المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومن قبلهم قال الأستاذ الإمام محمد عبده: "إن الحديث الذي - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ٢

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير

- ‌الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: فقه أهل السنة والجماعة

- ‌مدخل

- ‌تفاسير آيات الأحكام:

- ‌ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنى عشرية

- ‌فرض الرجلين في الوضوء

- ‌صلاة الجمعة:

- ‌خمس الغنائم:

- ‌نكاح المتعة:

- ‌نكاح المشركات والكتابيات:

- ‌الحجاب:

- ‌إرث الأنبياء:

- ‌قطع يد السارق:

- ‌ثالثا: فقه الأباضي

- ‌مدخل

- ‌مسح الرجلين:

- ‌نكاح الكتابيات:

- ‌الإصباح على جنابة:

- ‌الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌التفسير بالمأثور في القرن الرابع عشر الهجري:

- ‌أولا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن

- ‌مدخل

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌ثانيا: الموجز في تفسير القرآن الكريم

- ‌منهجه في التفسير

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌تعريفه:

- ‌موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌رأي المؤيدين:

- ‌رأي المعارضين:

- ‌موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌أقوال المؤيدين:

- ‌أقوال المعارضين:

- ‌الرأي المختار:

- ‌أهم المؤلفات

- ‌نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:

- ‌أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي

- ‌أولا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم

- ‌ثانيًا: كشف الأسرار النورانية القرآنية

- ‌ثالثًا: الكون والإعجاز العلمي للقرآن

- ‌رابع: مع الطب في القرآن الكريم

- ‌خامسًا: الإعجاز العددي للقرآن الكريم

- ‌رأيي في هذه المؤلفات:

- ‌الباب الثالث: منهج المدرسة الاجتماعية الحديثة في التفسير

- ‌تمهيد

- ‌المراد به:

- ‌العقل في القرآن:

- ‌مكانة العقل في الإسلام:

- ‌نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة:

- ‌منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌الأساس الأول: الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم

- ‌الأساس الثاني: الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية

- ‌الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير

- ‌الأساس الرابع: إنكار التقليد وذمه والتحذير منه

- ‌الأساس الخامس: التقليل من شأن التفسير بالمأثور

- ‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات

- ‌الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع

- ‌الأساس الثامن: الشمول في القرآن الكريم

- ‌الأساس التاسع: التحذير من الإطناب

- ‌الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌الحريَّة:

- ‌التحذير من البدع والمنكرات في العقائد:

- ‌الجانب التهذيبي:

- ‌الإصلاح الاقتصادي:

- ‌قضية المرأة:

- ‌أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير القرآن الكريم المشهور "بتفسير المنار

- ‌أولا: المؤلف

- ‌ثانيا: التفسير

- ‌ثانيًا: تفسير جزء تبارك

- ‌أولًا: المؤلف

- ‌ثانيًا: التفسير

- ‌رأيي في هذا المنهج:

الفصل: ومن قبلهم قال الأستاذ الإمام محمد عبده: "إن الحديث الذي

ومن قبلهم قال الأستاذ الإمام محمد عبده: "إن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند مَن صح عنده، أما مَن قامت له الأدلة على أنه غير صحيح؛ فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا -بل علينا- أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل"1.

كانت هذه بعض نصوصهم القولية، وإذا ما نظرنا إلى الجانب التطبيقي فإنا نراهم حينًا يوردون ما يتعلق بالآية من السنة النبوية، وحينًا ما يفسرونها، وحينًا ثالثًا يوردون التفسير المأثور من غير إشارة إلى الحديث الذي ورد فيه، وحينًا رابعًا يرفضون التفسير بالمأثور وإن صح.

فمن الأول ما أورده الشيخ محمود شلتوت في تفسير قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} 2: "وإذا كان شخص الرسول قد غاب عن أعين الآخرين، فهو حاضر في قلوبهم، ماثل في أنفسهم، ولم تنقطع أسوتهم به

فمنزلة وجوده فيهم بعد مماته هي منزلة وجود الكتاب فيهم، كلاهما متواتر يلقاه جيل من المؤمنين عن جيل، وقد ورد في الخبر أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال:"تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي"4.

ومنه ما أورده الشيخ محمد مصطفى المراغي في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 5 فقال: "وفي الحديث الشريف: "من أحب أن يكون أكرم الناس فليتقِ

1 تفسير جزء عم: محمد عبده ص181.

2 سورة آل عمران: من الآية 101.

3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص129.

4 رواه الحاكم في المستدرك ج1 ص93، ورواه مالك في الموطأ، باب النهي عن القول بالقدر.

