ قَالَ: فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي طَوَافِهِمَا، فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْأُخْرَى قَالَ: فَمَا تَنَاهَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا قَالَ: فَأَتَتَا عَلَيَّ، فَقُلْتُ: هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَةِ غَيْرَ أَنِّي لَا أَكْنِي، فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ، وَتَقُولَانِ: لَوْ كَانَ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا هَابِطَانِ قَالَ: ((مَا لَكُمَا؟ ))، قَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ
وَأَسْتَارِهَا قَالَ: ((مَا قَالَ لَكُمَا؟ ))، قَالَتَا إِنَّهُ قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلَأُ الْفَمَ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ، ثُمَّ صَلَّى، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَكُنْتُ أَنَا أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ: فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:((وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ))، ثُمَّ قَالَ:((مَنْ أَنْتَ؟ )) قَالَ: قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِ انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ، فَذَهَبْتُ آخُذُ بِيَدِهِ، فَقَدَعَنِي صَاحِبُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ:((مَتَى كُنْتَ هَا هُنَا؟ )) قَالَ: قُلْتُ: قَدْ كُنْتُ هَا هُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ قَالَ: ((فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟ )) قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ قَالَ:((إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ))، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَفَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا، ثُمَّ غَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ: ((إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ))، فَأَتَيْتُ أُنَيْسًا، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ قَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ فَأَتَيْنَا أُمَّنَا، فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، فَاحْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارًا، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ أَيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ، وَقَالَ نِصْفُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَسْلَمْنَا، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمُ الْبَاقِي، وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِخْوَتُنَا نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ)).
في هذا الحديث: أن قوم غفار- وهم قبيلة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه كانوا يحلُّون القتال في الشهر الحرام، والله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ، وكانت العرب تحترم الأشهر الحرم الأربعة، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثلاثة متوالية، والرابع: رجب الفرد الذي بين جمادى وشعبان، كانت العرب تتوقف عن القتال فيها.
وكانت الأشهر الثلاثة ذو القعدة وذو الحجة ومحرم تطول عليهم أحيانًا، فإذا طالت عليهم الأشهر بدون قتال أخَّروا شهر المحرم إلى صفر، وهذا يسمى النسيء، يحلون شهر محرم يقاتلون فيه، ثم يحرمون شهر صفر مكانه، فأنكر الله عليهم ذلك وعاب عليهم، وبين أن هذا زيادة في الكفر، قال الله تعالى:{إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عامًا} على حسب أهوائهم وشهواتهم.
وقوله: ((فَنَثَا))، أي: أشاعه وأفشاه، ونشره، وأخبرهم بالذي قيل، قال:
إن الناس يقولون: إن أنيسًا يخالفك إلى أهلك إذا غبت.
وقوله: ((وَلَا جِمَاعَ لَكَ فِيمَا بَعْدُ))، يعني: لا نجتمع معك، وسنفارقك، وغضبوا، وقالوا: أنت كدرت معروفك السابق، والآن سنفارقك ولا نجتمع معك.
وقوله: ((فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا، فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا)): الصِّرمة: مركوبهم من الإبل وغيره، والصرمة تطلق على القطعة من الإبل، أو من الغنم.
وقوله: ((فَنَافَرَ أُنَيْسٌ عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا، فَأَتَيَا الْكَاهِنَ، فَخَيَّرَ أُنَيْسًا، فَأَتَانَا أُنَيْسٌ بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا مَعَهَا))، يعني: أن أخاه أنيسًا نافر شخصًا، يعني: فاخره، وحكَّما شخصًا آخر أيهما يغلب يأخذ إبل صاحبه، فتفاخروا في الشعر، فلما تحاكما إلى كاهن خيَّر الكاهنُ أنيسًا، يعني: فضَّله على المنافر له، فساق أنيس الإبل التي معه والإبل التي مع المنفور، وكان هذا في الجاهلية قبل أن يسلم.
وقوله: ((وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا ابْنَ أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثِ سِنِينَ، قُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ)): هذه الصلاة مما بلغه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكان أبو ذر رضي الله عنه يصلي بحسب ما توارثوه عن دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذا قبل أن يسلم رضي الله عنه.
وقوله: ((قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّي))، يعني: يتوجه حيث يوجهه الله، فلم يكن يعلم أن الصلاة لا تصح إلا باستقبال القبلة.
