الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: فقه أهل السنة والجماعة
مدخل
…
أولًا: فقه أهل السُّنة والجماعة
من المسائل الفقهية ما وافقت فيه الشيعة والإباضية أهل السنة والجماعة تمام الموافقة، أو خالفتهم فيه مخالفة لا تُذكر. ومن المسائل -وهو محصور ومعدود- ما كان الاختلاف فيه كبيرًا، وقد يصل إلى درجة التضاد، هذا النوع الأخير من المسائل هو ما أتوسع في الحديث فيه هنا، أما غيره فنذكره -إن ذكرناه- لبيان طريقة تناول هؤلاء وأولئك لآيات الأحكام ليس إلا.
ونحن نذكر رأي كل فرقة في مكانه؛ ولذا تتكرر الأبحاث حسب تكرر المذاهب؛ فتتناول مثلًا بحث نكاح المتعة
عند أهل السنة عامة، ثم عند مفسري آيات الأحكام آحادًا، ثم نتناوله بإيراد آراء الشيعة عند دراسة فقههم وهكذا.
أولًا: غسل الرِّجْلين في الوُضوء
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1 الآية. اتفق أصحاب المذاهب الأربعة أن فرض الرجلين الغسل وليس المسح، وبسطوا في ذلك حججهم ومنهم؛ الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- حيث قال في تفسيرها: "في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} ثلاث قراءات: واحدة شاذة، واثنتان متواترتان؛ أما الشاذة: فقراءة الرفع، وهي قراءة الحسن، وأما المتواترتان: فقراءة النصب وقراءة الخفض؛ أما النصب فهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية حفص من السبعة، ويعقوب من الثلاثة.
1 المائدة: آية 6.
وأما الجر، فهو قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. أما قراءة النصب فلا إشكال فيها؛ لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه، وتقرير المعنى عليها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم؛ وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب؛ لأن الرأس يمسح بين المغسولات؛ ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة.
وأما على قراءة الجر، ففي الآية الكريمة إجمال؛ وهو أنها يُفهم منها الاكتفاء بمسح الرِّجْلين في الوضوء عن الغسل كالرأس، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، والتوعد بالنار لمن ترك ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم. "ويل للأعقاب من النار"1.
اعلم أولًا أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لها حُكْم الآيتين كما هو معروف عند العلماء، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض مع أن إعرابها النصب أو الرفع.
وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود في اللحن الذي يتحمل لضرورة الشعر خاصة، وأنه غير مسموع في العطف، وأنه لم يجز إلا عند أَمْنِ اللبس؛ فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه؛ وممن صرح به الأخفش وأبو البقاء وغير واحد، ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره له مع ثبوته في كلام العرب وفي القرآن العظيم يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعًا كافيًا.
والتحقيق أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين
…
".
ثم ذكر الشيخ الشنقيطي رحمه الله
1 صحيح البخاري: كتاب الوضوء ج1 ص49، ومسلم: كتاب الطهارة ج 1 ص213.
تعالى- عددًا من الأمثلة من الشعر العربي، فذكر بيتًا لامرئ القيس ثم لذي الرمة ثم للنابغة ثم لامرئ القيس ثانية ثم لزهير ثم لشاعر لم يسمِّه، وأورد بعد ذلك أمثلة لورود الخفض بالمجاورة في القرآن الكريم، وقال بعد هذا كله:
"وبهذا تعلم أن دعوى -كون الخفض بالمجاورة لحنًا لا يحتمل إلا لضرورة الشعر- باطلة، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين؛ إذ لم يرد تحديد الممسوح وتزيله قراءة النصب كما ذكرنا، فإن قيل: قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبيِّنة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفًا على المحل؛ لأن الرءوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
وجر ما يتبع ما جر ومن
…
راعى في الاتباع المحل فحسن
وابن مالك وإن كان أورد هذا في "إعمال المصدر" فحكمه عام؛ أي: وكذلك الفعل والوصف، كما أشار له في الوصف بقوله:
واجرر أو انصب تابع الذي انخفض
…
كمبتغي جاه ومالًا من نهض
"فالجواب" أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر -كما ذكر- تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه، وبتوعد مرتكبه بالويل من النار، بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب، فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه قولًا وفعلًا.
