المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث: - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ٢

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير

- ‌الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: فقه أهل السنة والجماعة

- ‌مدخل

- ‌تفاسير آيات الأحكام:

- ‌ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنى عشرية

- ‌فرض الرجلين في الوضوء

- ‌صلاة الجمعة:

- ‌خمس الغنائم:

- ‌نكاح المتعة:

- ‌نكاح المشركات والكتابيات:

- ‌الحجاب:

- ‌إرث الأنبياء:

- ‌قطع يد السارق:

- ‌ثالثا: فقه الأباضي

- ‌مدخل

- ‌مسح الرجلين:

- ‌نكاح الكتابيات:

- ‌الإصباح على جنابة:

- ‌الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌التفسير بالمأثور في القرن الرابع عشر الهجري:

- ‌أولا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن

- ‌مدخل

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌ثانيا: الموجز في تفسير القرآن الكريم

- ‌منهجه في التفسير

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌تعريفه:

- ‌موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌رأي المؤيدين:

- ‌رأي المعارضين:

- ‌موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌أقوال المؤيدين:

- ‌أقوال المعارضين:

- ‌الرأي المختار:

- ‌أهم المؤلفات

- ‌نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:

- ‌أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي

- ‌أولا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم

- ‌ثانيًا: كشف الأسرار النورانية القرآنية

- ‌ثالثًا: الكون والإعجاز العلمي للقرآن

- ‌رابع: مع الطب في القرآن الكريم

- ‌خامسًا: الإعجاز العددي للقرآن الكريم

- ‌رأيي في هذه المؤلفات:

- ‌الباب الثالث: منهج المدرسة الاجتماعية الحديثة في التفسير

- ‌تمهيد

- ‌المراد به:

- ‌العقل في القرآن:

- ‌مكانة العقل في الإسلام:

- ‌نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة:

- ‌منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌الأساس الأول: الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم

- ‌الأساس الثاني: الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية

- ‌الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير

- ‌الأساس الرابع: إنكار التقليد وذمه والتحذير منه

- ‌الأساس الخامس: التقليل من شأن التفسير بالمأثور

- ‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات

- ‌الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع

- ‌الأساس الثامن: الشمول في القرآن الكريم

- ‌الأساس التاسع: التحذير من الإطناب

- ‌الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌الحريَّة:

- ‌التحذير من البدع والمنكرات في العقائد:

- ‌الجانب التهذيبي:

- ‌الإصلاح الاقتصادي:

- ‌قضية المرأة:

- ‌أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير القرآن الكريم المشهور "بتفسير المنار

- ‌أولا: المؤلف

- ‌ثانيا: التفسير

- ‌ثانيًا: تفسير جزء تبارك

- ‌أولًا: المؤلف

- ‌ثانيًا: التفسير

- ‌رأيي في هذا المنهج:

الفصل: ‌نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:

ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جمع قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} 1 الآية، قال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها:"لم يبين هنا مَن هؤلاء القوم؛ ولكنه صرح في سورة الشعراء بأن المراد بهم بنو إسرائيل؛ لقوله في القصة بعينها: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيل} 2 الآية، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 3 الآية"4.

ومثال الإجمال بسبب الإبهام في صلة موصول قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] قال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "لم يبين هنا مَن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، وبيَّن ذلك في موضع آخر بقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} "5.

ومثال الإجمال بسبب الإبهام في معنى حرف قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 6، وقال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها:"عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها، وذلك كقوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 7، والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور"8.

1 سورة الأعراف: من الآية 137.

2 سورة الشعراء: من الآية 59.

3 سورة الأعراف: من الآية 137.

4 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج2 ص297.

5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص35، والآية من سورة النساء:69.

6 سورة البقرة: من الآية 3.

7 سورة البقرة: من الآية 219.

8 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص38.

ص: 526

ومن أنواع البيان: بيان الإجمال الواقع بسبب احتمال في مفسر الضمير، ومن أمثلته قوله تعالى:{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيد} 1.

قال -رحمه الله تعالى-: "فإن الضمير يحتمل أن يكون عائدًا إلى الإنسان، وأن يكون عائدًا إلى رب الإنسان المذكور في قوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود} 1؛ ولكن النظم الكريم يدل على عوده إلى الإنسان، وإن كان هو الأول في اللفظ؛ بدليل قوله بعده: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1، فإنه للإنسان بلا نزاع وتفريق الضمائر بجعل الأول للرب والثاني للإنسان لا يليق بالنظم الكريم"2.

ومن أنواع البيان: أن يذكر شيء في موضع ثم يقع سؤاله عنه في موضع آخر؛ كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} 3، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:"لم يبين هنا ما العالَمون، وبيَّن ذلك في موضع آخر بقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} 4 الآية"5.

ومن أمثلته قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} 6، قال -رحمه الله تعالى-:"لم يبينه هنا وبينه في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} 7 الآية"8.

ومن أنواع البيان التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى أن يذكر أمر في موضع، ثم يذكر في موضع آخر شيء يتعلسق بذلك الأمر، كأن يذكر له سبب أو مفعول او ظرف مكان أو ظرف زمان أو متعلق.

1 سورة العاديات: الآيات 6-8.

2 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص9، 10.

3 سورة الفاتحة: الآية الأولى.

4 سورة الشعراء: من الآيتين 23، 24.

5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص33.

6 سورة الفاتحة: الآية 4.

7 سورة الانفطار: الآيات 17-19.

8 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص34.

ص: 527

فمثال ذكر سببه قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} 1، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:"لم يبين هنا سبب قسوة قلوهم؛ ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 2، وقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} 3 الآية"4.

ومن أمثلة المتعلق قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَان} 5 الآية، وقوله:{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة} 6، وقوله:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} 7 فقد ذكر لانشقاقها متعلقًا في الفرقان في قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} 8 الآية9.

هذه بعض الأمثلة الكثيرة جدًّا، والتي وردت في تفسيره -رحمه الله تعالى- على أصح طرق التفسير؛ ألا وهو تفسير القرآن بالقرآن، وهو النوع الأول من التفسير بالمأثور.

ثانيا: تفسير القرآن بالسنة

أما تفسير القرآن بالسنة ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أورد -رحمه الله تعالى- عددًا كثيرًا منها، وهذه بعضها:

فمن ذلك: تفسيره لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ

1 سورة البقرة: من الآية 74.

2 سورة المائدة: من الآية 13.

3 سورة الحديد: من الآية 16.

4 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص16.

5 سورة الرحمن: من الآية 37.

6 سورة الحاقة: من الآية 16.

7 سورة الانشقاق: الآية الأولى.

8 سورة الفرقان: الآية 25.

9 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص15.

ص: 528

وَلا الضَّالِّينَ} 1، قال:"قال جماهير من علماء التفسير: "المغضوب عليهم" اليهود "الضالون" النصارى، وقد جاء الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه"2.

وقال في تفسير قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 3، وأما الذين قالوا الأطهار فاحتجوا بقوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} 4 "قالوا: عدتهن المأمور بطلاقهن لها الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية، ويزيده إيضاحًا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمره الله"5، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث المتفق عليه بأن الطهر هو العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، مبينًا أن ذلك هو معنى قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} ، وهو نص من كتاب الله وسنة نبيه في محل النزاع.

قال مقيده -عفا الله عنه- الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا فصل في محل النزاع؛ لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار؟ وهذه الآية وهذا الحديث دل على أنها الأطهار.

ولا يوجد في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يقاوم هذا الدليل، لا من جهة الصحة، ولا من جهة الصراحة في النزاع؛ لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب الله تعالى"6.

وفي تفسير قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 7، قال -رحمه الله تعالى-: "أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على مَن يتقي غيره؛ لأنه لا ينبغي أن يتقي إلا

1 سورة الفاتحة: من الآية 7.

2 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص37.

3 سورة البقرة: من الآية 228.

4 سورة الطلاق: الآية الأولى.

5 البخاري: التفسير ج6 ص67، مسلم: الطلاق ج2 ص1093.

6 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص130.

7 سورة النحل: من الآية 52.

ص: 529

من بيده النفع كله والضَّر كله؛ لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك" -إلى أن قال- وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" 1، وفي حديث ابن عباس المشهور:"واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"3.

وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} 4 الآيتين، قال: وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحًا في أحاديث كثيرة.

منها ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس بالطرقات"، قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها، قال:"فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال:"غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" انتهى.

هذا لفظ البخاري في صحيحه5، وذكر -رحمه الله تعالى- عددًا من الأحاديث غير هذا.

والأمثلة في تفسيره القرآن بالسنة كثيرة جدًّا؛ منها ما هو تفسير مُبهم، ومنها ما هو تخصيص للعام، ومنها ما هو مقيد لمطلق، ومنها ما هو بيان لمعنى أو متعلقه،

1 البخاري: كتاب الأذان ج1 ص205، مسلم: كتاب الصلاة ج1 ص347.

2 رواه الإمام أحمد في سنده ج1 ص293، والترمذي في سننه: كتاب القيامة، باب 59 ج4 ص667.

3 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج3 ص256، 257.

4 سورة النور: الآيتين 30، 31.

5 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج6 ص190، وانظر البخاري: كتاب المظالم ج3 ص103.

ص: 530

ومنها ما هو بيان أحكام زائدة على ما جاء في القرآن، ومنها ما هو بيان للناسخ والمنسوخ، ومنها ما هو تأكيد لما جاء في القرآن، وغير ذلك.

ثالثا: تفسير القرآن بأقوال الصحابة:

والمؤلف -رحمه الله تعالى- كثيرًا ما يستشهد بالتفسير الصحيح لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيرًا ما يذكر لتفاسيرهم شواهد من آيات القرآن الكريم أو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ففي تفسير قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .

قال -رحمه الله تعالى-: " {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وقع نظيره قطعًا لأهل مكة لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" 2، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء حتى أكلوا الجيف والعلهز -وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه- وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن، وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته وبعوثه وسراياه، وهذا الجوع والخوف أشار لها القرآن على بعض التفسيرات؛ فقد فسر ابن مسعود آية "الدخان" بما يدل على ذلك".

ثم ذكر -رحمه الله تعالى - بعض الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنه وعقب عليها قائلًا: "وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة- ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في "سورة النحل" من لباس الجوع أذيقه أهل مكة حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم

1 سورة النحل: الآية 112.

2 البخاري: كتاب التفسير ج6 ص39، صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين ج4 ص2157.

ص: 531

يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع، وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع لما تقرر في علم الحديث من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع، كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله:

تفسير صاحب له تعلق

بالسبب الرفع له محقق

وكما هو معروف عند أهل العلم"1.

وقال -رحمه الله تعالى- مثل هذا التوثيق لتفسير الصحابي عند تفسيره لقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 2، فساق الحديث الذي رواه الشيخان وأبو داود والترمذي3، عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول؛ فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 4، ثم علق على ذلك قائلًا:"فظهر من هذا أن جابرًا رضي الله عنه يرى أن معنى الآية: فائتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها"5، ثم قال:"والمقرر في علوم الحديث"

إلخ النص السابق قبل أسطر.

وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 6 الآية، قال -رحمه الله تعالى-: "لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء؛ وعليه ففي الآية نوع إجمال، والمعنى كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره، فإن كانت جميلة تزوجها

1 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص340-342.

2 سورة البقرة: من الآية 222.

3 البخاري: كتاب التفسير ج5 ص160، مسلم: النكاح ج2 ص1058، سنن أبي داود: النكاح ج2 ص249، والترمذي: التفسير ج5 ص215.

4 سورة البقرة: من الآية 223.

5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص124.

6 سورة النساء: من الآية 3.

ص: 532

من غير أن يقسط في صداقها، وإن كانت دميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره؛ لئلا يشاركه في مالها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن

وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه يبينه ويشهد له قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} 1.

وقالت رضي الله عنها: إن المراد بما يُتلَى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية؛ فتبين أنها يتامى النساء؛ بدليل تصريحه بذلك في قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} الآية، فظهر من هذا أن المعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات فدعوهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن، وجواب الشرط دليل واضح على ذلك؛ لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه، وهذا هو أظهر الأقوال لدلالة القرآن عليه"2.

وكذا في تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 3، قال -رحمه الله تعالى-:"في معنى هذه الآية أوجه للعلماء؛ منها: أن المعنى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلًا، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ويشهد له قوله تعالى في أول الآية: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ} الآية، وهو ظاهر"4.

وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} 5، قال -رحمه الله تعالى-: "والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع، وهذا قول

1 سورة النساء: من الآية 127.

2 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص266، 267.

3 سورة النساء: من الآية 141.

4 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص377.

5 سورة النساء: من الآية 12.

ص: 533

أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأكثر الصحابة، وهو الحق إن شاء الله تعالى"1.

هذه بعض الأمثلة لتفسير الصحابة رضي الله عنهم التي أوردها المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفسيره، والمطلع على تفسيره يدرك بحق اهتمامه -رحمه الله تعالى- بتحري تفسير الصحابة -الصحيح منه- والقول به، والاستشهاد لما يعضده من الآي والحديث.

ومن هذه الأمثلة التي سقناها من تفسيره القرآن بالقرآن وبالسنة وبأقوال الصحابة رضي الله عنهم يظهر أثر التفسير بالمأثور في تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "بما يجعله في مقدمة التفاسير في العصر الحديث من غير منازع حسب ما اطعلت عليه من التفاسير".

1 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص275.

ص: 534

‌ثانيا: الموجز في تفسير القرآن الكريم

‌منهجه في التفسير

ثانيًا: الموجز في تفسير القرآن الكريم

ِ"المصفى: الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول"

أما المؤلف: فهو المستشار محمد رشدي حمادي، ولم أجد له ترجمة.

أما الكتاب: فهو الموجز في تفسير القرأن الكريم "المصفى الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول".

وبين يدي الجزء الأول منه، ويقع في 551 صفحة بدون الفهارس، وفيه تفسير سور: الفاتحة والبقرة وآل عمران، والجزء الثاني ويقع في 567 صفحة كذلك، وفيه تفسير سورة النساء والمائدة والأنعام.

وهما ما حصلت عليه من هذا التفسير الذي ليس فيه ما يدل على رَقْمِ الطبعة ولا تاريخها، وطبع هذان الجزآن في دار إحياء الكتب العربية.

منهجه في التفسير:

قال المؤلف في مقدمته للتفسير معرفًا به: "هو خلاصة التفاسير المجمع عليها بين المفسرين من علماء الأمة الإسلامية، وقد خلا من تأويلات المذاهب الشاذة، والإسرائيليات، والتفسير بالرأي، التي عمرت بها كتب التفاسير دون مبرر، فضلًا عن أنه تفسير وافٍ لفهم نصوص القرآن العظيم كما بيَّنها الرسول الكريم، وكما أجمع عليها المفسرون طوال العصور من تفسيرات لا تخرج النصوص عن مبانيها، وليس لي فيه من فضل سوى الاقتباس والاختيار، ولم أضف إليه بدعًا من المذاهب أو الآراء، وعلى الله قصد السبيل"1، وسنذكر إن شاء الله -آخر- ما التزم به من هذه الأمور وما لم يلتزم به.

1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص3.

ص: 535

‌أمثلة من تفسيره:

تفسير القرآن بالقرآن:

ففي الفاتحة مثلًا فسَّر "يوم الدين: من قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} 1 بقوله: "وبينه الله تعالى في سورة الانفطار بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} "2 [الانفطار: 17-19] .

وفسر قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1 بقوله: "ويعني: الأنبياء والمؤمنين، وقد بينه في سورة النساء بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} "3 [النساء: 96] .

وفسر قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1 بقوله: "وقال السهيلي: وشاهد ذلك قوله تعالى في اليهود: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} 4، وفي النصارى:{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} 6.

ومن سورة البقرة مثلًا فسر قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 7 الآية، بقوله:"ونحن ذاكرون لك -إن شاء الله- ما يجلي المعنى في الآية، مقتفين أثر ابن العدل8 والقرطبي فيما قالاه في معنى "كان"، وأنها للثبوت لا للمضي، غير أنا نقدم لك ما جاء في كتاب الله من وصف الأمة بالواحدة، والمعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة؛ ليكون في ذلك توضيح لما نقصد إليه، وسند لنا فيما إليه نعمد، والله الموفق.

1 سورة الفاتحة: الآيتين 4، 7.

2 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص8.

3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص9.

4 سورة البقرة: من الآية 90.

5 سورة المائدة: من الآية 77.

6 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص9.

7 سورة البقرة: من الآية 213.

8 هكذا ولعلها "ابن العربي".

ص: 536

ورد وصف الأمة بالواحدة في قوله تعالى في سورة الأنبياء {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [21: 92، 93] جاءت هذه الآية الكريمة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} إلخ بعد ذكر جمع من الأنبياء -صلوات الله عليهم- وذكر ما كان من شأنهم مع قومهم، والخطاب فيها للأنبياء كما يفسره قوله تعالى في سورة المؤمنين بعدما ذكر من أحوال الأنبياء والمرسلين وما كان من أقوامهم معهم:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [23: 51-54] .

وقد جاء لفظ "أمة" بالنصب في الآيتين على الحال، والخبر قد تم في قوله:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: هذا الجمع من الأنبياء والمرسلين أمتكم؛ أي: جماعتكم حال أنها أمة واحدة؛ أي: ليس جمعًا تربطه الروابط البعيدة، كما يقال: أمة الهند على اختلاف مللها وتفرق كلمتها؛ بل هي أمة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الاهتداء بنور الله، والدعوة إلى توحيده، والقيام على شرعه، وحمل الناس على اتباع أحكامه، فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدد فيه هو الحق والعدل، فهي جديرة بأن تكون أمة واحدة، وإن شئت قلت كما قالوا: إن الأمة بمعنى الملة -في الآيتين- يراد بذلك أن الله يخبر المرسلين بأن هذا الذي سبق في الكلام من السير في الناس بهداية الله، والمثابرة على ذلك، وعدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تعذيب، هذه هي ملتكم ودينكم وهو أمر واحد لا تعدد فيه، يأتي به السابق، ويتبعه عليه اللاحق، لا يختلف فيه نبي عن نبي، ولا يناكر فيه مرسل مرسلًا.

هذا المعنى من الوَحْدَة هو الذي جاء في قوله تعالى في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [11: 118]، وفي قوله في سورة الشورى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير} 1 [42: 8] ".

1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص187، 188.

ص: 537

هذا بعض ما قاله المؤلف جزاه الله خيرًا، وقد وأطال في الحديث عن هذه الآيات ونحوها وصلة بعضها ببعض.

وفي سورة آل عمران في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 1 الآية، قال بعد بيان:"واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره، قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158] "2.

ومنه أيضًا تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} 3، قال:"وهذا هو الغيب الذي أمر المكلفون بالإيمان به ومدحوا عليه في مثل قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [2: 1، 2] والدليل على كون المراد أن من يجتبيهم من رسله يطلعهم على ما شاء أن يبلغوه لعباده من خبر الغيب هو مثل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [72: 26-29] "4.

ومن سورة النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} 5، قال في تفسيرها: "في الكلام إضمار تقديره: {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقرينهم الشيطان {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} والقرين:

1 سورة آل عمران: من الآية 55.

2 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص388.

3 سورة آل عمران: من الآية 179.

4 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص526.

5 سورة النساء: من الآية 38.

ص: 538

المقارن؛ أي: الصاحب والخليل، والمعنى: مَن قَبِلَ من الشيطان في الدنيا فقد قارنه؛ أي: أن الحامل لأولئك المتكبرين على ما ذكر هو وسوسة الشيطان التي عبر عنها في آية البقرة بقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [2: 268] ، فبيَّن أن هؤلاء قرناء الشيطان"1.

ومن سورة المائدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} 2، قال:"إلا ما يُتلى عليكم مما حرم؛ أي: يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 3 الآية، من هذه السورة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "وكل ذي ناب من السباع حرام"، وهو الذي استثناه"3.

ومن سورة الأنعام في قوله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 4، قال:"أي: قرأت الكتب، وقيل: "دارست" أي: دارست أهل الكتاب وتعلمت منهم، رُوي هذا عن ابن عباس، وأولى القراءات بالصواب عند الطبري قراءة مَن قرأ: "وليقولوا درست" بتأويل قرأت وتعلمت؛ لأن المشركين كذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر الله عن قيلهم ذلك بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] فهذا خبر من الله ينبئ عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره"5.

هذه بعض الأمثلة على تفسيره القرآن بالقرآن أصح طرق التفسير بالمأثور؛ بل أصح طرق التفسير على الإطلاق.

1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص58.

2 سورة المائدة: الآية الأولى.

3 المرجع السابق: ج2 ص234.

4 سورة الأنعام: الآية 105.

5 المرجع السابق: ج2 ص498.

ص: 539

تفسير القرآن بالسنة:

فمن ذلك مثلًا تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} 1،: قال: "يقول: لا تجعلوا الله بالحلف به مانعًا لكم من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس؛ ولكن إذا حلفتم على ألا تصلوا رحمًا ولا تتصدقوا ولا تصلحوا وعلى أشباه ذلك من أبواب البر؛ فكفروا وائتوا الذي هو خير، وفي الحديث: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فائتِ الذي هو خير وكفر عن يمينك" 2 "3.

وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} 4 الآية، قال:"وفي الحديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء" 5، 6.

وفي قوله تعالى عن امرأة عمران لما وضعت ابنتها مريم: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 7، قال:"وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يُولد فيستهل صارخًا من مس الشيطانه إيَّاه إلا مريم وابنها"، ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} "8.

1 سورة البقرة: الآية 224.

2 صحيح البخاري: كتاب الإيمان ج7 ص216، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان ج11 ص116، إلا أن الحديث فيهما بتقديم "فكَفِّر عن يمينك" على "وائت الذي هو خير".

3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص213.

4 سورة البقرة: من الآية 275.

5 رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والنسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري.

6 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص271.

7 سورة آل عمران: من الآية 36.

8 الموجز في تفسير القرآن: محمد رشدي حمادي ج1 ص370، صحيح البخاري: التفسير ج5 ص166، ومسلم: الفضائل ج4 ص1838.

ص: 540

وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1، قال:"وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله: "ليس هو كما تظنون؛ إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " 2، 3.

ولولا خشية الإطالة لسقنا أكثر من ذلك من تفسيره القرآن بالسنة، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله.

تفسير القرآن بأقوال الصحابة:

وهي الدرجة الثالثة من التفسير بالمأثور، وقد أورد الأستاذ محمد رشدي حمادي كثيرًا من هذا النوع من التفسير في تفسيره، نذكر منه:

في تفسيره: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 4، قال:"وعن ابن عباس في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي: قاضي يوم الدين، وهو يوم الحساب والقضاء فيه بين الخلائق؛ أي: يوم يدان فيه الناس بأعمالهم لا قاضي غيره"5.

وفي قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 6 الآية، قال:"عن ابن عباس: هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة، لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين"7.

وفي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 8، قال:

1 سورة الأنعام: الآية 82.

2 سورة لقمان: من الآية 13.

3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص 464.

4 سورة الفاتحة: من الآية 4.

5 المرجع السابق: ج1 ص8.

6 سورة البقرة: من الآية 225.

7 المرجع السابق: ج1 ص214.

8 سورة البقرة: من الآية 228.

ص: 541

"وفي كتاب أبي داود والنسائي عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثًا فنسخ ذلك وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية"1.

وفي تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} 2 قال: "ورُوي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه، فكَبِرَ وأصاب الجنة أعصار؛ أي: ريح عاصف فيه نار فاحترقت؛ ففقدها أحوج ما يكون إليها"3.

وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} 4، قال:"قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه -وهو خبيثه- فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا"5.

وبعد هذه بعض الأمثلة أيضًا من تفسيره للقرآن بأقوال الصحابة، وبهذا يكون هذا التفسير محتويًا على أنواع التفسير بالمأثور الثلاثة: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بالسنة، وتفسيره بأقوال الصحابة.

رأيي في هذا التفسير:

والحق أن هذا التفسير مع حرصه على إيراد التفسير بالمأثور إلا أنا نراه لم يلتزم تمامًا بما وعد به في مقدمة تفسيره.

فهو تفسير لم يخلُ من الإسرائيليات كما وعد صاحبه؛ بل إنه ينقل عن هذه

1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص215.

2 سورة البقرة: من الآية 266.

3 المرجع السابق: ج1 ص266.

4 سورة البقرة: من الآية 267.

5 المرجع السابق: ج1 ص267.

ص: 542

الكتب مباشرة؛ أعني: التوراة والإنجيل، وعن غيرها من مصادر الإسرائيليات، وأحسب أن الذي أدَّى به إلى ذلك توسعه في التاريخ القديم منه توسعًا يوقعه أحيانًا في الإسرائيليات وما لا فائدة تُرجَى من تناوله.