وقوله: ((كَأَنِّي خِفَاءٌ)): خفاء: ككساء وزنًا ومعنًى، والجمع: أخفية كأكسية.
وقوله: ((فَرَاثَ عَلَيَّ))، يعني: فأبطأ عليَّ في المجيء.
وقوله: ((يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ، وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ، قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ)): يقول: إن الناس يقولون: إنه كاهن، وأنا أعرف أقوال الكهنة، وليس يشبه قولُه قولَهم، وقالوا: شاعر، وأنا أعرف أقراء الشعر، يعني: طرقه وأنواعه، فعرضت قوله- يعني: قول النبي صلى الله عليه وسلم-
على الشعر فما وجدته يوافق قول الشعر.
وقوله: ((وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)): هذا كلام أنيس رضي الله عنه يقول لأخيه أبي ذر رضي الله عنه: والله إنه لصادق، يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام في دعواه النبوة، وإنهم لكاذبون، أي: كفار قريش الذين يكذبونه، ويقولون: إنه ساحر، شاعر، كاذب.
وقوله: ((قُلْتُ: فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ مَكَّةَ)): قال أبو ذر رضي الله عنه لما قال له أخوه هذا الكلام-: أريد أن أذهب بنفسي فاكفني، يعني: انتظرني حتى أذهب أنا، وقد أراد الله تعالى بأبي ذر رضي الله عنه خيرًا، فأسلم في الحال، ثم أسلم أخوه أنيس رضي الله عنه، ثم أسلمت أمهم رضي الله عنها، ثم أسلم نصف القوم في الحال.
وقوله: ((فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ؟ ))، يعني: سألت رجلًا ظاهره أنه ضعيف حتى يأمن شره؛ لأنه لو سأل واحدًا نشيطًا أو قويًّا فقد يبطش به، فاختار واحدًا ضعيفًا، إما أنه ضعيف الجسم، أو ضعيف الرأي، فسأله: ما هذا الرجل الذي يدعي النبوة أين هو؟ ورغم ضعف هذا الرجل إلا أنه نادى قومه مُغْرِيًا بأبي ذر رضي الله عنه: ((الصَّابِئَ))، أي: خذوه، فهو منصوب على الإغراء، والصابئ: الخارج عن الدين.
وقوله: ((فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلٍّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ))، أي: فجاؤوا يضربونه بكل عظم وبكل حجر حتى خر مغشيًّا عليه، فصار يتصبب من الدماء، ثم أغمي عليه فلم يفق، فلما أفاق وجد نفسه ملطخًا بالدماء، فذهب إلى زمزم وغسل الدماء، وشرب من مائها.
وقوله: ((فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ))، أي: فصار كأنه نُصب أحمر، والنُّصب: هو الحجر الذي يعبده المشركون ويذبحون عنده القرابين، فيكون أحمرَ ملطخًا بالدماء، وهذا يدل على أنهم بالغوا في ضربه ورميه بالحجارة بمجرد ما قال: أين هذا الصابئ الذي تدعون؟ يعني: لشدة
عداوة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه، ولمن يريد أن يسلم.
وقوله: ((وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَا ابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ، مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ)): هذا من العجائب! فقد لبث ثلاثين بين يوم وليلة، يعني: خمسة عشر يومًا وخمس عشرة ليلة، ليس له طعام إلا ماء زمزم، ومع ذلك يقول: إنه سمن حتى تكسرت عكن بطنه من السمن، والعُكَن: جمع عكنة، وهو الطي في البطن من السِّمَنِ، ومعنى تكسرت: انثنى وانطوى لحم بطنه.
وقوله: ((فَبَيْنَا أَهْلِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانَ، إِذْ ضُرِبَ عَلَى أَسْمِخَتِهِمْ، فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَحَدٌ، وَامْرَأَتَيْنِ مِنْهُمْ تَدْعُوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ)): إِضْحِيَانَ- بكسر الهمزة- أي: مضيئة، يعني: ناموا في ليلة من الليالي المضيئة، فجاء للكعبة والناس قد ضُرب على أسمختهم، جمع سماخ: وهو الخرق الذي في الأذن يفضي إلى الرأس، يقال: صماخ وسماخ، والصاد أفصح وأشهر، والمراد بأسمختهم هنا: آذانهم، أي: ناموا، فهو لم يجد في الكعبة إلا امرأتين على الصفا والمروة، فحصل بينه وبينهما كلام، وعادة البيت الحرام ألَّا يخلو من طائف ليلًا أو نهارًا.
