المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ٢

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير

- ‌الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: فقه أهل السنة والجماعة

- ‌مدخل

- ‌تفاسير آيات الأحكام:

- ‌ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنى عشرية

- ‌فرض الرجلين في الوضوء

- ‌صلاة الجمعة:

- ‌خمس الغنائم:

- ‌نكاح المتعة:

- ‌نكاح المشركات والكتابيات:

- ‌الحجاب:

- ‌إرث الأنبياء:

- ‌قطع يد السارق:

- ‌ثالثا: فقه الأباضي

- ‌مدخل

- ‌مسح الرجلين:

- ‌نكاح الكتابيات:

- ‌الإصباح على جنابة:

- ‌الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌التفسير بالمأثور في القرن الرابع عشر الهجري:

- ‌أولا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن

- ‌مدخل

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌ثانيا: الموجز في تفسير القرآن الكريم

- ‌منهجه في التفسير

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌تعريفه:

- ‌موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌رأي المؤيدين:

- ‌رأي المعارضين:

- ‌موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌أقوال المؤيدين:

- ‌أقوال المعارضين:

- ‌الرأي المختار:

- ‌أهم المؤلفات

- ‌نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:

- ‌أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي

- ‌أولا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم

- ‌ثانيًا: كشف الأسرار النورانية القرآنية

- ‌ثالثًا: الكون والإعجاز العلمي للقرآن

- ‌رابع: مع الطب في القرآن الكريم

- ‌خامسًا: الإعجاز العددي للقرآن الكريم

- ‌رأيي في هذه المؤلفات:

- ‌الباب الثالث: منهج المدرسة الاجتماعية الحديثة في التفسير

- ‌تمهيد

- ‌المراد به:

- ‌العقل في القرآن:

- ‌مكانة العقل في الإسلام:

- ‌نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة:

- ‌منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌الأساس الأول: الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم

- ‌الأساس الثاني: الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية

- ‌الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير

- ‌الأساس الرابع: إنكار التقليد وذمه والتحذير منه

- ‌الأساس الخامس: التقليل من شأن التفسير بالمأثور

- ‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات

- ‌الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع

- ‌الأساس الثامن: الشمول في القرآن الكريم

- ‌الأساس التاسع: التحذير من الإطناب

- ‌الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌الحريَّة:

- ‌التحذير من البدع والمنكرات في العقائد:

- ‌الجانب التهذيبي:

- ‌الإصلاح الاقتصادي:

- ‌قضية المرأة:

- ‌أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير القرآن الكريم المشهور "بتفسير المنار

- ‌أولا: المؤلف

- ‌ثانيا: التفسير

- ‌ثانيًا: تفسير جزء تبارك

- ‌أولًا: المؤلف

- ‌ثانيًا: التفسير

- ‌رأيي في هذا المنهج:

الفصل: ‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات

ومنه أيضًا تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 1، فقال: "أي: أن الزلزلة التي تكون حين قيام الساعة قبل قيام الناس من أجداثهم

إلخ"2.

مع أنه ورد فيما أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران بن حصين قال لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}

إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} 3، كان صلى الله عليه وسلم في سفر فقال:"أتدرون أي يوم ذلك؟ " قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: "ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم عليه السلام ابعث بعث النار

إلخ "، قال الألوسي: وحديث البعث مذكور في الصحيحين وغيرهما؛ لكن بلفظ آخر، وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة4.

هذه إشارات وتلميحات لبعض مواقفهم من التفسير بالمأثور، أحسبها تدل دلالة بينة على منهجهم في هذا اللون من التفسير.

1 سورة الحج: من الآية الأولى.

2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج17 ص84.

3 سورة الحج: الآيتين الأولى والثانية.

4 تفسير روح المعاني: لأبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي ج17 ص110، 111.

ص: 754

‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات

خلاصة موقف السلف -رحمهم الله تعالى- من الإسرائيليات ذكره ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث ذكر أن الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، وأنها على ثلاثة أقسام:

"أحدها" ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.

