الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
.
[2404]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْقَوَارِيرِيُّ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنْ يُوسُفَ بْنِ الْمَاجِشُونِ- وَاللَّفْظُ لِابْنِ الصَّبَّاحِ- حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: ((أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي))، قَالَ سَعِيدٌ: فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُشَافِهَ بِهَا سَعْدًا، فَلَقِيتُ سَعْدًا: فَحَدَّثْتُهُ بِمَا حَدَّثَنِي عَامِرٌ، فَقَالَ: أَنَا سَمِعْتُهُ، فَقُلْتُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ؟ فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِلَّا فَاسْتَكَّتَا.
[خ: 4416]
قوله: ((فَاسْتَكَّتَا)): بتشديد الكاف، يعني: صمتا.
وفي هذا الحديث: فضيلة لعلي رضي الله عنه وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى))، وقوله:((إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي))، نفي توهم أن يكون نبيًّا؛ لأن هارون عليه السلام كان نبيًّا.
وسبب هذا الحديث- كما سيأتي-: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى تبوك استخلف عليًّا رضي الله عنه في المدينة، فما لبث أن لحقه علي رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)).
وقد احتج الرافضة بهذا الحديث على أن عليًّا رضي الله عنه هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى إبطال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وهذا من جهلهم وضلالهم؛ فإن النصوصَ في بيان قدر هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم عند الله ورسوله كثيرةٌ، زد عليه إجماع الصحابة على تقديم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان
رضي الله عنهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة.
ثم إن قوله: ((أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى))، يعني: في الاستخلاف في المدينة في غزوة تبوك، كما استخلف موسى عليه السلام هارون حين ذهب لميقات ربه للمناجاة، وليس المراد الخلافة بعده؛ بدليل أن هارون عليه السلام توفي قبل موسى عليه السلام بنحو أربعين سنة.
والرافضة ينفون النصوص الكثيرة الواردة في فضائل الصحابة رضوان الله عنهم وعلى رأسهم: أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولهذا كفروهم- والعياذ بالله- وقالوا: إنهم ارتدوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخفوا النصوص التي فيها النص على خلافة عليٍّ رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تكذيب لله؛ لأن الله تعالى زكَّى الصحابة، وعدَّلهم، ووعدهم بالجنة، فمن كفَّرهم وفسَّقهم فقد كذَّب الله، ومن كذَّب الله كفر- نسأل الله السلامة والعافية.
وليس هذا السبب الوحيد في تكفير الرافضة، بل هناك أسبابٌ أُخَرُ، منها: أنهم يعبدون آل البيت ويتوسلون بهم ويدعونهم من دون الله، بل غَلَوا فيهم ورفعوهم فوق منزلة الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، قال الخميني:((إن لأئمتنا لهم مقام لا يصل إليه ملك مقرب ولا نبي مرسل))
(1)
، نسأل الله العافية!
(1)
الحكومة الإسلامية، للخميني (ص 52).
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ:((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)).
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ- وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ- قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ- وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ- عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي))، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ:((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)) قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا، فَقَالَ:((ادْعُوا لِي عَلِيًّا))، فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} ، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، وَفَاطِمَةَ، وَحَسَنًا، وَحُسَيْنًا، فَقَالَ:((اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي)).
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ:((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى)).
قوله: ((أَبَا التُّرَابِ)): هذه كنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقوله: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟ ))، قال النووي رحمه الله:((ليس فيه تصريح بأن معاوية أمر سعدًا بسبِّ علي رضي الله عنهم أجمعين، وإنما سأله عن السبب المانع له من السبِّ، كأنه يقول: هل امتنعت تورعًا أو خوفًا أو غير ذلك؟ فإن كان تورعًا وإجلالًا له عن السب فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر))
(1)
.
وقيل: لعل سعدًا رضي الله عنه كان في قوم يسبون عليًّا رضي الله عنه ولم يستطع الإنكار عليهم، ولكنه لم يشاركهم في سبه، فسأله معاوية رضي الله عنه عن السبب.