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: تخلَّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة -صلاة العصر- ونحن نتوضأ؛ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:"أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار". وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار". وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار". وروى الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار". وروى الإمام أحمد عن معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار". وروى ابن جرير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار"، قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما.
وثبت من أحاديث الوُضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرِّجْلين في وضوئه إما مرة أو مرتين أو ثلاثًا، على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه، ثم قال:"وهذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"1.
والأحاديث في الباب كثيرة جدًّا، وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وعدم الاتجزاء بمسحهما2.
ذلكم تفسير الشيخ الشنقيطي لهذه الآية، وقد قال بهذا أيضًا الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- ولكن باختصار فقال معددًا الأحكام التي تُؤخذ من الآية المذكورة:"الثالث عشر: الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين، ويقال فيهما ما يقال في اليدين. الرابع عشر: فيها الرد على الرافضة، على قراءة الجمهور بالنصب، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين. الخامس عشر: في الإشارة إلى مسح الخفين، على قراءة "وأَرْجُلِكم" وتكون كل من القراءتين
1 رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما. كتاب الطهارة، ج1 ص162.
2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص7-13 باختصار.
محمولة على معنى؛ فعلى قراءة النصب فيها غسلهما إن كانتا مكشوفتين، وعلى قراءة الجر فيها مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف"1.
وكذا الدكتور محمد سيد طنطاوي، فإنه أورد ملخصًا لتفسير القرطبي -رحمه الله تعالى- للآية، ثم أشار إلى أن ابن كثير عقد فصلًا أورد فيه كثيرًا من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين وجعل عنوانه:"ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لَا بُدَّ منه". وأورد بعض الأحاديث التي ساقها ابن كثير، ثم استدل ببعض الأقوال الأخرى، وختم نُقولَه هذه بقوله:"هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء، سواء أكانت القراءة بالنصب أم بالجر، وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطًا موسعًا، فليرجع إليها مَن شاء"2.
وبهذا ترى أنه اكتفى بعرض آراء العلماء السابقين المعتبرين في تفسير الآية، واكتفى بتأييد هذه الآراء.
ثانيًا: صلاة الجمعة
وقد أفاض الشيخ عطية محمد سالم -تلميذ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- في تتمته لتفسير شيخه، أفاض الحديث في أحكام صلاة الجمعة والأذان من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 3 الآية، حتى فاق في فصوله التي عقدها كثيرًا من كتب الفقه المتخصصة، ومن بين هذه الفصول فصل تحت عنوان:"حُكْم صلاة الجمعة عند الفقهاء"، قال فيه بعد إيراد الآية السابقة: "وفيه الأمر بالسعي إذا نُودي إليها، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد له صارف، ولا صارف له هنا؛ فكان يكفي حكاية الإجماع على وجوبها، كما حكاه ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما، ونقله الشوكاني، وهو قول الأئمة الأربعة رحمهم الله ولكن وُجد مَن يقول: إن
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي، ج2 ص252.
2 تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد سيد طنطاوي، ص82.
3 سورة الجمعة: من الآية 9.
الجمعة ليست بواجبة، ولعله ظن أن في الآية صارفًا للأمر عن الوجوب، وهو ما جاء في آخر السياق في قوله تعالى:{وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} ، فقالوا:"إن ألأمر لتحصيل الخير المذكور، وقد نُقل عن بعض أتباع بعض الأئمة رحمهم الله ما يُوهم أنها ليست بفرض، وهو مسطر في كتبهم، مما قد يغتبر به بعض البسطاء، ولا سيما مع ضعف الوازع وكثرة الشاغل في هذه الآونة، مما يستوجب إيراده وبيان ردِّه من أقوال أصحابهم وأئمتهم، رحمهم الله جميعًا"1.
