الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع
وتظهر أبعاد هذا الأساس لدى رجال المدرسة في قول الأستاذ الإمام محمد عبده: "وأريد أن يكون القرآن أصلًا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلًا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون"1.
ويؤكد هذا التأصيل تلميذُه السيد رشيد رضا بقوله: "إن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين، وأن حكم الله يُلتمس فيه أولًا، فإن وُجد فيه يؤخذ وعليه يعول ولا يحتاج معه إلى مأخذ آخر، وإن لم يوجد التُمس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا حين أرسله إلى اليمن، وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين"2.
وأيد هذا الشيخ محمود شلتوت قائلًا: "إن مصادر التشريع في الإسلام ثلاثة: القرآن والسنة والرأي، وهي في المصدرية على هذا الترتيب، فما وجد في القرآن أخذ منه ولا يطلب له مصدر سواه، وما لم يوجد فيه بحث عنه فيما صحت روايته وثبت وروده عن الرسول صلى الله عليه وسلم"3.
ومع هذه النصوص نصوص أخرى تميز المراد من النصوص الأولى وتظهره؛ ذلكم أن تلك النصوص السالفة قابلة لهذا وذاك، قابلة لمن يجعل القرآن هو المصدر الأول ولا يقبل معه ما يبين مجمله ولا يخصص عمومه، وقابلة لمن جعل القرآن هو المصدر الأول من غير رد لما صح من السنة، والذي يظهر أن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية كثيرًا ما يميلون إلى المراد الأول؛ فينكرون من صحيح السنة ما لا يوافق تفسيرهم لآية في القرآن الكريم، وكأن التفسير الذي مالوا إليه قد قامت أركانه، وصحت قوائمه، وتبوأ منزلة هي أقوى درجة من صحيح السنة، فردوا هذا الأخير لأجل فَهْمِهم الخاطئ.
فهذا الإمام محمد عبده ينكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر
1 فاتحة الكتاب: محمد عبده ص46.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص120.
3 الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت ص469.
فيقول: "والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد ما يثبته وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصوله إلى المشركين وأعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا؛ فإذن هو ليس بمسحور قطعًا.
وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون"1، إلى أن قال: "وعلى أي حال، فلنا -بل علينا- أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل".
وقد كفانا مؤنة الرد على الأستاذ الإمام الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- حيث قال: "وهذا الحديث الذي يرده الأستاذ الإمام رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الصحيحة، وليس من وراء صحته ما يخل بمقام النبوة؛ فإن السحر الذي أُصيب به النبي عليه الصلاة والسلام كان من قبيل الأمراض التي تَعْرِضُ للبدن بدون أن تؤثر على شيء من العقل"2، وقال:"ثم إن الحديث روايه البخاري وغيره من كتب الصحيح؛ ولكن الأستاذ الإمام -ومَن على طريقته- لا يفرقون بين رواية البخاري وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخاري، كما أنه لو صح في نظرهم فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن، وهذا في نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنة، التي هي بالنسبة للكتاب بمنزلة الْمُبَيِّن من الْمُبَيَّن، وقد قالوا: إن البيان يلتصق بالمبيَّن"3.
وخذ مثلًا لذلك -آخر- تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي لقوله
1 تفسير جزء عم: محمد عبده ص180، 181.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص240، 241.
3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص241.
تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، قال الشيخ المراغي مكتفيًا بالقرآن دون السنة:"وما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة فهو إما مؤقت وإما للكراهة فقط، ومن الأول تحريم الحُمُر الأهلية، فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر"، ومن الثاني ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"1.
لكن الشيخ المراغي جعل تحريم غير هذه الأربعة إما مؤقتًا وإما للكراهة، ولم يتحدث عما ورد بلفظ التحريم من غير علة عارضة تقيده بزمان أو مكان، وقد كفاه مؤنة هذا الصنف الأستاذ محمد رشيد رضا حيث قال:"وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى2 لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس مراد من رد تلك الأحاديث بآية الأنعام من الصحابة وغيرهم أنه لا يقبل تحريم ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن منصوصًا في القرآن؛ بل معناه أنه لا يمكن أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا جاء نص القرآن المؤكد بحله، واعتبر هذا بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسُئِلَ عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خبيثة من الخبائث"، فقال ابن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال. اهـ. فقوله "إن كان"
1 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج8 ص58.
2 جرأة غريبة من الشيخ محمد رشيد رضا على رد الأحاديث، وبكل سهولة يزعم بصيغة العموم:"وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى"، وهل يصلح هذا لرد الأحاديث بدون تتبع؟!!