و"الثاني" ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

و"الثالث" ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل.

ص: 754

فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم -يقصد حديث:"وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" - وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني1.

وقد شن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية حملة شعواء على الإسرائيليات، وحذروا من تناولها في تفسير القرآن الكريم، وعابوا على المفسرين السابقين تداولهم لها، واعتبروا هذا خطأ لا يغتفر.

وهذا الأساس عندهم متولِّد من الأساس السابق تحكيم العقل وتطرفهم فيه تولد عنه رفضهم الشديد للإسرائيليات، وقد أدى بهم تطرفهم هذا إلى تكذيب بعض الإسرائيليات التي وافقت ما جاء في شريعتنا، وأدى بهم أيضًا إلى تكذيب بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة خشية أو احتمال أو للظاهر أن يكون الصحابي الذي روى الحديث سمعه من كعب الأحبار!!

وأدى بهم أيضًا إلى أن تناولوا بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- بالتجريح، وشككوا في إيمان بعض التابعين الذين شهد لهم السلف الصالح بالعدالة، وروى لهم البخاري ومسلم، ونسبوا العلماء الذين وثقوهم إلى الغفلة.

ومع هذا الموقف الصُّلْب، والرفض الحاسم الجازم، فإن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية -أو غالبهم- أباح لنفسه ما حرم على غيره؛ فقد أوردوا من الإسرائيليات ونصوص التوراة والإنجيل كثيرًا وكثيرًا؛ بل -ويا للعجب- فقد أوردوا ما يخالف النص القرآني!! وأحسب هذا -ولا شك- نتيجة كل دعوة متطرفة.

فلنرتب الأوراق ولنسق الشواهد على ما ذكرنا واحدًا واحدًا، هذه أولًا بعض النصوص لرجال المدرسة التي تبين حكم الأخبار الإسرائيلية، وهذا الأستاذ الإمام محمد عبده يقول عند تفسيره لقوله تعالى:{وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خطَايَاكُمْ} 2 الآية، فقد ذكر الأستاذ الإمام بعض أقوال المفسرين، ثم قال:

1 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص366، 367.

2 سورة البقرة: من الآية 58.

ص: 755

"ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية، ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خُدِعَ بها المفسرون، ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله تعالى"1.

وقال عن هذه التفاسير: "كما ولعوا بحشوها بالقصص والإسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن؛ لتكون بيانًا له وتفسيرًا، وجعلوا ذلك ملحقًا بالوحي والحق الذي لا مرية فيه، إنه لا يجوز إلحاق شيء بالوحي غير ما تدل عليه ألفاظه وأساليبه، إلا ما ثبت بالوحي عن المعصوم الذي جاء به ثبوتًا لا يخالطه الريب"2.

وقال الشيخ عبد العزيز جاويش عن الإسرائيليات: "وهذا وليحذر المسلمون قراءة ما جاء في تفاسير القرآن في هذا الموضوع من الإسرائيليات، وما ابتدعه أصحابها من التأويلات وغريب الروايات، فإنها مضلة للعقول، مبعدة لها عما قصده كتاب الله الحكيم"3.

وأما الشيخ محمود شلتوت فوصفها بقوله: "قيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامي فيما يختص بفَهْم القرآن والانتفاع بهداية القرآن

"4.

أما الشيخ أحمد مصطفى المراغي، فيصف رواة الإسرائيليات بأنهم "ساقوا إلى المسلمين من الآراء في تفسير كتابهم ما ينبذه العقل، وينافيه الدين، وتكذبه المشاهَدة، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم في العصور اللاحقة"5.

والأستاذ رشيد رضا هو أشد رجال المدرسة العقلية الاجتماعية حربًا على الإسرائيليات ورواتها، واقرأ قوله: "كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كُتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية والهداية السامية؛ فمنها ما يشغله

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص325.

2 المراجع السابق: ج1 ص175.

3 أسرار القرآن: عبد العزيز جاويش ص138.

4 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص9، 10.

5 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص19.

ص: 756

عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات، وأكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب"1.