ثم أورد أقوال أصحاب المذاهب الأربعة وأئمتهم بما يثبت به قولهم جميعًا بوجوبها، ثم قال بعدما أورده كله: "فهذه نصوص المذاهب الأربعة في وجوب الجمعة وفَرْضِها على الأعيان؛ فلم يبقَ لأحد بعد ذلك أدنى شبهة يلتمسها من أيِّ مذهب ولا تتبع شواذه للتهاون بفرض الجمعة لنيابة الظهر عنها.
ثم اعلم أن في الآية قرينة على هذا الوجوب، وأنه لا صارف للأمر عن وجوب السعي إليها؛ وذلك أن مع الأمر بالسعي إليها الأمر بترك البيع والنهي عنه، وإذا كان ترك البيع واجبًا من أجلها فما وجب هو من أجله كان وجوبه هو أَوْلَى، قال في المغني: فأمر بالسعي، ويقتضي الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى الواجب، ونهى عن البيع لئلا يشغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها، وهو واضح كما ترى، والأحاديث في الوعيد لتاركها بدون عذر مشهورة تؤكد الوجوب"2، ثم ذكر بعض الأحاديث في ذلك.
أما الشيخ جمال الدين القاسمي، فقد أوجز العبارة في أحكام صلاة الجمعة، ورَدَّ على مَن زعم فرضية الظهر بعدها، فقال رحمه الله تعالى:"وظاهره أنه لا يشرع بعدها صلاة ما، غير أنه كان صلى الله عليه وسلم يتنفل بعدها في بيته ركعتين -وفي رواية: أربعًا- وأما اعتقاد فرضية الظهر بعدها إذا تعددت؛ فتعصب مذهبي لا برهان له"3.
1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: تتمة الشيخ عطية محمد سالم، ج8 ص287.
2 المرجع السابق، ج8 ص292.
3 تفسير القاسمي: ج16 ص5804.
ثالثًا: الخمس في الغنائم:
يرى فقهاء المذاهب الأربعة أن المراد بالغنيمة ما حواه المسلمون من أموال الكفار، وذلك في قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1.
فقال الشيخ الشنقيطي في تفسيره لها: "ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار، فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أو لا؛ ولكنه تعالى بيَّن في سورة الحشر أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب أنه لا يخمس، ومصارفه التي بيَّن أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا؛ وذلك في قوله تعالى في فيء بني النضير:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} 2 الآية، ثم بيَّن شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} 3 الآية.
اعلم أولًا أن أكثر العلماء فرَّقوا بين الغنيمة والفيء؛ فقالوا: الفيء هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انتزاعه منهم بالقهر
…
وأما الغنيمة فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر
…
وقال بعض العلماء: "إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أُخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيئًا، وهذا قول قتادة رحمه الله وهو المعروف في اللغة"4.
هذا ما قاله -رحمه الله تعالى- في الغنيمة. أما تفسيره للخمس الذي يُؤخذ من هذه الغنيمة فقال عنه: "ظاهر الآية أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله
1 سورة الأنفال: من الآية 41.
2 سورة الحشر: من الآية 6.
3 سورة الحشر: من الآية 7.
4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص315، 316، باختصار.
جل وعلا، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل".
ثم قال: "والتحقيق أن نصيب الله جل وعلا ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، ذكر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم"، ثم استدل لهذا القول بعدة أدلة أعقبها بقوله:"فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يقسم خمسة أسهم؛ لأن اسم الله ذكر للتعظيم وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له جل وعلا، فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصرف نصيبه الذي هو خمس الخمس في مصالح المسلمين؛ بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفًا: "والخمس مردود عليكم"1، وهو الحق
…
". ثم ذكر الأقوال في نصيبه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وعقَّب عليها قائلًا: "ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته راجعة إلى شيء واحد؛ وهو صرفه في مصالح المسلمين"2.