5 سورة البقرة: الآية 183.

ص: 746

الله"1، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس" 2، 3.

وفي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 أورد الشيخ محمد مصطفى المراغي حديث: "خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله عز وجل لن يمل حتى تملوا" 5، وفي حديث معاذ عندما أطال الصلاة:"أفتان أنت يا معاذ؟ 6 إن منكم منفرين، فإذا ما صلى أحدكم بالناس فليتجوز؛ فإن منهم الكبير والضعيف وذا الحاجة"8.

ومن الثاني ما نقله السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 9، فقال:"وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: "ألا أن القوة الرمي" قالها ثلاثًا، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث: "الحج عرفه" بمعنى: أن كلًّا منهما أعظم الأركان في بابه

"10.

1 لم أجده، ويشهد لمعناه قوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وما رواه البخاري سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم". صحيح البخاري ج5 ص216.

2 الدروس الدينية لعام 1357هـ: محمد مصطفى المراغي ص 8، 9.

3 رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة ج4 ص634، وابن ماجه، كتاب الزهد ج2 ص553.

4 سورة البقرة: 185.

5 رواه البخاري، كتاب الصيام ج2 ص244، ورواه مسلم كتاب الصيام ج2 ص811.

6 رواه البخاري، كتاب الأذان ج1 ص173، ومسلم كتاب الصلاة ج1 ص339، والإمام أحمد في مسنده ج3 ص299.

7 رواه البخاري، كتاب الأذان ج1 ص173، ومسلم كتاب الصلاة ج1 ص340.

8 الدروس الدينية لعام 1357هـ: محمد مصطفى المراغي ص20.

9 سورة الأنفال: من الآية 60.

10 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج10 ص69، وحديث مسلم ج3 ص1522، كتاب الإمارة.

ص: 747

وأورد أيضًا تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} 1، فيقول:"روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود: أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله، وأينا لَمْ يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} 2؛ إنما هو الشرك. وروي تفسير الظلم هنا بالشرك عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأُبي بن كعب وحذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم" 3.

ومنه أيضًا تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 4، بقوله: وللعلماء في ذلك ثمانية عشر قولًا، أوردها الشوكاني "في نيل الأوطار"، أصحها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر؛ لحديث علي عند أحمد ومسلم وأبي داود مرفوعًا:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر"5.

ومنه أيضًا تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي للحساب اليسير في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} 6 بما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا" قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: "ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نُوقش الحساب فقد هلك"8.

1 سورة الأنعام: الآية 82.

2 سورة لقمان: من الآية 13.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص582.

4 سورة البقرة: الآية 238.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص437.

6 سورة الانشقاق: الآيتين 7-8.

7 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج30 ص91.

8 رواه الإمام أحمد في مسنده ج6 ص48.

ص: 748

ومنه ما أورده الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} 1، قال:"ويُروى أنه صلى الله عليه وسلم أمر وفد ثقيف بالصلاة فقالوا: "لا ننحني؛ فإنها سبة لنا"، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود" 2، على أن الإسلام إنما جاء لترويض النفوس العاتية وتذليل أَنَفَتِها"3.

ومن الثالث تفسير أحمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 4 بقوله: "وكلمة التقوى هي لا إله إلا الله"5، وهو تفسير ورد فيما أخرجه الترمذي وابن جرير عن أُبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله"؛ لكن الشيخ المراغي لم يشر إلى الحديث.

ومن الرابع وهو كثير في تفسيرهم؛ حيث ردوا كثيرًا من السنة النبوية الطاهرة التي تفسر بعض آيات القرآن الكريم أو تتعلق به، لم يردوها لضعف في سندها أو لمخالفة ما هو معلوم من الشريعة؛ وإنما فعلوا ذلك لأنها لا تتفق مع ما ذهبوا إليه في تفسير الآية؛ فردوا أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث.

فمن ذلك ما ورد في السنة عن الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري رحمه الله عنه أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافتاه قباب الؤلؤ مجوفًا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر" 6، وأخرج أحمد

1 سورة المرسلات: الآية 48.

2 رواه الإمام أحمد ج4 ص218، وأبو داود كتاب الخراج ج3 ص163، وكلاهما وراه بلفظ:"لا خير في دين ليس فيه ركوع".

3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص135، 136.

4 سورة الفتح: من الآية 26.

5 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج26 ص109.

6 صحيح البخاري، كتاب التفسير {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ج6 ص219.

ص: 749

ومسلم -رحمهما الله تعالى- عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة"1. قال السيوطي رحمه الله تعالى: "له طرق لا تُحْصَى"2.

