الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير
الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير
مدخل
…
الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير
الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير
أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن العظيم لحِكَم عظيمة، غايتها ونهايتها:
1-
تصحيح العقيدة.
2-
تقويم السلوك.
أما أولها: فقامت به آيات العقائد، وبنته على قواعد سليمة قوامها أركان الإيمان.
أما الثاني؛ فتفلت به آيات الأحكام على وجه اختاره الله لعباده، ضلوا إن عملوا بسواه، وكفروا إن حكموا بغيره.
وقد استحوذ هذان الركنان على جُلِّ -أو إن شئت فقل: كل- آيات القرآن الكريم، وما عداهما من آيات القصص والأمثال والوعد والوعيد لا يخرج كله عن تقرير عقيدة أو تقويم سلوك، فهو داخل في دائرة هذين الركنين، لا يخرج عنهما بحال من الأحوال.
ولكونه عليه الصلاة والسلام هو المبيِّن لما نزل؛ فقد أَوْلَى هذين الركنين جُلَّ اهتمامه وكبير عنايته، فلا تكاد تمر مناسبة أو يقع انحراف في العقيدة عن خطأ أو جهل أو عن عمد من المشركين إلا وبيَّن عليه الصلاة والسلام العقيدة الصحيحة ونقاها، من الشوائب كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس فتعود بيضاء نقية؛ بل هي المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا تكاد تقع حادثة أو قضية من القضايا إلا وبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم حِكَمَ الله فيها
بما يزول به الباطل، ويظهر به الحق، ويُذعن له المؤمنون، ويحكِّمونه فيما بينهم، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى ويسلموا تسليمًا.
بل لم يكن صلى الله عليه وسلم في كل هذا أو ذاك ينتظر وقوع حادثة أو سؤال سائل؛ بل كان يشرح لهم جوانب العقيدة، ويبسط لهم أحكام الشريعة على كل حال وفي كل آنٍ، قد يبين هذا من نفسه، وقد تنزل به آيات القرآن؛ فصار هذان منهلَيْنِ ينهل منهما العلماء الأحكام الشرعية.
إذًا فلم تكن السنة وحدها مختصة ببيان الأحكام، ولم يكن القرآن الكريم كذلك؛ بل هما معًا المصدر الحق لاستمداد كل هذا.
ولا شك أن دلالة النصوص القرآنية لا تظهر بصورة شاملة للحُكْم في كثير من الأحوال، كما أنها لا تدل بصورة قطعية على الأحكام في بعض الأحوال.
كما أن السُّنة النبوية ليست على درجة واحدة في الثبوت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هي تتفاوت بين الصحة والضعف؛ فكان لزامًا لمن أراد استنباط الأحكام الشرعية أن يأخذ بالكتاب والسُّنة معًا، فكلاهما مبيِّن للآخر بالخصوص والعموم أو الإطلاق والتقييد وغير ذلك، ولا يُنكر هذا إلا مكابر معاند.
ولهذه الاختلافات في دلالة النصوص القرآنية، وتفاوت ثبوت بعض الأحاديث، وللعَلاقة الثابتة بين الكتاب والسنة، لهذا كله أصبح المجال في غالبه مجال اجتهاد وإعمال ذهن واستنباط؛ بل سَمِّه فقهًا.
وبهذا نكون نشأة الفقه مبكرة في صدر الإسلام؛ لكن تطور الاختلاف في الفروع إلى أن يكون لكل طريقة في الاستنباط مذهب فقهي، له قواعده وأصوله ومنهجه في استخراج الأحكام؛ إنما حدث في القرن الثاني الهجري؛ حيث نشأت المذاهب الفقهية المعروفة، والمعترَف بسلامة أصولها وصحة قواعدها، وهي:
1-
المذهب الحنفي.
2-
المذهب المالكي.
3-
المذهب الشافعي.
4-
المذهب الحنبلي.