أما نصيب ذوي القربى من الخمس، فقد ذكر فيه ثلاث مسائل: الأولى: هل يسقط بوفاته أم لا؟ وقال فيها: "وقد ذكرنا أن الصحيح عدم السقوط خلافًا لأبي حنيفة". أما الثانية فعن المراد بذي القربى، وقال عن ذلك:"أما ذوو القربى فهم بنو هاشم وبنو المطلب، على أظهر الأقوال دليلًا، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد". أما المسألة الثالثة: فهل يفضل ذكرهم على أنثاهم؟ ورجح -رحمه الله تعالى- أنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم3.
ثم عقب على هذه الأبحاث في الخمس بقوله: "وأما قول بعض أهل البيت كعبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله عنهم: بأن الخمس كلهم دون غيرهم، وأن المراد باليتامى والمساكين يتاماهم ومساكينهم، وقول مَن
1 الإمام أحمد: ج5 ص316، والنسائي: كتاب قسم الفيء 7، ص131.
2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص357-360، باختصار.
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص361-346، باختصار.
زعم أنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم يكون لقرابة الخليفة الذي يوليه المسلمون، فلا يخفى ضعفهما والله تعالى أعلم"1.
وخلاصة رأيه -رحمه الله تعالى- أن الخمس من الغنائم في الحروب يُقسم إلى خمسة أسهم: أما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فيصرف في مصالح المسلمين، وسهم ذوي القرى فيصرف لبني هاشم والمطلب، أما أسهم اليتامى والمساكين وابن السبيل فليس المراد بهم يتامى ومساكين أهل البيت؛ بل هو عام ليتامى ومساكن المسلمين.
وهذا الذي قاله الشيخ الشنقيطي رحمه الله هو الذي قال به أصحاب المذاهب الأربعة مع بعض الاختلافات الفرعية خلافًا للشيعة كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وهو أيضًا ما قال به طائفة المفسرين في العصر الحديث.
ومنهم الشيخ جمال الدين القاسمي؛ فقد بين هذا إجمالًا وتفصيلًا، قال في إجماله:" {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: قل أو كثر من الكفار {فَأَنَّ لِلَّهِ} أي: الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة {خُمُسَهُ} شكرًا له على نصره وإعطائه الغنيمة، و {وَلِلرَّسُولِ} أي: الذي هو الأصل في أسباب النصر، و {وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم بنو هاشم والمطلب، و {وَالْيَتَامَى} أي: مَن مات آباؤهم ولم يبلغوا؛ لأنهم ضعفاء. {وَالْمَسَاكِينِ} لأنهم أيضًا ضعفاء كاليتامى. {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق، ويريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلغ به"2. هذا ما ذكره -رحمه الله تعالى- إجمالًا، ولا موجب لذكر تفصيله خشية الإطالة.
ومن المفسرين أيضًا الذين ذكروا ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- فقال: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: أخذتم من مال الكفار قهرًا بحق، قليلًا كان أو كثيرًا". ثم قال: "وأما هذا الخمس فيقسم خمسة أسهم: سهم لله ولرسول يصرف في مصالح المسلمين العامة من غير تعيين
1 أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص328.
2 تفسير القاسمي: ج8 ص2997.
لمصلحة؛ لأن الله جعله له ولرسوله، والله ورسوله غنيان عنه؛ فعُلم أنه لعباد الله، فإذا لم يعين الله له مصرفًا دلَّ على أن مصرفه للمصالح العامة.
والخمس الثاني: لذي القربى؛ وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، وإضافة الله إلى القرابة دليلٌ على أن العلة فيه مجرد القرابة؛ فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم.
والخمس الثالث: لليتامى؛ وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار، جعل الله لهم خمس الخمس رحمة بهم؛ حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم، وقد فُقد مَن يقوم بمصالحهم.
والخمس الرابع: للمساكين؛ أي: المحتاجين الفقراء من صغار وكبار وذكور وإناث.
والخمس الخامس: لابن السبيل؛ وهو الغريب المنقطع به في غير بلده.