وإساف ونائلة: صنمان للعرب، وضعوا أحدهما على الصفا، والآخر على المروة، وأصلهما: أن رجلًا اسمه إساف، وامرأة اسمها نائلة فَجَر أحدهما بالآخر وفعلوا الفاحشة، فمسخهما الله حجرين، فأخذتهما قريش ووضعتهما على الصفا والمروة؛ ليعتبر الناس بهما، ثم طال الأمد فصارا صنمين يُعبدان من دون الله.
وقوله: ((فَأَتَتَا عَلَيَّ فِي طَوَافِهِمَا، فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْأُخْرَى قَالَ: فَمَا تَنَاهَتَا عَنْ قَوْلِهِمَا))، يعني: مرت المرأتان عليه وهما تطوفان فقال- منكِرًا عليهما-: أنكحا أحدهما الآخر، أنكحا إسافًا نائلةً إن كانا يعقلان، يقوله من باب السخرية بهما، يعني: كيف تدعوان حجرين؟ ! فاستمرتا في دعائهما
الصنمين من دون الله.
وقوله: ((فَقُلْتُ: هَنٌ مِثْلُ الْخَشَبَةِ غَيْرَ أَنِّي لَا أَكْنِي)): الهَنُ: الفرج، ومراده بالخشبة هنا: الفرج- أيضًا-، فهو كلمهما بهذا الكلام الذي لا يليق، يريد أن يصرفهما عن عبادتهما الصنمين من دون الله، وهذا من باب التهكم بما يعبدون من دون الله تعالى.
وقولهما: ((لَوْ كَانَ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا)): الأنفار: جمع نفر، أو نفير، وهو الذي ينفر عند الاستغاثة.
وقوله: ((فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ)): الولولة: الدعاء بالويل.
وقوله: ((فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا هَابِطَانِ قَالَ: مَا لَكُمَا؟ قَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا))، يعني: فاستقبلهما الرسول وأبو بكر، وهما تولولان، فقال: ما لكما؟ قالتا: الصابئ، أي: أبو ذر الصابئ رضي الله عنه بين الكعبة وأستارها، تكلم علينا بكلام لا يليق، وقال:((كَلِمَةً تَمْلَأُ الْفَمَ))، يعني: كلمة قبيحة ما نستطيع أن نتكلم بها.
وقوله: ((فَذَهَبْتُ آخُذُ بِيَدِهِ، فَقَدَعَنِي صَاحِبُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي))، يعني: أراد أن يأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقدعه صاحبه، يعني: كفه صاحبه وضرب يده، وهو أبو بكر رضي الله عنه.
وقوله: ((قُلْتُ: قَدْ كُنْتُ هَا هُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ، بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ))، يعني: مكث خمسة عشر يومًا وخمس عشرة ليلة، مكث هذه المدة كلها ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعنايته واهتمامه ومحبته رضي الله عنه للخير والإسلام، ولكنه جلس كل هذه المدة ولم يستطع أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم خوفًا من المشركين.
وقوله: ((إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ))، هكذا ورد في هذه الرواية، وفي رواية أخرى بزيادة لفظ:((وَشِفَاءُ سُقْمٍ))
(1)
، وأما حديث: ((مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ
(1)
أخرجه الطبراني في الصغير (295)، والبيهقي في الكبرى (9659).
لَهُ))
(1)
: فهو حديث ضعيف، لكن بعضهم حسَّنه، وقال: إن له طرقًا يكون به حسنًا لغيره.
وقوله: ((فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَفَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا))، يعني: ائذن لي في إطعام أبي ذر رضي الله عنه؛ لأنه لم يأكل طعامًا منذ خمسة عشر يومًا، فائذن لي أن أكرمه وأضيفه عندي، فأول طعام أكله بمكة هو الزبيب في ضيافة أبي بكر رضي الله عنه.
وقوله: ((ثُمَّ غَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ))، يعني: غبت عنه أيامًا، ثم جئته.
وقوله: ((إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ))، يعني: إني قد أُريت دار هجرتكم ذات نخل، فوقع في وهلي أنها اليمامة، فإذا هي يثرب، فهو صلى الله عليه وسلم يخبر أبا ذر رضي الله عنه بذلك.