هذا ما ورد في السنة في بيان المراد بالكوثر، وهذه هي درجته فيها؛ ولكن الأستاذ الإمام محمد عبده يقول بغير هذا، واقرأ معي قوله: "وأما أن هناك نهرًا في الجنة اسمه الكوثر، وأن الله أعطاه نبيه، فلا يفهم من معنى الآية؛ بل الذي يدل عليه سياق السورة وموضع نزولها هو الذي بيَّناه من أحد القولين، والأول -وهو النبوة وما في معناها- أرجح.

أما الاعتقاد بوجود هذا النهر في الجنة فموقوف على تواتر الأخبار التي وردت به، وقد ذهب جماعة إلى أنها متواترة المعنى؛ فيجب الاعتقاد بوجود النهر على وجه عام دون تفصيل أوصافه؛ لكثرة الخلاف فيها.

ولكن التواتر لا يصح أن يكون برأي جماعة أو برأي آخرين، فحد التواتر هو ما تراه في القرآن: تعرفه طبقة عن طبقة، يُؤْمَنُ تواطؤ كل منها على الكذب، إلى أن وصل إليك، لا تنكره فرقة من فرق المسلمين قاطبة، فهذا التواتر هو الذي يوجب اليقين، وليس الأمر كذلك في أحاديث النهر؛ فإنها -وإن كثرت طرقها- لم تبلغ هذا المبلغ؛ فلا يصدق عليها اسم المتواتر، خصوصًا وأنه يظن بالرواة سهولة التصديق في مثل هذا الخبر؛ لما فيه من غرابة الكرامة وجمال الوصف؛ فيسهل على كل راوٍ الميل إلى تصديق ما يقال له، وهذا يخل بشرط التواتر؛ لأن أول شرط فيه ألا يكون في الطبقات رائحة التشيع للمروي"3.

ومن هذه الأقوال للأستاذ الإمام يظهر موقفه من السنة، وأنه يرد صحيحها لأسباب واهية، لم يقل بها أحدٌ من قبله، لا من علماء الحديث، ولا من سواهم، ومثل

1 مسند أحمد ج3 ص220، 236، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى

براءة ج4 ص113.

2 الإتقان في علوم القرآن: الإمام السيوطي ج2 ص204.

3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص165.

ص: 750

هذه الأسباب لا اعتبار لها، وقد اعترف الأستاذ رشيد رضا بأن الأستاذ الإمام "كان مقصرًا في علوم الحديث؛ من حيث:

الرواية، والحفظ، والجرح والتعديل"1، ومر بنا أيضًا وصفه له بأنه كان لا يثق إلا بأقل القليل مما رُوِيَ في الصحاح من أحاديث الفتن2.

وتارة يرفضون التفسير بالمأثور بأسلوب آخر؛ وهو الزعم بأنه من الإسرائيليات، حتى وإن رواه البخاري ومسلم، خذ مثلًا

تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا لقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3؛ حيث قال: "ولا ثقة لنا بشيء مما رُوي في هذا التبديل من ألفاظ عبرانية ولا عربية، فكله من الإسرائيليات الوضعية، كما قاله الأستاذ الإمام هنالك، وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفًا ومرفوعًا؛ كحديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين وغيرهما: "قبل

لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} 4، فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حطة حبة في شعرة"، وفي رواية: "شعيرة"، ورواه البخاري في تفسير السورتين5 من طريق همام بن منبه أخي وهب، وهما صاحبا الغرائب في الإسرائيليات، ولم يصرح أبو هريرة بسماع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار؛ إذ ثبت أنه روى عنه، وهذا مدرك عدم اعتماد الأستاذ -رحمه الله تعالى- على مثل هذا من الإسرائيليات وإن صح سنده "!! "؛ ولكن قلما يوجد في الصحيح المرفوع شيء يقتضي الطعن في سندها"6.

وخذ مثلًا آخر لهذا الأسلوب في رد التفسير بالمأثور بما قاله السيد محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا

1 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص5.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص466.

3 سورة الأعراف: من الآية 162.

4 سورة البقرة: الآية 58.

5 يقصد سورتي: البقرة والأعراف.

6 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص348.

ص: 751

لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} 1، قال:"وأقوى الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها ما رواه البخاري في كتاب الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانه خيرًا". اهـ، وأخرجه أيضًا أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم"2.