وقد رد الأستاذ رشيد رضا بعض الأحاديث الصحيحة زاعمًا أنها من الإسرائيليات؛ ومن ذلك حديث البخاري الذي رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التفسير: "قيل لبني إسرئيل: ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة؛ فدخلوا يزحفون على أستاهم فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة" 2، واختاره السيوطي في التفسير فقال عنه السيد رشيد:"ما اختاره الجلال مروي في الصحيح؛ ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية"3.

وأدى به تطرفه إلى أن ذم رواة الإسرائيليات الثقات ككعب الأحبار ووهب بن منبه، فقال عن وهب عند روايته أن موسى عليه السلام كان يقرع لهم أقرب حجر فتفجر منه عيون:"وهذا من الخرافات التي اختلقها وهب، ليس لها أصل عند اليهود ولا عند المسلمين"، إلى أن قال:"وقد عدوه مع أمثال هذه الخرافات ثقة في الرواية"4.

وقال عن كعب الأحبار: "بمثل هذه الروايات كان كعب الأحبار يغش المسلمين؛ ليفسد عليهم دينهم وسُنتهم، وخُدع به الناس لإظهاره التقوى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"5.

وقال في موضع آخر: "ولكن البلية في الرواية عن مثل كعب الأحبار وممن روى عنه أبو هريرة وابن عباس ومعظم التفسير المأثور مأخوذٌ عنه وعن تلاميذه

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص7، 8.

2 صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة البقرة ج6 ص23.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص325.

4 المرجع السابق: ج9 ص343.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص459.

ص: 757

ومنهم المدلسون كقتادة، وكذا غيره من كبار المفسرين كابن جريج"1، وقال عن كعب أخيرًا: "وكعب الأحبار الذي أجزم بكذبه؛ بل لا أثق بإيمانه"2.

وقال عن كعب ووهب: "إن بطلي الإسرائيليات وينبوعي الخرافات كعب الأحبار ووهب بن منبه"3، وقال عنهما:"ولو فطن الحافظ ابن حجر لدسائسهما وخطأ من عدلهما من رجال الجرح والتعديل لخفاء تلبيسهم عليهم لكان تحقيقه لهذا البحث أتم وأكمل"4، وقال:"ثم ليعلم أن شر رواة هذه الإسرائيليات أو أشدهم تلبيسًا وخداعًا للمسلمين هذان الرجلان: كعب الأحبار ووهب بن منبه"5.

وشاركه في الهجوم الشيخ أحمد مصطفى المراغي الذي وصف بعض الروايات بقوله: "وما هي إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام والعرب كروايات وهب بن منبه وهو فارسي الأصل، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلي، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يُعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد فارس وأجلوا اليهود من الحجاز"6.

هذا غيض من فيض، من بحر ذمهم لكعب الأحبار ووهب بن منبه، مع اعترافهم في النصوص التي سقناها وفي غيرها بتعديل الجمهور وتوثيقهم لهما، واعترافهم أيضًا أن أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة قد رووا عن كعب الأحبار، فهل يعتقد هؤلاء أن الصحابة رضي الله عنهم تروي عن كذاب وضَّاع لا يوثق فيه؟! أليست روايتهم عنه تزكية له؟! أفلا نقبل إذًا بتزكية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 المرجع السابق: ج9 ص466.

2 مجلة المنار: محمد رشيد رضا ج9 المجلد 27 ص697.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص438.

4 المرجع السابق: ج9 ص442.

5 مجلة المنار: ج10 مجلد 27 ص783.

6 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج9 ص24.

ص: 758

أما كعب فقد روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي؛ بل إن الجمهور على توثيقه؛ ولذا لا تجد له ذكرًا في كتب الضعفاء والمرتوكين، وقد اتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه1.

وأما وهب فقد روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الذهبي في ميزانه: كان ثقة صادقًا كثير النقل من كتب الإسرائيليات، قال العجلي: ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء، وقد ضعفه الفلاس وحده ووثقه جماعة2، وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات3.