ومن المآخذ عليه أيضًا تلك الأبحاث العلمية والفلكية التي يتوسع فيها أحيانًا توسعًا مذمومًا في تفسيره للقرآن؛ ومن ذلك مثلًا: ذلك الحديث المسهب1 عن علم الفلك الذي تحدث فيه عن علم الفلك عند علماء المسلمين، وتسلسل هذا العلم إلى نزول رجلين على سطح القمر، ثم حديث عن المجموعة الشمسية والمسافات بينها ودرجات الحرارة فيها، ثم حديث عن المجرات، ثم حديث عن علم النجوم، وكان الأَوْلَى لمثل تفسيره ألا يعرض فيه مثل هذه الأبحاث خاصة أنه وعد في المقدمة بأن تفسيره خلا من التفسير بالرأي، فهل هذه المعلومات خارجة عن الرأي؟!

ومنها أيضًا ذلك البحث الذي ألحقه بالجزء الأول تحت عنوان "تفسير فواتح السور"2، أدرج فيه ما سماه بتفسير علمي لفواتح سور القرآن، وذلك فيه أيضًا ما ينبغي تنزيه مثل هذا التفسير عنه.

ومآخذ أخرى هي أقل شأنًا مما ذكرنا، ومع هذا فتبقى لهذا التفسير محاسنه من التفسير بالمأثور، ومن معالجته لشئون الحكومة الإسلامية، ووجوب تعديل القوانين حتى توافق التشريع الإسلامي، وتكراره لذلك عند كل مناسبة، ثم تشخيصه لداء العالم الإسلامي في العصور الحديثة، ووصفه الدواء لكثير من مشاكله.

رأيي في تفاسير هذا اللون في القرن الرابع عشر:

الحق أني لم أجد مثل هذين التفسيرين عناية بالمأثور مع الفارق الكبير بين عناية الأول منهما -أعني: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- وعناية الثاني -أعني:

1 انظر تفسيره ج2 ص480.

2 انظر تفسيره أيضًا ج1 ص547.

ص: 543

المستشار محمد رشدي حمادي- فقد تفوق الأول بلا نزاع في هذا اللون من التفسير تفوقًا لا يدانيه الثاني، ومع هذا يبقى للأستاذ محمد رشدي حمادي درجته المتقدمة في هذا اللون.

ومع هذا وذاك فلا يزال ميدان التفسير بالمأثور يعاني قلة خائضي عبابه، وكم كنت أتمنى أن يقوم مَن آتاه الله سَعَة في العلم بتأليف أو بجمع الآيات التي يفسر بعضها بعضًا وأن يضم إليها سعة في العلم بتأليف أو بجمع الآيات التي يفسر بعضها بعضًا، وأن يضم إليها الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مبينًا درجة كل حديث، ويرتب هذا كله حسب ترتيب المصحف، وليس له فيما جمع إلا الربط بين آية وآية أو آية وحديث، وله أيضًا مع هذا تخريج الأحاديث ليس إلا، وأحسب أن العلماء والعامة بحاجة ماسة إلى هذا التفسير، وعسى أن يكون فرجًا قريبًا.

وإن كان لي من رأي بعد هذا أقوله في الموجود من التفاسير الحديثة فهو أنها -أو غالبها- لا تهتم بالتفسير بالمأثور، حاشى أن أتهمهم بقصد هذا؛ ولكن الأمر فيما أظن اعتقاد بعضهم أن الناس قد انصرفوا عن هذا اللون من التفسير، وإيراد بعضهم الآخر التفسير بالمأثور بالمعنى من غير إيراد الآيات أو الأحاديث بنصوصها، وانشغال بعض ثالث إلى مباحث أخرى على حساب التفسير بالمأثور، وقد يكون هنا تعليلات أخرى، والله الموفق.

ص: 544

‌الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير

‌المراد به:

بادئ ذي بدء ينبغي أن ننبه إلى أمرين هامين في هذه المسألة:

أولهما: جواب لشبهة أو سؤال: ماذا نعني بالعلمي من قولنا: التفسير العلمي؟ هل يعني هذا أن التفاسير الأخرى غير علمية؟ ولا شك أن مدار الخلاف ومركزه في المراد بالعلم هنا.

فالعلم كلمة شاملة تشمل شتى أنواع المعارف البشرية القديم منها والجديد، ثم تجاذبت هذه الاصطلاح أيدي العلماء، كلٌّ يطلقه على ما تدور فلك أبحاثه عليه، فقال الحكماء في تعريفه: إنه صورة الشيء الحاصلة في العقل، أو حصول الصورة في العقل، أو تعلق النفس بالشيء على جهة انكشافه.

وقال المتكلمون: إنه صفة يتجلى بها الأمر لمن قامت به، وزعم الماديون أنه ليس إلا خصوص اليقينيات التي تستند إلى الحس وحده، وقال علماء التدوين: إنه المسائل المضبوطة بجهة واحدة، والغالب أن تكون تلك المسائل نظرية كلية، وقد تكون ضرورية، وقد تكون جزئية1.

هذا ما قاله أولئك، وليس سبيلنا هنا بيان تلك الاصطلاحات ونقدها؛ وإنما سبيلنا عرضها دون ما سواه؛ لنقف منه على إطلاقات هذا اللظ "العلم".

1 انظر مناهل العرفان: عبد العظيز الزرقاني ج1 ص5، 6.

ص: 545

وإذا ما نظرت إلى المراد به عند علماء الشرع وجدت الغزالي يوضح ذلك بقوله: "قد كان العلم يُطلق على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه

وقد تصرفوا فيه بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها

ولكن ما ورد من فضائل العلم والعلماء أكثره في العلماء بالله تعالى وبأحكامه وبأفعاله وصفاته، وقد صار الآن مطلقًا على مَن لا يحيط من علوم الشرع بشيء سوى رسوم جدلية في مسائل خلافية؛ فيعد بذلك من فحول العلماء مع جهله بالتفسير والأخبار وعلم المذهب وغيره، وصار ذلك سببًا مهلكًا لخَلْق كثير من أهل الطلب للعلم"1.

هذه بعض الاصطلاحات في لفظة "علم"، فهل هي أو أحدها المراد في التفسير العلمي للقرأن؟ نظرة واحدة إلى كتب التفسير العلمي تفيدك أن ليست هذه الاصطلاحات أو أحدها هي المراد من "العلمي" أو "العلم"؛ فلنبحث عن اصطلاح آخر، ولنطوِ صفحات التاريخ إلى العصر الحديث.

إذ قد ظهر في هذا العصر مدلول آخر للعلم نلمس جوانبه في وصفهم لهذا القَرْن أو العصر بأنه عصر العلم "والتطور والنهضة" إلى آخره؛ وإنما يهمنا وصفه بعصر العلم وهم يقصدون بذلك أن العلم هو العلم الطبيعي القائم على دراسة ما في الكون من مواد وعناصر وكائنات، لها خصائصها الذاتية وأنظمتها التي تحكمها من كيمياء وطبيعة وميكانيكا، وغير ذلك من علوم الطب والرياضة والفلك، وما يتضمنه ذلك من حقائق كونية، وأن العمل في إطار هذا المفهوم للعلم هو تطبيق العلم عمليًّا باستعمال الأجهزة والأدوات والوسائل الأخرى الحديثة من مختبرات ومراصد وتجارب واستنباطات منطقية وغير ذلك2.

هذا ما قصدوه من وصف عصرهم بعصر العلم، وهو ما تناولوه فيما سموه بالتفسير العلمي.

1 إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي ج1 ص39.

2 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص44، بتصرف.

ص: 546

ونحن وإن كنا نقول: إنه لا مشاحة في الاصطلاح؛ لكنه ينبغي أن يكون في الاصطلاح ما يميزه عن سواه؛ حتى لا تلتبس الأمور وتتداخل الأسماء؛ ولذا فإني نظرتُ -ونظر غيري- إلى هذه العلوم التي تناولها المفسرون تحت عنوان التفسير العلمي فوجدتها تجمعها التجربة والتجارب، فهي علوم ماثلة للأعيان وخاضعة في غالبها للتجربة؛ إذًا فلِمَ لا نخصها بهذه الصفة؟ فلنسمِّ هذا اللون من التفسير "التفسير العلمي التجريبي للقرآن الكريم"؛ حتى يتيمز هذا اللون من التفسير العلمي عن الألوان العلمية الأخرى من العقائد والفقه ونحوها، وكلها علم لا شك فيه.

ثانيهما: وهو متولد عن الأمر الأول؛ إذ يظهر من إطلاق التفسير العلمي على هذه العلوم في العصر الحديث ان هذه التسمية "التفسير العلمي للقرآن الكريم" تسمية حديثة؛ وإنما قلنا: التسمية، ولم نقل: التفسير العلمي نفسه؛ لأنا نجزم بوجود هذا اللون في وقت مبكر؛ لكنه لم يكن مثل العصر الحديث كثرة ولا مقاربًا له.

بل إن كتب التفسير في العصر الحديث أفردته بمؤلفات خاصة.

وظهرت تفاسير تحمل في عنوانها: "التفسير العلمي" أو "الإعجاز العلمي" ونحو ذلك؛ فكان التفسير العلمي من خصائص العصر الحديث في التفسير وإن وُجِدَ بقلة فيما قبله.

ص: 547

‌تعريفه:

ومن الطريف أنك لا تكاد تجد في كتب التفسير العلمي وغيره مَن يذكر تعريفه وبيان المراد منه، ولعله لظهروه يغفل أولئك تعريفه؛ ولكنه على كل حال بحاجة إلى تعريف يحدد مجاله؛ فيعرف ما يدخل فيه وما لا يدخل.

ولم أجد من ذكر له تعريفًا إلا الأستاذ أمين الخولي؛ حيث قال: "هو التفسير الذي يُحَكِّمُ الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها"1.

1 التفسير معالم حياته، منهجه اليوم: أمين الخولي ص19-20.

ص: 547

ونقل هذا التعريف بحروفه الشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون1، وهو وإن لم يُشر إلى مصدر التعريف فإن كتاب الخولي من مصادره؛ فتبادر إلى الذهن أنه نقله عنه، والله أعلم.

واختصر هذا التعريف الدكتور موسى شاهين لاشين فقال في تعريفه: "يقصد بالتفسير العلمي التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، ويحاول استخراج العلوم المختلفة من آياته"2.

وهذا التعريف الذي ذكره الدكتور موسى هو نفس التعريف السابق مع بعض التغيير، ولم يُشر الدكتور أيضًا إلى مصدره.

وتأثر بهذا التعريف أيضًا الأستاذ محمد الصباغ؛ فقال في تعريفه: "إنه تحكيم مصطلحات العلوم في فَهْمِ الآية، والربط بين الآيات الكريمة ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية"3.

ولعلك تقول بعد هذا: تذكر هذه التعريفات ثم تقول: إنك لا تكاد تجد تعريفًا؟ ومخلصي وعذري من هذا أن التعريفات الثلاثة الأخيرة مرجعها كلها إلى التعريف الأول، فهي إما ناقلة له بحروفه، وإما ناقلة له بتقديم وتأخير، وإما متأثرة به وبألفاظه.

وتجد القاسم المشترك بين هذه التعريفات أنها تصف هذه اللون من التفسير بأنه "تحكيم"!! للمصطلحات العلمية في عبارة القرآن، ولا شك أن في هذا التعبير شيء من القسوة.

وتجد أيضًا أنها اتفقت على عبارة "المصلطحات العلمية"، ولم يذكر أحدهم الحقائق أو النظريات أو المكتشفات

أو المشاهدات العلمية، وهذا يؤيد اتحاد مصدر التعريف عندهم.

1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص140.

2 اللآلئ الحِسَان في علوم القرآن: موسى شاهين لاشين ص377.

3 لمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ ص203.

ص: 548

وتجدها أيضًا تصف صاحب التفسير العلمي بأنه "يجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية"، والذي أعتقده أن التفسير العلمي بمعناه المعروف لا يشمل إيراد الآراء الفلسفية، كما لا يعم مختلف العلوم؛ بل في أنواع معينة منها كالطب والرياضيات والفلك وعلم الحيوان والنبات والكيمياء وعلم طبقات الأرض، ونحو ذلك من العلوم التجريبية، فلا يشمل مختلف العلوم على إطلاقها.

ولذا فإني أعتقد قصور هذا التعريف، وقد انتقد هذا التعريف أيضًا الشيخ عبد الله الأهدل في رسالته "التفسير العلمي للقرآن الكريم"، فقال عن تعريف الخولي والذهبي:"فقولهما: يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن غير دقيق؛ لأنه ما كل تفسير علمي، كذلك وتعبيرهما هذا "يحكم" يُوحي بأن الآية المراد تفسيرها لها معنى آخر، غير المعنى العلمي الذي يراد منها أن تدل عليه، وهذا وإن صدق على بعض التفسير المتمحل والشطحات العلمية، فإنه لا ينطبق على البعض الآخر". ثم قال: "وربما كان التعريف الصحيح للتفسير العلمي أن يقال: "هو تفسير الآيات الكونية الواردة في القرآن على ضوء معطيات العلم الحديث، بغض النظر عن صوابه وخطئه"؛ ليشمل التفسير الصحيح والتفسير الخاطئ"1.

والذي يظهر لي -والله أعلم- أن التعريف الأقرب إلى أن يكون جامعًا مانعًا أن يقال: "المراد بالتفسير العلمي هو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي، على وجه يظهر به إعجاز للقرآن، يدل على مصدره، وصلاحيته لكل زمان ومكان".

ولا شك أن وصفه بـ"اجتهاد المفسر" يدخل فيه التفسير العلمي المقبول والمرفوض؛ لأن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وقولنا:"الربط" ليشمل ما هو تفسير وما هو من قبيله؛ كالاستئناس بالآية في قضية من قضاياه ونحو ذلك، وقولنا: "العلم

1 التفسير العلمي للقرآن الكريم: بحث ماجستير أعدَّه الشيخ عبد الله بن عبد الله الأهدل "نسخة مسحوبة على الاستنسل ص15".

ص: 549

التجريبي" يُخرج بقية العلوم الكلامية والفلسفية ونحوها، وقولنا: "على وجه" لبيان ثمرته، وقولنا: "يدل على مصدره" نقصد به أنه إذا ما ثبت هذا التوافق بين نصوص القرآن الكريم وحقائق العلوم، ولم يقع أيُّ تعارض بين نص قرآني وحقيقة علمية -مهما كانت جدتها وحداثتها- فإنه لا يمكن أن يقول مثل هذه النصوص بشر قبل اكتشافها بقرون، ولا بُدَّ من أن يكون المتكلم بها هو موجِدُ هذه الحقائق ومكونها؛ وهو الله سبحانه وتعالى، وقولنا: "وصلاحيته لكل زمان ومكان" نقصد به أنه صالح لكل عصر، لا تأتي عليه الأيام ولا الحدثان بما يبطل شيئًا منه، فهو صالح لكل عصر وأوان.

هذا ما ظهر لي الآن من المعنى المراد به، والله أعلم.

ص: 550

‌موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي

‌مدخل

موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي:

مما لا شك فيه أن مثل هذا اللون في تفسير القرآن الكريم في جدته وتجدده سيكون له خصوم، وسيكون له أنصار، يلتمس كل منهم دليلًا ينصر به رأيه ويؤيده به، ثم يكر على دليل الخصم فيبطله.

وقد كان هذا الأمر في التفسير العلمي للقرآن الكريم منذ لحظات بزوغه، ونحن وإن كنا لا نعرف هذا الحدث باليوم أو بالسنة، إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام الغزالي -المتوفَّى سنة 505هـ- من أوائل المتكلمين في هذا النوع من التفسير؛ وعلى هذا فيكون ظهوره على وجه التقريب في أواخر القرن الخامس الهجري، واتفقوا أيضًا على أن الغزالي نفسه أكثر مَن استوفى بيان هذا القول إلى عهده1.

ومما لا شك فيه أن الإمام الغزالي لم يكن وحيدًا في الميدان يجول ويصول،

1 انظر مثلًا: التفسير معالم حياته: أمين الخولي ص20، والتفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص140، ولمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ ص203، والتفسير العلمي للقرآن الكريم: عبد الله الأهدل ص85، اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص247، وغيرهم.

ص: 550

فقد نزل معه أنصار، ونازله خصوم، وما زالت المعركة الفكرية قائمة لم تهدأ لها ثائرة، ولم تقعد لها قائمة، ولم تطفأ لها نار.

وما دام حديثنا هنا محصورًا في العصر الحديث، فإنه لا يسعنا ونحن ندخل معركة طال عمرها، وسد الأفق غبارها، إلا وأن يكون لدينا علم ومعرفة بما قاله السابقون من الأنصار والخصوم؛ حتى نبدأ الطريق من أوله، ونأتي البيوت من أبوابها.

وبما أن الإمام الغزالي من أوائل المتكلمين في ذلك، وهو أيضًا من المؤيدين والمروجين لهذا اللون من التفسير؛ فإنا نبدأ بذكر آراء المؤيدين وبرأيه هو قبلهم.

ص: 551

‌رأي المؤيدين:

ونذكر من هؤلاء المؤيدين لهذا التفسير العلمي عددًا من العلماء المسلمين، الذين أظهروا تأييدهم له وأعلنوه، وكانوا من أوائل مطبقيه على نصوص القرآن الكريم؛ ومن هؤلاء:

الإمام الغزالي:

وقد بسط القول في هذا في كتابيه: إحياء علوم الدين، وجواهر القرآن، فقد عقد في أولهما الباب الرابع من كتاب آداب تلاوة القرآن في:"فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل"، دلل فيه على أن القرآن يشتمل على مجامع العلوم كلها، فقال مثلًا:"اعلم أن مَن زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه؛ ولكنه مخطئ في الحكم برد الخَلْق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه؛ بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا للأرباب الفهم، قال علي رضي الله عنه: "إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن"، فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للقرآن ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا"1.

1 سئل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن حديث: "للقرآن باطن، وللباطن باطن إلى سبعة أبطن"، فقال:"أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلقة، التي لم يروها أحدٌ من أهل العلم، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث؛ ولكن يُروَى عن الحسن البصري موقوفًا أو مرسلًا "أن لكل آية ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا". مجموع الفتاوى: لابن تيمية ج13 ص231، 232، وانظر ما كتبته عن الظاهر والباطن في منهج أهل السنة والجماعة.

ص: 551

ويُروى أيضًا عن ابن مسعود موقوفًا عليه، وهو من علماء التفسير، فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع؟ وقال علي -كرم الله وجهه-:"لو شئت لأوقرت سبعين بعيرًا من تفسير فاتحة الكتاب"، فما معناه وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار، وقال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهًا، وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فَهْم، وما بقي من فهمها أكثر، وقال آخرون: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف؛ إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع، وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم" عشرين مرة1، لا يكون إلا لتدبره باطن معانيها، وإلا فترجمتها وتفسرها ظاهر لا يحتاج مثله إلى تكرير، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"؛ وذلك لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر.

وبالجملة، فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها، والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فَهْم القرآن، ومجرد ظاهر التفسير لا يشير إلى ذلك؛ بل كل ما أشكل فيه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات، ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفَهْم بدركها"2.

ثم زاد ذلك بيانًا وتفصيلًا في كتابه جواهر القرآن، وقد اختصر حديثه هذا الأستاذ أمين الخولي3، واختصره أحسن منه الشيخ محمد حسين الذهبي،

1 رواه أبو ذر الهروي في معجمه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف. "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" للحافظ زين الدين العراقي، ضمن إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج1 ص289.

2 إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي ج1 ص296.

3 التفسير معالم حياته، منهجه اليوم: أمين الخولي ص20، 21.

ص: 552

فقال رحمه الله تعالى: "ثم إننا نتصفح كتابه "جواهر القرآن" الذي ألفه بعد الأحياء كما يظهر لنا من مقدمته؛ فنجده يزيد هذا الذي قرره في الإحياء بيانًا وتفصيلًا؛ فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها، وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها لا نطيل بذكرها، ويكفي أن نقول: إنه قسم علوم القرآن إلى قسمين:

أولًا: علم الصدف والقشر، وجعل من مشتملاته: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف، وعلم التفسير الظاهر.

والثاني: علم اللباب، وجعل من مشتملاته: علم قصص الأولين، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر، والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك.

ثم يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن؛ فيذكر علم الطب والنجوم وهيئة العالَم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه وعلم السحر وعلم الطلسمات وغير ذلك.

ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالَم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها؛ بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحية التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود واندرست الآن؛ فلن يوجد في هذه الأمصار على بسيط الأرض مَن يعرفها، وعلوم أخرى ليس في قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، والإمكان في حق الملَك محدود إلى غاية في الكمال، بالإضافة كما أنه في حق البهيمة محدود إلى غاية في النقصان1؛ وإنما الله سبحانه هو الذي لا يتناهى العلم في حقه".

ثم يقول بعد ذلك: "ثم هذه العلوم -ما عددناها وما لم نعدها- ليست

1 فيما نقله الشيخ الذهبي -رحمه الله تعالى- هنا سقط "سبق نظر" أصلحتُه من مرجعه.

ص: 553

أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادًا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى -وهو بحر الأفعال1- مثلًا الشفاء والمرض؛ كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 2، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله؛ إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه.

ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان} 3، وقال:{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} 4، وقال:{وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} 5، وقال:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} 6، وقال:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7.

ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما، وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا مَن عرف هيئات تركيب السماوات والأرض، وهو علم برأسه، ولا يعرف كمال معنى قوله:{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 8 إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها، وهي من علوم الأولين والآخرين، وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين.

وكذلك لا يعرف كمال

1 إن كان الضمير "هو" يرجع إلى لفظ الجلالة فإن "بحر الأفعال" ليست من أسمائه، ولا من صفاته عند السلف.

2 سورة الشعراء: من الآية 80.

3 سورة الرحمن: من الآية 5.

4 سورة يونس: من الآية 5.

5 سورة القيامة: الآيتين 8، 9.

6 سورة الحج: من الآية 61.

7 سورة يس: من الآية 38.

8 سورة الانفطار: الآيات 6، 7، 8.

ص: 554

معنى قوله: {سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 1 ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غاضمة يغفل عن طلبها أكثر الخَلْق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالِم بها، ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا تمكن الإشارة إلا إلى مجامعها

فتفكر في القرآن، والتمس غرائبه؛ لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين وجملة أوائله"2.

هذه بعض نصوص الإمام الغزالي، وإذا ما تأمل متأمل فيها وجد في نصوصه نحو قوله:"وفي القرآن إشارة إلى مجامعها"، "ففي القرآن إليه رموز وعلامات ودلالات عليه"، "ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة من القرآن"، وأخيرًا قوله:"وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين".

وللمتأمل أن يسأل عن موقف الغزالي؛ إذ إن هذه النصوص الدالة على أن في القرآن رموز

وعلامات

ودلالات وأوائل

ومجامع العلوم لا تدل دلالة كاملة على موقف صاحبها، وإن كانت صريحة في تأييد التفسير العلمي، إلا أنها تقصر عن تحديد مدى هذا التأييد، ولا يهمنا الأمر بقدر ما يهمنا أن هذه النصوص للإمام الغزالي -وهي من أقدم النصوص التي بين أيدينا من هذا النوع- تدل على أن قائلها قد وضع الأسس النظرية للتفسير العلمي، وبعبارة أخرى أصرح وأوضح: إن الغزالي روَّج للتفسير العلمي، ومهد السبيل لمن أراد سلوكه وإن كان هو لم يسكله؛ لكن جاء مِن بعده وقريب منه مَن التزم هذا النوع التزامًا بلغت درجته فيه أن قيل عن تفسيره فيه كل شيء إلا التفسير، ذلكم هو الفخر الرازي.

رأي الفخر الرازي "ت 606هـ":

والرازي نفسه يحس أنه مكثر من هذا النوع من التفسير؛ فيفترض اعتراضًا ويرد عليه؛ فيقول في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

1 سورة الحجر: من الآية 29.

2 جواهر القرآن: لأبي حامد الغزالي ص30.

ص: 555

وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 1 الآية: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله تعالى من علم الهيئة والنجوم وذلك ع، لى خلاف المعتاد؛ فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله عز وجل حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه:

الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزًا لما ملأ الله كتابه منها.

والثاني: أن تعالى قال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 2، فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها، ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها، وكيف خلق كل واحد منها.

والثالث: أنه تعالى قال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3، فبيَّن أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس.

الرابع: أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض، فقال:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} 4، ولو كان ذلك ممنوعًا منه لما فعل.

الخامس: أن مَن صنف كتابًا شريفًا مشتملًا على دقائق العلوم العقلية والنقلية؛ بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق، فالمعتقدون في شرفه وفضيلته

1 من سورة الأعراف: من الآية 54.

2 سورة ق: الآية 6.

3 سورة غافر: الآية 57.

4 سورة آل عمران: الآية 191.

ص: 556

فريقان؛ منهم مَن يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين، ومنهم مَن وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال، إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى، وأيضًا فكل مَن كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل"1.

ولذلك فإن الرازي وقد أبدى رأيه في التفسير العلمي، فإنه أكثر من تطبيقه في تفسيره، وتناول شتى العلوم والمعارف مما يبوئه درجة متقدمة في صفوف مؤيدي التفسير العلمي؛ بل بين متطرفي أنصاره.

رأي الزركشي "ت 794هـ":

ومن المؤيدين أيضًا الإمام بدرالدين الزركشي، متأثرًا -فيما يبدو لي- بموقف الإمام الغزالي؛ لاتحاد الأدلة وبعض العبارات؛ فقد أورد الزركشي بعض الأقوال التي أوردها الغزالي؛ كقول بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فَهْم، وما بقي من فهمها أكثر، وقول آخر: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ لكل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة؛ إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع

ثم عقب الزركشي عن هذه الأقوال وغيرها بقوله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله، فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالًا رحبًا، ومتسعًا بالغًا، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل، والسماع لا بُدَّ منه في ظاهر التفسير؛ ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تُفهم إلا باستماع فنون كثيرة

"2.