وبعض المفسرين يقول: "إن خمس الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف، ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء؛ بل ذلك تبع للمصلحة، وهذا هو الأَوْلَى"1.
وقد أجمل الغزالي خليل عيد -رحمه الله تعالى- المعنى العام للآية فقال: "بيَّن الله تعالى لعباده أن الأشياء التي غنموها من الكفار، وحصلوا عليها بالقوة، يجب أن تخمس؛ أي: تقسم إلى خمسة أخماس، وأن يكون خمسها لله ولرسوله، ولأقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، وللأيتام الذين فقدوا آباءهم وهم صغار لم يبلغوا الحلم، وللمساكين الذين ليس عندهم ما يكفيهم، ولأبناء السبيل المسافرين الذين يحتاجون إلى ما يساعدهم في سفرهم"2.
ولن أطيل بذكر غير مَن ذكرت، والخلاصة: أن رأي فقهاء أهل السنة أن الخمس إنما هو من غنائم الحرب، وأنه للرسول، ويصرف في مصالح المسلمين، ولبني
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي، ج3 ص169، 170.
2 تفسير سورة الأنفال: الغزالي خليل عيد، ص91.
هاشم وبني المطلب من قرابته صلى الله عليه وسلم، واليتامى والمساكن وابن السبيل من سائر أمته عليه الصلاة والسلام.
رابعًا: إِرْث الأنبياء عليهم السلام
والأنبياء لا يورثون؛ وإنما قال بأنهم يورثون بعض الرافضة، ومما استدلوا به -كما سيأتي بسط وجهه- قوله تعالى عن زكريا عليه السلام:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1، زاعمين أن الإرث هنا إرث مالي، وقد بيَّن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الموروث هنا بقوله رحمه الله تعالى:
"معنى قوله: {خِفْتُ الْمَوَالِيَ} أي: خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي أن يضيعوا الدِّين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام؛ فارزقني ولدًا يقوم بعدي بالدين حق القيام، وبهذا التفسير تعلم أن معنى قوله:{يَرِثُنِي} أنه إِرْثُ عِلْم ونبوة ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران:
"أحدهما": قوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان؛ فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدِّين.
"والأمر الثاني": ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لا يورث عنهم المال؛ وإنما يورث عنهم العلم والدين؛ فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نورَّث، ما تركنا صدقة"2. ومن ذلك أيضًا ما رواه الشيخان أيضًا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعيد وعلي والعباس رضي الله عنهم: أُنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 سورة مريم: الآيتين 5، 6.
2 البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص42، ومسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1380.
قال: "لا نورث، ما تركناه صدقة"، قالوا: نعم1.
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين تُوفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تركنا صدقة"2.
ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة"2. وفي لفظ عند أحمد: "لا تقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا".
ومن ذلك أيضًا ما رواه أحمد والترمذي وصححه3 عن أبي هريرة: أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: مَن يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن النبي لا يورث"؛ ولكن أعول مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأُنفق على مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورَّث عنهم المال؛ بل العلم والدين"4.
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- عددًا من الأحاديث في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء، وقال بعد ذلك: "وبهذا الذي قررنا تعلم أن قوله هنا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يعني: وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 5 الآية، فتلك الوراثة أيضًا وراثة عِلْمٍ ودين، والوراثة قد
1 البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص43، ومسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1377-1378.
2 صحيح البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص45، صحيح مسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1382، وأحمد ج2 ص242.
3 مسند الإمام أحمد، ج1 ص10، وسنن الترمذي: كتاب السير، ج4 ص157، وقال: حسن غريب من هذا الوجه، ولعله رحمه الله وَهِمَ حين قال: والترمذي وصححه.
4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج4 ص206، 207.
5 سورة النمل: من الآية 16.
تُطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} 1 الآية، وقوله:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 2، وقوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} 3 الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهو في المسند والسنن4، 5.
هذا بعض ما ذكره -رحمه الله تعالى- في إِرْث الأنبياء، وأكتفي به كمثال لتفسير هذه الآية عند علماء السُّنة والجماعة.