وقد ظهرت مذاهب أخرى؛ لكنها اندثرت أو لم تكن كالمذاهب الأربعة؛ من حيث: سلامتها، وكثرة أتباعها، وصحة قواعدها، وأمثلة هذا مدرسة الليث وابن أبي ليلى والأوزاعي والطبري، وأبي داود الظاهري والجعفري والزيدي والإباضي، وغير ذلك.
وقد سعى أتباع كل مذهب فقهي إلى آيات الأحكام في القرآن الكريم؛ يفردونها بالتأليف، يفسرونها حسب قواعد مذهبهم في استنباط الأحكام؛ فخرجت تفاسير لآيات الأحكام لا تكاد تجد بينها وبين كتب الفقه كبير فارق؛ ذلكم أن أصول الاستنباط وقواعده واحدة، وخالط بعضها تعصب للمذهب مذموم، وجاء بعضهاالآخر محمودًا.
فمن المؤلفات في ذلك:
- من المذهب الحنفي: تفسير أحكام القرآن لأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص، ويقع في ثلاثة مجلدات.
- ومن المذهب المالكي: تفسير أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، ويقع في أربعة مجلدات، ومنه أيضًا تفسير الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، ويقع في عشرة مجلدات كبار.
- ومن المذهب الشافعي: كتاب أحكام القرآن، جمعه أبو بكر البيهقي من نصوص الإمام الشافعي، ويقع في مجلد واحد، وأحكام القرآن للكيا الهراسي، ويقع في مجلدين، وكتاب الإكليل في استنباط التنزيل لجلال الدين السيوطي في مجلد.
- أما المذهب الحنبلي: فلم أجد تفسيرًا -مطبوعًا- لآيات الأحكام على أصول هذا المذهب، ولعل تفسير زاد المسير لابن الجوزي وإن لم يكن خاصًّا بآيات الأحكام إلا أنه حنبلي المذهب، وهناك من المخطوطات تفسير أحكام القرآن لأبي يعلى، وتفسير الخرقي، وقد سبقت الإشارة إليهما في التمهيد1.
1 انظر ص42-43.
وهناك مؤلفات في تفسير آيات الأحكام لغير هذه المذاهب، لا أرى موجبًا لذِكْرِها. وما ذكرتُه من أمثلة للمؤلفات ليس كل ما كتب فيها؛ فقد اعتنى العلماء في القديم بهذا اللون من التفسير، وإذا ما حوَّلنا النظر إلى العصر الحديث فلا نكاد نجد منها ما يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وقد تبين لي من مُطالعتي لهذه التفاسير أن هناك فروقًا بين المؤلفات الحديثة والمؤلفات القديمة؛ أذكر منها:
أولًا: أن غالب المؤلفات الحديثة غير شاملة لآيات الأحكام كلها؛ بل تقتصر على بعض الآيات من بعض السور، ولعل سبب ذلك أن هذه المؤلفات إنما وضعت لطلبة الدراسات في الكليات؛ فكان ما يُكتب فيها حسب مناهج الدراسة في هذه الكليات، بخلاف المؤلفات في القديم؛ فهي شاملة لآيات الأحكام الصريحة وغير الصريحة؛ لأنه لا يلتزم منهجًا وضعه له غيره لا يحيد عنه.
ثانيًا: أن التفاسير في العصر الحديث لا تلتزم مذهبًا بعينه، فهي تفسر آيات القرآن الكريم حسب المتبادر منها من غير توجيه لها أو صرف إلى مذهب معين؛ ولهذا فلا تجد فيها التعصب للمذهب الذي سرى في بعض المؤلفات القديمة؛ بل إن مؤلفي العصر الحديث يُصرحون في مقدِّمة تفاسيرهم بأنهم لا يلتزمون مذهبًا بعينه؛ وإنما يتبعون ما يرون أنه الحق.
ثالثًا: أن التفاسير في العصر الحديث لا تستطرد في الحديث عن فروع الفروع؛ بل تكتفي ببيان مهمات الآيات المدروسة ودلالتها من غير توسع يحوِّل التفسير إلى كتاب فقهي موسَّع بكل أبعاده وجوانبه.