إذًا، فلا شك مطلقًا في خطأ رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في ذم كعب الأحبار ووهب بن منبه

ولكن مهلًا لا أقصد بهذا مطلقًا أن كل ما رُوي عنهما صحيح، ولا أقول: إنه ليس فيه كذب ولا افتراء؛ ولكن لا يعني وجود هذا أن ينسب إليهما ويحملا تبعته، فكم حديث موصوع مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نسب ظلمًا وزورًا إلى أبي هريرة أو ابن عباس أو غيرهما، فهل يجرؤ أحد -إلا معتدٍ- على التشكيك فيهما وفي عدالتهما، الأمر هناك في كعب وفي وهب كما هو هنا في أبي هريرة وابن عباس، فقد يكون الكذب من غيرهما، أو أنهما نقلاه على أنه مما في كتبهم، وهما يعتقدان صحته ولم يعلما كذبه؛ لخفاء الثابت والمحرَّف في كتب أهل الكتاب، كما قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-:"إن بعض الذي يُخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبًا؛ لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار"4، قلت: ومثل هذا يقال عن وهب.

عودة إلى الموضع في صُلْبه؛ ذلكم موقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية من رواية الإسرائيليات يظهر منه الرفض الشديد والمتطرف لها؛ ولكنهم -وبكل أسف- لم يلتزموا بأنفسهم ما دعوا إليه، وقديمًا قال الشاعر:

1 مقالات الكوثري: محمد زاهد الكوثري ص32، 33.

2 ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي ج4 ص352، 353.

3 تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني ج11 ص167.

4 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج13 ص335.

ص: 759

لا تنهَ عن خلق وتأتِيَ مثلَهُ

عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

بل لم يأتِ هؤلاء مثله، فتجاوزوا المثل، فزجوا بما لم يزج به المفسرون السابقون؛ فرووا من الإسرائيليات ما رواه السابقون، وزادوا عليهم برجوعهم بأنفسهم إلى المصادر التي أخذ منها كعب ووهب!! ولم يقل أحد منهم في نفسه ما قاله في كعب ووهب، فأباحوا لأنفهسم ما لم يبيحوه لسواهم، ونقلوا من الإسرائيليات ما يخالف النص القرآني الكريم ولم ينقدوه أو يبطلوه؛ بل وحرفوا معاني نصوص القرآن الكريم حتى توافق ما جاءوا به من الإسرائيليات.

لست أقول ما قلت من غير تأمل وتفكر، ولست ألقي الكلام على عواهنه -كما يقولون- وليس هذا من قبيل استفزاز المشاعر ضدهم؛ بل هو الحقيقة والواقع، ولنسق الأمثلة واحدًا واحدًا.

أما روايتهم لما ورد من الإسرائيليات من غير رد لها حسب منهجهم الذي ذكروه، فما أورده السيد رشيد رضا في تفسيره حيث قال: "روى نحو هذا ابن جرير، قال: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: وُكِّلَ بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونها

إلخ"1.

وقال في تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} 2: "ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة، قيل: إن المراد اضربوا المقتول بلسانها، وقيل: بفخذها، وقيل: بذنبها"3.

ومنه أيضًا ما ذكره الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في المائدة التي أُنزلت من السماء فقال: "وللعلماء في الطعام الذي نزل في المائدة آراء؛ فقيل: هو خبز وسمك، وقيل: خبز ولحم، وقيل: كان ينزل عليهم طعامًا أينما ذهبوا، كما كان ينزل

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص484.

2 سورة البقرة: من الآية 73.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351.

ص: 760

المن على بني إسرائيل، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس"1.

ومنه ما قاله أيضًا في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} 2، قال:"وقد كان العلماء قديمًا يعلمون تخلخل الهواء في الطبقات العالية في الجو، وهي نظرية لم تدرس في العلوم الطبيعية إلا حديثًا، فقد أُثِرَ عن كعب الأحبار أنه قال: إن الطير يرتفع في الجو اثني عشر ميلًا، ولا يرتفع فوق ذلك"3.

