المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ٢

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير

- ‌الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: فقه أهل السنة والجماعة

- ‌مدخل

- ‌تفاسير آيات الأحكام:

- ‌ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنى عشرية

- ‌فرض الرجلين في الوضوء

- ‌صلاة الجمعة:

- ‌خمس الغنائم:

- ‌نكاح المتعة:

- ‌نكاح المشركات والكتابيات:

- ‌الحجاب:

- ‌إرث الأنبياء:

- ‌قطع يد السارق:

- ‌ثالثا: فقه الأباضي

- ‌مدخل

- ‌مسح الرجلين:

- ‌نكاح الكتابيات:

- ‌الإصباح على جنابة:

- ‌الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌التفسير بالمأثور في القرن الرابع عشر الهجري:

- ‌أولا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن

- ‌مدخل

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌ثانيا: الموجز في تفسير القرآن الكريم

- ‌منهجه في التفسير

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌تعريفه:

- ‌موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌رأي المؤيدين:

- ‌رأي المعارضين:

- ‌موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌أقوال المؤيدين:

- ‌أقوال المعارضين:

- ‌الرأي المختار:

- ‌أهم المؤلفات

- ‌نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:

- ‌أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي

- ‌أولا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم

- ‌ثانيًا: كشف الأسرار النورانية القرآنية

- ‌ثالثًا: الكون والإعجاز العلمي للقرآن

- ‌رابع: مع الطب في القرآن الكريم

- ‌خامسًا: الإعجاز العددي للقرآن الكريم

- ‌رأيي في هذه المؤلفات:

- ‌الباب الثالث: منهج المدرسة الاجتماعية الحديثة في التفسير

- ‌تمهيد

- ‌المراد به:

- ‌العقل في القرآن:

- ‌مكانة العقل في الإسلام:

- ‌نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة:

- ‌منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌الأساس الأول: الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم

- ‌الأساس الثاني: الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية

- ‌الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير

- ‌الأساس الرابع: إنكار التقليد وذمه والتحذير منه

- ‌الأساس الخامس: التقليل من شأن التفسير بالمأثور

- ‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات

- ‌الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع

- ‌الأساس الثامن: الشمول في القرآن الكريم

- ‌الأساس التاسع: التحذير من الإطناب

- ‌الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌الحريَّة:

- ‌التحذير من البدع والمنكرات في العقائد:

- ‌الجانب التهذيبي:

- ‌الإصلاح الاقتصادي:

- ‌قضية المرأة:

- ‌أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير القرآن الكريم المشهور "بتفسير المنار

- ‌أولا: المؤلف

- ‌ثانيا: التفسير

- ‌ثانيًا: تفسير جزء تبارك

- ‌أولًا: المؤلف

- ‌ثانيًا: التفسير

- ‌رأيي في هذا المنهج:

الفصل: ‌الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير

المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا يجب أن تفسير الآية"1.

ثم ذكر تفسيرين للآية مع القول بالوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية وفي السور القرآنية.

وقد برزت ظاهرة في تفاسير أصحاب المدرسة العقلية الاجتماعية؛ ألا وهي اهتمامهم ببيان الغرض العام في السورة؛ حتى يكون محور ارتكاز في التفسير.

1 الإثارة الثالثة: الإمام محمد عبده ص178-180.

ص: 728

‌الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير

لا ينكر صاحب لب ما للعقل من قيمة، وما له من مكانة كبيرة في الحياة عامة، ولا ينكر صاحب فَهْم وعلم ما له من قيمة ومكانة في الإسلام أيضًا، تشهد لذلك النصوص العديدة والآثار البارزة والعلامات البينة، كلها تدل عليه وتشير إليه.

دعا الإسلام إلى استعمال العقل في مواضع عديدة: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2، وغير هذا كثير3.

وذم الإسلام بعض الأفعال لمخالفتها العقل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 6، وغير هذا كثير7.

1 سورة البقرة: من الآية 73.

2 سورة البقرة: من الآية 242.

3 مثلًا آل عمران: الآية 118، والنحل الآية 12.

4 سورة الحجرات: من الآية 4.

5 سورة الحشر: من الآية 14.

6سورة الأنبياء: من الآية 67.

7 مثلًا سورة البقرة: الآية 44 والآية 76، وآل عمران: الآية 65، والأنعام: الآية 32.

ص: 728

وذكر الإسلام من أسباب دخول النار عدم الاهتداء بالعقل {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1.