ثم قال: "هذا وإن أبا هريرة رضي الله عنه لم يصرح في هذه الأحاديث بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار وأمثاله فتكون مرسلة؛ ولكن مجموع الروايات عنه وعن غيره ثبت هذه الآية بالجملة؛ فننظمها في سلك المتشابهات، ونحمل التعارض بين الروايات وما في بعضها من مخالفة الأدلة القطعية على ما أشرنا إليه من الأسباب؛ كالرواية عن مثل كعب الأحبار من رواة الإسرائيليات، والله أعلم"3.

وخذ مثلًا ثالثًا وأخيرًا لهذا الأسلوب، ما قاله السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 4، قال: وفي حديث أخرجه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله عز وجل التربة يوم السبت

الحديث ".

ثم قال: "إن كل ما رُوي في هذه المسألة من الأخبار والآثار مأخوذ من الإسرائيليات لم يصح فيها حديث مرفوع، وحديث أبي هريرة هذا -وهو أقواها- مردود بمخالفة متنه لنص كتاب الله "!! " وأما سنده فلا يغرنك رواية مسلم له به "!! " فهو قد رواه كغيره عن حجاج بن محمد الأعور المصيص عن ابن جرير، وهو قد تغير في آخر عمره، وثبت أنه حدَّث بعد اختلاط عقله، كما في

1 سورة الأنعام: من الآية 158.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص210، 211.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص210، 211.

4 سورة الأعراف: من الآية 54.

ص: 752

تهذيب التهذيب وغيره والظاهر "!! " أن هذا الحديث مما حَدَّث به بعد اختلاطه"1.

وهكذا ترى السيد محمد رشيد رضا يرد الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبارات: "يحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار"، و"فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار"، و"الظاهر أن هذا الحديث مما حدث به بعد اختلاطه"، ولا أدري متى كانت هذه الأوهام سبيلًا لرد الحديث، وإذًا لو فعلنا لذهبت البقية الباقية.

أما ثالث أساليب رفضهم للتفسير بالماثور فهو وإن لم يكن رفضًا مباشرًا إلا أنه إغفال له يجعله في درجة المرفوع، فهذا الشيخ أحمد مصطفى المراغي مثلًا يفسر المغضوب عليهم والضالين في قوله تعالى:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2 بقوله: "والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده؛ فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريًا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة؛ تقليدًا لما ورثوه عن الآباء والأجداد

والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق"3.

يقول هذا مع أن تفسير المغضوب عليهم والضالين باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافًا بين المفسرين4.

ومن هذا الأسلوب أيضًا ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} 5:" أي: أعطيناك يا محمد الخير الكثير

إلخ"6. وقد تقدم بيان ما ورد في الكوثر من الحديث الصحيح.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص449.

2 سورة الفاتحة: من الآية السابعة.

3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص37.

4 الإتقان: السيوطي ج2 ص190.

5 سورة الكوثر: الآية الأولى.

6 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص89.

ص: 753

ومنه أيضًا تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 1، فقال: "أي: أن الزلزلة التي تكون حين قيام الساعة قبل قيام الناس من أجداثهم

إلخ"2.

مع أنه ورد فيما أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران بن حصين قال لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}

إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} 3، كان صلى الله عليه وسلم في سفر فقال:"أتدرون أي يوم ذلك؟ " قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: "ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم عليه السلام ابعث بعث النار

إلخ "، قال الألوسي: وحديث البعث مذكور في الصحيحين وغيرهما؛ لكن بلفظ آخر، وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة4.

هذه إشارات وتلميحات لبعض مواقفهم من التفسير بالمأثور، أحسبها تدل دلالة بينة على منهجهم في هذا اللون من التفسير.

1 سورة الحج: من الآية الأولى.

2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج17 ص84.

3 سورة الحج: الآيتين الأولى والثانية.

4 تفسير روح المعاني: لأبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي ج17 ص110، 111.

ص: 754

‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات

خلاصة موقف السلف -رحمهم الله تعالى- من الإسرائيليات ذكره ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث ذكر أن الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، وأنها على ثلاثة أقسام:

"أحدها" ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.

و"الثاني" ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

و"الثالث" ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل.

ص: 754

فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم -يقصد حديث:"وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" - وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني1.

وقد شن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية حملة شعواء على الإسرائيليات، وحذروا من تناولها في تفسير القرآن الكريم، وعابوا على المفسرين السابقين تداولهم لها، واعتبروا هذا خطأ لا يغتفر.

وهذا الأساس عندهم متولِّد من الأساس السابق تحكيم العقل وتطرفهم فيه تولد عنه رفضهم الشديد للإسرائيليات، وقد أدى بهم تطرفهم هذا إلى تكذيب بعض الإسرائيليات التي وافقت ما جاء في شريعتنا، وأدى بهم أيضًا إلى تكذيب بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة خشية أو احتمال أو للظاهر أن يكون الصحابي الذي روى الحديث سمعه من كعب الأحبار!!