ومنه ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 4، حيث قال:"وجاء في كتب الأوائل أن في زمن "أنوش بن شيث بن آدم" ابتدأت عبادة الأوثان، وجعل الناس يسمون المخلوقات آلهة، فكان أنوش يجمع أهل بيته وذويه للصلاة والتسبيح وعبادة الله وحده، وفي زمن إدريس عليه السلام وهو "أخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش - كثر النفاق، وانغمس الناس في الآثام؛ فأنزل عليه وحي في سفر هو صحف إدريس المشهورة، ولم يبقَ من ذلك السفر سوى فِقْرَةٍ، يقولون: إنها وجدت في أطواء بعض الكتب المقدسة"5.

هذا هو النوع الأول من وقوعهم في الإسرائيليات، ينقلون منها ما نقله السابقون، أما النوع الثاني وهو نقلهم ما يخالف النص القرآني من غير تكذيب له؛ فمنه ما نقله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسيره لسورة نوح عليه السلام حيث قال:"وذكر في الأسفار القديمة أن نوحًا ولد لسنة 182 من عمر أبيه "لامك" ولسنة 1056 لجده الأكبر آدم عليه السلام ومعنى نوح: الراحة والتعزية. وكان عمر نوح 500 سنة لما أخذ يلد أولاده: سامًا وحامًا ويافث، وكان

1 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج7 ص59.

2 سورة النحل: من الآية 79.

3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج14 ص119.

4 سورة نوح: من الآية الأولى.

5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص55.

ص: 761

عمره 600 سنة لما حصل الطوفان"1.

أما مصدر المعارضة للقرآن الكريم فقد أبرزته مراقبة الثقافة بالأزهر التي علقت على الطبعة التي بين يدي عند هذا الموضع بقولها: "قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَان} 2 يفيد أن الطوفان حدث بعد أن أمضى نوح بين قومه 950 سنة؛ فالقرآن يخالف في ذلك ما نقله المؤلف عن الأسفار القديمة"3.

قلت: ولا ينفع الشيخ قوله بعد هذا: "هذا منخول ما جاء في الكتاب القديمة من خبر نوح عليه السلام ونحن معشر المسلمين لا نصدقها ولا نكذبها؛ بل نَكِلُ أمرها إلى العلم الحديث، فهو الذي يمحصها ويميز غثها من سمينها"4.

وإنما قلت: لا ينفعه هذا؛ لأن منهجنا -معشر المسلمين- ليس ما ذكر؛ بل تكذيب ما خالف النص القرآني لا التوقف أو تفويض أمره إلى العلم الحديث!

أما النوع الثالث من أنواع وقوعهم في الإسرائيليات التي حذروا منها فهو رجوعهم بأنفسهم إلى مصادر أهل الكتاب، ونقلهم منها مباشرة لمجملات القرآن الكريم وبمهماته؛ بل وجعل هذه النصوص دليلًا مرجحًا وميزانًا للمفاضلة بين أقوال المفسرين؛ بل رد التفاسير التي تخالف هذه النصوص؛ حتى قال أحدهم:"ومنه نعلم أن كل ما خالفها -أي: التوراة- من أقوال المفسرين في معنى الطمس على أموالهم، فهو من أباطيل الروايات الإسرائيلية التي كان من مقاصد كعب الأحبار وأمثاله منها، كما نرى صد اليهود عن الإسلام بما يرويه في تفسير المسلمين للقرآن مخالفًا لما هو متفق عليهم عندهم"5.

1 المرجع السابق: ص56.

2 سورة العنكبوت: الآية 14.

3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي هامش ص56.

4 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص56.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص474.

ص: 762

وأمثلة هذا النوع كثيرة جدًّا في تفاسيرهم؛ ومنها ما قاله الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في تفسير {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1، فقال:"وجاء في إنجيل يوحنا: وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته"2.

ومنه أيضًا قوله في تفسيره قوله تعالى: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 3، قال: "وقد جاء في الفصل السادس من سِفْرِ الخروج من التوراة: فقال الرب لموسى الأثرى: ما أصنع بفرعون، إنه بيد قديره سيطلقكم، وبيد قديره سيطردكم من أرضه

"4.