بل إن الإمام الزركشي -رحمه الله تعالى- عقد فصلًا خاصًّا عنونه بقوله: "في القرآن علم الأولين والآخرين"، وقال فيه: "وفي القرآن علم الأولين

1 التفسير الكبير: الفخر الرازي ج14 ص121.

2 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص154، 155.

ص: 557

والآخرين، وما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهمه الله تعالى

"1.

رأي السيوطي "ت 911هـ":

وذهب الإمام السيوطي إلى نحو ما ذهب إليه الإمامان: الغزالي والزركشي، وزاد على أدلتهما أدلة أخرى، وقد

أفرد النوع الخامس والستين من أنواع علوم القرآن في العلوم المستنبطة من القرآن، ودلل لذلك بقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وقال سبحانه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 3، وقال صلى الله عليه وسلم:"ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين، وقال البيهقي: يعني أصول العلم4.

وقال أيضًا: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل، إلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السماوات والأرض، وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى، وبدء الخلق، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة، وعيون أخبار الأمم السالفة، إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات"5.

رأي ابن أبي الفضل المرسي:

وأورد السيوطي -رحمه الله تعالى- لتأييد مذهبه نصًّا طويلًا لابن أبي الفضل المرسي، قال فيه عن القرآن الكريم:"قد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل؛ مثل: الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك"6.

1 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص181.

2 سورة الأنعام: من الآية 38.

3 سورة النحل: من الآية 89.

4 الإتقان في علوم القرآن: للإمام السيوطي ج2 ص125، 126.

5 المرجع السابق: ج2 ص129.

6 الاتقان: الإمام السيوطي ج2 ص127.

ص: 558

ثم ذهب يبين بعض مواضع ذلك؛ فيذكر مدار كل علم، ثم يذكر الآية التي جمعت ذلك حسب رأيه، وزاد على هذا بأن ذكر أن في القرآن أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها؛ كالخياطة والحدادة والنجارة والغزل والنسج والفلاحة والصيد والغوص والصياغة والزجاجة والفخار والملاحة

إلخ، وهو يذكر بعد كل مهنة ما يراه شاهدًا لها من القرآن الكريم.

كان هذا عرضًا لبعض آراء مؤيدي التفسير العلمي للقرآن الكريم؛ بل اشتماله على كل العلوم وشتى المعارف، ولم يكن هذا مسلمًا لهم ولم يكن سالمًا عن المعارضة والرفض.

ولئن أبحث لنفسي بعض الإطناب في ذكر آراء المؤيدين فإني سأكبح من جماحها في ذكر آراء المعارضين، ليس لتأييد فريق على فريق؛ وإنما لأن المعارض هنا هو الإمام الشاطبي الذي أشبع الحديث حتى لم يبقِ مكانًا لمزيد.

ص: 559

‌رأي المعارضين:

رأي الشاطبي "ت 790هـ":

بدأ الشاطبي -رحمه الله تعالى- حديثه ببيان العلوم التي كانت منتشرة بين العرب وقت نزول القرآن الكريم، ثم بيَّن موقف الشريعة من هذه العلوم بقوله:"فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه"1.

وذكر من ذلك علم النجوم وعلم الأنواء وأوقات نزول المطر وعلم التاريخ وأخبار الأمم الماضية، ثم بيَّن ما كان أكثره باطلًا أو جميعه؛ كعلم العيافة وازجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة، ومن النوع الأول الطب والتفنن في علوم البلاغة وضرب الأمثال2.

1 الموافقات: للإمام الشاطبي ج2 ص71-76.

2 الموافقات: للإمام الشاطبي ج2 ص71، 72.

ص: 559

ثم قرر بعد هذا: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد؛ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم1 والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما ينظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه -على ما تقدم- لم يصح، وإلى هذا فإن السلف الصالح -من الصحابة والتابعين ومن يليهم- كانوا أعرف بالقرآن ومعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكليف وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك ولو كان لهم في ذلم خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن؛ فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا2.

وبيَّن ذلك في موضع آخر عند ذكر العلوم المضافة إلى القرآن؛ فبعد أن ذكر من العلوم ما هو كالأداة لفهمه والوسيلة لاستخراج فوائده قال: "ولكن قد يدَّعَى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها مُعِينَةٌ على فَهْم القرآن، وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضًا، ولا يكون كذلك -كما تقدم في حكاية الرازي- في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فَهْم قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 3، وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة.

1 أي: الرياضيات من الهندية وغيرها.

2 الموافقات: الشاطبي ج2 ص79، 80.

3 سورة ق: من الآية 6.

ص: 560

وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم: هل كانوا آخذين بها أم تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير، فلينظر امرؤ أين يضع قدمه؟ "1.

ثم ذكر الشاطبي -رحمه الله تعالى- الرد على أولئك بما خلاصته: "إن ما استدلوا به من الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2 اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية، وما يُنقل عن علي رضي الله عنه أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه"3.

ذلكم موجز رأي الشاطبي -رحمه الله تعالى- ورده على أنصار التفسير العلمي للقرآن الكريم.

رأى أبي حيان الأندلسي "ت 745هـ":

ونقتصر في بيان رأيه -رحمه الله تعالى- على ذكر مَثَل طريف ضربه مثلًا لمن فسر القرآن بالرأي، فقد انتقد في تفسيره "البحر المحيط" طريقة الرازي في تفسيره وغيره، بقوله: "ونظير ما ذكره الرازي وغيره أن النحوي مثلًا يكون قد شرع في كتاب في النحو، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة، فذكر أن الألف في الله أهي منقلبة من ياء أو واو، ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه، ثم استطرد إلى أن من مضمومنه البعث والجزاء بالثواب وبالعقاب، ثم المثابون

1 الموافقات: الشاطبي ج3 ص375، 376.

2 سورة الأنعام: من الآية 38.

3 الموافقات: الشاطبي ج2 ص80، 81.

ص: 561

في الجنة لا ينقطع نعيمهم، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم، فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة إذا هو يتكلم في الجنة والنار، ومَن هذا سبيله في العلم فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة.

وكان استأذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي -قدس الله تربته- يقول ما معناه: متى رأيت الرجل ينتقبل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف؛ فاعلم أن ذلك إما لقصور علمه بذلك الفن، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه؛ حيث يظن أن المتغايرات متماثلات، وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به مَن يقف عليه، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير؛ بل إنما تركنا ذلك عمدًا، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير، وأسأل الله التوفيق والصواب"1.

وذلكم رأيه لا أظنه بحاجة إلى بيان، يرفض هذا اللون ويرفض القول به، لا عجزًا عنه؛ وإنما عمدًا وقصدًا لعدم الخروج عن حدود التفسير المقبول عنده.

وحتى لا نبهت القوم حقهم، ونحن نريد هنا الحديث عن موقف العلماء المعاصرين فيعتقد معتقد أن لا فرق بين المؤيدين القدامى والمعاصرين، فعلينا أن نعلن هنا حقيقة في حق العلماء السابقين الذين أجازوا مبدأ تفسير القرآن بالعلوم؛ تلكم هي أننا لا نكاد نصادف في آثارهم العلمية محاولات تطبيقية تلح على الربط بين النظرية العلمية والحقيقة القرآنية كما نجد في آثار علمائنا المعاصرين، ذلك أن شغلهم الشاغل في ذلك الوقت كان الاقتباس مما نقل إليهم من التراث اليوناني والانتفاع بمقولاته الفلسفية والمنطقية في تأكيد الحقيقة الدينية لتستقيم لهم قضية التوفيق بين العقل والنقل2.

أما في العصر الحديث، فإن الذين يؤيدون هذا الاتجاه العلمي في التفسير يزعمون أن القرآن يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية، ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر

1 البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي ج1 ص341.

2 الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت محمد الشرقاوي ص422، 423.

ص: 562

فيه وكان بحيث لا تعوزه أداة الفَهْم، ولا يلتوي عليه أمر من أموره؛ لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم1، فلا يكاد يجدُّ اختراع، أو يظهر اكتشاف، أو تُنَظَّر نظرية، إلا ويعيدون النظر والبحث في آيات القرآن، وكأنهم على موعد مؤكد مع آية قرآنية يطبقونها على هذا أو ذاك، زاعمين أن القرآن نص على هذا قبل كذا وكذا من القرون.

بمعنى آخر: إن السابقين جعلوا الحقيقة القرآنية اصلًا، ذكروا ما يؤيد هذه الحقيقة من نظريات أو حقائق علممية، وإن المعاصرين جعلوا النظريات أو الحقائق العلمية أصلًا يدعمونها ويفسرونها بآيات قرآنية قد تؤيدها صراحة أو يفهم منها ذلك، وقد لا تدل على شيء من هذا؛ فيتكلفون في التوفيق بين هذا وذاك.

وحقيقة أخرى -خاصة- أني لا أقصد فيما قلت هنا بـ"السابقين" أو بـ"المعاصرين" العموم والشمول؛ وإنما أردت غالبهم، وما هم بقليل.

1 إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي ص142.

ص: 563

‌موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي

‌مدخل

موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي:

ولا زالت المعركة العلمية هذه مشتعلة؛ بل زاد لهبها، واشتعل أوارها، وتنوع وتطور سلاحها، وتطرف المتطرفون، واعتدل المعتدلون.

وقال أحد المتطرفين ولم يستثنِ أحدًا: "إن دراسة القرآن في العصور الخالية كانت تكلفية، وقراءة سطحية، وعلومًا لفظية، فعكف الناس على الألفاظ، وكثر الحفاظ، وقَلَّ المفكرون؛ فجمدت القرائح، وماتت العلوم"2؛ بل دعا العلماء إلى التفطن لما ذكره وتفسير القرآن نحو تفسيره: "وإن لم يفعلوا ذلك لم تعش الأمم الإسلامية قرنًا واحدًا؛ بل تفنيها الأمم الأجنبية"1.

وقال متطرف آخر من الناحية الأخرى، وهو وإن تطرف في الرفض؛ لكنه

1 الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري ج2 ص211.

ص: 563

لم يتطرف في العبارة كتطرف السابق؛ فقد اكتفى بأن وصف التفسير العلمي بأنه "بدعة حمقاء"1، ووصفه بأنه "التفسير الحرباوي"2؛ لأنه يعتقد أن صاحبه يغير تفسيره حسب تغير العلوم وتجدد النظريات.

وإذا ما تأمل متأمل وتدبر في أقوال متعصبي الفريقين لرأى رأي العين أن الفريقين لا يتكلمون لغة واحدة، ويصول كل منهم ويجول في غير ميدان الآخر، ولو أزالوا على أعينهم غشاوة التعصب لرأوا فيما بينهم جزيرة خضراء، فيها الثمر الداني، والهواء العليل، والماء القراح، يمكن أن يلتقوا فيها، ففيها متسع لآرائهم، وفيها مجال لأقوالهم؛ بحيث تكون كلمتهم واحدة، وموقفهم واحدًا.

وإذا ما تأمل وتدبر مرة أخرى؛ فإنه سيجد أن العلماء وإن كانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

1-

متطرفين في التأييد.

2-

متطرفين في الرفض.

3-

معتدلين.

فإنه إذا تدبر سيجد أنهم ينقسمون حقيقة إلى قسمين من حيث القبول والرد؛ فالقسم الأول والقسم الثالث كلاهما يقبل التفسير العلمي وإن اختلفت درجتهما في القبول، والقسم الثاني يرفضه، ومن هذا التقسيم الأخير سيكون منطلقنا لعرض آراء العلماء في العصر الحديث في ذلك.

1 الذكر الحكيم: محمد كامل حسين ص182.

2 المرجع السابق: ص186.

ص: 564

‌أقوال المؤيدين:

وليس من السهل ولا من المقبول أن نبسط القول لكل قائل به؛ بل نقتصر من كلامه ونعتصر ما فيه الدلالة؛ فمن هؤلاء:

الجواهري:

وإنما نبدأ به لكونه قد أصبح عَلَمًا في هذا اللون من التفسير، لا يكاد يذكر هذا إلا ويذكر ذاك، وإن كنا سنعرض له بدراسة خاصة ولتفسيره، فإنا نذكر هنا بعض عباراته لتأييد هذا اللون من التفسير، فمن ذلك قوله مثلًا: "يا أمة الإسلام، آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعًا من علم الرياضيات، فما بالكم -أيها الناس- بسبعمائة آية، فيها عجائب الدنيا كلها، الله أكبر، جل العلم وجلت الحكمة، هذا زمان العلوم، هذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه، يا ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؛ ولكني أقول: والحمد لله إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية. فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله، وهي فرض عين على كل قادر.

إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب وظهور الحقائق، والله يهدي مَن يشاء إلى سواء الصراط"1.

ويقول أيضًا: "لماذا ألَّف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل، لا تصل مائة وخمسين آية، فلماذا كثر التأليف في علم الفقه وقل جدًّا في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؛ بل هي تبلغ 750 آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة، فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة ويجهلون علمًا آياته كثيرة جدًّا، إن آباءنا برعوا في الفقه؛ فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات، لنقم به لترقى الأمة"2.

1 الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري ج3 ص19، 20.

2 المرجع السابق: ج25 ص55، 56.

ص: 565

رأي الإسكندراني:

وهو محمد بن أحمد الإسكندراني، صاحب كتاب "كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية"، وهو تفسير لا يقل عن تفسير الجواهر السابق في توسعه العلمي، وقد ألمح في مقدمته القصيرة للتفسير عن موضع علم التفسير بقوله:"فموضوع علم التفسير كلام الله تعالى الذي يُتوصل به إلى معرفة الأجرام السماوية والأرضية، والمولدات الثلاثة والتوحيد والأحكام الشرعية، وغايته معرفة جمع الأحكام المستنبطة من الآيات الشريفة القرآنية، فمنفعته عامة لعموم الاحتياج إليه، وفائدته مطلوبة لترتب بقاء الأحكام عليه؛ فلذلك كانت معرفته من أقرب الوسائل إلى الاعتراف بالخالق ذي الصفات العلية، ولا شك أن لهذه الأجرام المشار إليها والآثار مؤثر؛ وهو الإله الموجد للعقول والنفوس والأجسام الفلكية والعنصرية"1.

رأي الكواكبي:

وعبد الرحمن الكواكبي يرى أن القرآن الكريم سبق علماء أوربا وأمريكا بثلاثة عشر قرنًا إلى كثير من الاكتشافات التي تعزى إليهم، فيقول:"إن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة، تُعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا وأمريكا، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح أو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن، شاهدة بأنه كلام ربٍّ لا يعلم الغيب سواه"2.

رأي محمد مصطفى المراغي:

وأيَّد التفسير العلمي الشيخ محمد المراغي فقال في مقدمته لكتاب "الإسلام والطب الحديث": "قرأت لسعادة الطبيب النطاسي عبد العزيز إسماعيل باشا

1 كشف الأسرار النورانية: محمد أحمد الإسكندراني ج1 ص3.

2 طبائع الاستبداد: عبد الرحمن الكواكبي ص44.

ص: 566

نتفًا مما كان يُكتب له بمجلة الأزهر تحت عنوان "الإسلام والطب الحديث"؛ فأعجبني منه ما توخاه من التوفيق بين معاني بعض الآيات القرآنية الكريمة وبين مقررات الطب الحديث، وحمدت له هذه النزعة العلمية التي لو تحلى بها كل مبرز في فرع من فروع العلم؛ لاجتمع لدينا ذخر عظيم من هذه التطبيقات الثمينة، تستفيد منه النابتة الحديثة زيادة معرفة بإعجاز القرآن، وإيقان بأن الله ما فرط في كتابه من شيء.

لست أريد من هذا أن أقول: إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلًا بالأسلوب التعليمي المعروف؛ وإنما أريد أن أقول: إنه أتى بأصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته والعمل به؛ ليبلغ درجة الكمال جسدًا ورُوحًا، وترك الباب مفتوحًا لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة؛ ليبينوا للناس جزئياتها بقدر ما أوتوا منها في الزمان الذي هم عائشون فيه"1.

رأي محمد رشيد رضا:

أما الشيخ محمد رشيد رضا فيعد هذا نوعًا من أنواع الإعجاز للقرآن، فيقول:"الوجه السابع: اشتمال القرآن على تحقيق كثير من المسائل العلمية والتاريخية التي لم تكن معروفة في عصر نزوله، ثم عرفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحققين من طبيعة الكون وتاريخ البشر وسنن ذلك في الخَلْق"2، ثم ذكر الأمثلة لذلك.

رأي محمد فريد وجدي:

وقال الأستاذ وجدي: "من مطالب الأوساط من الدين أن يكون مرنًا يتسع لما يجد من الآراء العلمية ولا يستعصي على ما يثبت أو يرجح من المذاهب الفلسفية، ولا ما يقوم الدليل عليه من الشئون الكونية، والواقع أنه قليل على الإسلام أن يُوصف بالمرونة وسَعَة الصدر للآراء والمذاهب والكونيات؛ لأنه دين

1 الإسلام والطب الحديث: عبد العزيز إسماعيل، مقدمة الشيخ محمد مصطفى المراغي ص5، 6.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص210.

ص: 567

انطلاق وتعقل وتفكير ومطالبة بالفَهْم وبالدليل، وإشعار بالتبعية الشخصية، ونهي عن التقليد"1.

وقال في موضع آخر: "وخير ينبوع يستمد منه العلم كتاب الله عز وجل، فهو الخضم الغطمطم2 الذي لا ساحل له"، ثم قال: "هنا يتغالى بعضهم فيسألون: هل للتليفون والتلغراف والراديو

إلخ إلخ من ذكر في القرآن، مصدقًا لقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 3؟ هذا التغالي ناشئ من سوء فَهْم الآية الكريمة، قال العلامة البيضاوي في تفسيرها: "المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالَم من الجليل والدقيق

أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلًا أو مجملًا".

فأنت ترى أن المفسرين لم يفهموا من هذه الآية ما يريد أن يفهمه الناس اليوم؛ من أن القرآن يحوي كل شيء لفظًا ومعنى، وكل ما يكتشف من العلم في سائر الوجود إلى يوم القيامة إشارة وعبارة؛ لذلك يتكلف المسئولون عن ورود المكتشفات الجديدة في الكتاب أجوبة يصرفون فيها بعض الآيات عن معانيها؛ لتنطبق على ما يسألون عنه مما لا عَلاقة لها به ألبتة"4.

رأي جمال الدين القاسمي:

أما الشيخ جمال الدين القاسمي فقد عقد في مقدمته لتفسيره فصلًا بعنوان: "فصل في بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن الكريم"، جاء فيه بعد ان فسَّر بعض الآيات تفسيرًا علميًّا: "فالناس قديمًا فهموا أمثال هذه الآية

1 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص51.

2 قال في لسان العرب: "الغطم: البحر العظيم الكثير الماء

والغَطْمَطَة: التطام الأمواج".

3 سورة الأنعام: من الآية 38.

4 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري من تقريظ الأستاذ محمد فريد وجدي ص8، 9.

ص: 568

بما يوافق علومهم، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء علمنا أنهم كانوا واهمين، وفهمنا معناها الصحيح، فكأن هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين تظهر لهم كلما تقدمت علومهم"1.

رأي مصطفى صادق الرافعي:

أما الرافعي فيقول عن إعجاز القرآن الكريم العلمي وتفسيره به: "ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه وكان بحيث لا تعوزه أداة الفَهْم، ولا يلتوي عليه أمر من أمره؛ لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم، وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها"2.

رأي محمود شكري الألوسي:

قال في مقدمة كتابه "ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان": "اعلم أن الشريعة الغراء لم ترد باستيعاب قواعد العلوم الرياضية؛ إنما وردت بما يستوجب سعادة المكلفين في العاجل والآجل، وبيان ما يتوصلون به إلى الفوز بالنعيم المقيم، وربما أشارت لهذه الأغراض إلى ما يستنبط منه بعض القواعد الرياضية.

وقد ورد القرآن الكريم -في بيان ذلك- بما خاطب به العرب مما يعلمونه من علوم تلقوها خلفًا عن سلف، فقد كانت لهم علوم ذكرناها في الكتاب الذي ألفناه في بيان أحوالهم"3.

رأي عبد الحميد بن باديس:

وقال الشيخ عبد الحميد: "من أساليب الهداية القرآنية إلى العلوم الكونية أن يعرض علينا القرآن صورًا من العالَم العلوي والسفلي في بيان بديع

1 محاسن التأويل: محمد جمال الدين القاسمي ج1 ص337.

2 إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي ص142.

3 ما دل عليه القرآن: محمود شكري الألوسي ص11.

ص: 569

جذاب، يشوقنا إلى التأمل فيها والتعمق في أسرارها، وهنا1 يذكر لنا ما خبأه في السماوات والأرض لنشتاق إليه، وننبعث في البحث عنه، واستجلاء حقائقه ومنافعه، بدافع غريزة حب الاستطلاع، ومعرفة المجهول، وبمثل هذا انبعث أسلافنا في خدمة العلم، واستثمار ما في الكون إلى أقصى ما استطاعوا، ومهدوا بذلك السبيل لمن جاء بعدهم، ولن نعز عزهم إلا إذا فهمنا الدين فَهْمهم وخدمنا العلم خدمتهم"2.

وقال في موضع آخر: "لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية؛ ذلك الكتاب الذي جعله الله حجة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبرهانًا لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم وتقدموا في العرفان

"3.

رأي محمد أحمد الغمراوي:

أما الأستاذ الغمراوي فهو يرى أن الإعجاز العلمي هو الذي لا يتوقف تقديره والتسليم به على معرفة لغة لا تتيسر معرفتها لكل أحد، ويرى أيضًا أن الناحية العلمية هذه تشمل كل النواحي ما عدا الناحية البلاغية، فتشمل الناحية النفسية والتشريعية والتاريخية والكونية.

ثم قال: "هذه النواحي هي التي ينبغي أن يشمر المسلمون للكشف عنها وإظهارها للناس في هذا العصر الحديث، ولن يستطيعوا ذلك على وجهه حتى يطلبوا العلوم كلها؛ ليستعينوا بكل علم على تفهم ما اتصل به من آيات القرآن، ويستعينوا بها جميعًا على استظهارأسرار آيات القرآن التي اتصلت بالعلوم جميعًا، ولا غرابة في أن يتصل القرآن بالعلوم جميعًا؛ فما العلوم إلا نتاج تطلب الإنسانية أسرار الفطرة، والقرآن ما هو إلا كتاب الله فاطر الفطرة، فلا غرو أن يتطابق القرآن والفطرة، وتتجاوب كلماتها وكلماته، وإن كانت كلماتها

1 ورد هذا النص في تفسيره لقوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] .

2 تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير: عبد الحميد بن باديس ص460.

3 المرجع السابق ص60.

ص: 570

وقائع وسننًا، وكلماته عبارات وإشارات تتضح وتنبههم طبق ما تقتضيه حكمة الله في مخاطبة خَلْقه؛ ليأخذ منها كل عصر على قدر ما أوتي من العلم والفَهْم، وكذلك دواليك على مر العصور

".

إلى أن قال: "هذا النوع من الإعجاز يعجز الإلحاد أن يجد موضعًا للتشكيك فيه، إلا أن يتبرأ من العقل؛ فإن الحقيقة العلمية -التي لم تعرفها الإنسانية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلًا، والتي ذكرها القرآن- لا بُدَّ أن تقوم عند كل ذي عقل دليلًا محسوسًا على أن خالق هذه الحقيقة هو منزل القرآن"1.

رأي الدكتور عبد العزيز إسماعيل:

ويرى الطبيب عبد العزيز إسماعيل في كتابه "الإسلام والطب الحديث" أن من إعجاز القرآن فصاحته، وأن المتأخرين أمثالنا أكثرهم لا يقدر الفصاحة حق تقديرها لعدم تبحرهم فيها، وأنه لهذا كان من الضروري إظهار إعجاز القرآن من نواحٍ أخرى "فالقرآن ليس بكتاب طب أو هندسة أو فلك؛ ولكنه يشير أحيانًا إلى سنن طبيعية ترجع إلى هذه العلوم، وبما أنه صادر من واضع السنن كلها كان جميع ما جاء فيه حقًّا لا شبهة فيه، وإن لم يكن ذلك مدركًا وقت نزوله إلا على طريق الإجمال أو التأويل؛ لعدم استبحار العلوم إذ ذاك؛ ولكن مع الترقي في العلوم قلما كان يعمد إلى تأويله، وكثر ما وجب أخذه على ظاهره في ذلك العهد".

إلى أن قال منبهًا: "ويجب أن أنبه إلى نقطة هامة؛ وهي أن العلوم مهما تقدمت فهي عرضة للزلل، فينبغي ألا يطبق على الآيات الكريمة إلا ما يكون قد ثبت ثبوتًا قطعيًّا ولم يقبل الشك، فكثير من النظريات العلمية عرضة للتغيير والتبديل، وهذه لا يجوز تطبيقها على الآيات حتى ولو اتفقت مع ظاهرها؛ إنما يطبق منها ما يكون قد اجتاز دور النظريات وصار حقيقة ثابتة لا شك فيها"2.

