الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضية المرأة:
أحسب أن المرأة مركز الدائرة في المجتمع؛ ذلكم أنها الأم وهي البنت وهي الأخت وهي الزوجة وهي المربية والمعلمة.
وأحسب أنها في كل قاعدة تقف عليها لا تخلو من جواذب تجذب إليها جذبًا الرجل والشاب والطفل، فلا عجب إذًا أن يكون لها تأثير قوي في المجتمع، إن صلحت أصلحت، وإن فسدت أفسدت؛ ولذا حث الإسلام على الظفر بذات الدين، وأنها خير متاع الدنيا.
ولهذا أيضًا جنَّد الاستعمار جنودَه لإفساد المرأة فيما يُسمى بتحريرها، وتبنَّى وأربابه هذه القضية، وانخدعت بدعوته طائفة، وتبنت فكرته أخرى، وحاربتها البقية الباقية وقليل ما هم.
وعاصر رجال المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة فترة طويلة هذه المرحلة، وعاشوا بين متقابلين؛ أولهما: واقع المرأة عامة في تلك الفترة التي طغى عليها الجهل والخرافات، وتخلت عن كثير مما أعطاها الإسلام لا رغبة وإنما إما جهلًا وإما مكرهة، وثانيهما: الدعوات المتطرفة التي أعطتها أكثر من حقها، وجرتها إلى متاهات لا تقوى جبلتها على خوضها ولا تدرك أبعادها، تهلك إن سلكتها، وتضيع إن تبعتها.
وجاء المصلحون يريدون الإصلاح والتوفيق، منهم من ثبت لم تهزه الأعاصير ولم يجرفه الطوفان، ومنهم من لم يخلُ بين حين وآخر من رأي غير سديد، وقول غير حكيم، ومدخل غير سوي، أولجه إياه حرصه على أن يقبض بكلتا يديه كلا الفريقين؛ فلم يستطع دركًا، ولم يستطيع ثباتًا.
تناول رجال المدرسة الاجتماعية آيات من القرآن الكريم، حاولوا أن يصلحوا على ضوئها، وأن يبثوا من خلال تفسيرها ما يرون فيه إصلاحًا لأوضاع المرأة.
قال السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} 1: "أقول: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية، وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة، إلا ما استثني منها؛ ككونها لا تباشر الحرب بنفسها؛ بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداوة الجرحى"2.
ثم يقول: "فأين هذا من حال نسائنا اليوم ومن اعتقاد جمهورنا فيما ينبغي أن يكن عليه؟ لا علم لهن بحقائق الدين، ولا بما بيننا وبين غيرنا من الخلاف والوفاق، ولا مشاركة للرجال في عمل من الأعمال الدينية ولا الاجتماعية، فهل فرض الإسلام على نساء الأغنياء -لا سيما في المدن- ألا يعرفن غير التطرس والتطرز والتورن3، وعلى نساء الفقراء -لا سيما القرى والبوادي- أن يكن كالأُتُن الحاملة والبقر العاملة؟ وهل حرم على هؤلاء وأولئك علم الدنيا والدين، والاشتراك في شيء من شئون العالمين؟ كلا، بل فسق الرجال عن أمر ربهم؛ فوضعوا النساء في هذا الموضع بحكم قوتهم؛ فصغرت نفوسهن، وهزلت آدابهن، وضعفت ديانتهن، ونحفت إنسانيتهن، وصرن كالدواجن في البيوت أو السوائم في الصحراء.
لبث المسلمون على هذا الجهل الفاضح أحقابًا حتى قام فيهم اليوم مَن يعيرهم باحتقار النساء واستعبادهن، ويطالبونهم بتحريرهن ومشاركتهن في العلم والآدب وشئون الحياة، منهم مَن يطالب بهذا اتباعًا لهدى الإسلام وما جاء به من الإصلاح، ومنهم مَن يطالب به تقليدًا لمدينة أوربا، وقد استحسنت الدعوة الأولى بالقول دون العمل، وأجيبت الدعوة الأخرى بالعمل على ذم الأكثرين لها بالقول، فأنشأ المسلمون يعلِّمون بناتهم القراءة والكتابة، وبعض اللغات الأوربية والعزف بآلات اللهو، وبعض أعمال اليد كالخياطة والتطريز؛ ولكن هذا التعليم لا يصحبه شيء من التربية الدينية
1 سورة آل عمران: الآية 61.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص323.
3 التطرس: التنوق في الطعام والشراب؛ أي: تحري الأطيب منهما، والتطرز في اللباس: توخي الفاخر النفيس منه، والتورن: المبالغة في التطيب والتنعم، تعليق: السيد رشيد رضا.
ولا من إصلاح الأخلاق والعادات؛ بل هو من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي تجهل عاقبته"1.
وفي قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 2 قال الشيخ أحمد مصطفى المراغي: "إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة، واعترف لها بالكرامة، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم؛ فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل، وبعضها يعدها غير أهل للتكاليف الدينية؛ إذ زعموا أنه ليس لها رُوح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السباقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيًّا على أساس صحيح، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميز الرجل عن المرأة. نعم، إن المسلمين قصروا في تعليم النساء وتربيتهن؛ ولكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه"3.