وقوله: ((فَأَتَيْتُ أُنَيْسًا، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ قَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ فَأَتَيْنَا أُمَّنَا، فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ))، يعني: أتى أبو ذر أخاه أنيسًا رضي الله عنهما ودعاه إلى الإسلام، وفي الحال أسلم أخوه أنيس رضي الله عنه، وقال:((مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ))، يعني: لا أكرهه، بل أدخل فيه، ثم دعا أمه رضي الله عنها، فأسلمت، وقالت مثل قول أخيه أنيسٍ، ثم دعا قبيلته فأسلم نصفهم، وهذا خير عظيم ساقه الله إلى أبي ذر رضي الله عنه.
وقوله: ((فَاحْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارًا، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ أَيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ))، يعني: أسلم نصف قبيلة غفار في الحال؛ ولهذا دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا))، وذلك لسرعة إسلامهم،
(1)
أخرجه أحمد (14849)، وابن ماجه (3062).
وهذا فيه دليل على أن قلوبهم لينة، والله تعالى أراد بهم خيرًا، وكان يؤمهم للصلاة رئيسهم وشريفهم أيماء بن رحضة الغفاري
(1)
.
وقوله: ((وَقَالَ نِصْفُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَسْلَمْنَا، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمُ الْبَاقِي))، يعني: أن النصف الأول أسلم في الحال، والنصف الثاني أرجأ إسلامه إلى حين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وقالوا: إذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا.
وقوله: ((وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِخْوَتُنَا نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمُوا))، يعني: أن قبيلة أسلم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله، إخوتنا من غفار أسلموا، ونحن نسلم على ما أسلموا عليه، فأسلموا في الحال، وهذا خير عظيم ساقه الله تعالى إلى هاتين القبيلتين بأن شرح صدورهما للإسلام؛ فدعا لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله:((غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ)).
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ ابْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ، قُلْتُ: فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ قَالَ: نَعَمْ، وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا لَهُ وَتَجَهَّمُوا.
قوله: ((فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ، قَالَ: نَعَمْ، وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا لَهُ وَتَجَهَّمُوا))، يعني: أن أنيسًا رضي الله عنه قال لأخيه أبي ذر رضي الله عنه: كن على حذر من قريش، فـ ((قَدْ شَنِفُوا لَهُ))، يعني: أبغضوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم، ((وَتَجَهَّمُوا))، يعني: يقابلونه بوجوه غليظة، فخذ حذرك منهم.
(1)
هو خفاف بن إيماء بن رحضة بن خربة بن خلاف بن حارثة بن غفار الغفاري، كان أبوه سيد غفار، وكان هو إمام بني غفار وخطيبهم، شهد الحديبية وبايع بيعة الرضوان، يعد في المدنيين، وتوفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة. أسد الغابة، لابن الأثير (1/ 615)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر (2/ 449).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا ابْنَ أَخِي، صَلَّيْتُ سَنَتَيْنِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ كُنْتَ تَوَجَّهُ؟ قَالَ: حَيْثُ وَجَّهَنِيَ اللَّهُ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَتَنَافَرَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْكُهَّانِ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ أَخِي أُنَيْسٌ يَمْدَحُهُ حَتَّى غَلَبَهُ قَالَ: فَأَخَذْنَا صِرْمَتَهُ فَضَمَمْنَاهَا إِلَى صِرْمَتِنَا، وَقَالَ أَيْضًا فِي حَدِيثِهِ: قَالَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَإِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ: قُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((وَعَلَيْكَ السَّلَامُ مَنْ أَنْتَ؟ ))، وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا، فَقَالَ:((مُنْذُ كَمْ أَنْتَ هَا هُنَا؟ )) قَالَ: قُلْتُ: مُنْذُ خَمْسَ عَشَرَةَ، وَفِيهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتْحِفْنِي بِضِيَافَتِهِ اللَّيْلَةَ!