رأي حنفي أحمد:

وفي كتابه التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن يرى الأستاذ حنفي

1 الإسلام في عصر العلم: محمد أحمد الغمراوي ص257-259.

2 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص13، 14.

ص: 571

أحمد أن الحديث في القرآن عن الكائنات جاء كما جاء غيره من الأحاديث مناسبًا لجميع الناس على اختلاف درجات عقولهم وأفهامهم.

ثم قال: "ولكن المتأملين في هذا الحديث من أهل العلم والخبرة بالكائنات يرون في ألفاظه وعباراته فوق معانيها الظاهرة معاني أخرى دقيقة، تنطوي على أصول وجوامع من العلم الواسع الدقيق عن الكائنات الذي لم يكن معروفًا للناس من قبل، ولم يتعرفوا عليه إلا تدريجًا بعد انتشار العلم الحديث بينهم في القرنين الأخيرين، وتنكشف هذه المعاني الدقيقة لهؤلاء المتأملين من أصحاب العقول الراجحة على ضوء علمهم الخاص، إما من صريح النص حينًا وإما من إشارات ورموز فيه حينًا آخر1.

رأي عبد الرزاق نوفل:

أما الأستاذ عبد الرزاق نوفل، فكل كتبه حديث عن الإعجاز العلمي إلا القليل منها، وجاء في أحد مؤلفاته قوله: "إن من ضمن أوجه إعجازه التي تخرص ألسنة كل مكابر الإعجاز العلمي؛ فقد أثبت التقدم الفكري في العلوم في العصر الحديث أن القرآن كتاب علم، قد جمع أصول كل العلوم والحكمة، وكل مستحدث من العلم نجد أن القرآن قد وجه إليه

النظر أو أشار إليه

"2.

رأي محمد متولي الشعراوي:

أما الشيخ محمد متولي الشعراوي، فيرى أن القرآن الكريم مزَّق حواجز الغيب الثلاثة

مزق حجاب الزمن الماضي، وروى لنا بالتفصيل تاريخ الرسل وحوادث مَن سبقنا مِن الأمم

ومزق حجاب المكان، وروى لنا ما يدور داخل نفوس الكفار، والذين يحابرون الإسلام

ومزق حجاب المستقبل القريب، وتنبأ بأحداث ستقع بعد شهور.

ثم قال: "ثم بعد ذلك مزق القرآن حجاب المستقبل البعيد؛ ليعطي الأجيال القادمة من إعجازه ما يجعلهم يصدِّقون القرآن ويسجدون لقائله وهو الله؛ ولكن القرآن نزل في زمن لو أن هذه المعجزات المستقبلة جاءت تفصيلية لكفر عدد من المؤمنين، وانصرف

1 التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن: حنفي أحمد ص5، 6.

2 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل ص23.

ص: 572

آخرون؛ ذلك أن الكلام كان فوق طاقة العقول في ذلك الوقت؛ ومن هنا وحتى لا يخرج المؤمن عن إيمانه، ويستمر الإعجاز جاء القرآن بنهايات النظريات، بقمة نواميس الكون إذا تليت على المؤمنين في ذلك الوقت

مرت عليهم ولم ينتبهوا إلى مدلولها الحقيقي العلمي، وإذا قيلت بعد ذلك على الأجيال القادمة عرفوا ما فيها من إعجاز، وقالوا: إن هذا الكلام لا يمكن أن يقوله شخص عاش منذ آلاف السنين؛ إذًا لَا بُدَّ أن هذا القرآن حق من عند الله، وأن قائله هو الله الخالق"1.

رأي محمود أبو الفيض المنوفي:

وذلك في كتابه "القرآن والعلوم الحديثة"، قال فيه:"إن العلم في عصرنا الحاضر قد كشف عن حقائق قرآنية كثيرة وردت في آياتٍ من كتاب الله قبل أن يرتقي العلم ويشب عن الطوق"2.

وعقد في موضع آخر فصلًا بعنوان: "في أن القرآن هو الإمام الذي أحصى الله فيه كل شيء تصريحًا أو تلميحًا"، وجاء فيه قوله عن القرآن الكريم: "إنه أول كتاب ديني تصدَّى للكلام عن أصول المعارف العلمية والفلسفية أحيانًا تلميحًا وأخرى تصريحًا، ومرة إجمالًا وأخرى تفصيلًا، وكان ذلك طبعًا قبل أن يكتشف العلم أسلوبه الحديث، وقبل أن يخلق العلماء المحدثون، وقد تكلم القرآن إجمالًا عن الكائنات السماوية والأرضية في مجموعها من ألغاز إلى السدم إلى الكواكب والشموس والأفلاك والشهب والنيازك، وعن شمسنا ونظامنا وانشقاق الأرض عنها وباقي السيارات وتوابعها، وتكلم عن بقية الخليقة من جماد ونبات وحيوان، وكيفية تكوين الجنينين النباتي والحيواني وجنين الإنسان

"3.

1 معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي ص38، 39.

2 القرآن والعلوم الحديثة: محمود أبو الفيض المتوفي ص18.

3 القرآن والعلوم الحديثة: محمود أبو الفيض المنوفي ص49، 50.

ص: 573

رأي محمود أحمد مهدي:

قال في كتابه البرهان من القرآن: "في القرآن الكريم 750 آية كونية تشرح بإيجاز خلاصة ما أكن الله سبحانه في العوالم الكونية من تراكيب مادية بدقة تدق على العقل، أوجد بها هذه المكونات من سماء وأرض ونبات وحيوان"1.

وقال في موضع آخر: "والآن ونحن في أواخر القرن العشرين، هذا القرن الذي بلغ بزعم عرفائه القمة من إدراك العلم وتحقيق غاياته، يجب أن نواتر من الآيات القرآنية ما يتوافق مع الكشوف العلمية المستحدثة، وما يرد العلم رغمًا عنه إلى الموافقة على عظمة القرآن الكريم، مقارنين كل آية بما يقابلها من التحقيق العلمي الحاضر"2.

رأي محمد بن سعيد الدبل:

وعدَّد الأستاذ محمد الدبل وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وعَدَّ منها الإعجاز العلمي، وقال عنه:"وقد سلك القرآن الكريم في هذا الوجه طريقة الاستدلال على خالق الكون ومنشئه استدلالًا فطريًّا يتناسب مع جميع العقول والأفهام؛ فتحدثت آياته عن كل ما يحيط بالإنسان من عجائب هذا الكون، تحدث عن الأرض والسماء، والليل والنهار، والشمس والقمر، وعن الجبال والبحار، والرياح والنبات والحيوان، وعن الإنسان نفسه، ذلك الآدمي الذي يسخر تلك المخلوقات فيما يزود به معاشه بقدرة الخالق الحكيم، كما أشار القرآن إلى حقائق أماط اللثام عن الحكمة من وجودها، وأشار إلى حقائق تارة بالتلميح وتارة بالتصريح ومرة بالإجمال وأخرى بالتفصيل"3.

رأي الشيخ عبد العزيز بن خلف آل خلف:

قال في كتاب له شحنه بالتفسير العلمي: "فقد أنزل الله القرآن العزيز تبيانًا؛ أي: مبين، ودليل على كل ما يمكن أن يقال له شيء من جميع ما في السماوات

1 البرهان من القرآن: محمود أحمد مهدي ص47، 48.

2 المرجع السابق ص46.

3 النظم القرآني في سورة الرعد: محمد بن سعد الدبل ص29.

ص: 574

وما في الأرض"1.

وقال: "إنه من الواجب على المسلمين -الفرد منهم والجماعة، وعلى أولي العلم أوجب- أن يفتشوا في طياته؛ حتى يظهر الدليل القطعي على كل صغير وكبير، ونطبق معانيه المباركة على صيرورة تلك المستحدثات المصنوعة التي بهرت عقول الجاهلين، كل فرد بمفرده؛ حتى تكون صيرورتها معجزات متتابعات من معجزات القرآن العزيز"2.

وقال: "إن من الحق الذي لا ريب فيه أن القرآن العزيز قد حمل في طياته للبشرية كل هدى، وكل دليل بارز على كل أمر يحدث في هذا الكون ديني أو دنيوي للنفع أو للضرر"1.

رأي الدكتور محمد عبد الله دراز:

قال الدكتور دراز في كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم" تحت عنوان حقائق علمية: "ولكن القرآن في دعوته إلى الإيمان والفضيلة لا يسوق الدروس من التعاليم الدينية والأحاديث الجارية وحدها؛ وإنما يستخدم في هذا الشأن الحقائق الكونية الدائمة، ويدعو عقولنا إلى تأمل قوانينها الثابتة، لا بغرض دراستها وفَهْمِها في ذاتها فحسب؛ وإنما لأنها تذكِّر بالخالق الحكيم القدير، ونلاحظ أن هذه الحقائق التي يقدمها تتفق تمامًا مع آخر ما توصل إليه العلم الحديث"، ثم ذكر -رحمه الله تعالى- أمثلة لذلك.

وعلق على ذلك بقوله: "ولكن الحماس دفع بعض المفسرين المحدثين إلى المبالغة في استخدام هذه الطريقة التوفيقية لصالح القرآن؛ بحيث أصبحت خطرًا على الإيمان ذاته؛ لأنها إما أن تقلل من الاعتماد على معنى النص باستنطاقه ما لا تحتمله ألفاظه وجمله، وإما أن تعول أكثر مما يجب على آراء العلماء، وحتى على افتراضاتهم المتناقضة، أو التي يصعب التحقيق من صحتها.

1 دليل المستفيد على كل مستحدث جديد: الشيخ عبد العزيز بن خلف بن عبد الله آل خلف ج1 ص68.

2 المرجع السابق ج1 ص70.

ص: 575

وبعد أن نستبعد هذه المبالغات عن البحث نرى أن من مقتضيات الإيمان -التي لا غنى عنها- أن نضاهي الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن مع نتائج العلماء المنهجية البطيئة"1.

رأي حسن البنا:

قسَّم -رحمه الله تعالى- المقررات العلمية إلى قسمين: قسم تظاهرت عليه الأدلة وتوافرت الحجج؛ حتى كاد يلحق بالبدهيات، وقسم لا زال في طور البحث العلمي، وكل الذي بين يدي العلماء الكونيين منه فروض تؤيدها بعض القرائن التي لم ترقَ إلى مرتبة الأدلة القاطعة أو الحجج المقنعة، فما كان من القسم الأول فلا شك أن ما أشار إليه القرآن الكريم منه يوافق كل الموافقة ويطابق كل المطابقة ما عرفه العلماء الكونيون؛ حتى إنه من الحق أن يقال: إن ذلك من إعجاز هذا الكتاب الذي جاء به أمي لم يتعلم في مدرسة، ولم يلتحق بجامعة من الجامعات، ومن أمثلة ذلك إشاراته إلى أطوار الجنين، وتلقيح الرياح، وتَكَوُّن السحاب وصلته بالرياح

إلخ.

وما كان من القسم الثاني فمن التجني وظلم الحقيقة أن يوازن بينه وبين ما جاء في القرآن الكريم، فلننتظر حتى يطمئن العلم الكوني إلى ما بين يديه2.

وبعد:

هذه إشارات لآراء بعض مؤيدي التفسير العلمي، ولا شك أني أكثرت من عددهم وإن لم أكن أطلت في بسط آراء كل منهم وعمدًا أكثرت، وقصدًا أوجزت؛ وإنما فعلت ما فعلت لأمور خمسة أمست الكفاية في بعضها قائمة وحجة أحسبها لي.

أول هذه الأمور: أني قصدت بيان مدى انتشار القول بالتفسير العلمي في العصر الحديث، وأنه قد أصبح شائعًا وأضحى مطروقًا.

وثانيها: أني قصدت بيان توزعهم زمنًا؛ حتى كان فيهم مَن تُوفي أوائل

1 مدخل إلى القرآن الكريم: الدكتور محمد عبد الله دراز ص176، 177.

2 مقدمة في التفسير مع تفسير الفاتحة وأوائل سورة البقرة: حسن البنا ص21.

ص: 576

القرن الرابع عشر، ومنهم مَن لا يزال حيًّا يرزق، وكلهم مؤيد له، مدافع عنه، لم يرجع آخرهم عن قول أولهم.

وثالثها: أني قصدت بيان انتشارهم مكانًا؛ ففيهم المصري والشامي والجزائري والعراقي والسعودي وغيرهم.

ورابعها: أني قصدت تعدد مذاهبهم وعقائدهم؛ ففيهم السني وفيهم الشيعي وفيهم الصوفي وغيرهم.

وخامسها: أني قصدت تعدد تخصصهم العلمي؛ ففيهم القاضي وفيهم الطبيب والمهندس والصيدلي والفلكي واللغوي والمعلم الأديب وغيرهم.

وهذه مجتمعة رأيت أنها تشفع لي -بل توجب عليَّ- أن أذكر الكثير من مؤيدي التفسير العلمي؛ حتى أعطي الصورة الحقيقية للواقع، وهي مرادنا.

وأخيرًا، حقيقة يجب أن أنبه إليها أن هؤلاء المذكورين ليسوا كلهم على درجة واحدة في قبولهم للتفسير العلمي؛ فإن فيهم مَن يؤيده كل التأييد ويقبله كل القبول، لا يرد منه شيئًا، ويعتقد أن القرآن تبيان لكل شيء؛ بمعنى أنه مبين لكل شيء بخصوصه ودقائقه وتفاصيله، وفيهم مَن يعتقد أن فيه تأييد كل الحقائق العلمية، وفيهم -أخيرًا- مَن يعتقد قبول التفسير العلمي على أضيق نطاق، وعدم تطبيق الآيات العلمية، ووجد في نصوص الآيات القرآنية ما يدل دلالة صريحة عليها، بمعنى آخر: لا يجوز التفسير العلمي وعندهم إلا بالربط بين حقيقة علمية وحقيقة قرآنية، أما الحقيقة العلمية فواضحة وبينة، أما مرادهم بالحقيقة القرآنية فهي التي تكون الدلالة فيها واضحة بينة، لا تكلف فيها ولا تحريف، ولا صرف للألفاظ عن مدلولاتها، أو تحميلها من المعاني ما لا تستوعبه ألفاظها.

وإنما ساغ لي أن جمعتهم -وهم على هذا الاختلاف- أن قبوله والاعتراف به يجمعهم، وأنهم تناولوه -على تفاوت- في تفاسيرهم؛ فكان هذا رباطًا بينهم، وجامعًا لأقوالهم.

أما الطائفة الأخرى منهم الذين رفضوه، ورفضوا القول به، ورفضوا قبوله، ورفضوا تطبيقه.

ص: 577

‌أقوال المعارضين:

وهم ولا شك وإن كانوا الأقل إلا أنهم ليسوا بقلة، وفوق هذا منهم أعلام لرأيهم قيمته ومكانته، وذِكْرُنا لذلك العدد من المؤيدين يوجب علينا ذِكْرَ مثلهم أو ما يقاربه من المعارضين؛ التماسًا للحياد في العرض، والعدالة في القسمة؛ فمن هؤلاء:

محمود شلتوت:

وهو من أبرز المعارضين للتفسير العلمي وأشهرهم؛ فقد ذكر في تفسيره ناحيتين يجب تنزيه التفسير عنهما، وجعل تفسير القرآن على مقتضى النظريات العلمية الناحية الثانية منهما، فقال:

"وأما الناحية الثانية: فإن طائفة أخرى هي طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلم الحديث، وتلقنوا أو تلقفوا شيئًا من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها، أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة، ويفسرون آيات القرآن على مقتضاها.

نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1؛ فتأولوها على نحو زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحًا جديدًا؛ ففسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.

1 سورة الأنعام: من الآية 38.

ص: 578

نظروا في القرآن على هذا الأساس؛ فأفسد ذلك عليهم أَمْرَ علاقتهم بالقرآن، وأفضى بهم إلى صورمن التفكير لا يريدها القرآن، ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله، فإذا مرت بهم آية فيها ذِكْر للمطر، أو وصف للسحاب، أو حديث عن الرعد أو البرق؛ تهللوا واستبشروا، وقالوا: هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين، ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب، وكيف ينشأ، وكيف تسوقه الرياح".

ولم يزل الشيخ شلتوت يذكر بعض الأمثلة الخاطئة في التفسير العلمي، ثم عقب عليها ببيان جوانب الخطأ في هذا الاتجاه بقوله:

"هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك؛ لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف.

وهي خاطئة من غير شك؛ لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلًا متكلفًا، يتنافى مع الإعجاز، ولا يسيغه الذوق السليم.

وهي خاطئة؛ لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصح غدًا من الخرافات.

فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة؛ لعرضناه للتقلب معها، وتحمل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفًا حرجًا للدفاع عنه.

فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخَلْق وظواهر الطبيعة؛ إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر؛ ليزداد الناس إيمانًا مع إيمانهم.

وحسبنا أن القرآن لم يصادم -ولن يصادم- حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول"1.

1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص11، 13، 14.

ص: 579

وهأنت ترى أن الشيخ شلتوت يرفض هذا اللون من التفسير، ويعده مما يجب أن ينزه عنه التفسير، ويذكر جوانب الخطأ فيه، ويدعو إلى أن ندع للقرآن عظمته وجلالته، مع اعترافه أن القرآن لم يصادم -ولن يصادم- حقيقة علمية.

والذي أعتقده أن الشيخ شلتوت ما اتخذ هذا الموقف إلا كردِّ فعل لما شاهده في عصره من جُرأة كثير من المفسرين ونحوهم على آيات القرآن، يفسرونها بكل ما فيه مسحة من العصر علمية، معرضين أو غافلين عن التفريق بين حقها وباطلها؛ مما أوقعهم وسيوقعهم في حرج شديد حين ظهور بطلان ما اتكئوا عليه من النظريات، وهو بُعْدُ نظر منه رحمه الله.

أمين الخولي:

ولئن كان الشيخ شلتوت من أبرز المعارضين ومن أشهرهم، فإن أمين الخولي هو أبرزهم وأشهرهم إن كان مقياس ذلك قوة الرفض وضعفه؛ فقد عقد أمين الخولي في رسالة له صغيرة عن "التفسير معالم حياته منهجه اليوم" عقد بحثًا عنوانه:"إنكار التفسير العلمي"، ذكر فيه قِدَمَ الاتجاه إلى التفسير العلمي، وقِدَمَ المخالفة في صحته، وعرض فيه أدلة الشاطبي وأقواله في إنكار هذا اللون من التفسير، ثم عقب على هذا بقوله:

"وإذا كان هذا هو الرأي القديم العهد في فهم القرآن فهمًا يجعله مصدر العلوم المختلفة، ويأخذ كَلِمَه باصطلاحات حادثة بعده بأزمنة غير قصيرة؛ فإنك لتضم إلى هذا البيان من النظرات الحديثة ما يؤيده ويعززه؛ فمنها:

1-

الناحية اللغوية في حياة الألفاظ وتدرج دلالتها، لو ملكنا منها ما لَا بُدَّ لنا أن نملكه في تحديد هذا التدرج، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها فيها؛ لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين هذا التوسع العجيب في فَهْم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معاني وإطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها، أو إن كانت تلك الألفاظ قد استعملت في شيء منها، فباصطلاح حادث في الملة بعد نزول القرآن بأجيال.

2-

الناحية الأدبية أو البلاغية -إن شئت- والبلاغة -فيما يقال- مطابقة

ص: 580

الكلام لمقتضى الحال، فهل كان القرآن على هذا النحو المتوسع من التفسير العلمي كلامًا يوجه إلى مَن خُوطب به من الناس في ذلك العهد، مرادًا به تلك المعاني المذكورة، مع أنها معانٍ من العلم لم تعرفها الدنيا إلا بعدما جازت آمادًا فسيحة، وجاهدت جهادًا طويلًا، ارتقى به عقلها وعلمها!!! وهب هذه المعاني العلمية المدعاة كانت هي المعاني المرادة بالقرآن، فهل فهمها أهل العربية منه إذا ذاك وأدركوها؟!

وإذا كانوا قد فهموها فما لنهضتهم العلمية في علوم الحياة المختلفة لم تبدأ بظهور القرآن، ولم تقم على هذه الآيات الشارحة لمختلف نظريات العلوم المفهمة لدقائقها!! وإن كانت لم تفهم منها، ولم يدركها أصحاب اللغة الخُلَّص من عبارتها كما هو الواقع فعلًا فكيف تكون معاني القرآن المرادة؟ وكيف تكون تلك الألفاظ مفهمة لها؟ وهل هذه هي المطابقة لمقتضى الحال؟!

3-

وهناك الناحية الدينية أو الاعتقادية؛ وهي التي تبين مهمة كتاب الدين، وهل هو كتاب يتحدث إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون وحقائق الوجوه العلمية؟ وكيف يساير ذلك حياتهم ويكون أصلًا ثابتًا لها تختم به الرسالات السماوية كما هو الشأن في القرآن، مع أن هؤلاء المتدينين لا يقفون من معرفة هذه الحقائق عند غاية محدودة، ولا ينتهون منها عند مدى ما! فكيف تؤخذ جوامع الطب والفلك والهندسة والكيمياء من القرآن على نحو ما سمعت آنفًا، وهي جوامع لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضطبه لها بعد يسير من الزمن أو كثير، وما ضبطه منها القدماء قد تغير عليهم فيما مضى، ثم تغير تغيرًا عظيمًا فيما تلا!!

والحق البيِّن أن كتاب الدين لا يُعنَى بهذا من حياة الناس، ولا يتولاه بالبيان، ولا يكفيهم مؤنته حتى يلتمسوه عنده، ويعدوه مصدرًا فيه.

وأما ما اتجهت إليه النوايا الطيبة من جعل الارتباط بين كتاب الدين والحقائق العلمية المختلفة ناحية من نواحي بيان صدقه أو

إعجازه أو صلاحيته للبقاء

إلخ، فربما كان ضَرُّه أكثر من نفعه، على أنه إن كان لَا بُدَّ لأصحاب

ص: 581

هذه النوايا ومَن لف لفهم من أن يتجهوا إليه؛ ليدفعوا مناقضة الدين للعلم، فلعله يكفي في هذا ويفي، ألا يكون في كتاب الدين نص صريح يصادم حقيقة علمية يكشف البحث أنها من نواميس الكون ونظم وجوده، وحسب كتاب الدين بهذا القدر صلاحية للحياة ومسايرة للعلم وخلاصًا من النقد"1.

هذا ما يراه أمين الخولي، وفيه ما يُقبل وفيه ما يُرد، وما توقفت عند نصوصه مثل وقوفي عند قوله: "والحق البيِّن أن كتاب الدين لا يُعنَى بهذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان

إلخ"؛ إذ لا أدري على أي أساس قال هذا، وما هي المقدمات التي كانت نتائجها الفصل بين الدين والعلم، ولن أقف طويلًا في محاورته؛ إذ الحديث آتٍ بعدُ، إن شاء الله.

محمد حسين الذهبي:

أما الشيخ الذهبي -رحمه الله تعالى- فهو كالخولي يعقد فصلًا عنوانه: "إنكار التفسير العلمي"، بسط فيه رأي الشاطبي وأدلته وأطال في ذلك، ثم تحدث الذهبي عن اختياره في هذا الموضوع، قال فيه:"أما أنا فاعتقادي أن الحق مع الشاطبي رحمه الله لأن الأدلة التي ساقها لتصحيح مدعاه أدلة قوية، لا يعتريها ضعف، ولا يترطق إليها خلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه أجوبة سديدة دامغة، لا تثبت أمامها حججهم ولا يبقى معها مدعاهم، وهناك أمور أخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق في جانب الشاطبي ومن لفَّ لفه"2.

ثم ذكر الذهبي -رحمه الله تعالى- نفس الأمور الثلاثة التي ذكرها قبله أمين الخولي في إنكار التفسير العلمي، مع بعض الاختلاف في بعض العبارات، وإن كانت المعاني في كل واحدة، والأمور الثلاثة -كما مر- هي:

1-

الناحية اللغوية.

1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص25، 26.

2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص157.

ص: 582

2-

الناحية البلاغية.

3-

الناحية الاعتقادية.

ثم عقب على هذه الأمور الثلاثة نحو تعقيب الخولي فقال: "وإذا كان أرباب هذا المسلك في التفسير يستندون إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده، ودعوة الله لهم بالنظر في كتاب الكون وآياته التي بثها في الآفاق وفي أنفسهم، إذا كانوا يستندون إلى مثل هذا في دعواهم أن القرآن قد جمع علوم الأولين والآخرين؛ فهم مخطئون ولا شك؛ وذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده، ودعوته إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وفي أنسهم، لا يراد منه إلا رياضة وجدانات الناس، وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة، ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته، من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة في النفس وجلال في القلب، لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب فلسفة أو طب أو هندسة.

وليعلم أصحاب هذه الفكرة أن القرآن غنيٌّ عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنساني الاجتماعي في: إصلاح الحياة، ورياضة النفس، والرجوع بها إلى الله تعالى.

وليعلم أصحاب هذه الفكرة أيضًا أن من الخير لهم ولكُتَّابهم ألا ينحوا بالقرآن هذا المنحى في تفسيرهم؛ رغبة منهم في إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشي مع التطور الزمني، وحسبهم ألا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جد ويجد من نظريات وقوانين علمية تقوم على أساس من الحق، وتستند إلى أصل من الصحة"1.

