الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحذير من البدع والمنكرات في العقائد:
وهذا السبيل في الإصلاح منتشر في تفاسيرهم وبكثرة، كيف لا وقد كانت العقائد الإسلامية في عصرهم يشوبها كثير من البدع والخرافات التي ابتدعها المبتدعون ما أنزل الله بها من سلطان.
انتشر بين المسلمين تقديس الأولياء، والتمسح بعتباتهم، ولزوم المقابر، ودعاء الأموات، والذبح لغير الله، بله العقائد المنحرفة والملل الملحدة.
وحذر رجال المدرسة الاجتماعية المسلمين مما وقع فيه أكثرهم من البدع والمنكرات؛ كتقديس الأولياء، والذبح عند قبورهم، ودعائهم لهم، واستغاثتهم واستعانتهم بهم، ففي قوله تعالى:{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} 1 قال السيد رشيد: "إن الصالحين المصلحين في الأرض هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من الهلاك ما داموا يطاعون فيها بحسب سنة الله، وقد فهم الوعاظ والفقهاء من خلفنا الجاهل خلاف ما كان يفهمه السلف الصالح من بركة الصالحين المتقدمين، وحفظ الله الأمم بهم؛ فظنوا أن المراد بهم الذين يكثرون من الصيام والقيام وقراءة الأوراد والأحزاب. كلا، إن من أصحاب الأوراد من يقوم ليلة بورد من تشريع مبتدع هو به عاصٍ لله تعالى؛ لعبادته بغير ما شرعه، فكان مما قال فيهم:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} 2؛ أي: بهلاكهم.
وفي الحديث: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" 3، كم من مصلٍّ هو مصداق لحديث:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعْدًا" 4، وكذا كان دراويش مهدي السودان وأمثالهم من المسلمين الجاهلين لهداية القرآن، فنكل بهم الإفرنج بمساعدة الفاسقين من المسلمين واستولوا على بلادهم، وقد علمنا من أخبار المهدي أنه كان على علم وبصيرة في صلاحه؛ ولكن قواده لم يكونوا بعده مثله، وصلاح دراويشه لا بصيرة فيه ولا علم"5.
1 سورة هود: من الآية 116.
2 سورة الشورى: من الآية 21.
3 قال محمد رشيد رضا معلقًا: "رواه ابن ماجه بهذا اللفظ، وأحمد والحاكم بتقديم وتأخير".
4 قال محمد رشيد رضا معلقًا: "رواه أحمد في الزهد عن ابن مسعود موقوفًا، وابن جرير عنه مرفوعًا".
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج12 ص244، 245.
وهذا الشيخ أحمد مصطفى المراغي يستدل بقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} 1 على "أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يُوجب على المؤمن أن يفكر طويلًا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف أن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه وقوارعه الشديدة وزواجره التي تخر لها الجبال سجدًا"2.
وأكد هذا الشيخ محمد عبده بتفسيره الآية نفسها بقوله: "نقرأ هذا التشديد والوعيد، ونسمعه من القارئين، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالتهم؛ حتى أنك ترى الذين يشكون في هذه البدع والأهواء، ويعترفون ببعدها عن الدين، يجارون أهلها عليها، ويمازجونهم فيها، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا: ماذا نعمل؟ ما في اليد حيلة، العامة عمى، آخر زمان.
وأمثال هذه الكلمات هو جيوش الباطل، تؤيده وتمكنه في الأرض؛ حتى يحل بأهله البلاء، ويكون من الهالكين"3.
وقد علق الأستاذ محمد رشيد رضا على تفسير أستاذه هذا بقوله: "وأعجب من هذا الذي ذكره الإمام أنك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والأهواء ينكرون على منكرها، ويسفهون رأيه، ويعدونه عابثًا أو مجنونًا؛ إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف، ويدعون مع ذلك أنهم على شيء من العلم والدين.
وأعجب من هذا الأعجب أن منهم مَن يرى أن إزالة هذه المنكرات والبدع ومقاومة هذه الأهواء والفتن جناية على الدين، ويحتج على هذا بأن العامة تحسبها من الدين، فإذا أنكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كله لا بها خاصة!! وبأنها لا تخلوا من خير يقارنها؛ كالذكر الذي يكون في المواسم
1 سورة البقرة: من الآية 145.