وقال الأستاذ محمد فريد وجدي: "ومما اختص به الإسلام الذهاب في احترام الحقوق الطبيعية للمرأة إلى حدود لم تدر في خيال مشرع مدني إلى اليوم، فالإسلام لم يكلف المرأة وهي زوجة بأي حق تؤديه للرجل غير حفظ عِرْضِه وطاعته في المعروف، باعتبار أنه الرئيس الطبيعي للأسرة.
والمرأة المسلمة لا تفقد بزواجها شيئًا من استقلالها المالي؛ فتظل على حريتها في التصرف بمالها وأملاكها. هذا الحق لم تنله المراة الغربية إلى اليوم، فإنها بزواجها تقع -من ناحية تصرفاتها الاقتصادية- تحت وصاية زوجها4.
ويرد الشيخ محمود شلتوت على خصوم الإسلام الذين اتخذوا التفاوت بين نصيبي الذكر والأنثى هكذا مطعنا على الإسلام من جهة أن فيه إهدارًا لحق
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص323، 324.
2 سورة آل عمران: من الآية 195.
3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج4 ص166.
4 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص175.
بنوة الأنثى المساوية تمامًا في نسبتها إلى المورث لبنوة الذكر، وقالوا: إن هذا من فروع هضم الإسلام حق المرأة، وهي إنسان كالرجل، وفاتهم أن الذكر تتعدد مطالبه، وتكثر تبعاته في الحياة، فهو ينفق على نفسه وعلى زوجه وعلى أبنائه، ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوجها، أما الأنثى فإنها لا تدفع مهرًا، ويلزم زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها، وهذا باب يتضح منه أن نصيب الأنثى في الوضع الإسلامي أعظم وأكثر من نصيب الذكر1.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 2 يقول الشيخ محمود شلتوت: "ومن هنا أخذ الفقهاء أن الشريفة مقدَّمة في الزواج على غير الشريفة، وأن حسنة السمعة مقدمة على سيئتها، وفي هذا إيحاء قوي للنساء بأن يعملن جُهْدهن على تحسين سمعتهن، وتحليهن بالأخلاق الفاضلة التي ترغب فيهن الأزواج، ولقد كان لما اتخذته الفتاة لنفسها أو مكنها ولي أمرها من حرية واسعة في هذه الأيام نصيب كبير فيما نرى من أزمة الزواج وإعراض الشباب عنه لما يعلمون عن الفتاة من أخلاق جعلت الزواج في نظرهم بابًا من أبواب الشقاء، فعلى الفتاة وعلى ولي أمرها أن يتدبرا الأمر، فإن عليهما وحدهما تقع تبعة هذه المشلكة، وعليهما أن يعملا على حلها إن أرادا الخير والسعادة"3.
فإن كنت قد أطلت -وما أظني إلا وقد فعلت- فإنه يشفع لي أن الموضوع هنا بحر واسع، يزخر بالعديد من الأبحاث التي لا يكاد الباحث يفاضل بينها فيقدم أحدها أو يؤخر غيره.
ومع هذا، فإني أعترف بأني قد اختصرت المقال هنا اختصارًا أرجو ألا يكون مخلًّا بالبحث.
1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص172.
2 سورة النساء: من الآية 25.
3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص172.
ذلكم أن من القضايا التي ألمحنا إليها ما يحتاج بنفسه لمن أراد التفصيل فيه إلى بحث مستقل. خذ مثلًا المرأة وقضيتها، من أي النواحي أتيتها وجدت الأبحاث حبلى بما دار حولها، إن شئت فمن ناحية المساواة بينها وبين الرجل، وإن شئت فمن ناحية حقوقها في الإسلام، وإن شئت فمن ناحية تعدد الزوجات، وإن شئت فمن الطلاق، وإن شئت فمن جهة عملها ومجالاته، وإن شئت فمن ناحية التعليم، وإن شئت فمن ناحية الحجاب والسفور والاختلاط، وإن شئت.... وإن شئت
…
إذًا، فلا عتب إذا ما أطلت الحديث عن هذا لأساس لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، ولا عتب إذ ما اختصرت فيه أبحاثه حتى نذكر أنواعًا من الإصلاح الاجتماعي.
لكن الذي أجزم به كل الجزم أن المدرسة العقلية الاجتماعية قد تناولت كثيرًا من القضايا الاجتماعية، وبذلت وسعها في نشر ما تعتقد فيه صلاح المجتمع.
وقد أصابت الحق في جوانب وأخطأته في أخرى، ونحن هنا نعرض المنهج عرضًا ولا ننقده نقدًا، وإذًا لو فعلنا لاحتاج هذا الأساس وحده لرسالة مستقلة، ولعل لنا في ذلك عذرًا أو بعض عذر.
وبعد:
هذه أبرز الأسس التي يقوم عليها منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير.
ولعلنا بعد هذا نعرض أهم مؤلفات رجال المدرسة في التفسير، ثم نختار بعضها كنموذج لتفاسيرهم بعد أن عرضنا منهجهم جميعًا فيه.