وأدى بهم أيضًا إلى أن تناولوا بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- بالتجريح، وشككوا في إيمان بعض التابعين الذين شهد لهم السلف الصالح بالعدالة، وروى لهم البخاري ومسلم، ونسبوا العلماء الذين وثقوهم إلى الغفلة.

ومع هذا الموقف الصُّلْب، والرفض الحاسم الجازم، فإن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية -أو غالبهم- أباح لنفسه ما حرم على غيره؛ فقد أوردوا من الإسرائيليات ونصوص التوراة والإنجيل كثيرًا وكثيرًا؛ بل -ويا للعجب- فقد أوردوا ما يخالف النص القرآني!! وأحسب هذا -ولا شك- نتيجة كل دعوة متطرفة.

فلنرتب الأوراق ولنسق الشواهد على ما ذكرنا واحدًا واحدًا، هذه أولًا بعض النصوص لرجال المدرسة التي تبين حكم الأخبار الإسرائيلية، وهذا الأستاذ الإمام محمد عبده يقول عند تفسيره لقوله تعالى:{وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خطَايَاكُمْ} 2 الآية، فقد ذكر الأستاذ الإمام بعض أقوال المفسرين، ثم قال:

1 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص366، 367.

2 سورة البقرة: من الآية 58.

ص: 755

"ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية، ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خُدِعَ بها المفسرون، ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله تعالى"1.

وقال عن هذه التفاسير: "كما ولعوا بحشوها بالقصص والإسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن؛ لتكون بيانًا له وتفسيرًا، وجعلوا ذلك ملحقًا بالوحي والحق الذي لا مرية فيه، إنه لا يجوز إلحاق شيء بالوحي غير ما تدل عليه ألفاظه وأساليبه، إلا ما ثبت بالوحي عن المعصوم الذي جاء به ثبوتًا لا يخالطه الريب"2.

وقال الشيخ عبد العزيز جاويش عن الإسرائيليات: "وهذا وليحذر المسلمون قراءة ما جاء في تفاسير القرآن في هذا الموضوع من الإسرائيليات، وما ابتدعه أصحابها من التأويلات وغريب الروايات، فإنها مضلة للعقول، مبعدة لها عما قصده كتاب الله الحكيم"3.

وأما الشيخ محمود شلتوت فوصفها بقوله: "قيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامي فيما يختص بفَهْم القرآن والانتفاع بهداية القرآن

"4.

أما الشيخ أحمد مصطفى المراغي، فيصف رواة الإسرائيليات بأنهم "ساقوا إلى المسلمين من الآراء في تفسير كتابهم ما ينبذه العقل، وينافيه الدين، وتكذبه المشاهَدة، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم في العصور اللاحقة"5.

والأستاذ رشيد رضا هو أشد رجال المدرسة العقلية الاجتماعية حربًا على الإسرائيليات ورواتها، واقرأ قوله: "كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كُتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية والهداية السامية؛ فمنها ما يشغله

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص325.

2 المراجع السابق: ج1 ص175.

3 أسرار القرآن: عبد العزيز جاويش ص138.

4 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص9، 10.

5 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص19.

ص: 756

عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات، وأكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب"1.

وقد رد الأستاذ رشيد رضا بعض الأحاديث الصحيحة زاعمًا أنها من الإسرائيليات؛ ومن ذلك حديث البخاري الذي رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التفسير: "قيل لبني إسرئيل: ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة؛ فدخلوا يزحفون على أستاهم فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة" 2، واختاره السيوطي في التفسير فقال عنه السيد رشيد:"ما اختاره الجلال مروي في الصحيح؛ ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية"3.

وأدى به تطرفه إلى أن ذم رواة الإسرائيليات الثقات ككعب الأحبار ووهب بن منبه، فقال عن وهب عند روايته أن موسى عليه السلام كان يقرع لهم أقرب حجر فتفجر منه عيون:"وهذا من الخرافات التي اختلقها وهب، ليس لها أصل عند اليهود ولا عند المسلمين"، إلى أن قال:"وقد عدوه مع أمثال هذه الخرافات ثقة في الرواية"4.

وقال عن كعب الأحبار: "بمثل هذه الروايات كان كعب الأحبار يغش المسلمين؛ ليفسد عليهم دينهم وسُنتهم، وخُدع به الناس لإظهاره التقوى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"5.