ومنه ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} 5 الآية، قال:"ويكفي في الاستشهاد على ذلك ما جاء في "رؤى دانيان" من أسفار العهد القديم "ورؤيا يوحنا" من أسفار العهد الجديد، وقد قال المفسرون من علماء أهل الكتاب: إنه وإن يكن يوجد في سفر دانيال حوادث غير اعتيادية، فليس هذا بمستغرب؛ لأنه يعم الكتاب المقدس تقريبًا "وقالوا في رؤيا يوحنا": إن معناها عويص، وهي مشحونة بمسائل محيرة لا يمكن حلها قبل تتمة ألف سنة"6 إلخ.

ومنه ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} 7 الآية، قال: "وهذا التابوت المعرف صندوق له قصة معروفة في كتب اليهود؛ ففي أول الفصل

1 سورة المائدة: من الآية 117.

2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج7 ص64.

3 سورة الأعراف: من الآية 129.

4 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج9 ص39.

5 سورة المدثر: من الآية 31.

6 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص95.

7 سورة البقرة: من الآية 248.

ص: 763

الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه: وكلم الرب موسى قائلًا: كلم بني إسرائيل

إلخ"1، ثم ذكر النص. وقال أيضًا: "وفي سفر تثنية الاشتراع أن موسى لما كمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون شاهدًا عليكم [31: 24-30] "2.

وقال أيضًا في موضع آخر: "وأما ما ورد في التوراة الحاضرة في شأن الألواح فمنه ما جاء في سفر الخروج من [23: 12] وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها؛ لتعلمهم الكلمات العشر، وجاء في وصف اللوحين منه [32: 15] ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده: لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا ومن هناك كانا مكتوبين"3.

أما النوع الرابع -وهو النوع الأخطر من أنواع وقوعهم في الإسرائيليات- فهو صرفهم معنى النص القرآني؛ ليوافق نصوص أهل الكتاب، ونضرب لذلك مثلًا بتفسير الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} 4 الآيات، حين مال الشيخان إلى أن المراد في الآيات بيان نوع من التشريع الموجود عند بني إسرائيل، يتوصل به إلى معرفة القاتل المجهول.

ثم يربط بين هذا المعنى وبين ما جاء في التوراة فيقول: "على أن هذا الحكم منصوص في التوراة؛ وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان، ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي

إلخ"5.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص480.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص482.

3 المرجع السابق: ج9 ص185.

4 سورة البقرة: من الآية 67.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.

ص: 764

وقد أيد الشيخ رشيد رضا ما ذهب إليه شيخُه بذكر النص الوارد في التوراة المتعلق بقتل البقرة، ثم قال بعد هذا:"فعُلم من هذا أن الأمر بذبح البقرة كان لفصل النزاع في واقعة قتل"1، ثم قال: "والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله؛ ليعرف الجاني من غيره

ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تُسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس؛ أي: يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإحياء على حد قوله تعالى:{مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [5: 32]، وقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، فالإحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين، ثم قال:{وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات"2.

وبهذا يكون الشيخ محمد عبده وتلميذه صَرَفَا معنى الآية عن أن تكون قصة واقعة أحيا الله فيها القتيل {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} ليكون آية للناس {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} صرفا هذه الآيات عن هذا المعنى إلى أنها وردت لبيان حكم كان في بني إسرائيل، فعلوا هذا ليوافق ما جاء عن أهل الكتاب "والإسرائيليات".

هذه بعض مواطن وقوعهم فيما حذروا منه، فوقعوا في مثله أو أسوأ منه، وقد ترددت في اعتبار هذا من أسس منهجهم ما داموا لم يلتزموا، لولا أني رأيت أن القول الصريح مقدَّم على الفعل في الاستدلال، فأقوالهم صريحة في رفض الإسرائيليات؛ فاعتبرته كذلك وإن لم يلتزموه.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.

2 المرجع السابق: ج1 ص351.

ص: 765