والذهبي كما ترى يرفض التفسير العلمي أو تطبيق آيات القرآن عليه كل

1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص159، 160.

ص: 583

الرفض، ويبدو لي أنه متأثر بهذا برجلين؛ أولهما: الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- فقد بسط رأيه وأدلته مؤيدًا لها. وأما ثانيهما: فأمين الخولي؛ فقد أورد نفس حججه وأدلته التي زادها على أدلة الشاطبي.

محمد عزة دروزة:

رفض الأستاذ دروزة التفسير العلمي واستخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات عند تفسيره لقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1، فقال: "ولقد قرأنا مقالًا أراد كاتبه أن يجعل صلة بين اختصاص البنان بالذكر وبين ما ظهر حديثًا من علم بصمات الأصابع، وما صار له من خطورة في إثبات شخصيات الناس، وتمشيًا مع الفكرة التي سادت بعض الناس من استخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات القرآنية للتدليل على صدق القرآن وإعجازه، ومعجزات الله المشار إليها فيه، وفي هذا في اعتقادنا تحميل لكلمات القرآن وآياته غير ما تتحمل، وإخراج له من نطاق قدسيته وغايته، وتعريض له للجدل والنقاش.

ولقد نزل القرآن بلسان العرب على قوم يفهمونه، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشرحه وتبيانه، والنظريات الحديثة لم تكن معلومة ولا مكشوفة، ولا يصح لمسلم مهما حسنت نيته أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن"2.

عباس العقاد:

أما العقاد رحمه الله فقد رفض التفسير العلمي، وجعل سبب رفضه تجدد العلوم الإنسانية، وأنها لا تستقر على حال، وقد تتقوض قاعدة علمية بعد أن رسخت؛ ولهذا فهو يرفض أن يربط بين النص القرآني المحكَم مع هذه النظريات.

قال رحمه الله تعالى: "تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة

1 سورة القيامة: الآية 4.

2 التفسير الحديث: محمد عزة دروزة ج2 ص7.

ص: 584

التقدم، فلا تزال بين ناقص يتم وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إلى اليقين، ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ أو تتزعزع بعد ثبوت، ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون.

فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم، كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر، ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم، كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة؛ لأن هذه التفصيلات تتوقف على محاولات الإنسان وجهوده، كما تتوقف على حاجاته وأحوال زمانه.

قد أخطأ أناس في العصور الأخيرة؛ لأنهم أنكروا القول بدوران الأرض واستدارتها، واعتمادًا على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات"1.

ثم ذكر أمثلة أخرى نحو هذا من الأخطاء من التفسير العلمي وعقب عليها قائلًا: "وخليق بأمثال هؤلاء المعتسفين أن يحسبوا من الصديق الجاهل؛ لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإحسان، ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم وهم لا يشعرون.

كلَّا، لا حاجة بالقرآن الكريم إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حُكْمًا من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع، وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان"2.

عائشة عبد الرحمن:

حين ألف الدكتور مصطفى محمود كتابه "محاولة لفهم عصري للقرآن"

1 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد ص15.

2 المرجع السابق ص16، 17.

ص: 585

أصدرت بنت الشاطئ الدكتورة عائشة كتابها "القرآن والتفسير العصري" ردت فيه على الدكتور مصطفى.

ثم كتبت "مستخلصًا" لكتابها هذا، وألحقته بكتاب آخر لها هو "القرآن وقضايا الإنسان"، وزادت عليه ردودًا حتى جاء أضعاف الكتاب الأصلي.

وقد تساءلت وأجابت على تساؤلها بقولها: "فماذا عسانا أن نصنع لنرسخ الإيمان في ضمائر الشاب وعقولهم، ممن يدرسون علوم العصر، ويدخلون المشرحة والمعمل والمصنع، ويتابعون جهود علماء الفضاء ورحلات القمر!

هل نأتيهم بقرآن غير هذا الذي نزل على نبي أمي في بيئة بدوية، أو نضحك على عقولهم ببدع من التأويلات تقدم لهم من القرآن كل علوم الدنيا وعصريات التكولوجيا؟!

أبناء الجيل ليسوا من البلاهة والغفلة والسذاجة؛ بحيث يجوز عليهم أن يقول لهم قائل: إننا عرفنا الطائرات النفاثة؛ إذ عذنا برب الفلق من {شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} واهتدنيا إلى أسرار الذرة بـ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ! 1.

إلى أن قالت: "وخطر على عقلية الجماهير أن نخايلها بهذه الألفاظ المضخمة من بدع التأويلات العصرية العلمية، تمسخ عقليتهم، ويختل بها منطقهم، وتخدر وعيهم بغرور السبق إلى علوم العصر"2.

وقالت: "الإسلام يتجه إلى العقل في ترسيخ الإيمان، وكتابه المحكم يفصل الآيات لقوم يعقلون ويعلمون ويؤمنون، ويضرب الأمثال لعلنا نتفكر ونفقه ونؤمن. وقد حرر القرآن الإنسان من الأغلال التي تعوق تحقيقه لآية إنسانيته المكرمة أو تقيد مسعاه الطامح إلى ما سخر له الله: كل ما في السموات وما في الأرض.

1 القرآن وقضايا الإنسان: عائشة عبد الرحمن ص426.

2 المرجع السابق ص428.

ص: 586

بغير العقل لا يتميز حق من باطل، ولا هدى من ضلال، وبغير العلم لا سبيل إلى تسخير شيء مما في الأرض أو في السماء.

ولا حرج من الدين في أن يقرأ أبناؤنا نظرية التطور وأصل الأنواع في بحوث "دارون"، والنظرية المادية في إعلان "ماركس" ومؤلفاته، وشروح تلاميذه العلماء وإضافتهم.

لكن المحظور أن يقرءوا النظرية مشوهة ممسوخة مدسوسة على القرآن باسم العلم والعصرية والإيمان.

وأبناؤنا المسلمون يدرسون علوم العصر وأسرار الرياضيات والتكنولوجيا في موسكو ولندن وباريس وأدنبرة وفيينا وبرلين وبراج، ويطلبون العلم ولو كان في الصين.

ويحظر عليهم دينهم أن يطلبوا أيَّ علم إلا ممن وضح أنه أحاط بكل شيء علمًا، ووسع علمه السماوات والأرض والدنيا والآخرة.

أذكر أن فقيهًا من علمائنا سأله سائل في آية {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1، فهل يُعلم من القرآن كم رغيفًا يخبز من إردب قمح؟ قال: نعم، واتصل تليفونيًّا بمخابز "الرمالي" فأعطاه مدبرها الجواب، قال السائل: لكن هذا ليس من القرآن؟ رد شيخنا: بلى، في القرآن:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2، وقد فعلت.

ومن أهل الذكر نلتمس العلم، ونطلب الدين؛ فنرجح فيه إلى الله وإلى الرسول في الكتاب والسنة وفقه الأئمة وبحوث العلماء"3.

وهذا الموقف الذي وقفته من التفسير العلمي يبدو لي أنه متأثر بموقف أستاذها وزوجها أمين الخولي، الذي تأثرت به بنت الشاطئ كثيرًا، فلعل هذا من ذاك.

1 سورة الأنعام: من الآية 38.

2 سورة النحل: من الآية 43.

3 القرآن وقضايا الإنسان: عائشة عبد الرحمن ص428-430.

ص: 587

محمد كامل حسين:

وهو من أكثر المعارضين معارضة؛ بل إنه وصف التفسير العلمي بأوصاف لم يسبق إليها، فقال عنه خاصة الآيات الكونية:"إنه دعوى لا دليل عليها، ولا حاجة للمؤمنين بها، وأن هذه الآيات يجب أن تُفهم على ما فهمه المسلمون الأولون؛ حيث قالوا: هذا شيء نؤمن به ولا نصوره تصويرًا واقعيًّا، والذين يفسرون الآيات الكونية تفسيرًا علميًّا يدلون بذلك على ضعف إيمانهم، ولو كانوا مؤمنين حقًّا ما كانت بهم حاجة إلى شيء من ذلك يقوى به إيمانهم، فليس مقصودًا بالآيات الكونية غير الوعظ، والتفسير الحق هو الذي يقربها من أذهاننا تقريبًا يؤدي إلى الموعظة والعبرة، وكل تعمق في تصويرها تصويرًا واقعيًّا هو بدعة حمقاء"1.

ولم يكتفِ بوصفه على عجل بأنه بدعة حمقاء؛ بل جعل هذا الوصف عنوان فصل هو "التفسير العلمي بدعة حمقاء" وقال: "كنت أحسب أن أمر هذه البدعة لا يُعنَى به أحد ولا يقام له وزن حتى اعتنقها طبيب كبير، وقال بها قاضٍ ممتاز، ودافع عنها كيميائي معروف، وخُيِّل إلى الناس أن مفكرين وعلماء من هذا الطراز إذا قالوا: إن العلم الحديث موجود في القرآن؛ فلا بد أن يكون قولهم حقًّا"2.

ومما لا شك فيه أن في عباراته وألفاظه ما لا يُقبل ولا يصح، لا نريد نقدها وليس هذا هدفنا، وإن كان مرادنا يتحقق بإثبات كونه من الرافضين المعارضين.

شوقي ضيف:

فقد تحدث شوقي ضيف في مقدمة كتابه "سورة الرحمن وسور قصار" عن منهج ابن تيمية وابن قيم الجوزية، ثم عن منهج الشيخ الإمام محمد عبده، إلى أن قال: "وقد تلت الشيخ الإمام تفاسير كثيرة؛ منها ما اهتدى بهديه، ومنها ما خاض

1 الذكر الحكيم: محمد كامل حسين ص59.

2 المرجع السابق ص182.

ص: 588

في مباحث علمية كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة؛ إذ القرآن فوق كل علم، ومن الخطأ أن يُتخذ ذريعة لإثبات نظرية علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية، وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون، وما ذكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إنما يراد به بيان حكمة الله، وأن للوجود خالقًا أعلى يدبره وينظم قوانينه، ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية؛ ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إلى كتاب تستنبط منه النظريات العلمية شيء آخر لا يتصل برسالته ولا بدعوته، إنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يُحصى من قيم رُوحية واجتماعية وإنسانية، وحسب المفسر أن يُعنَى ببيان ما فيه من هذه القيم، ومن أصول الدين الحنيف وتعالميه، التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة1.

الدكتور صبحي الصالح:

عدَّد الدكتور صبحي الصالح آفاق الدراسات القرآنية الحديثة؛ فعد الأفق الحديث الثاني التوفيق العلمي، وقال عنه:"هذا الأفق الثاني مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعاصرين؛ لأن عملية التوفيق تفترض غالبًا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان ولا عداء، أو يُظن أنهما متلاقيان ولا لقاء؛ أعني: أنه لا ينبغي أن يحالف النجاح بصورة حتمية كل عملية من عمليات التوفيق"2.

إلى أن قال: "وقد تولى كبر هذا التوفيق المحفوف بكثير من الزلل طنطاوي جوهري في تفسيره الجواهر الذي قيل فيه: إن فيه كل شيء ما عدا التفسير! "3.

ثم ذكر نصًّا للجوهري فيه دفاع عن منهجه، وعقَّب عليه بذكر أمور

1 سورة الرحمن وسور قصار: الدكتور شوقي ضيف ص10.

2 معالم الشريعة الإسلامية: الدكتور صبحي الصالح ص291.

3 المرجع السابق ص292.

ص: 589

أخذت على تفسير الجوهري، ثم قال:"لذلك انتقد شيخ الأزهر المرحوم محمود شتلوت هذه المحاولات التوفيقية الخاطئة التي تبعد الناس عن هداية القرآن"1، وساق بعد ذلك قول الشيخ محمود شلتوت.

أحمد محمد جمال:

عارض الأستاذ أحمد محمد جمال تفسير الآيات تفسيرًا علميًّا والخوض بها في ذلك، فقال في ذلك: "أجل

القرآن الكريم هو كتاب الإسلام وحامل معجزاته الباهرة؛ من أنباء وقصص وغيوب غابرة وحاضرة وآتية، بعضها تحقق فعلًا، وبعضها يتحقق على مدار الزمن، وتعاقب الأجيال.

ولكن "القرآن" مع ذلك ليس كتابًا علميًّا؛ أي: ليس كتاب نظريات علمية، وليس من شأنه أن يكون كذلك؛ فالنظريات العلمية تتناقض وتصدق اليوم، أو هكذا يبدو أنها صادقة، ثم تكذب غدًا.

وحاشى القرآن ما تناقض قَطُّ في أنبائه، ولا في قصصه، ولا في مبادئه التشريعية والخلقية.

ويخطئ بعض المثقفين من المسلمين حتى يحاولون تطبيق بعض إشارات القرآن أو بعض لفتاته المعجزة على الاكتشافات أو النظريات الحديثة، وهم يظنون أنهم يرفعون بذلك شأن القرآن؛ بينما يعرِّضونه بادعاءاتهم للتناقض والانتقاد والتعارض، ويضعونه دون موضعه من التقديس والتصديق"2.

وقد عرض الأستاذ أحمد جمال بعض التفاسير العلمية الحديثة وناقشها بما يبطلها.

عبد المجيد المحتسب:

أما الأستاذ عبد المجيد فهو ينكر نزعة التفسير العلمي للقرآن الكريم، ولا يسوغ إخضاع الآيات القرآنية للعلوم الكونية والطبيعية ألبتة، ولا يوافق

1 المرجع السابق ص293.

2 على مائدة القرآن مع المفسرين والكُتَّاب: أحمد محمد جمال ص323.

ص: 590

الذين يستخرجون النظريات العلمية من الآيات القرآنية، وعلل ذلك بـ"أن القرآن الكريم ليس كتاب علم؛ مثل: الكيمياء والذرة والهندسة والفلك والفيزياء وغير ذلك؛ وإنما هو كتاب أنزله الله تعالى على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام؛ ليكون هدى ورحمة للناس1.

ثم ذكر أربعة أدلة لاتخاذه هذا الموقف من التفسير العلمي، وقد فصَّل القول في أدلته بعض التفصيل، فقال ما خلاصته:

"أولها: إن جعل الارتباط بين القرآن وبين الحقائق العلمية المختلفة ناحية من نواحي بيان صدقه أو إعجازه أو صلاحيته للبقاء هو خلط بين علم التفسير وعلم إعجاز القرآن.

وثانيها: من المعروف بداهة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفهم القرآن جملة وتفصيلًا، ومن الطبيعي كذلك أن يفهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في جملته؛ أي: بالنسبة لظاهره وأحكامه، وكل مَن يرجع إلى كتب السنة يجد أنها قد أفردت للتفسير بابًا من الأبواب التي اشتملت عليها، ذكرت فيه كثيرًا من التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أمعنا النظر في هذا التفسير المأثور فإنا لا نجد فيه أي أصل من أصول العلوم المختلفة التي يتبجح بها أنصار وأصحاب الاتجاه العلمي في تفسير القرآن.

ثالثها: أن القرآن إما أن يكون من عند الله أو من العرب أو من محمد، ولا يمكن أن يكون من العجم؛ لأن العرب عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله؛ فالأعاجم بالضرورة أعجز، فالقرآن ليس من عند العرب، أما محمد عليه السلام فلو كان القرآن من عنده لكان أسلوب الحديث هو نفس أسلوب القرآن، والمعروف أن القرآن يختلف عن أسلوب الحديث؛ إذًا فالقرآن ليس من عند محمد، وإذا لم يكن القرآن من عند محمد عليه السلام ولا من عند العرب فهو من عند الله سبحانه وتعالى.

1 اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص314.

ص: 591

هذه هي الطريقة الصحيحة لإثبات صدق القرآن وصلاحيته للحياة، وليست طريقة إثبات ذلك نظريات علمية في القرآن الكريم.

رابعها: أن القرآن الكريم يشير كثيرًا إلى أشياء في الكون؛ مثل: الشمس والقمر والأهلة والنجوم والرياح، وحث الإنسان على أن يتدبر خلق السماوات والأرض، كل ذلك لتهيئة الإنسان إلى الإيمان عن طريق العقل بالخالق، وليربط الإيمان بالله عن طريق الفطرة بالإيمان بالله عن طريق العقل؛ ولكن الله سبحانه وتعالى لم يطلق العِنَانَ للعقل البشري في بحث كل ما ورد في القرآن الكريم؛ لأن عقل الإنسان قاصر، وقد يضيع في متاهات إذا بحث بعض الموضوعات.

وقد يكون التقدم العلمي في أحوال كثيرة عاملًا مساعدًا على الوصول إلى الإيمان بالخالق الواجب الوجود، وقد يكون خلاف ذلك؛ ولكن هذا شيء، وإخضاع الآيات القرآنية للعلوم المختلفة شيء آخر، وبخاصة النظريات المتغيرة"1.

هذه خلاصة الأدلة التي أوردها الأستاذ عبد المجيد المحتسب في ردِّه التفسير العلمي للقرآن الكريم.

والذي يظهر لي أن في بعضها ضعفًا في الاستدلال لا يقوى على الاحتجاج به؛ وإنما ذكرتها كوجهة نظر لأحد الباحثين أولًا، ولأنها تقوى بإضافتها إلى حُجج العلماء الآخرين وتقويها، أحسبها كذلك.

سيد قطب:

وكما ختمت آراء المؤيدين برأي حسن البنا -رحمه الله تعالى- وهو مَن هو؛ فإني أختم آراء المعارضين برأي سيد قطب -رحمه الله تعالى- وهو مَن هو.

وقد أفاض -رحمه الله تعالى- الحديثَ في نقد التفسير العلمي، وعذرًا إن أكثرت من نقل جواهره، وإن كان لي من ملاحظات ليس على جواهره تلك؛ وإنما على تصنيفه مع الرافضين؛ فسأرجِئُه إلى آخر نصوصه حتى يُفهم عَنِّي ما أردت قوله.

1 اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص314-323، باختصار.

ص: 592

قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 1: "لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص، ونظام خاص، ومجتمع خاص، كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض، ذات دَوْرٍ خاص في قيادة البشرية؛ لتنشئ نموذجًا معينًا من المجتمعات غير مسبوق، ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة، ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض، وتقود إليها الناس.

والإجابة "العلمية" عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علمًا نظريًّا في الفلك إذا هم استطاعوا، بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين أن يستوعبوا هذا العلم، ولقد كان ذلك مشكوكًا فيه كل الشك؛ لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة، كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات.

من هذا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية ولا تفيدها كثيرًا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها، وليس مجالها على أية حال هو القرآن؛ إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية، ولم يجئ ليكون كتاب علم فلكي أو كيمياوي أو طبي، كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم!

إن كلتا المحاولتين دليل على سُوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال علمه. إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية. وإن وظيفته أن ينشئ تصورًا عامًّا للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه، وأن يقيم على اساس هذا التصور نظامًا للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته، ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها

1 سورة البقرة: من الآية 189.

ص: 593

على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل بالبحث العلمي في الحدود المتاحة للإنسان وبالتجريب والتطبيق، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال.

إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعَلاقاته. أما العلوم المادية والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته؛ بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه.

والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له، ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العَلاقة القائمة بين أجزائه -وهو أي الإنسان أحد أجزائه- ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته، ولا يعطيه تفصيلات؛ لأن معرفة هذه التفصيلات جُزْءٌ من عمله الذاتي.

وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها، كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!

إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها؛ لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها.

والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان، والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطئ ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح.

ص: 594

كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانًا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه، لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه "حقائق علمية" مما ينتهي إليه بطريق التجرِبة القاطعة في نظره.

إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني -أيًّا كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأداواتها. فمن الخطأ المنهجي -بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري!

هذا بالقياس إلى "الحقائق العلمية"، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تُسمى "علمية"؛ ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه، وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها

فهذه كلها ليست "حقائق علمية" حتى بالقياس الإنساني؛ وإنما هي نظريات وفروض، كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق! ومن ثم فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب؛ بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!

وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة -أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولًا على خطأ منهنجي أساسي، كما أنها تنطوي على معانٍ ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم:

الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن

ص: 595

والقرآن تابع؛ ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق؛ لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.

والثانية: سُوء فَهْم طبيعة القرآن ووظيفته؛ وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق -بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي؛ حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله؛ بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل، لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة.

والثالثة: هي التأويل المستمر -مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن؛ كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد.

وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا.

ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فَهْمِ القرآن

كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان، ولقد قال الله سبحانه:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1، ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله، وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا.

فكيف ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:

1 سورة فصلت: الآية 53.

ص: 596

يقول القرآن الكريم مثلًا: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون؛ الأرض بهيئتها هذه ويبعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، ويميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا، وبآلاف من الخصائص

هي التي تصلح للحياة وتوائمها، فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة

هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 1، وتعميقه في تصورنا، فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه

وهكذا.

هذا جائز ومطلوب؛ ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميًّا هذه الأمثلة الأخرى:

يقول القرآن الكريم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 2، ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان، فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!!

لا، إن هذه النظرية أولًا ليست نهائية؛ فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيًّا، وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه، ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر ما يكاد يبطلها، وهي معرضة غدًا للنقض والبطلان؛ بينهما الحقيقة القرآنية نهائية، وليس من الضروري أن يكون هذا معناها؛ فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان، ولا نذكر تفصيلات هذه النشأة، وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها، وهي أصل النشأة الإنسانية

وكفى ولا زيادة.

1 سورة الفرقان: آية 2.

2 سورة المؤمنون: آية 12، وقد جاءت هذه الآية في الأصل "خَلْقَ الْإنْسَانِ".

ص: 597

ويقول القرآن الكريم: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} 1، فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس؛ وهي أنها تجري، ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلًا في الثانية؛ ولكنها تجري في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعًا بسرعة 170 ميلًا في الثانية؛ ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية -في أن الشمس تجري- وكفى؛ فلا نعلق هذه بتلك أبدًا.

ويقول القرآن الكريم: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} 2، ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها؛ فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية، ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية!

لا، ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية، وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة، وهي تحدد فقط أن الأرض فُصِلَتْ عن السماء، كيف؟ ما هي السماء التي فُصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية؛ ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية!

وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة؛ فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق، وفرق بين هذا وذاك"3.

1 سورة يس: الآية 38.

2 سورة الأنبياء: من الآية 30.

3 في ظلال القرآن: سيد قطب ج1 ص181-184.

ص: 598

ذلكم الرأي الواضح البيِّن لسيد قطب -رحمه الله تعالى- سقناه بطوله وبحروفه لما فيه من استفياء واستقصاء وشمول، ولئن سماه رحمه الله "استطرادًا "فإني لا أسميه إلا وفاء وجلاء للحق، وإني أعترف أني قد حاولت أن أختصر هذا النص مع الوفاء بالمعنى فما استطعت، وما توقفت عند جملة أريد حذفها إلا ورأيت تمام المعنى لا يقوم إلا بها.

وقد وعدت قبل أن أسوق النص أن أوضح لِمَ صنفتُه -رحمه الله تعالى- مع المانعين للتفسير العلمي، ولعل معترضًا يقول: كيف تضعه هنا وهو يقول في النص المنقول نفسه مستدركًا: "ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فَهْم القرآن

".

وللإجابة على هذا أقول: إنه رحمه الله بيَّن أن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده

إلخ، أما

العلوم المادية، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه

إلخ.

وأقول: إنه رحمه الله يعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرى، ووصفهم بأنهم:

1-

يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه.

2-

وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه.

3-

وأن يستخرجوا منه جزئيات في علم الطب والكيمياء والفلك وما إليها، فإذا كان وَصَفَهُمْ بهذا فكيف يكون مؤيدًا أو أن يقبل قولهم!!

وأقول: إنه -رحمه الله تعالى- وصف حقائق القرآن بأنها نهائية، ووصف ما يصل إليه البحث الإنساني بأنها حقائق غير نهائية ولا قاطعة، ثم وصف تعليق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية بأنه خطأ منهجي.

هذا في "الحقائق العلمية"، أما النظريات والفروض العلمية فوصف كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بها -إضافة إلى الخطأ المنهجي- بأنها تنطوي على ثلاثة معانٍ، كلها لا تليق بجلال القرآن.

ص: 599

أولها: الهزيمة الداخلية

إلخ.

ثانيها: سوء فَهْم طبيعة القرآن ووظيفته

إلخ.

ثالثها: التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن

إلخ.

فإذا كان رحمه الله وصف تعليق الآيات القرآنية بالحقائق العلمية بأنه خطأ منهجي، ومجرد محاولة التعليق للإشارات القرآنية بالنظريات والفروض العلمية بأنه خطأ منهجي أيضًا، وذكر فيه زيادة ما ذكر

فأين التأييد أو القبول عنده للتفسير العلمي؟

فإن قلت: إنه أيد الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها.

قلت: إن هذا لا يعد قبولًا للتفسير العلمي كتفسير؛ وإنما وهذا ما فهمته أن تذكر كشواهد لتوسيع المدلول، وفرق بين هذا وذاك، ويذكرني موقفه منه بموقف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- من الإسرائيليات؛ حيث ذكر أنها تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد1.

1 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص366.

ص: 600

‌الرأي المختار:

قبل أن أذكر الرأي الذي أميل إليه يجب أن أذكر حقيقة قد كنت أظنها لا تخفى إلى أن رأيت أحد الباحثين يقع في خلافها.