وقيل: المعنى: ما الذي منعك من تخطئته في اجتهاده وتصويبي؟ لأن معاوية رضي الله عنه كان له اجتهاده، وعلي رضي الله عنه كان له اجتهاده، فقاتل معاوية رضي الله عنه؛ لأنه تخلف عن البيعة بعد أن بايعه أكثر أهل الحل والعقد، ومعاوية رضي الله عنه كان له اجتهاد آخر، وهو أنه طالب بدم عثمان رضي الله عنه وهو ولي الدم، فكل منهما كان له اجتهاده، فكأنه يقول له: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده، وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ؟ فقال سعد رضي الله عنه: إن عليًّا له ثلاث مناقب، كل منقبة منها أحب إليه من حمر النعم- وهي أنفس أموال العرب، وهذا مثال تقريبي- والمعنى: خير من الدنيا وما فيها؛ لأن الدنيا لا تساوي شيئًا عند الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا))
(2)
، فمراد سعدٍ رضي الله عنه: لو كان فيه واحدة من هذه الخصال الثلاث لكان أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها.
وقوله: ((فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)): وهذه المناقب الثلاث هي:
(1)
شرح مسلم، للنووي (15/ 175).
(2)
أخرجه الترمذي (2320)، وابن ماجه (4110).
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خلفه يوم تبوك قال له: ((أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)).
الثانية: أنه دفع إليه الراية يوم خيبر، وقال قبلها:((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ))، وهذه منقبة عظيمة لعلي رضي الله عنه؛ ولهذا قال سعد رضي الله عنه يومها:((فَتَطَاوَلْنَا لَهَ))، لا رغبةً في الإمارة، وإنما رغبة في الوصف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)).
وفي رواية: ((فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ))، وهذا فيه: إثبات القضاء والقدر، وأن من قُدِّر له شيء فلن يفوته، فهؤلاء الصحابة الذين كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم تطاولوا لأخذ الراية، ولم يعطهم إياها، بل طلب شخصًا آخر بعينه لم يكن موجودًا، فمن قدر له شيء فسيأتيه.
وفيه: معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه أُتي بعلي رضي الله عنه أرمد، يقاد، فتفل صلى الله عليه وسلم في عينيه فبرأ في الحال، وهذا دليل على قدرة الله تعالى، وأنه لا يعجزه شيء، كما أخبر بذلك عن نفسه بقوله:{إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} .
الثالثة: أنه لما نزل قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} ((دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: ((اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي)).
[2405]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ- يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: ((لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ))، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ قَالَ: فَتَسَاوَرْتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ:((امْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ)) قَالَ: فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: ((قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)).
قوله: ((امْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ))، أي: على يديك، ففتح له في يوم خيبر.
وفي هذا الحديث: دليل على أن أول واجب هو الشهادتان، الشهادة لله تعالى بالوحدانية، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
وفيه: الرد على أهل الكلام الذين يقولون: أول واجب هو الشك؛ أنْ تشك فيمن حولك، ثم تنتقل من الشك إلى اليقين، وبعضهم يقول: أول واجب هو: النظر، يعني: أن تنظر وتتأمل، وبعضهم يقول: أول واجب هو: القصد إلى النظر، وهذه كلها أقوال باطلة لأهل الكلام.
والصواب: أن أول واجب هو الشهادة لله تعالى بالوحدانية، وللنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ))، والمراد: الالتزام بالإسلام والتوحيد، وليس المراد: قولهم باللسان فقط: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، بل ينطقون بهما بألسنتهم، ويعتقدونهما بقلوبهم، ويلتزمون بحقوقهما، ويبتعدون عن
نواقضهما، فإذا فعلوا ذلك فإنهم يعصمون دماءهم وأموالهم، وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم:((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ))
(1)
.
ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله: شهادة أن لا معبود بحق إلا الله، فالإله هو المعبود، والمألوه الذي تألهه القلوب محبة وخوفًا ورجاءً وإجلالًا وتعظيمًا، وفيه: الرد على أهل الكلام من الأشاعرة والصوفية وغيرهم الذين يفسرون الإله بالخالق والقادر على الخلق، ومعنى ذلك: أنهم يفسرون كلمة التوحيد بتوحيد الربوبية، وهذا باطل؛ إذ لو كان معناها: لا خالق إلا الله لكان كفار قريش موحدين؛ لأنهم يقولون: لا خالق إلا الله، ومع ذلك قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أن الكافر إذا أتى بالشهادتين يُكَف عنه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا))، فيكف عنه ولو ظن المقاتلُ أنه قالها تعوذًا، أو خوفًا من القتل، فإذا قال: لا إله إلا الله، أو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقد وجب الكف عنه، ويحكم بإسلامه، وبعد ذلك ينظر فإن التزم بأحكام الإسلام فالحمد لله، وإن فعل ما يناقضها قُتل بعد ذلك؛ لأنه مرتد حينئذٍ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة بن زيد رضي الله عنه لما كان يقاتل قومًا، فلما رفع سيفه على أحدهم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله أسامة، وأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ ! )) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا قَالَ:((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ ! )) قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (392).
(2)
أخرجه البخاري (6872).
[2406]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ- يَعْنِي: ابْنَ حَازِمٍ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ. ح، وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ- وَاللَّفْظُ هَذَا- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ- يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ:((لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ))، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كُلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ:((أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ ))، فَقَالُوا: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَيْنَيْهِ، وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا، فَقَالَ:((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)).
قوله: ((فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ))، يعني: يخوضون ويتمنون، كل واحد يتمنى أن يعطاها؛ لِمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)).
وفي هذا الحديث: مشروعية عقد الراية للجيش، وأن تكون هناك راية تُعرف، وأنه لا بد أن يكون للجيش قائد، وأن يكون للسرية أمير يُرجع إليه، حتى لا تكون المسألة فوضى.
وفيه: مشروعية تكرار الدعوة للكفار من باب الاستحباب إذا بلغتهم الدعوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ))، وقد بلغتهم
الدعوة، فإذا كان الكفار قد بلغتهم الدعوة فيستحب أن يُبلغوا مرة أخرى، وليس ذلك بواجب، فهو مخير بين أن يدعوهم مرة أخرى، وبين أن يهجم ويُغِير عليهم ويقاتلهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين، كرر الدعوة في غزوة خيبر مع أنها بَلَغَتْهم، وأغار على بني المصطلق وهم غارُّون، يعني: غافلون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، واصطفى لنفسه جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، فصارت من أمهات المسلمين
(1)
؛ لأن الدعوة قد بلغتهم.
وفيه: أن الكفار يُدعون إلى الإسلام، ويُعلمون بما يجب عليهم من حق الله تعالى، وهو التوحيد؛ ولهذا قال:((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ))، أخبِرهم بأن الله خلقهم ليوحدوه ويعبدوه، فعليهم أن يسلموا وأن يؤدوا حق الله؛ لأنهم مخلوقون لهذا.
وفيه: أنه ينبغي للداعية أن يحرص على هداية من يدعوهم.
وفيه: فضل من اهتدى على يديه رجل، وأنه خير له من الدنيا وما فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم أقسم وقال:((فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ))، يعني: من الإبل الحمر، وسواء أكان هذا الرجل المهتدي كافرًا، أم عاصيًا، أم غافلًا عن سنةٍ ما، فمن كان سبب في هدايته كان له مثل أجره.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ))
(2)
، وليس معنى:((سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ)): أن الإنسان
(1)
أخرجه أحمد (26365)، وأبو داود (3931).
(2)
أخرجه مسلم (1017).