[2474]
وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَتَقَارَبَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ- وَاللَّفْظُ لِابْنِ حَاتِمٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الْآخَرُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي فِيمَا أَرَدْتُ فَتَزَوَّدَ، وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ- يَعْنِي: اللَّيْلَ- فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيٌّ، فَعَرَفَ أَنَّهُ
غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ، فَقَالَ: مَا أَنَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ، فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، وَلَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ، فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَقَامَهُ عَلِيٌّ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ
لَهُ: أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ هَذَا الْبَلَدَ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ؟ فَفَعَلَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتَّبِعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتَّبِعْنِي، حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي، فَفَعَلَ فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي))، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَثَارَ الْقَوْمُ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، فَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تُجَّارِكُمْ إِلَى الشَّامِ عَلَيْهِمْ، فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ بِمِثْلِهَا وَثَارُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ فَأَنْقَذَهُ.
[خ: 3861]
قوله: ((فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ ائْتِنِي)): هذا قاله أبو ذر لأخيه أنيس رضي الله عنهما؛ لأن الروايات يفسر بعضها بعضًا.
وقوله: ((وَحَمَلَ شَنَّةً)): الشنة: القربة القديمة، وتكون من الجلد، فإذا كانت قديمة برد الماء فيها سريعًا.
وقوله: ((وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ- يَعْنِي: اللَّيْلَ- فَاضْطَجَعَ))، يعني: لم يسأل أحدًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خوفًا من شر المشركين؛ لشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((مَا أَنَى لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ)): كذا في هذه النسخة، وفي بعض النسخ:((مَا آنَ))، وهما لغتان، أي: ما حان، وفي نسخٍ أُخَرَ:((أَمَا)) بزيادة ألف الاستفهام، يعني: أَمَا آن للشخص أن يخبرني عن حاله وعن حاجته؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: إن عاهدتني ألا تخبر أحدًا وتكتم عني أمري أخبرتك، فعاهده عليٌّ رضي الله عنه على ذلك، فقال له حينئذٍ: أخبرني عن هذا الرجل الذي يدعي النبوة، فقال علي رضي الله عنه: إنه رسول الله حقًّا. وقد أحسن الله تعالى بأبي ذر رضي الله عنه؛ حيث وفقه لملاقاة علي رضي الله عنه، دون غيره.
وقوله: ((فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتَّبِعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، فَإِنْ مَضَيْتُ فَاتَّبِعْنِي، حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي، فَفَعَلَ)): يقول علي لأبي ذر رضي الله عنهما: إذا كان الصباح فاتبعني، لكن إذا خفتُ عليك شيئًا قمت كأني أبول، فإذا مضيت في سيري فاتبعني، فقد زال الخوف، حتى أدخل المكان الذي أقصده، وادخل حيثما دخلت، وهذا يدل على شدة الخوف الذي كانوا يقاسونه في أول الإسلام.
قوله: ((فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ))، يعني: فانطلق أبو ذر يتبع عليًّا رضي الله عنهما، حتى دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع أبو ذر رضي الله عنه ما سمع من قول النبي صلى الله عليه وسلم أسلم في الحال، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حينئذٍ:((ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي))، يعني: ارجع إلى قبيلتك غفار، وادعهم إلى الإسلام حتى يظهره الله تعالى، ثم تأتي بعد ذلك.
وقوله: ((فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَثَارَ الْقَوْمُ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، فَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ؟ وَأَنَّ طَرِيقَ تُجَّارِكُمْ إِلَى الشَّامِ عَلَيْهِمْ، فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ بِمِثْلِهَا وَثَارُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ فَأَنْقَذَهُ)): هذا يدل على قوة إيمان
أبي ذر رضي الله عنه وتحمله، وصبره على الإيذاء في سبيل االله؛ إذ إنه أتى المسجد الحرام وصرخ بين المشركين بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فجاءه المشركون وضربوه حتى سقط على الأرض، فأنقذه العباس رضي الله عنه منهم، وخوفهم من قبيلته غفار، وقال لهم: ألا تعلموا أن هذا من غفار؟ ! فإنكم إذا ذهبتم إلى الشام للتجارة فإنكم تمرون على طريقهم، فحينئذٍ يثأرون له، فاستنقذه منهم، ثم عاد أبو ذر رضي الله عنه في اليوم الثاني وفعل مثل اليوم الأول، ففعلوا به مثل ما فعلوا، واستنقذه العباس رضي الله عنه منهم مرة أخرى.
وهذه الحادثة فيها منقبة عظيمة لأبي ذر رضي الله عنه، تدل على قوة إيمانه وصبره على الأذى في الله، وهذا هو الشاهد في مناقب أبي ذر رضي الله عنه.