تلكم هي التفريق بين "التفسير العلمي" و"الإعجاز العلمي".

أما أولهما فهو مثار البحث والمناقشة، وأما ثانيهما فأحسبه أمرًا مسلمًا لا جدال فيه ولا إشكال.

ذلكم أن كتابًا أُنزل قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن، وعرض لكثير من مظاهر هذا الوجود الكونية؛ كخلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وسوق

ص: 600

السحب وتراكمه، ونزول المطر، وجريان الشمس والقمر، وتحدث عن الكواكب والنجوم والشهب وأطوار الجنين والنبات والبحار، وغير ذلك كثير، ومع ذلك كله لم يسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا بحد ذاته يعتبر إعجازًا علميًّا للقرآن.

هذه النتيجة المتولدة عن أن القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية، لم أرَ بين علماء المسلمين من أنكرها، لا في القديم ولا في الحديث، وكل ما يثار من ضجة وما يسطر في الصحف ما هو إلا عن التفسير العلمي لا عن الإعجاز العلمي.

فالإعجاز العلمي قاعدة صُلْبة يقف عليها المسلمون جميعًا بكل ثقة وكل أمن؛ لكن طائفة منهم قالت: ما دام الإعجاز العلمي متحققًا في القرآن وثابتًا فما علينا أن نطبقه بين آياته واحدة واحدة، وبين الحقائق العلمية واحدة واحدة.

وامتنعت طائفة أخرى عن تطبيقه لا خوفًا عليه من النقض، وليس خشية على حقائقه؛ ولكن لعدم الثقة في مداركنا نحن البشر؛ فقد نحسب نظرية علمية حقيقة علمية، فما تلبث قليلًا إلا وتتقوض بعد رسوخ وتتزعزع بعد ثبوت ولات حين مناص نقع في الحرج الشديد؛ فيكذب القرآن وهو الصادق فتكون البلية، فالعيب والنقص في مداركنا وليس في حقائق القرآن.

إذًا فالمسلمون جميعًا يقولون بالإعجاز العلمي للقرآن؛ ولكنهم يختلفون في التفسير العلمي. هذا ما أحببت الإشارة إليه وبيانه، وكنت أظن هذا من الوضوح بما لا يخفى حتى رأيت أحد الباحثين يعقد مبحثًا في رسالته، ويقسم العلماء إلى قسمين: الأول القائلين بالإعجاز العلمي للقرآن، والثاني المانعين من القول بالإعجاز العلمي، وساق نصوصًا لهؤلاء يرفضون بها التفسير العلمي، وحَسِبَهم ينكرون بها الإعجاز العلمي.

وإذا ما اتضح هذا، وحق لي أن أقول بعده الرأي الذي أميل إليه في التفسير العلمي؛ فإني أقول رأيًا ما فطرته ولا ابتدعته، وقاله قبلي كثيرون.

ذلكم أن الحق فيما أرى وسط بين مذهبين:

ص: 601

فلا رفض ولا إنكار للتفسير العلمي يمنع من:

1-

إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية إثبات التوافق بين حقائقه النهائية القاطعة، وبين ما يثبت من الحقائق العلمية التي لا يقبل ثبوتها أيَّ نوع من الشك.

2-

دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين الدين والعلم.

3-

استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق ببيان إعجازه العلمي لهم.

4-

الحث على الانتفاع بقوى الكون ومواهبه.

5-

امتلاء النفس إيمانًا بعظمة الله وقدرته حينما يقف الإنسان في تفسير كلام الله على خواص الأشياء ودقائق المخلوقات حسبما تصورها علوم الكون1، وحينما يرى الحقائق القرآنية ثابتة وصامدة تتكسر تحت أقدامها "النظريات" العلمية، وتعانقها بسلام "الحقائق" العلمية.

لا رفض يمنع هذا، ولا تسليم مطلقًا للتفسير العلمي؛ لأن:

1-

إعجاز القرآن ثابت، وهي غني عن أن يُسلك في بيانه هذا المسلك المتكلَّف الذي قد يذهب بالإعجاز، وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم2.

2-

أن الدعوة القرآنية إلى النظر في الكون والعلوم هي دعوة لعامة الناس وخاصتهم إلى موضع العبرة والعظة؛ ليهتدي الناس بها إلى خالقها وموجدها، وليس إلى بيان دقائقها وكشف علومها.

3-

أنه مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعاصرين؛ لأن عملية "التوفيق" تفترض غالبًا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان

1 مناهل العرفان في علوم القرآن: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص568، 569.

2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص159.

ص: 602

ولا عداء، أو يظن أنهما متلاقيان ولا لقاء؛ أعني: أنه لا ينبغي أن يحالف النجاح بصورة حتمية كل عملية من عمليات "التوفيق"1.

4-

أن تناول القرآن بهذا المنهج وبذلك المدى يضطر المفسر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص القرآني الكريم؛ لأنه يحس بالضرورة متابعة العلم في مجالاته المختلفة، مع أن كثيرًا من حقائق العلم مؤقتة ومتغيرة، ولا تظهر كلها دَفْعَة واحدة؛ بل تنكشف يومًا بعد يوم؛ وحينئذ يكون التعجل في تلمس المطابقة بين القرآن والعلم تعجلًا غير مشروع2.

5-

أن ما يكشف من العلوم إنما هو نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق؛ ومن ثم فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جيدة لمجموعة الملاحظات القديمة3؛ ومن ثم فلا يصح أن نعلق الحقائق القرآنية النهائية بمثل تلك النظريات حتى لا نقف محرجين عند ثبوت بطلان تلك النظرية.

أقول: لا رفض للتفسير العلمي مطلقًا ولا تأييد وتسليم له مطلقين؛ بل جمع بين حقيقتين: حقيقة قرآنية ثابتة بالنص الذي لا يقبل الشك، وحقيقة علمية ثابتة بالتجربة والمشاهدة القطعيين؛ ومن هنا كان المسلمون كلهم متفقين -كما أسلفنا- على أن القرآن الكريم لم ولن يصادم حقيقة علمية؛ وإنما يقع التصادم عندما ندعي حقيقة علمية في الكون وهي ليست حقيقة علمية، أو ندعي حقيقة قرآنية وهي ليست حقيقة قرآنية4.

1 معالم الشريعة الإسلامية: صبحي الصالح ص290.

2 الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت الشرقاوي ص443.

3 في ظلال القرآن: سيد قطب ج2 ص97.

4 معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي ص47.

ص: 603

لهذا فلا بأس -فيما أرى- من إيراد حقائق علمية ثابتة لا تقبل الشك عند تناول النص القرآني، مع إدراك معنى النص وفَهْمِه فهمًا سليمًا خاليًا من الشوائب والمؤثرات الخارجية، أو الميل به والانحراف لموافقة تلك الحقيقة العلمية، وهذا أيضًا كله مشروط بـ:

1-

ألا تطغى تلك المباحث على المقصود الأول من القرآن؛ وهو الهداية والإعجاز.

2-

أن تذكر تلك العلوم لأجل تعميق الشعور الديني لدى المسلم والدفاع عن العقيدة ضد أعدائها.

3-

أن تذكر تلك الأبحاث على وجه يدفع المسلمين إلى النهضة، ويلفتهم إلى جلال القرآن، ويحركهم إلى الانتفاع بقوى هذا الكون الذي سخره الله لنا انتفاعًا يعيد للأمة الإسلامية مجدها1.

4-

ألا تذكر هذه الأبحاث على أنها هي التفسير الذي لا يدل النص القرآني على سواه؛ بل تذكر لتوسيع المدلول، وللاستشهاد بها على وجه لا يؤثر بطلانها فيما بعد على قداسة النص القرآني؛ ذلك أن تفسير النص القرآني بنظرية قابلة للتغيير والإبطال يثير الشكوك حول الحقائق القرآنية في أذهان الناس كلما تعرضت نظرية للرد أو البطلان2.

1 مناهل العرفان في علوم القرآن: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص569، 570.

2 مجلة كلية أصول الدين، العدد الثاني ص58، مقال:"نظرات في مدرسة التفسير الحديثة" للدكتور مصطفى مسلم.

ص: 604

‌أهم المؤلفات

فيه:

لا أقصد أن أذكر تحت هذا العنوان شيئًا من التفاسير التي تناولت -عَرَضًا- التفسير العلمي، كما لا أقصد أن أذكر "كل" التفاسير التي أفردته بمؤلفات خاصة.

فظهر أن مرادي هنا أن أذكر أهم المؤلفات في التفسير العلمي في العصر

ص: 604

الحديث، والتي أفردتها بالدراسة دون ما سواها من ألوان التفسير، أو أن تكون الألوان الأخرى لا تكاد توجد في أبحاثها؛ وعلى هذا فإني سأقتصر على ما ذكرت مع تعريف موجز لكل منها، ثم أفرد بعضها بدراسة خاصة كنموذج للتفسير العلمي في العصر الحديث.

فمن أهم المؤلفات في ذلك:

1-

الجواهر في تفسير القرآن الكريم:

المؤلف: طنطاوي جوهري.

2-

كشف الأسرار النورانية القرآنية:

المؤلف: محمد بن أحمد الإسكندراني.

3-

الكون والإعجاز العلمي للقرآن:

المؤلف: الدكتور منصور حسب النبي.

4-

الإعجاز العددي للقرآن الكريم:

المؤلف: عبد الرزاق نوفل.

5-

مع الطب في القرآن الكريم:

المؤلف: عبد الحميد دياب والدكتور أحمد قرقوز.

وسنفرد هذه المؤلفات -إن شاء الله- بدراسة خاصة لكل منها؛ لأهميتها في هذا الموضوع.

أما البقية من التفاسير فهي:

6-

الإسلام في عصر العلم:

المؤلف: محمد أحمد الغمراوي.

ولد بمدينة زفتا بمحافظة الغربية في مصر سنة 1893م، حفظ القرآن الكريم، وتخرج في مدرسة المعلمين العليا سنة 1914م، ثم عمل مدرسًا بالمدارس الثانوية للجمعية الخيرية الإسلامية، وابتعث بعد ذلك إلى إنجلترا للتخصص في الكيمياء والطبيعة، وبعد عودته اختير أستاذًا للكيمياء في كلية الصيدلة إلى أن أحيل للمعاش، وفي سنة 1960م دعي إلى المملكة العربية

ص: 605

السعودية؛ فأسس كلية الصيدلة بجامعة الرياض، وعمل بها أستاذًا وعميدًا ثلاث سنوات، ثم عهدت إليه إدارة الأزهر بالتدريس في كلية أصول الدين، ثم درس لطلبة الدراسات العليا بنفس الكلية، وتوفي -رحمه الله تعالى- سنة 1971م.

الكتاب: حينما كان المؤلف -رحمه الله تعالى- يدرس في كلية أصول الدين طبعت لجنة التأليف بعض محاضراته فيها بعنوان: "في سنن الله الكونية"، وكان له نشاط في المجالات الإسلامية ومنها تلك السلاسل تحت عنوان:"دلالة القرآن على نفسه أنه من عند الله" و"السماء في القرآن وفي العلم" و"الجبال في القرآن"، وكان له مذكرات دوَّنها طلابه في كراستين؛ واحدة بعنوان:"إسلاميات"، والثانية بعنوان:"سنن كونية".

وقد دعا هذا أحد أصدقاء المؤلف -وهو الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني- إلى القيام بجمع هذا الكنز العلمي وتنسيقه وترتيبه وطبعه في هذا الكتاب "الإسلام في عصر العلم"، وقد كان لهذا الكتاب أثره بين علماء المسلمين في العصر الحديث1، ويقع الكتاب في 460 صفحة، وفي مجلد واحد.

وقد قسمه جامعه إلى أربعة أبواب؛ هي:

تحدث المؤلف في الباب الأول وعنوانه: "الإسلام دين الفطرة" وفيه عشرة فصول، تحدث عن الإسلام والفطرة، والإسلام دين العزة ودين الكرامة ودين الوفاء، وفي الفصل الخامس الإسلام والعلم والمدينة، وفي السادس الإسلام وسنن العلم، وفي السابع الطواف نظرة علمية، وفي الثامن الإسلام وسنن الاجتماع، ثم الإسلام والهجرة، ثم الاستعمار والإسلام.

أما الباب الثاني فهو "محمد رسول الهدى" وفيه أربعة فصول، وفي الباب الثالث القرآن المعجزة الخالدة وفيه تسعة فصول.

أما أهم الأبواب وأوسعها فهو الباب الرابع "من الإعجاز العلمي للقرآن"، وفيه ستة فصول، تحدث في

1 أخذت ترجمة المؤلف وبعض المعلومات الواردة هنا من الترجمة التي كتبها الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني في مقدمة "الإسلام في عصر العلم".

ص: 606

الفصل الأول عن القرآن والعلم، وفي الثاني "تفسير الآيات الكونية"، وفي الثالث "الجبال في القرآن"، وفي الرابع "السماء في القرآن"، وفي الخامس "الظواهر الجوية في القرآن" و"نظرة في النبات" و"الطاقة"، وفي السادس "مخترعات العصر والقرآن".

هذا هو الكتاب وهذه هي أبحاثه، ولولا أني أخشى المطالبة بالبراهين لسقت أهم محاسنه وأهم المآخذ عليه، ولو أوردت هذا وذاك لأخذ حيزًا في البحث طويلًا.

7-

القرآن والعلوم العصرية:

المؤلف: طنطاوي جوهري.

ستأتي ترجمته -إن شاء الله- عند الحديث عن تفسيره: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم".

الكتاب: هو رسالة صغيرة لا تتجاوز صفحاتها 85 ورقة من الحجم المتوسط، بين يدي طبعتها الثانية، وصدرت سنة 1371 من مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.

اختار المؤلف فيه بعض الآيات، وفسرها تفسيرًا علميًّا؛ فيذكر "فصل في تفسير آية كذا"، ثم يذكر تحت هذا الفصل شتى العلوم والمعارف التي يحسبها تفسيرًا للآية.

8-

القرآن ينبوع العلوم والعرفان:

المؤلف: على فكري.

هو علي فكري ابن الدكتور محمد عبد الله، ولد سنة 1296 في القاهرة، وتُوفي بها سنة 1372، ثم عمل مدرسًا ثم كاتبًا بوزارة المعارف، ثم نُقل إلى دار الكتب المصرية سنة 1330 تقريبًا، وله عدد من المؤلفات؛ منها:

1-

الكتاب موضع الحديث "ينبوع العلوم والعرفان".

2-

آداب الفتى.

3-

آداب الفتاة.

ص: 607

4-

عظة النساء.

5-

مسامرات البنات.

6-

المكاتبات الفكرية.

7-

دليل العملة والمعاملة.

8-

سعادة الزوجين.

9-

التربية الاجتماعية.

10-

سبيل النجاح.

11-

تربية البنين.

12-

الإنسان.

13-

الآداب الإسلامية.

14-

تقوم الأخلاق.

15-

السمير المهذب "أربعة أجزاء".

16-

المعاملات المادية والأدبية، 4 أجزاء.

17-

أحسن القصص، خمسة أجزاء1.

هذه هي مؤلفاته؛ وإنما سقتها ليتضح أن المؤلف غير متخصص في التفسير، وأن كتابته في التفسير ككتابة كثير من المعاصرين كتابة مثقف وليست كتابة مفسر.

الكتاب: ينبوع العلوم والعرفان

ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء متوسطة الحجم، وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1365.

وقد وضح في مقدمته ما يحتوي عليه كتابه فقال بعد أن ذكر أن القرآن الكريم قد أشار بوضوح تام إلى العلوم الكونية التي تدارسها العالم القديم والحديث، قال: "لهذا رأيت وجوبًا عليَّ -خدمة للدين والعلم والإنسانية- أن أضع كتابًا جامعًا بقدر الإمكان لما جاء في كتاب الله العزيز من الآيات في العلوم الآتية:

الطب والصيدلة، الصحة، التاريخ الطبيعي، الحيوان، النبات، المعادن، الكيمياء، علم طبقات الأرض، الجيولجيا، الطبيعة، الهواء، الماء، النار، الحرارة، الصوت، الضوء، النور، الكهرباء، المغناطيسية، اللاسلكي "الراديو""التليفزيون"، الفلك، الجغرافيا، تقويم البلدان، الملاحة البحرية، السياحة والأسفار، السياحة، التاريخ الأثري، والتاريخ العام، والفنون الحربية، الصناعة والتجارة، الحساب، الهندسة، العمارة والري، الكتابة وأداوتها والمكتبات.

1 أخذت هذه الترجمة من الأعلام: للزركلي ج4 ص319، 320.

ص: 608

هذا مع تفسير الآيات تفسيرًا مختصرًا مفيدًا يدل على معناها، وأسميته "القرآن ينبوع العلوم والعرفان"؛ ليكون في اسمه ما يدل على ما فيه، وأتبعت الآيات بنُبذة عن كل علم مع خلاصة وجيزة من تعاريفه الأولية"1.

"أما الآيات المتعلقة بالعلوم الشرعية والحكمية والفلسفية فلم أتعرض لها؛ لأن لها كتبًا خاصة بها، وفيها ما يغني عن البحث في موضوعاتها"2.

وقد قسم هذه الأبحاث المذكورة على أجزاء كتابه الثلاثة، وقد جرى المؤلف على أن يفرد كل علم بمبحث خاص يفسر في الآيات التي يعتقد صلتها به تفسيرًا علميًّا، ثم يورد نُبذة مختصرة أو كلمة عامة عن العلم الذي يتحدث عنه؛ عن أصله ونشأته وأبحاثه، الجديد منها والقديم.

مما لا يعنينا استيفاؤه هنا أو إيراد أمثلة منه.

9-

القرآن والعلوم الحديثة:

المؤلف: محمود أبو الفيض المنوفي.

وهي رسالة صغيرة الحجم في 80 صفحة، الناشر عيسى البابي الحلبي.

10 -

الإسلام والطب الحديث:

المؤلف: الدكتور عبد العزيز إسماعيل.

ولد سنة 1306، وتُوفي سنة 1361، تعلم الطب في القاهرة ثم في إنجلترا، وكان أستاذًا للدراسات العليا، وله من المؤلفات غير هذا الكتاب: رسالة في "الطب والقرآن"، وعددًا من المقالات في المجالات الطبية3.

الكتاب: ولقد نال الكتاب على صِغَرِ حجمه شهرة كبيرة عند مَن تناول

1 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري ج1 ص15، 16.

2 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري ج1 ص15، 16.

3 الأعلام: الزركلي ج4 ص15.

ص: 609

هذا الموضوع، ولعل هذه الشهرة ترجع للمقدمة التي كتبها شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وأشاد بها في الكتاب وأثنى عليه وعلى صاحبه.

ويقع الكتاب في 132 صفحة متوسع الحجم، صدرت طبعته الثانية سنة 1959م.

11-

ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان:

المؤلف: محمود شكري الألوسي.

وهو حفيد شهاب الدين محمود الألوسي صاحب التفسير المعروف "روح المعاني".

وُلد في بغداد سنة 1273، وتلقى العلم عن أبيه وعمه أبي البركات نعمان خير الدين الألوسي وغيرهما، وتُوفي في بغداد سنة 1342، وله عدد من المؤلفات؛ أهمها:

1-

غاية لأماني في الرد على النبهاني في جزأين.

2-

فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للإمام محمد بن عبد الوهاب.

3-

الأدلة العقلية على ختم الرسالة المحمدية.

وغير ذلك من المؤلفات1.

الكتاب: ويقع في 144 صفحة تقريبًا، صدرت طبعته الأولى سنة 1380هـ والثانية سنة 1391هـ، والناشر المكتب الإسلامي.

12-

التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن:

المؤلف: حنفي أحمد.

الكتاب: وهذا العنوان وضعه له مؤلفه في الطبعة الثانية، وكان قد صدر في الطبعة الأولى بعنوان "معجزة القرآن في وصف الكائنات".

1 انظر ترجمته في مقدمة الكتاب نفسه، ص8، 9.

ص: 610

ويقع الكتاب في طبعته الثالثة في 454 صفحة.

13-

شواهد العلم في هدى القرآن "معجزات القرآن يشهد بها العلم الحديث":

المؤلف: محمد سعدى المقدم.

الكتاب: يقع في جزأين، اطلعت على الجزء الأول الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1950 في 152 صفحة.

ويحتوي الكتاب على أربعة أبواب: الأول القرآن، والثاني بداية الخلق، وهما في الجزء الأول، وباب يبحث فيما يختص بالأرض، والرابع في نهاية الدنيا أو "يوم القيامة"، وهما في الجزء الثاني. وقد شن المؤلف في مقدمته حملة على الأزهر والأزهرين الذين أهملوا الجديد وصاروا وراء القديم!! وحمل الأخطاء والشطط في كتابه على الأزهر؛ لأنهم رفضوا مراجعته قبل الطبع.

بقي أن أقول: إن تخصص المؤلف ماجستير في الاقتصاد السياسي وليس فيه تفسير للآيات؛ بل هو أقوال لفلاسفة الغرب وعلمائهم.

14-

الإعجاز العلمي في القرآن:

المؤلف: أحمد عبد السلام الكرداني.

وهو نماذج مستقاة من الكتاب السابق "الإسلام في عصر العلم" للدكتور محمد أحمد الغمراوي.

15-

العلوم الطبيعية في القرآن:

المؤلف: يوسف مروة.

الطبعة الأولى بيروت 1387، ويقع في 274 صفحة.

16-

القرآن ونهاية العالم:

المؤلف: كتب على غلافه: الأسيوطي الفلكي يقدم: القرآن ونهاية العالم، ولا أعرف هذا المؤلف. وناشر الكتاب علي السيد سليمان صاحب دار الكتب الشرقية بالأزهر، بدون تاريخ، ويقع في ثمانين صفحة.

ص: 611

17-

رحلة عبر الغيب بين آيات القرآن وصفحات الأكوان:

المؤلف: عبد الكريم عثمان.

الكتاب: متوسط الحجم، يقع في 141 صفحة.

18-

معجزات القرآن الكريم في العلم والسياسة والاجتماع "باللغتين العربية والإنجليزية":

المؤلف: محمود مهدي الإستانبولي.

الكتاب: كتاب موجز في موضوعه، يذكر نص الآية ثم إشارة إلى معناها ومدلولها العلمي، ثم ترجمة ذلك إلى اللغة الإنجليزية، صدر الكتاب سنة 1380، ويقع في 76 صفحة.

19-

معجزة القرآن:

المؤلفة: نعمت صدقي.

صدرت الطبعة الثانية من دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1398، ويقع الكتاب في 195 صفحة.

20-

القرآن وإعجازه العلمي:

المؤلف: محمد إسماعيل إبراهيم، وعدد صفحاته 174 صفحة.

21-

البرهان من القرآن:

المؤلف: محمود أحمد مهدي، عدد صفحاته 361 صفحة.

22-

القرآن والعلم الحديث:

المؤلف: عبد الرزاق نوفل، ستأتي ترجمته إن شاء الله.

الكتاب: طبع سنة 1393 بيروت، عدد صفحاته 225.

23-

الرياضيات في القرآن الكريم:

المؤلف: خليفة عبد السميع خليفة.

الكتاب: صدرت الطبعة الأولى سنة 1403، وجاء على غلافه أنه أول كتاب يتناول الإعجاز الرياضي وعلوم الحساب والجبر والهندسة وعلمي الإحصاء والميكانيكا، وعدد صفحاته 184 صفحة.

ص: 612

24-

معجزة القرن العشرين في كشف سباعية وثلاثية أوامر القرآن الكريم:

المؤلف: ابن خليفة عليوي.

الكتاب: الطبعة الأولى سنة 1403، عدد صفحاته 110، الناشر دار الإيمان، دمشق.

25-

الإعجاز الحسابي في القرآن الكريم:

المؤلف: رشاد خليفة.

الكتاب: رسالة صغيرة في 26 صفحة.

26-

تسعة عشر، دلالات جديدة في إعجاز القرآن:

المؤلف: رشاد خليفة.

الكتاب: نص محاضرة ألقاها المؤلف في الكويت، وتقع في 30 صفحة من الحجم الصغير.

27-

معجزة القرآن العددية:

المؤلف: صدقي البيك.

الكتاب: نشرته مؤسسة علوم القرآن، دمشق، بيروت، وصدرت الطبعة الأولى سنة 1401، والكتاب له صلة وثيقة بالكتابين السابقين وبمؤلفهما، ومتمم لهما.

28-

لفتات علمية من القرآن:

المؤلف: يعقوب يوسف.

الكتاب: نشرته الدار السعودية للنشر والتوزيع، والطبعة الثانية صدرت سنة 1390 في 100 صفحة.

29-

الإعجاز العلمي في القرآن:

المؤلف: حمزة سالم الصيرفي.

الكتاب: صدرت طبعته الأولى سنة 1399، وعدد صفحاته 48 صفحة.

30-

القرآن الكريم والغلاف الجوي:

المؤلف: محمد عفيفي الشيخ.

الكتاب: صدر سنة 1400 في 131 صفحة.

ص: 613

31-

تفسير الآيات الكونية:

المؤلف: الدكتور عبد الله شحاتة.

الناشر: دار الاعتصام، الطبعة الأولى سنة 1400 في 316 صفحة.

32-

القرآن والطب:

المؤلف: أحمد محمود سليمان، وعدد صفحاته 146 صفحة.

33-

آيات الله تعالى:

المؤلف: محمد وفا الأميري.