يُحدث سُنَّة من عند نفسه، بل المراد: أنه يُظهر سُنَّة أميتت، كأن يأتي إلى بلد، أو إلى قوم لا يعرفون سنة الفجر ولا يصلونها، فيصلي سنة الفجر ويأمرهم بها، فيكون هنا سَن سُنَّة حسنة، يعني: أظهرها للناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا لما جاء قوم من الأعراب، قوم فقراء ثيابهم متمزقة، فتأثر النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك، وتغير وجهه، فدخل وخرج، ثم خطب في الناس وحثهم على الصدقة، وقال:((تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ- حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ))
(1)
، فهذا الأنصاري رضي الله عنه سبق الناس في الصدقة وشجعهم، فتتابع الناس بعده واقتدوا به.
(1)
أخرجه مسلم (1017).
[2407]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ- يَعْنِي: ابْنَ إِسْمَاعِيلَ- عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ، وَكَانَ رَمِدًا، فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَخَرَجَ عَلِيٌّ، فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ فِي صَبَاحِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ أَوْ لَيَأْخُذَنَّ بِالرَّايَةِ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ))، أَوَ قَالَ:((يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ وَمَا نَرْجُوهُ))، فَقَالُوا: هَذَا عَلِيٌّ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
[خ: 2975]
[2408]
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَشُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ، جميعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَيَّانَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ، وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ، وَغَزَوْتَ مَعَهُ وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ، لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي: وَاللَّهِ لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَقَدُمَ عَهْدِي وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوا، وَمَا لَا فَلَا تُكَلِّفُونِيهِ، ثُمَّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ، وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ:((أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ))، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ:((وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي))، فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟
أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ
مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ- يَعْنِي: ابْنَ إِبْرَاهِيمَ- عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ زُهَيْرٍ.
في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على كتاب الله وسنته، وسماهما: الثقلين؛ لأن الالتزام بهما وأداء ما أوجب الله ثقيل.
وفيه: أن الأوامر والنواهي أمر ثقيل، وهي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فامتنعتا من قبولها، قال الله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} .
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكَّر بأهل بيته، وقال:((أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي))، يعني: عليكم أن تحترموهم وتقدروهم، وتعرفوا لهم حقهم، ولا تهضموهم حقهم، ولا توصلوا إليهم شيئًا يضرهم، وأن تحبوهم وتودوهم؛ لله، ولقرابتي، كما قال الله تعالى في الآية:{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، وقد سأل حصين بن سمرة زيدًا رضي الله عنه:((مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ))، والمراد بالصدقة: الزكاة.
وهذا قول ذهب إليه بعض أهل العلم، وقال آخرون: إن الذين حرموا الصدقة هم: بنو هاشم، وبنو المطلب، وقيل: هم بنو قصي، وقيل: هم قريش كلها.
والصواب: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، دون بني عبد شمس وبني عبد مناف، وإن كانوا كلهم في درجة ومرتبة واحدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا بَنُو
هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ))
(1)
؛ فلذلك كانوا معهم، فحرموا الصدقة، لكن يعطون من الغنيمة بعد ذلك، وهذا هو الصواب.
وعليه فمن يدعي أنه من أهل البيت نأخذ بدعواه، ونعامله بها فلا نعطيه من الزكاة؛ لأنه أقر على نفسه، لكن إذا جاء يطلب من الغنيمة نقول له: أَثْبِت دعواك حتى تُعطى من الغنيمة.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَيَّانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ:((كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ)).
في هذا الحديث: الحث على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من أخذ بكتاب الله تعالى فهو على الحق، وهو منصور، ومن ترك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مخذول، وهو على الباطل والضلال.
(1)
أخرجه البخاري (3140).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ- يَعْنِي: ابْنَ إِبْرَاهِيمَ- عَنْ سَعِيدٍ- وَهُوَ ابْنُ مَسْرُوقٍ- عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقُلْنَا لَهُ: لَقَدْ رَأَيْتَ خَيْرًا، لَقَدْ صَاحَبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:((أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عز وجل، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ))، وَفِيهِ، فَقُلْنَا: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لَا، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَتَرْجِعُ إِلَى أَبِيهَا وَقَوْمِهَا، أَهْلُ بَيْتِهِ أَصْلُهُ، وَعَصَبَتُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ.