2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج2 ص12.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص18، 19.
والاحتفالات التي تُسمي بالموالد، وكلها بدع ومنكرات، حتى إن الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع!!
والسبب الصحيح في هذا كله هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعًا ومنكرات عليها؛ إنهم إنما سكتوا بالثمن {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} 1، وهم مع ذلك يظهرون التعجب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن، وما كانوا أشد منهم جحودًا، ولا أقوى جمودًا!
هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم، وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه، ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء، وكيف يفتونهم ويؤلفون الكتب لهم، ويخترعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة، وألزموها كتبهم -لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم؛ فسلط الله عليهم مَن لم يكن له عليهم سبيل"2.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 3 يتحدث الأستاذ عبد القادر المغربي عن نشأة الوثنية، ثم يقول:"مَن تأمل ما قلناه في مناشئ ظهور الوثنية في البشر، فهم السر في كون الدين الإسلامي يحرم إقامة الصور ونصب التماثيل وتشييد القبور وتجصيصها على رمم العظماء، وفي حديث علي رضي الله عنه: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: "لا تدع صنمًا إلا طمسته ولا قبرًا إلا سويته" 4، فإن الوثنيين كانوا يتخذون من مواثل القبور والأصنام ذكرى لرجالهم الصالحين، وليست ذكراهم لهم ذكرى عظة واعتبار؛ وإنما هي ذكرى استمداد أسرار واقتباس أنوار واستغراق واستحضار واسترزاق واستمطار والتماس منافع واستكفاء أضرار؛
1 سورة التوبة: من الآية 9.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص19.
3 سورة نوح: الآية 23.
4 رواه أحمد ومسلم وأبو داود؛ ولكن بلفظ: "ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".
فَسَدَّ دين الإسلام الذريعة بتحريم هذه المواثل؛ خشية أن تسترهب ضعفاء العقول وتستهويهم، ومن مزالق الوثنية تقربهم وتدنيهم، فلله الإسلام فما أعدله فيما شرع وحكم، وما أوضح نهجه فيما خط لنا من الهداية ورسم"1.
وفي قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2 الآية، يقول السيد رشيد رضا: "فإذا قيل لهم: إن أصله الغلو في الصالحين -ولا سيما الميتين منهم- واعتقاد تصرفهم في الكون، ودعاؤهم في طلب النفع ودفع الضَّر، وأن مثله أو منه ما كان يُحكى عن مسلمي بخارى: إن شاه نقشبند هو الحامي لها؛ فلن تستطيع الدولة الروسية الاستيلاء عليها، وما كان يُحكى من مسلمي المغرب الأقصى من حماية مولاي إدريس لفاس وسائر المغرب أن تستولي عليها فرنسا أنكروا على القائل أن هذا كذلك، وقالوا: إنما هو توسل بجاه الأولياء عند الله، وليس من المنكر أن يدفعوها بكرامتهم؛ فكرامة الأموات ثابتة كالأحياء.
وقد بينا لهم جهلهم هذا بتبدل الأسماء ومخالفتهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح من الأمة في فتوحاتهم وتأسيس ملكهم وحفظه، وخصصنا أخواننا أهل المغرب الأقصى بالإنذار منذ أنشئ المنار، وأرشدناهم إلى تنظيم قواتهم الدفاعية العسكرية، وطلب الضباط له من الدولة العثمانية، وإلى العلوم والفنون المرشدة إلى القوة والثروة والنظام، وإلا ذهبت بلادهم من أيديهم قطعًا، فقال المغوون لهم من أهل الطرائق القدد بلسان حالهم أو مقالهم: إن صاحب المنار معتزلي منكر لكرامات الأولياء، وما هو بمعتزلي ولا أشعري؛ بل هو قرآني سني.
وها هي ذي فرانسا استولت على بلادهم كما أنذرهم، وظهر أن أكبر مشايخ الطريق نفوذًا ودعوى للكرامات بالباطل كالتجانية كانوا وما زالوا من خدمة فرانسا ومساعديها على فتح البلاد واستعباد أهلها، أو إخراجهم من دين الإسلام إلى الإلحاد أو النصرانية، من حيث يدرون أو لا يدرون.
1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص62.
2 سورة هود: من الآية 101.