هذه بعض أمثلة على مكانة العقل في الإسلام، بعضها يرسي له مكانة سامية ودرجة عالية، ومع هذا التكريم فقد كرمه مرة أخرى تكرمة عدها بعض مَن لا علم له ولا معرفة امتهانًا، وعدها ذوو العقول والألباب لا تقل عن سابقها من المكارم؛ تلكم المكرمة أنه حد له حدودًا لا يتجاوزها، ورسم له مراسم لا يتعداها، لا لشيء إلا لأنه سيضل فيها ويتيه، ولا لشيء إلا لأنها فوق مداركه وفوق قدراته وطاقاته، ومن الخير له كل الخير أن يقف دونها لايخوض فيها، وفي هذا -ولا شك- تكريم له وأي تكريم.

وكما مر بنا فقد نبتت في الإسلام نابتة أعطت العقل أكثر من حقه، وزعمت أنه خُلق ليعرف، وهو قادر على أن يعرف كل شيء المنظور وغير المنظور، وجعلوه الحَكَمَ الذي يحكم في كل شيء، والنور الذي يجلو كل ظلمة، حكموه في إيمانهم وفي جميع شئونهم الخاصة والعامة2، حتى قال عالمهم ومفسرهم الزمخشري رامزًا للعقل بالسلطان:"امشِ في دينك تحت راية السلطان، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه، وما العنز الجرباء تحت الشمأل البليل أذل من المقلد عند صاحب الدليل"3.

وقد أدى بهم تحكيم العقل المجرد عن النص إلى ان شطحوا بعقولهم شطحات وهفوا هفوات في الكتاب والسنة؛ بل في جوانب كثيرة من العقيدة، ما كانوا ليقعوا فيها لو اهتدوا إلى سبيل الحق.

وقد امتطى هذه الصهوة رجال جاءوا من بعدهم، فمال بهم وأدى بهم إلى أمور خاطئة، واعتقادات باطلة، وأحكام زائفة، وهم وإن لم يوافقوهم كل الموافقة

1 سورة الملك: من الآية 10.

2 الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم: محجوب بن ميلاد ص114.

3 أطواق الذهب في المواعظ والخطب: الزمخشري مقالة 37 ص28.

ص: 729

فهناك قواعد مشتركة وعقائد متماثلة تجمع بين هؤلاء وهؤلاء؛ حتى أطلق على هؤلاء المتأخرين: "معتزلة العصر الحديث"1، ولن نسميهم باعتزال؛ بل نسميهم بالصفة المشتركة بينهم، فليكونوا ولتكن مدرستهم المدرسة العقلية الحديثة، وقد اتجهت المتأخرة إلى الإصلاح الاجتماعي؛ فكان حقًّا لها أن يلصق بها هذا الوصف فتكون المدرسة العقلية الاجتماعية.

كيف لا والأستاذ الإمام محمد عبده يعد أصول الإسلام؛ فيعد الأول والثاني منها النظر العقلي وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض؛ حيث يقول: "الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجوز أو يثور عليه؟! "2.

ولا شك أن وصف الإسلام بأنه "يذعن لسلطة العقل" تعبير مخالف للصواب ومخالف للحق؛ فالإسلام عقيدة أوسع من أن تذعن لوسيلة، والعقل وسيلة أضيق من أن تحيط بالعقيدة، تلكم صفات الله تعالى، ما حقيقتها؟! وهل يدرك العقل ذلك منها؟! إن زعم ذلك زاعم فقد كذب وافترى على العقل، وإن فوض أمرها فقد اعتقد ما لا يدرك العقل فأنَّى للعقيدة الصحيحة الصادقة أن تذعن لسلطة هي أضعف من إداركها!

ولنعجل بالأصل الثاني من أصول الإسلام عند الأستاذ الإمام قال: "الأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض"، إلى أن قال:"وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مُهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأُزيلت من سبيله جمع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد"3.

1 اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار: أنور الجندي ص132.

2 الإسلام والنصرانية: محمد عبده ص72، 73.

3 الإسلام والنصرانية: محمد عبده ص74، 75.

ص: 730

وقال أيضًا مما يبين درجة العقل عنده: "وتقرر بين المسلمين كافة -إلا مَن لا ثقة بعقله ولا بدينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل؛ كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل، وعلمه بما يوحي به إليهم"1.

وهذا الشيخ عبد العزيز جاويش يرفع العقل إلى مرتبة تستطيع أن تصل بالنفس الإنسانية إلى مراتب الكمال في الأحكام والتصورات والنظم الاجتماعية وغيرها؛ ليس بالوحي ولكن بالبحث والتنقيب والتجارب! يقول: "إن من الممكن أن تصل العقول البشرية بالبحث والتنقيب والتجارب إلى ما تصبو إليه النفس الإنسانية من مراتب الكمال في الأحكام والتصورات والنظم الاجتماعية والمسائل العلمية والآداب الخلقية

إلخ"2.