وقال في موضع آخر: "ولكن البلية في الرواية عن مثل كعب الأحبار وممن روى عنه أبو هريرة وابن عباس ومعظم التفسير المأثور مأخوذٌ عنه وعن تلاميذه

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص7، 8.

2 صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة البقرة ج6 ص23.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص325.

4 المرجع السابق: ج9 ص343.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص459.

ص: 757

ومنهم المدلسون كقتادة، وكذا غيره من كبار المفسرين كابن جريج"1، وقال عن كعب أخيرًا: "وكعب الأحبار الذي أجزم بكذبه؛ بل لا أثق بإيمانه"2.

وقال عن كعب ووهب: "إن بطلي الإسرائيليات وينبوعي الخرافات كعب الأحبار ووهب بن منبه"3، وقال عنهما:"ولو فطن الحافظ ابن حجر لدسائسهما وخطأ من عدلهما من رجال الجرح والتعديل لخفاء تلبيسهم عليهم لكان تحقيقه لهذا البحث أتم وأكمل"4، وقال:"ثم ليعلم أن شر رواة هذه الإسرائيليات أو أشدهم تلبيسًا وخداعًا للمسلمين هذان الرجلان: كعب الأحبار ووهب بن منبه"5.

وشاركه في الهجوم الشيخ أحمد مصطفى المراغي الذي وصف بعض الروايات بقوله: "وما هي إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام والعرب كروايات وهب بن منبه وهو فارسي الأصل، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلي، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يُعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد فارس وأجلوا اليهود من الحجاز"6.

هذا غيض من فيض، من بحر ذمهم لكعب الأحبار ووهب بن منبه، مع اعترافهم في النصوص التي سقناها وفي غيرها بتعديل الجمهور وتوثيقهم لهما، واعترافهم أيضًا أن أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة قد رووا عن كعب الأحبار، فهل يعتقد هؤلاء أن الصحابة رضي الله عنهم تروي عن كذاب وضَّاع لا يوثق فيه؟! أليست روايتهم عنه تزكية له؟! أفلا نقبل إذًا بتزكية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 المرجع السابق: ج9 ص466.

2 مجلة المنار: محمد رشيد رضا ج9 المجلد 27 ص697.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص438.

4 المرجع السابق: ج9 ص442.

5 مجلة المنار: ج10 مجلد 27 ص783.

6 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج9 ص24.

ص: 758

أما كعب فقد روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي؛ بل إن الجمهور على توثيقه؛ ولذا لا تجد له ذكرًا في كتب الضعفاء والمرتوكين، وقد اتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه1.

وأما وهب فقد روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الذهبي في ميزانه: كان ثقة صادقًا كثير النقل من كتب الإسرائيليات، قال العجلي: ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء، وقد ضعفه الفلاس وحده ووثقه جماعة2، وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات3.

إذًا، فلا شك مطلقًا في خطأ رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في ذم كعب الأحبار ووهب بن منبه

ولكن مهلًا لا أقصد بهذا مطلقًا أن كل ما رُوي عنهما صحيح، ولا أقول: إنه ليس فيه كذب ولا افتراء؛ ولكن لا يعني وجود هذا أن ينسب إليهما ويحملا تبعته، فكم حديث موصوع مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نسب ظلمًا وزورًا إلى أبي هريرة أو ابن عباس أو غيرهما، فهل يجرؤ أحد -إلا معتدٍ- على التشكيك فيهما وفي عدالتهما، الأمر هناك في كعب وفي وهب كما هو هنا في أبي هريرة وابن عباس، فقد يكون الكذب من غيرهما، أو أنهما نقلاه على أنه مما في كتبهم، وهما يعتقدان صحته ولم يعلما كذبه؛ لخفاء الثابت والمحرَّف في كتب أهل الكتاب، كما قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-:"إن بعض الذي يُخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبًا؛ لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار"4، قلت: ومثل هذا يقال عن وهب.

عودة إلى الموضع في صُلْبه؛ ذلكم موقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية من رواية الإسرائيليات يظهر منه الرفض الشديد والمتطرف لها؛ ولكنهم -وبكل أسف- لم يلتزموا بأنفسهم ما دعوا إليه، وقديمًا قال الشاعر:

1 مقالات الكوثري: محمد زاهد الكوثري ص32، 33.

2 ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي ج4 ص352، 353.

3 تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني ج11 ص167.

4 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج13 ص335.