قوله: ((هُوَ حَبْلُ اللَّهِ)): حبل الله هو عهده الذي عهده إلى عباده، والموصل إلى جنته ودار كرامته، فكتاب الله تعالى هو حبله المتين، وهو الصراط المستقيم، وهو الهدى، وهو النور الذي يستضاء به، وهو الحياة، وهو الروح؛ لأنه عليه تتوقف الحياة الحقيقية، وقد سماه الله تعالى روحًا، فقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ من عبادنا} .
وقوله: ((فَقُلْنَا: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لَا)): هذه الرواية تخالف الرواية الأولى: ((نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)) فكيف يجمع بينهما؟
يجمع بينهما بأن يقال: المراد بأن نساءه لَسْنَ من أهل بيته: أنهن لسن من بني عبد المطلب، وأن المراد بقوله:((نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ))، يعني: في الاحترام والتقدير، والقيام بحقوقهن، ولكنهن لسن من أهل بيته في تحريم الصدقة، فهذا خاص بالعصبة، وهم: بنو هاشم، وبنو المطلب.
[2409]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ- يَعْنِي: ابْنَ أَبِي حَازِمٍ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ قَالَ: فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا قَالَ: فَأَبَى سَهْلٌ، فَقَالَ لَهُ: أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ، فَقُلْ: لَعَنَ اللَّهُ أَبَا التُّرَابِ، فَقَالَ سَهْلٌ: مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّتِهِ لِمَ سُمِّيَ أَبَا تُرَابٍ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ:((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ ))، فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِنْسَانٍ:((انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟ ))، فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ:((قُمْ أَبَا التُّرَابِ، قُمْ أَبَا التُّرَابِ)).
[خ: 441]
في هذا الحديث: أن بعض بني أمية كان عندهم عدوان؛ ولهذا لما تولى المدينةَ بعضُ بني مروان قال لسهل رضي الله عنه: اشتم عليًّا، فأبى، فكانوا يشتمون عليًّا رضي الله عنه، وبعضهم كانوا يشتمون العلويين، وهذا من جهلهم وضلالهم؛ ولهذا أبى سهل رضي الله عنه؛ لأنه ينبغي للإنسان أن يمتنع من الباطل.
وفيه: أنه لا بأس أن يكون للإنسان كُنيتان، فعلي رضي الله عنه يكنى: أبا الحسن، ويكنى أبا التراب.
وفيه: أن عليًّا رضي الله عنه كان يحب أن ينادى بأبي التراب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه بها.
وفيه: جواز النوم في المسجد للحاجة.
وفيه: سؤال الإنسان عن حال ابنته وزوجها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عليًّا
رضي الله عنه، وسأل ابنته رضي الله عنها، فقال:((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ )) فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي))، يعني: لم ينم القيلولة عندنا، وإنما نام في المسجد.
وفيه: أن الإنسان قد يكون بينه وبين أهله مغاضبة ولو كان من أفضل الناس وخير الناس، فعلي رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين ومن المبشرين بالجنة، وفاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة، وقد حصل بينهما مغاضبة في بعض أمور الدنيا.
وفيه: أن الإنسان لو حصل مغاضبة بينه وبين أهله ينبغي له أن يخرج من البيت حتى لا يشتد الخصام والنزاع، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وهذا الفعل من أسباب إزالة الغضب، كما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه من استحباب تغيير الغضبان حالَه، فإذا كان قائمًا جلس، وإذا كان جالسًا اضطجع
(1)
، وجاء في الحديث الآخر أمره بالوضوء
(2)
؛ لكي يطفئ نار الغضب، كل هذه الأمور تخفف الغضب، وتعين على كظمه.
(1)
أخرجه أحمد (21348)، وأبو داود (4782).
(2)
أخرجه أبو داود (4784)، والطبراني في الكبير (443).