إذًا فإذا كانت العقول قادرة على هذا، فما الحكمة من إرسال الرسل؟! لإتمام الحجة. لا، لا يصح هذا؛ لأن الحجة قائمة بقدرة العقل المزعومة، ويبقى السؤال معلقًا ما بقي هذا الزعم.

ويقول الشيخ جاويش أيضًا: "إن القرآن الذي هو كتاب دين الفطرة ما كان ليأتي بما ينافي الآراء القويمة أو تغم حكمته على العقول السليمة، ولم يكن ليكلف العقل الإيمان بما لا يعقل، أو يحمل الجسم ما لا طاقة له به، أو أن يفترض على الإنسان ما ليس من موسوعات فطرته؛ إذًا فوظيفته في البشر رسم أقرب الطرق إلى الهداية، وحفظ العباد عن مواطن الهلاك التي يغشاها طلاب الحق والحقيقة، لا من طريق الوحي؛ بل من طرائق التجارب

إلخ"3.

وذلكم الأستاذ محمد فريد وجدي يستدل بأحاديث باطلة أو منكرة أو ضعيفة سندًا لعقيدته في العقل، ويصف هذه الأحاديث -وهي بهذه الدرجة- بأنها

1 رسالة التوحيد: محمد عبده ص7.

2 الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش ص137.

3 الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش ص145.

ص: 731

"قواعد إلهية"! فأورد حديث: "الدين هو العقل، ولا دين لمن لا عقل له"1، وحديث:"يأيها الناس، اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه، واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم" 2

إلخ، ثم عقب عليهما قائلًا:"بهذه القواعد الإلهية نال العقل حريته، وتخلص من وثاق كان يثن منه ويتعثر في أصفاده، وصار هو المرشد الحقيقي للإنسان، وهي الوظيفة التي خلقه لأجلها الملك الديان"3.

إذًا، فهذه درجة الحكم العقلي لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، طبقوه ودعوا لذلك في تفسير القرآن الكريم، وهذا الأستاذ محمد فريد وجدي يقول في تفسير بعض الآيات: "كل هذه الآيات تتناولها القاعدة الأصولية التي انفرد بها هذا الدين؛ وهي أنه لو تعارض نص وعقل أو علم صحيح أُوِّلَ النص وأُخِذَ بحكم العقل أو العلم، وقد أَوَّل آباؤنا من هذه الآيات ما خالف عقولهم أو ناقض العلم الصحيح، ونحن نجري على سننهم فنؤول ما يخالف عقولنا منها.

جرى المسلمون على هذا السمت؛ فكان تطورهم العلمي يمدهم بالمعلومات، وعلماؤهم يؤولون الآيات؛ حتى تآخي العلم والدين، وسارا كفرسي رهان لا يسبق أحدهما الآخر، فانقسم الناس إلى فريقين: فريق للدين يقل كل يوم عددًا، وفريق للمدنية يزداد كل يوم مددًا؛ ولكن كانوا في وَحْدَة

1 قال الشيخ الألباني في كتابه: "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة": "الدين هو العقل ومَن لا دين له لا عقل له" باطل، أخرجه النسائي في الكنى، وعنه الدولابي في الكنى والأسماء ج2 ص104، وقال النسائي: حديث باطل منكر. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ص13.

2 قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: حديث: "يأيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل" الحديث، داود بن المحبر أحد الضعفاء، في كتاب العقل من حديث أبي هريرة، وهو في مسند الحارث بن أبي أسامة عن داود. انظر: إحياء علوم الدين: للغزالي ج1 ص89.

3 المدنية والإسلام: محمد فريد وجدي ص52.

ص: 732

لا انفصام لها؛ فبلغوا إلى ما لا تبلغه أمة قبلهم من بسطتي الدنيا والدين"1.