ص: 759

لا تنهَ عن خلق وتأتِيَ مثلَهُ

عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

بل لم يأتِ هؤلاء مثله، فتجاوزوا المثل، فزجوا بما لم يزج به المفسرون السابقون؛ فرووا من الإسرائيليات ما رواه السابقون، وزادوا عليهم برجوعهم بأنفسهم إلى المصادر التي أخذ منها كعب ووهب!! ولم يقل أحد منهم في نفسه ما قاله في كعب ووهب، فأباحوا لأنفهسم ما لم يبيحوه لسواهم، ونقلوا من الإسرائيليات ما يخالف النص القرآني الكريم ولم ينقدوه أو يبطلوه؛ بل وحرفوا معاني نصوص القرآن الكريم حتى توافق ما جاءوا به من الإسرائيليات.

لست أقول ما قلت من غير تأمل وتفكر، ولست ألقي الكلام على عواهنه -كما يقولون- وليس هذا من قبيل استفزاز المشاعر ضدهم؛ بل هو الحقيقة والواقع، ولنسق الأمثلة واحدًا واحدًا.

أما روايتهم لما ورد من الإسرائيليات من غير رد لها حسب منهجهم الذي ذكروه، فما أورده السيد رشيد رضا في تفسيره حيث قال: "روى نحو هذا ابن جرير، قال: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: وُكِّلَ بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونها

إلخ"1.

وقال في تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} 2: "ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة، قيل: إن المراد اضربوا المقتول بلسانها، وقيل: بفخذها، وقيل: بذنبها"3.

ومنه أيضًا ما ذكره الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في المائدة التي أُنزلت من السماء فقال: "وللعلماء في الطعام الذي نزل في المائدة آراء؛ فقيل: هو خبز وسمك، وقيل: خبز ولحم، وقيل: كان ينزل عليهم طعامًا أينما ذهبوا، كما كان ينزل

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص484.

2 سورة البقرة: من الآية 73.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351.

ص: 760

المن على بني إسرائيل، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس"1.

ومنه ما قاله أيضًا في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} 2، قال:"وقد كان العلماء قديمًا يعلمون تخلخل الهواء في الطبقات العالية في الجو، وهي نظرية لم تدرس في العلوم الطبيعية إلا حديثًا، فقد أُثِرَ عن كعب الأحبار أنه قال: إن الطير يرتفع في الجو اثني عشر ميلًا، ولا يرتفع فوق ذلك"3.

ومنه ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 4، حيث قال:"وجاء في كتب الأوائل أن في زمن "أنوش بن شيث بن آدم" ابتدأت عبادة الأوثان، وجعل الناس يسمون المخلوقات آلهة، فكان أنوش يجمع أهل بيته وذويه للصلاة والتسبيح وعبادة الله وحده، وفي زمن إدريس عليه السلام وهو "أخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش - كثر النفاق، وانغمس الناس في الآثام؛ فأنزل عليه وحي في سفر هو صحف إدريس المشهورة، ولم يبقَ من ذلك السفر سوى فِقْرَةٍ، يقولون: إنها وجدت في أطواء بعض الكتب المقدسة"5.

هذا هو النوع الأول من وقوعهم في الإسرائيليات، ينقلون منها ما نقله السابقون، أما النوع الثاني وهو نقلهم ما يخالف النص القرآني من غير تكذيب له؛ فمنه ما نقله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسيره لسورة نوح عليه السلام حيث قال:"وذكر في الأسفار القديمة أن نوحًا ولد لسنة 182 من عمر أبيه "لامك" ولسنة 1056 لجده الأكبر آدم عليه السلام ومعنى نوح: الراحة والتعزية. وكان عمر نوح 500 سنة لما أخذ يلد أولاده: سامًا وحامًا ويافث، وكان

1 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج7 ص59.

2 سورة النحل: من الآية 79.

3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج14 ص119.

4 سورة نوح: من الآية الأولى.

5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص55.

ص: 761

عمره 600 سنة لما حصل الطوفان"1.

أما مصدر المعارضة للقرآن الكريم فقد أبرزته مراقبة الثقافة بالأزهر التي علقت على الطبعة التي بين يدي عند هذا الموضع بقولها: "قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَان} 2 يفيد أن الطوفان حدث بعد أن أمضى نوح بين قومه 950 سنة؛ فالقرآن يخالف في ذلك ما نقله المؤلف عن الأسفار القديمة"3.

قلت: ولا ينفع الشيخ قوله بعد هذا: "هذا منخول ما جاء في الكتاب القديمة من خبر نوح عليه السلام ونحن معشر المسلمين لا نصدقها ولا نكذبها؛ بل نَكِلُ أمرها إلى العلم الحديث، فهو الذي يمحصها ويميز غثها من سمينها"4.