الكتاب: في جزأين: الأول 450 صفحة، والثاني 315 صفحة، الناشر دار الرضوان، حلب.

34-

القرآن والطب:

المؤلف: الدكتور الحج محمد وصفي.

الناشر: دار الكتب الحديثة بالقاهرة، صدرت الطبعة الأولى سنة 1380 في 220 صفحة.

35-

الإعجاز الطبي في القرآن:

المؤلف: الدكتور السيد الجميلي.

الناشر: دار التراث العربي، القاهرة، صدرت الطبعة الثانية سنة 1400 في 194 صفحة.

هذه بعض المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث، ولئن كان المقام لا يسمح لنا بدراستها تفصيلًا؛ فإنه لا يعفينا من دراستين:

1-

دراسة في التفسير ذاته مستمدة من هذه التفاسير بمجموعها.

2-

دراسة تفاسير منها دراسة مستقلة.

يعبر عن أولاهما بدراسة نماذج للتفسير العلمي في العصر الحديث، ويعبر عن الثانية بدراسة نماذج من المؤلفات في التفسير العلمي الحديث، وهذه أُولَى الدراستين.

ص: 614

نماذج للتفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:

وكما أنه ليس بمقدورنا أن نقدم دراسة لكل هذه المؤلفات؛ فإنه ليس بمقدورنا أن نقدم أمثلة لكل الآيات التي تناولوها بالتفسير العلمي؛ فلنذكر بعضًا منها، ولنقدم قبله تفسير السلف لكل آية حتى نعرف موقع تفسيرهم منه؛ فمن ذلك:

أولًا: قوله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}

ذهب السلف في المراد بالماء في هذه الآية إلى قولين؛ أولهما: أن المراد به الماء المعروف، وثانيهما: أن المراد به النطفة؛ وعلى الأول أن الماء سبب حياة كل شيء حي، وعلى الثاني أن أصل كل شيء هو النطقة.

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: " {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء فيشمل الحيوان والنبات؛ والمعنى: أن الماء سبب حياة كل شيء، وقيل: المراد بالماء هنا النطفة، وبه قال أكثر المفسرين"1، وقال ابن كثير:" {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: أصل كل الأحياء"2.

أما التفسير العلمي الذي يقدمه الأستاذ أحمد محمود سليمان فليس بهذا ولا بذاك؛ فهو يفسره بأن الماء هو أصل الحياة؛ بمعنى أن المخلوقات كلها نشأت أول ما نشأت في الماء، وخلقها الله أول ما خلقها في الماء، فأول ما ظهر من الحيوانات ذات الخلية الواحدة لا تراها العين المجردة، ثم تبع ذلك حيوانات ذات خلايا عدة، وهكذا تطورت الحياة في الماء خلال ملايين الأعوام، ثم بدأت بعض الحيوانات تخرج من البحر إلى البر، ثم نشأت الزواحف التي اتخذت البر لها مسكنًا، ثم الطيور ثم ذوات الأربع، وذكر أن أول مَن قال بهذه النظرية هو التوراة، أما القرآن فلم يقتصر على هذا "!! " بل أبان أن الماء هو أصل جميع الكائنات من حيوان ونبات؛ مما يدل على هيمنة القرآن العلمية على ما سبقه مِن

1 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج3 ص405.

2 تفسير ابن كثير: ج3 ص187.

ص: 615

الكتب المقدسة، وهذا قوله بنصه بعد أن قدم لتفسيره بأن الشمس تسطع على البحار فيتبخر ماؤها فتنشأ السحب الثقال ثم يهطل المطر وتتكون البحيرات والأنهار، قال بعد ذلك:

"تلك قصة الماء التي يراها كلُّ إنسان في كل مكان وزمان، جعل الله منه النبات، وأحيا به الإنسان والحيوان، أما في غابر الأزمان حينما كان الإنسان لا يزال في ضمير الكون سرًّا من الأسرار؛ فإنه بعد أن خلق الله الأرض، وبدأ يهيئها للعُمران أودعها الحياة أول ما أودعها ماء البحار؛ إذ خلق في جوفها أبسط الكائنات من نبات وحيوانات.

وأول الحيوانات التي ظهرت في الماء تلك التي تتكون من خلية واحدة لا تراها العين المجردة، ثم تبعت تلك الحيوانات حيوانات ذات خلايا عدة: الحيوانات اللافقرية، ثم الحيوانات الفقرية التي تنتمي إليها الأسماك.

ظلت الحيوانات حتى ذلك الحين في جوف البحار والمحيطات إلى أن ظهرت بعد ذلك الكائنات التي تجمع في معيشتها بين البر والماء؛ هي الحيوانات البرمائية التي تنتمي إليها الضفادع.

استمر هذا التطور الذي أخذ الملايين من الأعوام في مجراه؛ حتى نشأت الزواحف التي أخذت الأرض لها مسكنًا دون الماء، ثم تبعها في سلسلة التطور الطير الذي اتخذ الأرض له مسرحًا والهواء، ثم ختمت السلسلة بذوات الأربع؛ فامتلأت الأرض بالزواحف والطيور والحيوانات، وكلها قُذفت بادئ ذي بدء من بطن مياه البحار والمحيطات.

وأول مَن قال بهذه النظرية التوراة، التي تكلمت عن نشأة الحيوانات البرية في الإصحاح الأول من سِفْرِ التكوين كما ذكرت آنفًا، ومضمون ما قالت التوراة: هو أن المياه أخرجت زحافات، ثم خلق الله بعد ذلك الطير، ثم تبع ذلك ظهور الحيوانات الثديية.

أما القرآن الكريم، فلم يقتصر على هذا؛ بل أبان أن الماء هو أصل جميع

ص: 616

الكائنات من حيوان ونبات، مما يدل على هيمنة القرآن العلمية على ما سبقه من الكتب المقدسة، وعلى إعجاز هذه الآية التي نزلت في وقت كان العالَم فيه غارقًا في دياجير الظلمات.

وهذه الآية الكريمة -أستغفر الله- بل هذا الجزء من الآية لا يحمل إعجازًا فقط؛ بل يحمل في ثناياه إعجازًا فوق إعجاز، فالماء هو أصل الحياة أو هو الذي نشأت في جوفه الكائنات أول ما نشأت"1.

هذا ما زعمه تفسيرًا للآية، وما هو بتفسير حق، وما هو بتفسير مقبول؛ بل أحسبه يعارض أخبار القرآن الكريم العديدة ونصوصه الكثيرة.

انظر إلى قوله مثلًا عن الزواحف والطيور والحيوانات: "وكلها قُذفت بادئ ذي بدء من بطن مياه البحار والمحيطات"، وقوله عن الماء:"هو الذي نشأت في جوفه الكائنات أول ما نشأت".

كيف نسي أن الإنسان وهو من الكئنات أنه شيء خُلق من طين في السماء، وأمر الله الملائكة بالسجود له، ثم أدخله الله الجنة، ثم أنزله إلى الأرض، فأين هذه والزعم بأن نشأت المخلوقات كلها في جوف الماء.

دَعْ عنك مناقشته في دعواه في هذا التطور للمخلوقات كلها وترتيب ظهورها

إلخ، مما لا يقوم عليه دليل ولا يسنده برهان، إلا ما لا يعتد به، ولا يؤخذ به في تفسير كتاب الله.

وأحسب أن ما زعمه تفسيرًا للآية ما هو بتفسير؛ بل هو مردود على قائله، وليستغفر الله منه.

ثانيًا: قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 2

1 القرآن والطب: أحمد محمود سليمان ص68.

2 سورة البقرة: الآية 222.

ص: 617

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: "وقوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} أي: قل هو شيء يتأذى به؛ أي: برائحته، والأذى كناية عن القذر، ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} 1، ومنه قوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} 2"3.

وقال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض هو أذى، والأذى هو ما يؤذى به من مكروه فيه، وهو في هذا الموضع يُسمى أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعانٍ شتى من خلال الأذى غير واحدة"4.

أما أصحاب التفسير العلمي الحديث فبينوا أضرار الجماع وقت الحيض الطبية؛ فقال الأستاذ أحمد محمود سليمان في تفسيرها:

إنه والله لتشريع حكيم يدعو إليه الطب الحديث والذوق السليم والخُلُق القويم؛ فالمحيض الذي يشمل العادة الشهرية والأنزفة الرحمية والدم الناتج عن الولادة والإجهاض فوق أنه كريه الرائحة منفر، فإنه يحمل أذى كبيرًا وشرًّا مستطيرًا للزوجين على السواء.

إنه يعرض الرجل لالتهاب مجرى البول إذا ما تسرب بعض دم الحيض الفاسد إليه حاملًا معه جراثيم الأمراض، ولا يقتصر أذاه للرجل على ذلك، فلو فرض ووجد عند المرأة مثلًا عدوى وراثية بالزهري؛ فإنها لا تظهر في الأحوال العادية؛ لأن العدوى تكون كامنة، أما دم الحيض فربما وُجد به بعض الجراثيم مما قد يتسبب عنه عدوى الرجل.

هذا هو ضرره للرجال: التهاب في مجرى البول، وتعرض لمرض الزهري، من مرض قد يكون كامنًا.

1 سورة البقرة: من الآية 264.

2 سورة الأحزاب: من الآية 48.

3 فتح القدير: الشوكاني ج1 ص225.

4 جامع البيان: الإمام الطبري ج2 ص225.

ص: 618

أما ضرره للنساء فأشد وأنكى، فمقاومة المرأة للأمراض ومناعتها وقت الحيض تنقص إلى حدها الأدنى؛ فتكون أكثر تعرضًا للعدوى إذا ما دخلت جراثيم الأمراض المهبل أو عنق الرحم، وهو أمر كثير الحدوث وقت الجماع، أما في غير أوقات الحيض فإن هذه الجراثيم يتغلب عليها الجسم بشدة مقاومته، وبما أن الرحم يكون مدة الحيض محتقنًا، فإذا أضيف إليه ما تحدثه المباشرة من الاحتقان الشديد؛ فقد يحدثان نزفًا، ولا سيما إذا كان به أورام أو التهابات.

أما بعد الولادة، فإن الرحم لا يكون في حجمه الطبيعي، ويستمر كذلك ستة أسابيع تقريبًا، وهي المدة التي قد يستمر فيها النزيف من الرحم عقب الولادة، والتي تتطهر بعدها معظم النساء.

وقد تؤدي المباشرة في أثناء الحيض إلى التهاب في الرحم، يحدث عند السيدات حالات عصبية يستعصي علاجها؛ ولذلك مُنعت المباشرة حتى تطهر المرأة فيعود إليها بهاؤها وجاذبيتها، وتنتظم نفسيتها، وتزول العوامل التي تضر بصحتها؛ وحينئذ لا يوجد مانع من الجماع وإتيان الرجل للمرأة من حيث أمرهما الله إتيانًا طبيعيًّا؛ إذ إن المباشرة من غير الموضع الطبيعي فيها ضرر كبير، وهي تعبتر إثمًا يستوجب التوبة؛ إذ إن هذه المباشرة قد يتسبب منها التهاب في مجرى البول للرجل وفي البروتستاتا، غير ما يحدث عندها من جروح، فوق أنها تفقد الرجولة، وتورث التخنث، وتهد من قوى الرجل.

وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا من المباشرة في أثناء الحيض ومن غير الطريق الطبيعي بقوله: "ملعون مَن أتى امرأة وهي حائض 1، ملعون مَن أتى امرأة في دبرها 2، ملعون مَن عمل عمل قوم لوط"4.

1 لم أجده بهذا اللفظ.

2 رواه أحمد في مسنده ج2 ص444، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح ج2 ص249.

3 رواه الطبراني في الأوسط، ورواه الحاكم "جامع الأصول ج3 ص550"، وأحمد في مسنده عن ابن عياش.

4 القرآن والطب: أحمد محمود سليمان ص115، 116.

ص: 619

أما الدكتور عبد العزيز إسماعيل فقسم إفرازات الجسم إلى نوعين: نوع له فائدة في الجسم؛ مثل: الهضم أو التناسل أو إفرازات داخلية تنظم أجهزة الجسم وأنسجته

إلخ، وهو ضروري للحياة وليس فيه ضرر.

ونوع ليس له فائدة؛ بل هو بالعكس يجب إفرازه من الجسم إلى الخارج، وهو مكون من مواد سامة إذا بقيت في الجسم أضرت به، وذلك مثل: البول والبراز والعرق والحيض.

وقال أيضًا: فهذه الآية الكريمة علَّمت الإنسان قبل أن يعرف شيئًا عن أنواع الإفرازات أن المحيض أذى، وأنه لا يفيد الجسم.

وأما الجزء الثاني من الآية الكريمة: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فسببه أن الأعضاء التناسية تكون في حالة احتقان، والأعصاب تكون في حالة اضطراب؛ بسبب إفرازات الغدد الداخلية، فالاختلاط الجنسي يضرها وربما منع نزول الحيض، كما يحصل كثيرًا من الاضطراب العصبي، وقد يكون سببًا في التهاب الأعضاء التناسلية.

وهذا هو السبب في أن الطبيب الأخصائي لا يكشف على مرضاه من النساء وقت المحيض1.

أما الدكتور الحاج محمد وصفي فقد أطال في بيان أضرار وطء الحائض عندما تناول الآية المذكورة؛ فتحدث أولًا عن بلاغة القرآن الكريم في اختيار التعبير بكلمة "أذى"، التي لم يجد رغم محاولته كلمة تقوم مقامها أو تحمل حملها، ثم تحدث عن حكم المحيض عنج اليهود ثم عند النصارى ثم في الإسلام، ثم عن توجيه النهي للرجال، ثم عن دورة الحيض وآلامه، ثم عن عرضة الحائض للأمراض، ثم عن الوسط المهبلي وتغيره بالحيض، ثم عن أذى وطء المرأة أثناء الحيض، وأنه سبب لالتهاب المهبل وما يشنأ عنه من مرض يكفي أنه يسبب العقم، وذكر من أضراره حمل البكتريا إلى دخل المهبل وما تسببه من أمراض،

1 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص39، 40.

ص: 620

وذكر من أضراره أنه من أهم الأسباب المهيئة لتعفن الرحم الذي يسبب العقم والآلام الشديدة للمرأة، وتحدث عن منابع العدوى، ثم تحدث عن الأضرار التي تصيب الرجل، ثم ذكر حِكْمَتين للمنع؛ أولهما: تقوية الإرادة، وثانيهما: أن الحيض لا إنبات فيه1.

أما الدكتور السيد الجميلي فزاد على ما ذكر من أضرار الجماع وقت الحيض أن مرض الجذام ينتقل وينجم عن المباضعة في المحيض2.

هذه إشارات لما قاله أصحاب التفسير العلمي التجريبي في تفسير هذه الآية، وإذا ما نظرنا نظرة مقارنة بينه وبين ما أوردناه أولًا من تفسير للطبري وللشوكاني، وبين نص الآية أيضًا؛ لرأينا أن الآية تنص نصًّا على أنه أذى؛ لكنها لم تذكر ما هو هذا الأذى، ونحن المسلمين يكفينا اعتقادًا أن في جماع الحائض أذى وأنه محرم، وإذا ما أردنا زيادة تعليل ليس لأجل تعليق الحكم عليها؛ وإنما للعلم والمعرفة ليس إلا، فلا بأس أن تقرأ للطبري والشوكاني أن الأذى رائحته الكريهة، ولا بأس أن يذكر الأطباء أن الأذى هو أضراره الطبية؛ وعلى هذا فلم يخترع أصحاب التفسير العلمي هنا طريقًا بدعًا؛ وإنما التقوا مع السلف في التعليل؛ وإنما لم يتفقوا على علة.

ثالثًا: قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 3

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "يقال: ثنَى صدره عن الشيء: إذا ازورَّ عنه وانحرف منه، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض؛ لأن مَن أعرض عن الشيء ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه. وقيل معناه: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق؛ فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما كان دأب المنافقين، والوجه الثاني أَوْلَى"، إلى

1 القرآن والطب: الدكتور الحاج محمد وصفي، انظر الصحفات 66-82.

2 الإعجاز الطبي في القرآن: الدكتور السيد الجميلي ص140.

3 سورة هود: الآية 5.

ص: 621

أن قال: "وجملة "يعلم ما يسرون وما يعلنون" مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يسرونه في أنفسهم أو في ذات بينهم وما يظهرونه، فالظاهر والباطن عنده سواء، والسر والجهر سيان، وجملة "إنه عليم بذات الصدور" تعليل لما قبلها وتقرير له، وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور، وقيل: هي القلوب؛ والمعنى: أنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار، فلا يحفي عليه شيء من ذلك"1.

وقد فسَّر الدكتور عبد العزيز إسماعيل هذه الآية تفسيرًا علميًّا حديثًا فقال: "هذه الآية سهلة الفَهْم بعدما تقدمت علوم النفس والتنويم المغناطيسي وغيرها، وظهر جليًّا أن كل فكرة يقابلها تغيير كيماوي في الخلايا المخية، وكما أنه لا حركة في الأرجل دون أن يحصل انقباض العضلات، كذلك لا يمكن أن يفكر الإنسان دون أن تحصل تغييرات في خلايا المخ، وليس هذا هو الذي يحصل فقط؛ بل إن هذه التغييرات تبقى مسجلة في المخ الباطني، ومن الممكن أن يتذكرها الشخص بعد مدة طويلة تحت تأثيرات مخصوصة كالانفعالات العصبية أو التنويم المغناطيسي وغيرها، ولو نسيها الشخص تمام النسيان.

وقد اكتشفت أخيرًا أجهزة كهربائية يمكن بها معرفة حالة بعض الخلايا المخية إذا كانت في حالة هدوء أو حالة انشغال، وقد ترتقي العلوم أكثر من ذلك، هذا حال الإنسان مع جهله.

والله سبحانه وتعالى يعلم كل ما يجول في مخ الإنسان، وكل ما جال في مخه، وهو أعلم بها من الإنسان نفسه؛ لأنه عرضة للنسيان"2.

وقد استغربت وصف الدكتور عبد العزيز لهذه الآية بأنها سهلة الفَهْم بعدما تقدمت علوم النفس والتنويم المغناطيسي! ذلكم أن الآية لم تكن صعبة الفَهْم قبل ذلك للذين يؤمنون بالغيب.

1 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج2 ص481، 482.

2 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص92، 93.

ص: 622

ثم إني لا أقبل أن يعلل علم الله سبحانه وتعالى بما في صدر الإنسان بالتغييرات التي تحدث في خلايات المخ عند التفكير؛ فالله سبحانه وتعالى يعلم ذلك حتى ولو لم يحدث -إن كان يحدث- هذا التغيير في الخلايا؛ بل الله سبحانه يعلم ما في الصدور وما سيكون في الصدور؛ أي: قبل أن يفكر الإنسان بالتفكير بالشيء، فعلمه سبحانه علم قبل ومع وبعد التفكير الإنساني، وهو علم مستقل بذاته عن التغييرات في خلايا المخ، فلا تزيده تلك علمًا ولا ينقصه عدمها علمًا.

ولذلك فإن قول الدكتور إسماعيل آخرًا: "والله سبحانه وتعالى يعلم كل ما يجول، وكل ما جال

" إلخ بحاجة إلى أن يزاد فيه: "وكل ما سيجول"؛ لأن الأمرين السابقين مرتبطان حسب قوله بالتغييرات، وعلم الله -كما قلنا- لا تؤثر فيه هذه التغييرات فتقيده بمدلولاتها؛ فكان علمه سبحانه بكل شيء، والله أعلم.

رابعًا: قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} 1

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: " {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب قسم محذوف، وفيه زيادة وعيد وتهديد؛ أي: والله لترون الجحيم في الآخرة. قال الرازي: وليس هذا جواب لو؛ لأن جواب لو يكون منفيًّا، وهذا مثبت، ولأنه عطف عليه {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ} وهو مستقبل لا بد من وقوعه، قال: وحذف جواب لو كثير، والخطاب للكفار، وقيل: عام كقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ".

إلى أن قال: "ثم كرر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي: ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، وقيل المعنى: لترون الجحيم بأبصاركم على البعد منكم، ثم لترونها مشاهدة على القرب، وقيل: المراد بالأول رؤيتها قبل دخولها، والثاني رؤيتها حال دخولها، وقيل: هو إخبار عن دوام بقائهم في النار؛ أي: هي رؤية دائمة متصلة، وقيل: المعنى لو تعلمون اليوم علم اليقين وأنتم في الدنيا لترون الجحيم بعيون قلوبكم، وهو أن تتصوروا أمر القيامة وأهوالها"2.

1 سورة التكاثر: الآيتان 5، 6.

2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص489.

ص: 623

قلت: وهأنت ترى من الأقوال التي ساقها الشوكاني -رحمه الله تعالى- أن أحدًا منهم لم يقل: إن الرؤية للنار في الدنيا بالأبصار، وإن قال أحدهم: إنها في الدنيا بعيون القلوب، ولم يقل بالعيون الباصرة.

أما الأستاذ محمود القاسم ففسر الرؤية هنا بتفسير عجيب، ذكر فيه أننا نعلم علم اليقين؛ إذًا فبإمكاننا رؤية الجحيم، وأن الرؤية في الدنيا رؤية بصرية، وقد رد التفاسير التي فسرت الرؤية بالآخرة.

فقسم أولًا الكتلة الكونية إلى قسمين:

1-

نجوم ملتهبة لها كل صفات جهنم الواردة في القرآن والحديث.

2-

وكواكب باردة يشملها قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} لأن الكواكب الباردة هي حجارة مختلفة الأنواع مثل الأرض، وقال:"إذًا فالكتلة الكونية هي جهنم".

ثم ذكر أنه يصح أن يوصف مَن رأى بعض الشيء بأنه رآه من باب إطلاق اسم الكل على الجزء؛ فتقول لرفيقك: لقد رأيت البحر وأنت لم ترَ منه إلا جزءًا صغيرًا.

ثم تساءل عن الجزء الذي نراه في قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} وكان جوابه لنفسه: يكفي لتحقق الآية أن نرى واحدًا من النجوم الملتهبة، التي هي من نوع جهنم، ولها جميع صفاتها كالشمس مثلًا، مع العلم أن بالإمكان رؤية نجوم أخرى مثلها أو أكبر وأشد حرًّا.

ثم تساءل مرة أخرى: هل الشمس من نوع جهنم؟ وهل لها جميع صفاتها؟ ثم أجاب بدراسة للشمس من حيث المظهر مع صور للشمس وسطحها، ومن حيث طبيعتها، ثم قرر النتيجة.

"للشمس من حيث مظهرها وطبيعتها جمع صفات جهنم الواردة في القرآن والحديث".

ثم قال: "وبالتالي الكون "الدنيا" بكليته هو جهنم، وهي موزعة حاليًا على

ص: 624

نجوم مضطربة، وكواكب خنس، وغبار وغازات، والشمس جزء منها تمثلها، وما علينا لنرى طبيعتها الجهنمية إلا أن نضع عيننا على عدسة نظارة فلكية خاصة نوجهها نحو الشمس"1.

وبعد، فلن أطيل في الرد على هذا التفسير إلا بما يستلزمه المقام؛ فأقول: إن جهنم من الأمور الغيبية التي لا يحق لنا أن نزيد في بيانها غير ما ورد به الشرع، ولم يرد في الشرع بيان لمكان جهنم الان وإمكان رؤيتها لنا في الدنيا، وقد التزم علماءالسلف -رحمهم الله تعالى- هذا الأمر؛ فلم يشر أحدهم إلى شيء من ذلك، وهم الأعلم باللغة ومدلولاتها، والأعلم بالشرع ومفاهيمه، ومع هذا فلم ينسب لأحدهم أنه أشار إلى الشمس أو غيرها زاعمًا أنها جهنم.

أما انطباق أوصاف جهنم على بعض الموجودات الكونية فلا يعني هذا أن تلك الكتلة هي جهنم، ولو صح هذا الزعم وصح هذا المقياس لجاءنا مَن يزعم أن الأرض التي نعيش عليها هي الجنة في الآخرة، ويشير إلى مناطق لا تخلو منها الأرض فيها الهواء العليل والظل الظليل والفواكه والثمار، ولن يعدم من النصوص ما يستدل بها كاستدلال ذاك فيقول مثلًا: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة" 2، وسيجد في الصحيحين:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"3.

لكن هذا وذاك لا يكفيان ولا يدلان على أن الأرض هي الجنة، مع النص المباشر على هذه الأجزاء من الأرض، بخلاف الشمس فلم يكن هناك أي نص مباشر للشمس يجعل بعض أجزائها من النار، فإذا كان الأمر كذلك في الأرض فأنَّى لرجل أن يزعم أن الشمس جزء من جهنم.

1 براهين: محمود القاسم ص157، وانظر الصفحات 132-156.

2 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة ج4 ص2183.

3 رواه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر ج2 ص557، ورواه مسلم في كتاب الحج، باب 92 ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة ج2 ص1010، وزاد في إحدى رواياته:"ومنبري على حوضي".

ص: 625

لا شك أن هذا التفسير لو لم يُربط بينه وبين النصوص القرآنية لكان من الحديث في الأمور الغيبية بلا برهان، فكيف والأمر تجاوز هذا إلى تفسير النصوص القرآنية به، أحسب هذا أمرًا لا ينبغي من مسلم يلتزم بأحكام دينه حتى ولو كان ذا قصد سامٍ في الدعوة إلى الله، فليس هذا بالطريق الحق والله الهادي.

خامسًا: قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1.