لذا فهم يصرفون الآيات القرآنية عن ظاهرها إذا صعب عليهم فَهْمُها أو التبست على عقولهم معانيها، وأنكروا كثيرًا من المعجزات أو أولوها بما لا تكون به معجزة خارقة، وردوا بعض الأحاديث الصحيحة، وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وخذ مثلًا لذلك تفسير الشيخ عبد القادر المغربي لقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور} 2؛ حيث قال: "مَن في السماء هو الله تعالى؛ لكن قام البرهان العقلي على أن الإله الأزلي خالق الكل وضابط الكل لا يتصور أن يكونه مستقرًّا في مكان؛ فوجب إذًا صرف الآية عن ظاهرها وحملها على معنى يلتحم مع ما أثبته العقل وقام عليه البرهان، والقرآن يفسر بعضه بعضًا؛ فآية {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 3 تنفي أن تكون ذات الله في السماوات وفي الأرض؛ إذ كيف يعقل أن تكون الذات الواحدة في مكانين في آنٍ واحد؟! لا جرم أن يكون المراد بكونه تعالى في السماء وفي الأرض أن مشيئته وحكمه نافذ فيهما، وسلطانه وقهره غالب عليهما"4.

ومن تفسير الشيخ عبد القادر أيضًا تفسيره لقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} 5؛ حيث قال: "هذا هو خبر سيدنا يونس حسبما أخذناه من النصوص الصحيحة، وليس فيه ما يستبعد وقوعه، اللهم إلا التقام الحوت له ومكثه في طبنه حينًا من الزمن حيًّا يُرزق ثم نبذه في ذلك الفضاء، على أنه إن حق لأهل القرون الماضية أن يستبعدوا خبر صاحب الحوت؛ فلا يحق لأبناء عصرنا ذلك الاستبعاد بعد أن رأوا بأعينهم سبح

1 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص92.

2 سورة الملك: الآية 16.

3 سورة الأنعام: من الآية 3.

4 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص9.

5 سورة القلم: الآية 48.

ص: 733

الكثير منهم في بطون الغواصات أيامًا متطاولات تحت البحار الطاميات، وطيرانهم مثل ذلك في أجواء السماوات، فالإله الذي خلق العقل البشري، ومهد له سبيل الوصول إلى مثل هذه العجائب؛ ألا يكون قادرًا على أن ييسر حصول مثله لعبده يونس ببعض الأسباب التي لم تزل مجهولة لنا؟! هذا ما نقوله للمتسائل المتعجب، أما نحن معشر المسلمين فنؤمن بما ورد في الكتاب ما دام أنه غير محال في العقل"1.

ومن التفسير العقلي التفسير بالرأي المجرد عن الدليل الصحيح، وهذا الأستاذ محمد عبده يفسر قوله تعالى:{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} 2 بقوله: "وفرعون هو حاكم مصر الذي كان في عهد موسى عليه السلام وللمفسرين في الأوتاد اختلاف كبير، وأظهر أقوالهم ملاءمة للحقيقة أن الأوتاد: المباني العظيمة الثابتة، وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد؛ فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض؛ بل إن شكل هياكلهم العظيمة في أقسامها شكل الأوتاد المقلوبة، يبتدئ القسم عريضًا وينتهي بأدق مما ابتدأ، وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين"3.

ويعلق الأستاذ الإمام على تفسير الجلال السيوطي لقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 4 بقوله: "وقال مفسرنا الجلال السيوطي: إن الرعد مَلَك أو صوته، والبرق سوطه يسوق به السحاب"، كأن الملَك جسم مادي؛ لأن الصوت المسموع بالآذان من خصائص الأجسام، وكأن السحاب حمار بليد لا يسير إلا إذا زجر بالصراخ الشديد والضرب المتتابع"5.

1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص29، 30.

2 سورة الفجر: الآية 10.

3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص79.

4 سورة البقرة: الآية 19.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص174.

ص: 734

ولكنه يقول في موضع آخر عن الملائكة: "وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار؛ فأننا نستدل بذلك على أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا؛ بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به"1.

وهذا تلميذه الأستاذ محمد رشيد رضا يرى أن الإمداد في قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين} 2، إمداد روحاني لا مادي، وقال:"وما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر وببعض الروايات الغريبة التي يردها العقل ولا يثبتها ما له قيمة من النقل، فإذا كان تأييد الله للمؤمنين بالتأييدات الروحانية التي تضاعف القوة المعنوية، وتسهيله لهم الأسباب الحسية كإنزال المطر، وما كان له من الفوائد لم يكن كافيًا لنصره إياهم على المشركين بقتل سبعين وأسر سبعين؛ حتى كان ألف -وقيل: الآف- من الملائكة يقاتلونهم معهم، فيفلقون منهم الهام، ويقطعون من أيديهم كل بنان، فأي مزية لأهل بدر فُضلوا بها على سائر المؤمنين ممن غزوا بعدهم وأذلوا المشركين وقتلوا منهم الألوف؟ ".