وهذا خلاف بعض التفاسير القديمة التي تذكر في تفسير الآية ما لا يمت لها بصلة، ولا مكان له إلا كتب الفقه المطولة.
رابعًا: وهذا الفارق متولِّد عن الفارق الذي قبله؛ وهو أن اقتصار المؤلفات الحديثة -على ما ذكرنا- وكونها تؤلف للدارسين جعلها أقل حجمًا من المؤلفات القديمة؛ إذ لا يتجاوز حجم أكبرها مجلدين، بخلاف المؤلفات القديمة التي وصل بعضها إلى عشرة مجلدات كبار.
خامسًا: اختلاف الأسلوب بين العصرين؛ ذلكم أن المؤلِّفين في القديم يكتبون بأسلوب علمي مركز، تحتاج بعض العبارات فيه إلى شرح وبيان، خلاف الأسلوب الحديث الذي يكتب به المتأخرون؛ حيث يُوفِّي العبارة حقها؛ بل قد يزيد التوضيح إلى درجة الإطناب.
سادسًا: اعتنى بعض المؤلفين في العصر الحديث بالرد على ما يُثار حول بعض القضايا الفقهية من شبهات؛ كحد قطع يد السارق، ورجم الزاني، وتحريم الربا، وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، ولم يكن هذا موجودًا بهذا الاهتمام عند الأولين.
وبعد:
فإن هذه المزاينا وإن كان ظاهرها أنها لصالح المؤلفين في العصر الحديث؛ فإنها لا تعني أن مؤلفاتهم هي الأفضل؛ بل الأفضل لو كتب أحد المعاصرين تفسيرًا شاملًا لآيات الأحكام -كفعل السابقين- غير ملتزم بمنهج دراسي، وبأسلوب حديث، ويعتني فيه بالرد الواضح على ما يُثار من شبهات، أقول: لو وُجد هذا لكان عندي هو الأفضل، أما والأمر على غير ذلك فلكل من هؤلاء وأولئك فضل لا يُنكر.
وإذا ما أردنا أن ندرس تفسير آيات الأحكام في العصر الحديث بشيء من التفصيل؛ فإني أؤثر تقسيمها تقسيمًا عقائديًّا؛ ذلكم أن أتباع المذاهب الأربعة في الفقه كلهم ينص على أنه لا يتعصب لمذهب بعينه من المذاهب الأربعة، فآراؤهم في مجملها لا تخرج عن هذه المذاهب، ورابطتها مذهب أهل السنة.
أما الفقه الجعفري؛ فهو وإن كان مذهبًا غير معترَف به عند العلماء المعتبرين، إلا أنا رأينا عدم إغفاله ونحن نكتب عن تفسير آيات الأحكام؛ لتناول مفسري الشيعة لها، وتأويلهم لها حسب مذهبهم الشيعي، وكذا الإباضية تناول بعض مفسريهم آيات الأحكام بما يخالف المذهب الصحيح، فرغبت الإشارة إليه؛ وعلى هذا فسيكون تناولي للفقه على هذا الترتيب.
أولًا: فقه أهل السُّنة والجماعة
ثانيًا: فقه الشيعة "الإمامية الاثنا عشرية".
ثالثًا: فقه الإباضية.
علمًا أن تناولي لفقه أهل السُّنة سيكون على الإجمال ثم على التفصيل: أما الإجمال، فأعرض فيه لتفسير آيات الأحكام عند مَن فسَّر القرآن الكريم كاملًا، أما التفصيل، فدراسة لتفاسير أَفردتْ آيات الأحكام ولم تتناول سواها.
وهذا في فقه أهل السُّنة، أما فيمن سواهم فعلى الإجمال دون التفصيل؛ وذلك إما لعدم حصولي على تفسير خاص بآيات الأحكام عندهم، أو لعدم وجود هذا النوع من التفاسير لديهم.