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: " {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء؛ فنبه سبحانه بالبنان وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أَوْلَى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق، فهذا وجه تخصيصها بالذكر"2.

أما الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم فقال في تفسيرها: "تدل عبارة تسوية البنان على معنى لم يكشف العلم سره إلا بعد نزول الآية بأكثر من ألف سنة؛ حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة به، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر وبين جمع البشر، وقد استخدم الإنسان هذه الاختلافات في تحقيق الشخصية عن طريق البصمات، وقد أفادت هذه الحقيقة في التعرف على الأشخاص عن طريق بصماتهم، في حالة وقوع جرائم يترك الجناة فيها بصماتهم على أي شيء تناولوه"3.

قلت: والذي يجمع بين تفسيري السلف والعلم الحديث أن كلًّا منهما يؤكد أن تخصيص البنان بالذِّكْرِ يدل على أن مَن أعاد خلقها فهو أقدر على إعادة خلق غيرها من بقية الأعضاء، وإن اختلف التعليل عند هؤلاء وهؤلاء؛ فالشوكاني

1 سورة القيامة: 3، 4.

2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص336.

3 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص111.

ص: 626

حسب العلة صغرها ولطافتها ودقة عظامها، ومحمد إسماعيل عللها بأن لكل بنان بصمة خاصة به من بين جميع البشر، وفي الأمر سَعَة لتعليل الكل، والله أعلم.

سادسًا: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1.

قال الطبري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} : "وهذا مَثَلٌ من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه -أي: إلى الإسلام- مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وُسْعِه"2.

وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقًا حرجًا بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه، وقال سعيد بن جبير يجعل صدره ضيقًا حرجًا قال: لا يجد فيه مسلكًا إلا صَعِدَ، وقال السدي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره، وقال عطاء الخراساني: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يُدخله الله في قلبه"3.

ذلكم تفسير السلف، أما التفسير العلمي فيقدمه الأستاذ محمد عفيفي الشيخ فقال في ذلك: "الله سبحانه وتعالى يقرر أن الارتفاع إلى عِنَانِ السماء يصحبه ضيق الصدر والشعور بالاختناق، وقد اكتشف العلماء أخيرًا أن ذلك بسبب نقص الضغط الجوي وكميات الأكسيجين التي تستقبلها الرئتان، وهذه

1 سورة الأنعام: الآية 125.

2 جامع البيان: الإمام الطبري ج12 ص109.

3 تفسير ابن كثير: ج2 ص189.

ص: 627

الحقيقة لم تتوصل إليها البشرة علميًّا إلا بعد أن صَعِدَ الإنسان فعلًا غلى طبقات الجو العليا"1.

سابعًا: قوله تعالى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} 2

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "أي: وجعل بينهما برزخًا؛ وهو الحاجز من الأرض؛ لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا؛ فيُفسد كل واحد منهما الآخر، ويُزيله عن صفته التي هي مقصودة منه"3.

أما التفسير العلمي فيستدل الأستاذ يعقوب يوسف بما نشرت بعثة السيرجون أمري مع بعثة الجامعة المصرية وخفر السواحل لدرس أعماق البحر الأحمر والمحيط الهندي في جنوب عدن، بعض الملاحظات التي تستدعي النظر، ومما جاء في "مجلة الفتح 354" أن البعثة وجدت المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها وتركيبها الطبيعية والكيميائية عن المياه في البحر الأحمر، وحققت البعثة -بواسطة قياس الأعماق- وجود حاجز مغمور عند مجمع البحرين، يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر، وتبعد قيمته نحو ثلاثمائة متر عن سطح البحر.

وذكر أيضًا أن هذه النتيجة تماثل ما وصلت إليه السفينة "مباحث": أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها عن مياه البحر الأحمر، ويعلل ذلك بوجود الحاجز المغمور عند ملتقى كل بحرين، ثم قال:"هذه الحقيقة الرائعة التي تثبتها الأرقام الموجودة في خزائن كلية العلوم بالجامعة المصرية وفي خزائن جامعة كمبردج التي وصلت إليها "البعثة المذكورة" بعد أن زودت بأحدث الآلات العلمية، وتدرعت بجنود من العلم، أنزلها الله في قرآنه منذ 13 قرنًا4.

والذي يظهر لي أن ما ذكره الأستاذ يعقوب -إن صح- لا يسمى حاجزًا

1 القرآن الكريم وعلوم الغلاف الجوي: محمد عفيفي الشيخ ص87.

2 سورة الرحمن: الآيتين 19، 20.

3 تفسير ابن كثير: ج4 ص290.

4 لفتات علمية من القرآن: يعقوب يوسف ص57.

ص: 628

ما دام اتصال خليج العقبة بالبحر الأحمر من جهة والبحر الأحمر بالمحيط الهندي من جهة أخرى ظاهرًا للعِيَانِ، وتعبره البواخر الضخمة، فالذي تلج منه تلك فالماء أكثر ولوجًا منها؛ فأين الحاجز هنا؟!

وقد استمتعت لمحاضرة للشيخ عبد المجيد الزنداني تناول فيها بيان هذا الحاجز، وتحدث عنه بتفسير أوضح من تفسير الأستاذ يعقوب له؛ حيث قال في محاضرته: "يقول الله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} 1، هذان البحران اللذان التقيا هما بحران مالحان؛ بدليل قول الله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، فالحديث في الآية إذًا عن بحر مالح ومالح، وليس عن بحر مالح وعذب بنص الآية، وما معنى هذا؟ نعم، وجدوا أن بين البحر الأحمر مثلًا والمحيط الهندي حاجزًا في باب المندب يحجز بين مياه البحر الأحمر ومياه المحيط الهندي، ولولا هذا الحاجز لطغت صفات مياه المحيط على مياه البحر؛ لأن البحر شيء يسير بجانب المحيط.

لكن هناك صفات وخصائص خاصة بمياه البحر الأحمر، وصفات وخصائص خاصة بمياه المحيط الهندي، هذا الحاجز ينهما لكي لا يطغى هذا على هذا، ثم هذا الحاجز ليس ثابتًا لكنه في حالة ذَهَاب وإياب واضطراب. ومرج في لغة العرب معناها: الذهاب والإياب والاضطراب. والحاجز هذا بين البحرين ليس ثابتًا؛ لكنه في حالة يمرج فيها فهو مارج يمرج؛ ولذلك قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان} .

وقد أمكن تصوير هذا الحاجز، وكنت إذا قرأت هذه الآية يأتي في ذهني الآية الأخرى؛ وهو قول الله سبحانه وتعالى:{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} 2.

كثير من المفسرين يقولون هذه الآية مثل هذه الآية؛ لكن استوقفتني الآية عندما أردت أن أتأمل وأتعمق، استوقفني في الآية {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ

1 سورة الرحمن: 19-22.

2 سورة الفرقان: 53.

ص: 629

هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ، هناك لم يذكر هذا عذب وهذا ملح، قال البحرين".

ثم قال: " {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} فدل على أنهما بخصائص متقاربة وأنهما مالحان، ثم لما ذكر العذب والمالح قال:{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} .

قال: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} زيادة {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} على الآية التي هناك، هناك تقول:{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان} لكن هنا تقول: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} ، القرآن لا يقول لغوًا، كلام الله الحكيم الحرف فيه لي معنى. فما هذا المعنى ما هو هذا الشيء؟

ذهبت أسأل أساتذة علوم البحار في كلية علوم البحار في جامعة الملك عبد العزيز: يا أخوة الله، يقول بين الأنهار والبحار برزخ وحجر؟ قالوا: أما البرزخ موجود؛ فهناك برزخ يحجز بين ماء النهر وماء البحر، هذه مسألة واضحة وصورها عندنا وسترون الصورة بأعينكم، البرزخ موجود قلنا: طيب، وحجر ما هو الحجر؟ الحجر في لغة العرب هو الشيء الذي يمنع به أشياء؛ ولذلك هذه ارض محجورة؛ أي: يسمح فيها لبعض الحيوانات أو لبعض الناس وتحجر عن غيرهم، قالوا: هو هذا الموجود بين البحر والنهر، هناك شيء اسمه المصب، مياه المصب هذه ندرسها دراسة مستقلة؛ لأن لها خصائص مستقلة؛ لأنها ليست من ماء البحر وليست من ماء النهر، لها خصائص مشتركة بين ماء البحر وبين ماء النهر لا هي عذبة ولا هي مالحة وإنما وسط.

قالوا: أبرز صفات مياه المصبات أنها أغنى المناطق في العالم بالأسماك؛ ولكن أسماك مخصوصة بالمصب، وماء المصب ومنطقة المصب أرض محجورة على نوع أسماك البحر ومجموع أسماك النهر، فممنوع الدخول من أسماك النهر ومن أسماك البحر، محجورة على بعض الأنواع فقط، لا يعيش فيها إلا أنواع مخصوصة فقط، أما باقي الكائنات الحية فهي ممنوعة محجورة؛ إذًا فهذا معنى {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} 1.

1 محاضرة للشيخ عبد المجيد الزنداني في موسم حج 1404 بعنوان: "آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق".

ص: 630

وفي نهاية المحاضرة عرض الشيخ عبد المجيد صورًا للبرزج والحجر أُخذت عن طريق سفن الفضاء وقال: "هذا الأزرق الخفيف هو الحجر هو المصب، فهذا الحاجز هو الحاجر بين النهر والبحر، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} البرزخ هذا الحاجز الذي يفصل بين الماءين والحجر هو المصب".

هذا ما قاله الشيخ عبد المجيد في هذا الحاجز "البرزخ"، ولا يرد عليه ما أوردناه على ما ذكره الأستاذ يعقوب، الذي وصف الحاجز بأنه حاجز مغمور يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر، وتبعد قمته نحو ثلاثمائة متر عن سطح البحر؛ حيث وصفه الشيخ عبد المجيد بأنه ليس ثابتًا؛ بل هو مارج مضطرب يذهب ويؤب يدخل ماء المحيط في البحر من غير أن يختلط، ثم يعود إلى الوراء، وفي طريق عودته يدخل معه ماء البحر ومن غير أن يختلط أيضًا، ثم يعود إلى الوراء، وهكذا من غير أن يحدث اختلاط بين الماءين، بقي أن أقول: وفوق كل ذي علم عليم.

ثامنًا: قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} 1

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم ورزقهم، ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووَهْنِه، فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت؛ فإنه لا يجدي عنه شيئًا"2.

وأما التفسير العلمي فساقه الأستاذ يوسف مروة حيث يقول: "كشف بعض علماء الحشرات الألمان عن أن بعض العناكب تنسج خيوطًا دقيقة جدًّا؛ إذ إنها تنسج بيتها من خيوط، كل خيط منها مؤلف من أربعة خيوط أدق منه، وكل واحد من هذه الخيوط الأربعة مؤلف من ألف خيط، وكل واحد من

1 سورة العنكبوت: الآية 41.

2 تفسير ابن كثير: ج3 ص431.

ص: 631

الألف يخرج من قناة خاصة في جسم العنكبوت، وهذا يعني أن كل خيط ينقسم إلى 4 × 1000 = 4000 خيط، وذكر بعض العلماء الألمان الباحثين في هذا الميدان أنه إذا ضم أربعة بلايين خيط "4.000.000.000" إلى بعضها لم تكن أغلظ من شعرة واحدة من شعر لحيته، مع العلم أن متوسط قطر شعر اللحية لا يتجاوز 0.1 مليمتر؛ وبذلك فإن قطر مقطع الخيط الذي تنسجه العنكبوت يساوي 1 على 4.000.000.000 من المليمتر، وأن الكيفية التي خلق الله بها في جسم العنكبوت ألف ثقب يخرج منها ألف خيط في آنٍ واحد؛ حيث يخرج الخيط الدقيق فيتجمع كل ألف خيط في خيط أغلظ، ومن الخيوط الجديدة يتجمع كل أربعة سوية لتشكيل خيط أكبر، وهكذا تتجمع الخيوط لتنشئ مسكنًا ومصيدة للعنكبوت؛ لتدعو العاقل والعالم والمؤمن إلى التفكير في عظمة الخالق"1.

ولا شك أن ما ذكره الأستاذ يوسف من عجائب خلق الله سبحانه وتعالى؛ لكن هذا يجب ألا يصرفنا عن التفكير في مدلول الآية؛ فالآية دلت على وهن بيت العنكبوت وليس على خيط العنكبوت حتى نذكر من دقته ووهنه، ووصف البيت بالوهن وهو مجموع الخيوط أبلغ من وصف الخيط الواحد بالوهن، وعلى كل فهذا ليس بتفسير للآية؛ وإنما شاهد لها، أما وهن بيت العنكبوت فظاهر بيِّن لا يحتاج إلى استدلال ولا إلى مكتشفات، والله أعلم.

تاسعًا: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 2.

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم عليه السلام وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما"3.

وقال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: "قال جمهورالمفسرين: المراد بالنفس

1 العلوم الطبيعية في القرآن: يوصف مروة ص209، 210.

2 سورة الأعراف: من الآية 189.

3 تفسير ابن كثير: ج2 ص294.

ص: 632

الواحدة آدم، وقوله:{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} معطوف على {خَلَقَكُمْ} أي: هو الذي خلقكم من نفس آدم، وجعل من هذه النفس زوجها وهي حواء، خلقها من ضلع من أضلاعه، وقيل المعنى:{جَعَلَ مِنْهَا} من جنسها، كما في قوله تعالى:{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} 1، والأول أولى"2.

أما الأستاذ عبد الرزاق نوفل -رحمه الله تعالى- فقد فسر الآية هنا تفسيرًا علميًّا خاطئًا، وفي مؤلفاته كثير من ذلك؛ ففسر النفس الواحدة وزوجها بالإلكترونات والبروتونات، فقال: "أعتبر اكتشاف الإلكترون أكبر نصر علمي أمكن العقل البشري أن يصل إليه حتى إنهم يطلقون على هذا العصر الذي نعيش فيه الآن العصر الإلكتروني؛ إذا يعتبر أن هذا أروع وأهم اكتشاف تميز به عصر من العصور؛ إذ أمكن الوصول إلى الجوهر الفرد وَحْدَة الخلق التي منها خلق كل شيء في الوجود: الإنسان والحيوان والماء والهواء

الحي والجماد، والأرض والسماء، فوجد أنها وَحْدَة تناهٍ في الصغر إلى درجة لا يقبل الفكر أن يتمثلها، فقطعة الإلكترون أقل من قطعة الذرة بمائة ألف مرة، أما كتلته في حالة السكون فإن الجرام الواحد يزن 9.000.000.000.000.000.000.000.000.000 إلكترون، وأن هذه الجسيمات التي يتكون منها الوجود هي جسيمات متشابهة؛ أي: واحدة تمامًا، وأن منها الموجب والسالب، وهذه الحقيقة العلمية التي يتيه بها العصر الحديث قد جاء بها القرآن الكريم منذ 1400 سنة في صراحة ووضوح؛ إذ تقرر الآية 189 من سورة الأعراف أن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة وجعل منها زوجها {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أليست هذه هي البروتونات والإلكترونات

الكهارب الواحدة موجبة وسالبة؛ أي: النفس الواحدة

الزوجية الجنس بين موجب وسالب.

وكذلك الآية الأولى من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، والآية 98 من سورة الأنعام:

1 سورة النحل: من الآية 72.

2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج2 ص274.

ص: 633

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وغيرها من الآيات التي تشير إلى وَحْدَة الخَلْق"1.

ولا شك عندي أن هذا تفسير خاطئ، وقع فيه الأستاذ عبد الرزاق نوفل، ولو نظر إلى كلمات الآية لتبين له ذلك.

فالآية تنص على {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} فهل البروتونات والإلكترونات نفس؟! والخطاب في الآية {خَلَقَكُمْ} وفي النساء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، وفي الأنعام {أَنْشَأَكُمْ} ، والآية تخاطب الناس -أي: البشر- وتتحدث عن خلقهم ونشأتهم فكيف يقول: كل شيء في الوجود، ويقول: إن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة، فمن أين جاء بهذا العموم؟!

وبقية الآية التي لم يوردها الأستاذ عبد الرزاق كاملة تقول: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فهل هذا ينطبق على البروتونات والإلكترونات المزعومة، سبحانك ربي!.

فلننزه القرآن الكريم عن مثل هذه التفسيرات الباطلة التي لا يحتاج بطلانها إلى ثبوت بطلان النظرية العلمية؛ بل إن الآية القرآنية نفسها تحمل في عباراتها ما لا يدل على هذه النظريات، فضلًا عن تفسيرها به.

عاشرًا: قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 2

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "رُوي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى، وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة؛ يعني: بلا عمد، وكذا رُوي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَع

1 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل ص156، 157.

2 سورة الرعد: من الآية 2.

ص: 634

عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1، فعلى هذا يكون قوله:{تَرَوْنَهَا} تأكيدًا لنفي ذلك؛ أي: هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة"2.

أما التفسير العلمي فقدمه الأستاذ محمود أحمد مهدي، ذكر فيه أن الأعمدة التي تمسك هذه العوالم الضخمة هي قانون الجاذبية، فقال: "وعن هذا الإمساك تحدث العلماء أخيرًا وبعد لأي وجهد من أن الذي يمسك هذه العوالم الضخمة كلها، ويتحكم فيها قبضًا وبسطًا -بإرادة الله طبعًا- هو قانون الجاذبية

أجل، إنها الجاذبية التي اهتدى إليها العلماء والعلم؛ ولكن بعد أن أشار إليها القرآن وبرهن بجلاء {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وما كانت تلك العمد أو الأعمدة إلا الجاذبية التي تجذب الثقيل إلى الأثقل، والكبير إلى الأكبر"3.

الحادي عشر: قال تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} 4.

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: " {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} صفة أخرى للرب؛ أي: أنبت العشب وما ترعاه النعم من النبات الأخضر {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي: فجعله بعد أن كان أخضر غثاء؛ أي: هشيمًا جافًّا كالغثاء الذي يكون فوق السيل {أَحْوَى} أي: اسود بعد اخضراره؛ وذلك أن الكلأ إذا يبس اسود، قال قتادة: الغثاء الشيء اليابس، ويقال للبقل والحشيش إذا انحطم ويبس: غثاء وهشيم

وقال الكسائي: هو حال من المرعى؛ أي: أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} بعد ذلك، والأحوى مأخوذ من الحوة وهي سواد يضرب إلى الخضرة، قال في الصحاح: والحوة سمرة الشفة، ومنه قول ذي الرمة:

لمياء في شفتيها حوة لعس

وفي اللثات وفي أنيابها شنب"5

1 سورة الحج: من الآية 65.

2 تفسير ابن كثير: ج2 ص538.

3 البرهان من القرآن: محمود أحمد مهدي ص75، 76.

4 سورة الأعلى: الآيتين 4، 5.

5 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص423، 424.

ص: 635

ومن هذا التفسير للإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى- يظهر أن المراد بالأحوى؛ أي: الأسود بعد اخضراره؛ لأن الكلأ إذا يبس اسود؛ لكن أصحاب التفسير العلمي -أو أحدهما- قدم تفسيرًا آخر لم يسبق إليه فيما أعلم، فقال الأسيوطي الفلكي في تفسير تلك الآية: "الغثاء هو اليابس، والأحوى من الحوة؛ وهي في لسان العرب سواد إلى الخضرة أو حمرة إلى السواد، وقد كثر في كلام العرب حتى سموا كل أسود أحوى

إذًا فتفسير {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} هو جعله بعد خضرته يابسًا أسود. وهل هناك نبات إذا جف صار يابسًا أسود؟ لا توجد -فيما نعلم- نباتات هكذا؛ إذًا فكيف أخرج الله تبارك وتعالى المرعى ثم جعله يابسًا أسود؟ كيف ومتى؟

ألا ينطبق هذا كل الانطباق على الفحم الحجري الذي تكوَّن معظمه في حقب الحياة القديمة حينما ظهرت النباتات غير المزهرة والسرخسيات بكثرة عظيمة، ثم تراكمت فوقها في بعض الجهات رواسب أخرى؛ فتحولت إلى فحم حجري مع طول الزمن وارتفاع الضغط والحرارة.

نعم هذا هو الغثاء الأحوى الذي تكلم عنه القرآن الكريم وعلله فأصاب وأوجز. قال وأصاب في وقت كانت فيه مثل هذه الحقائق غريبة على عقول البشر، قال هذا فسبق العلم بقرون عدة. أفليس هذا إعجازًا؟ بلى والله إنه نعم الإعجاز"1.

قلت: والذي قال الأسيوطي الفلكي نظرية علمية لم ترتقِ إلى درجة الحقيقة العلمية الثابتة التي يجوز جوازًا أن يشار إليها إشارة في تفسيبر القرآن، فعلينا أن نجرد تفسير القرآن الكريم من هذه النظريات العلمية التي ما تزال تتأرجح يمنة ويسرة؛ خشية أن تميل معها بعض القلوب إذا مالت، فلنتقِ الله ربنا، ولنحترم كتابه وننزله منزلته.

وليست هذه النظرية بالوحيدة، وليس هذا هو التفسير العلمي الخاطئ

1 القرآن ونهاية العالم: الأسيوطي الفلكي ص39.

ص: 636

عند المسمى "الأسيوطي الفلكي"، ففيه كثير وكثير من التفسيرات الجريئة بنظريات لا تزال مهزوزة غير ثابتة.

وبعد:

هذه بعض الأمثلة اقتبستها من بعض التفاسير العلمية، حاولت فيما ذكرت منها أن أنواع الأمثلة العلمية من علم الطب والنفس والفلك وخلق الإنسان والبحار والحشرات، أصل المخلوقات والنباتات وغير ذلك.

وكما عددت مواضيعها فقد عددت مصادرها؛ فضربت أمثلة من عدد من التفاسير العلمية في العصر الحديث؛ حتى أُعطي صورة -قدر ما استطعت- عن التفسير العلمي في العصر الحديث أبحاثه ومصادره، وفيه المقبول وفيه المردود.

أما الدراسة فيما هو أعمق من ذلك وأوسع فهو شأن دراسة متخصصة في التفسير العلمي، لا دراسة شاملة لعرض اتجاهات التفسير في العصر الحديث.

وهذا -ولا شك- لا يعفينا من ضرب أمثلة للمؤلفات في التفسير العلمي في العصر الحديث ودراستها دراسة مستقلة لنعطي صورة عن قرب لهؤلاء المفسرين بعد أن قدمنا -فيما أظن- صورة لهم مجتمعين عن بعد، وهذا أوان ذلك.

ص: 637

‌نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:

لا شك أن هذا التفسير لو لم يُربط بينه وبين النصوص القرآنية لكان من الحديث في الأمور الغيبية بلا برهان، فكيف والأمر تجاوز هذا إلى تفسير النصوص القرآنية به، أحسب هذا أمرًا لا ينبغي من مسلم يلتزم بأحكام دينه حتى ولو كان ذا قصد سامٍ في الدعوة إلى الله، فليس هذا بالطريق الحق والله الهادي.

خامسًا: قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1.

قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: " {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء؛ فنبه سبحانه بالبنان وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أَوْلَى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق، فهذا وجه تخصيصها بالذكر"2.

أما الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم فقال في تفسيرها: "تدل عبارة تسوية البنان على معنى لم يكشف العلم سره إلا بعد نزول الآية بأكثر من ألف سنة؛ حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة به، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر وبين جمع البشر، وقد استخدم الإنسان هذه الاختلافات في تحقيق الشخصية عن طريق البصمات، وقد أفادت هذه الحقيقة في التعرف على الأشخاص عن طريق بصماتهم، في حالة وقوع جرائم يترك الجناة فيها بصماتهم على أي شيء تناولوه"3.

قلت: والذي يجمع بين تفسيري السلف والعلم الحديث أن كلًّا منهما يؤكد أن تخصيص البنان بالذِّكْرِ يدل على أن مَن أعاد خلقها فهو أقدر على إعادة خلق غيرها من بقية الأعضاء، وإن اختلف التعليل عند هؤلاء وهؤلاء؛ فالشوكاني

1 سورة القيامة: 3، 4.

2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص336.

3 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص111.

ص: 526

حسب العلة صغرها ولطافتها ودقة عظامها، ومحمد إسماعيل عللها بأن لكل بنان بصمة خاصة به من بين جميع البشر، وفي الأمر سَعَة لتعليل الكل، والله أعلم.

سادسًا: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1.

قال الطبري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} : "وهذا مَثَلٌ من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه -أي: إلى الإسلام- مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وُسْعِه"2.

وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقًا حرجًا بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه، وقال سعيد بن جبير يجعل صدره ضيقًا حرجًا قال: لا يجد فيه مسلكًا إلا صَعِدَ، وقال السدي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره، وقال عطاء الخراساني: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يُدخله الله في قلبه"3.

ذلكم تفسير السلف، أما التفسير العلمي فيقدمه الأستاذ محمد عفيفي الشيخ فقال في ذلك: "الله سبحانه وتعالى يقرر أن الارتفاع إلى عِنَانِ السماء يصحبه ضيق الصدر والشعور بالاختناق، وقد اكتشف العلماء أخيرًا أن ذلك بسبب نقص الضغط الجوي وكميات الأكسيجين التي تستقبلها الرئتان، وهذه

1 سورة الأنعام: الآية 125.

2 جامع البيان: الإمام الطبري ج12 ص109.

3 تفسير ابن كثير: ج2 ص189.

ص: 527