خامسًا: نكاح المتعة
أجمع فقهاء أهل السُّنة والجماعة -بل سائر المذاهب- على تحريم نكاح المتعة إلا طائفة الشيعة؛ بل صار القول بها سمة من سمات التشيع العديدة.
واستدلوا بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُن} 6 الآية، وفسرها أهل السُّنة بما مثاله في تفسير الشيخ الشنقيظي -رحمه الله تعالى- حيث قال:
"يعني: كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد
1 سورة فاطر: من الآية 32.
2 سورة الشورى: من الآية 14.
3 سورة الأعراف: من الآية 169.
4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج4 ص208، 209.
5 البخاري: كتاب العلم "الترجمة" ج1 ص10، وأحمد، ج5 ص196، وأبو داود: كتاب العلم، ج3 ص317، وابن ماجه: المقدمة، ج1 ص97، 98.
6 سورة النساء: من الآية 24.
أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض} 1 الآية، فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملًا هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، وقوله:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} 2، وقوله:{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} 3 الآية.
فالآية في عقد النكاح لا في نكاح المتعة، كما قال به مَن لا يعلم معناها، فإن قيل التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة؛ لأن الصداق لا يُسمَّى أجرًا؛ فالجواب: أن القرآن جاء فيه تسمية الصداق أجرًا في موضع لا نزاع فيه؛ لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرح به تعالى في قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه} الآية، صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسُمي أجرًا، وذلك الموضع هو قوله تعالى:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4 أي: مهورهن بلا نزاع، ومثله قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 5 الآية؛ أي: مهورهن؛ فاتضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة، فإن قيل: كان ابن عباس وأُبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، وهذا يدل على أن الآية في نكاح المتعة؛ فالجواب من ثلاثة أوجه6:
الأول: أن قولهم: إلى أجل مسمى، لم يثبت قرآنًا لإجماع الصحابة على عدم كَتْبه في المصاحف العثمانية، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن ولم يثبت كونه قرآنًا لا يستدل به على شيء؛ لأنه باطل من أصله؛ لأنه لم ينقله إلا على أنه قرآن؛ فبَطَل كونه قرآنًا ظهر بطلانه من أصله.
الثاني: أنا لو مشينا على أنه يحتج به كالاحتجاج بخبر "لآحاد" كما قال به
1 سورة النساء: من الآية 21.
2 سورة النساء: من الآية 4.
3 سورة البقرة: من الآية 229.
4 سورة النساء: من الآية 25.
5 سورة المائدة: الآية 5.
6 لكنَّه رحمه الله تعالى ذكر أربعة أوجه.
قوم، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك فهو معارض بأقوى منه؛ لأن جمهور العلماء على خلافه، ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة، وصرح صلى الله عليه وسلم بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال:"يأيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا". وفي رواية لمسلم في حجة الوداع1، ولا تعارض في ذلك لإمكان أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم فتح مكة، وفي حجة الوداع أيضًا، والجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث.
الثالث: أنا لو سلمنا تسليمًا جدليًّا أن الآية تدل على إباحة نكاح المتعة؛ فإن إباحتها منسوخة -كما صح نسخ ذلك- في الأحاديث المتفق عليها عنه صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ ذلك مرتين: الأولى يوم خيبر، كما ثبت في الصحيح، والأخرى يوم فتح مكة، كما ثبت في الصحيح أيضًا.
الرابع: أنه تعالى صرح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 2 في الموضعين، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله:{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِك} الآية. ومعلوم أن المستمتَع بها ليست مملوكة ولا زوجة؛ فمتبغيها إذن من العادين بنص القرآن، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها؛ كالميراث والعدة والطلاق والنفقة، ولو كانت زوجة لورثت واعتدَّت، ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة كما هو ظاهر"3.
1 صحيح مسلم: كتاب النكاح ج2 ص1025.
2 سورة المؤمنون: من الآية 6، وسورة المعارج: الآية 30.
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص322-324.