إلى أن قال: "ألا إن في هذا من شأن تعظيم المشركين، ورفع شأنهم، وتكبير شجاعتهم، وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم، ما لا يصدر عن عاقل، إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة، لا يصح لها سند، ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس، ذكره الألوسي وغيره بغير سند، وابن عباس لم يحضر غزوة بدر؛ لأنه كان صغيرًا، فروايته عنها حتى في الصحيح مرسلة، وقد روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله"3.

وغريب من الشيخ محمد رشيد رضا أن يغمز مرويات عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنها حتى في الصحيح مرسلة، وهو العارف بالحديث وعلومه

1 المرجع السابق: ج1 ص254.

2 سورة الأنفال: الآية 9.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص566، 567.

ص: 735

ولا أظنه يخفى عليه حكم مرسل الصحابي حتى إن ابن الصلاح لم يعده من أنواع المرسل قائلًا: "ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يُسمى في أصول الفقه "مرسل الصحابي" مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول والله أعلم"1.

وغريب منه أيضًا أن يغمز ابن عباس رضي الله عنهما بأنه روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله، فهل يرى الشيخ رشيد بأن ابن عباس رضي الله عنهما يروي عمن لا يثق بصدقه وأمانته؟! بل وما دخل روايته عن كعب الأحبار بروايته عن غزوة بدر؟! لا أرى هذا إلا ضعفًا في الحجة.

ومن تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا بالرأي المجرد تفسيره للمسخ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 2 بقوله: "أي: فكانوا بحسب سُنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس؛ والمعنى: أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات بلا خجل ولا حياء؛ حتى صار كرام الناس يحتقرونهم ولا يرونهم أهلًا لمجالستهم ومعاملتهم".

ثم قال: "وذهب الجمهور أيضًا إلى ان معنى {كُونُوا قِرَدَةً} أن صورهم مُسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصًّا فيه، ولم يبقَ إلا النقل ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة؛ لأنهم يعلمون بالمشاهَدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان؛ إذ ليس ذلك من سننه في خَلْقه؛ وإنما العبرة الكبرى في العلم بان من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل أن مَن يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له؛ ينزل عن مرتبة الإنسان، ويلتحق بعجماوات

1 علوم الحديث: ابن الصلاح ص50، 51.

2 سورة البقرة: الآية 65.

ص: 736

الحيوان، وسنة الله تعالى واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية"1.

ولا أظن هذا الذي قاله الشيخ رشيد رضا إلا زَلَّة قلم في أمر واضح بيِّن، فليس هذا العقاب هو الوحيد من نوعه في الأمم السابقة؛ عذبت أمة بالطوفان، وعذبت أخرى بالصيحة، وعذبت ثالثة بحجارة من سجيل، وعذب آخرون بالخسف وبالجراد وبالقُمَّل والضفادع وغير ذلك، والعصاة يعلمون بالمشاهَدة أن الله لا يعذب كل عاصٍ بهذا العذاب، فهل يعد هذا مبطلًا لحقيقة هذه العقوبات أو مبررًا لتأويلها -بل تحريفها- عن معانيها لمجرد كونهم لا يرونها سُنة من سنن الله في العصاة؟!

هذا بعض ما أدى بهم إليه تحكيم العقل المجرد عن النص، وهي قضايا آحادية تولدت حتى أصبح بعضها أساسًا مستقلًّا بذاته في منهجهم في التفسير، نذكر من هذه الأسس التي تولدت عن هذا لأصل لديهم إنكار التقليد وذمه، وموقفهم من التفسير بالمأثور، ورد بعض الأحاديث الصحيحة، والتحذير من الإسرائيليات، وتأويل المعجزات والخوارق بما يبطلها، وكان تأويل بعض القصص القرآنية بالتمثيل وعدم وقوعها، وموقفهم من بعض الغيبيات كالملائكة والجن، وبعض علامات الساعة وأماراتها، وموقفهم من السحر، وغير ذلك كثير.

كلها أمور تولدت من هذا الأساس العميق المتأصل في منهجهم؛ بل عمود منهجهم الأول، ونحن هنا -في دراستنا هذه- سنعرض لبعض هذه الأبحاث عرضًا سريعًا غرضنا منه جلاء الصورة وبيان أبعادها وحدودها ليس إلا، وليس من شأننا دراسة هذا الأساس أو هذا المنهج دراسة نقدية موسعة، فلذلك شأن آخر؛ وإنما غرضنا عرض مناهج التفسير في العصر الحديث، وندع لمن شاء أن يدرس كل منهج دراسة نقدية موسعة ففي كل منها مادة وفيرة للدراسة ومعالم بارزة محمودة ومذمومة.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص344.

ص: 737