وإنما قلت: لا ينفعه هذا؛ لأن منهجنا -معشر المسلمين- ليس ما ذكر؛ بل تكذيب ما خالف النص القرآني لا التوقف أو تفويض أمره إلى العلم الحديث!

أما النوع الثالث من أنواع وقوعهم في الإسرائيليات التي حذروا منها فهو رجوعهم بأنفسهم إلى مصادر أهل الكتاب، ونقلهم منها مباشرة لمجملات القرآن الكريم وبمهماته؛ بل وجعل هذه النصوص دليلًا مرجحًا وميزانًا للمفاضلة بين أقوال المفسرين؛ بل رد التفاسير التي تخالف هذه النصوص؛ حتى قال أحدهم:"ومنه نعلم أن كل ما خالفها -أي: التوراة- من أقوال المفسرين في معنى الطمس على أموالهم، فهو من أباطيل الروايات الإسرائيلية التي كان من مقاصد كعب الأحبار وأمثاله منها، كما نرى صد اليهود عن الإسلام بما يرويه في تفسير المسلمين للقرآن مخالفًا لما هو متفق عليهم عندهم"5.

1 المرجع السابق: ص56.

2 سورة العنكبوت: الآية 14.

3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي هامش ص56.

4 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص56.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص474.

ص: 762

وأمثلة هذا النوع كثيرة جدًّا في تفاسيرهم؛ ومنها ما قاله الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في تفسير {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1، فقال:"وجاء في إنجيل يوحنا: وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته"2.

ومنه أيضًا قوله في تفسيره قوله تعالى: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 3، قال: "وقد جاء في الفصل السادس من سِفْرِ الخروج من التوراة: فقال الرب لموسى الأثرى: ما أصنع بفرعون، إنه بيد قديره سيطلقكم، وبيد قديره سيطردكم من أرضه

"4.

ومنه ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} 5 الآية، قال:"ويكفي في الاستشهاد على ذلك ما جاء في "رؤى دانيان" من أسفار العهد القديم "ورؤيا يوحنا" من أسفار العهد الجديد، وقد قال المفسرون من علماء أهل الكتاب: إنه وإن يكن يوجد في سفر دانيال حوادث غير اعتيادية، فليس هذا بمستغرب؛ لأنه يعم الكتاب المقدس تقريبًا "وقالوا في رؤيا يوحنا": إن معناها عويص، وهي مشحونة بمسائل محيرة لا يمكن حلها قبل تتمة ألف سنة"6 إلخ.

ومنه ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} 7 الآية، قال: "وهذا التابوت المعرف صندوق له قصة معروفة في كتب اليهود؛ ففي أول الفصل

1 سورة المائدة: من الآية 117.

2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج7 ص64.

3 سورة الأعراف: من الآية 129.

4 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج9 ص39.

5 سورة المدثر: من الآية 31.

6 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص95.

7 سورة البقرة: من الآية 248.

ص: 763

الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه: وكلم الرب موسى قائلًا: كلم بني إسرائيل

إلخ"1، ثم ذكر النص. وقال أيضًا: "وفي سفر تثنية الاشتراع أن موسى لما كمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون شاهدًا عليكم [31: 24-30] "2.

وقال أيضًا في موضع آخر: "وأما ما ورد في التوراة الحاضرة في شأن الألواح فمنه ما جاء في سفر الخروج من [23: 12] وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها؛ لتعلمهم الكلمات العشر، وجاء في وصف اللوحين منه [32: 15] ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده: لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا ومن هناك كانا مكتوبين"3.

أما النوع الرابع -وهو النوع الأخطر من أنواع وقوعهم في الإسرائيليات- فهو صرفهم معنى النص القرآني؛ ليوافق نصوص أهل الكتاب، ونضرب لذلك مثلًا بتفسير الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} 4 الآيات، حين مال الشيخان إلى أن المراد في الآيات بيان نوع من التشريع الموجود عند بني إسرائيل، يتوصل به إلى معرفة القاتل المجهول.

ثم يربط بين هذا المعنى وبين ما جاء في التوراة فيقول: "على أن هذا الحكم منصوص في التوراة؛ وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان، ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي

إلخ"5.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص480.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص482.

3 المرجع السابق: ج9 ص185.

4 سورة البقرة: من الآية 67.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.

ص: 764

وقد أيد الشيخ رشيد رضا ما ذهب إليه شيخُه بذكر النص الوارد في التوراة المتعلق بقتل البقرة، ثم قال بعد هذا:"فعُلم من هذا أن الأمر بذبح البقرة كان لفصل النزاع في واقعة قتل"1، ثم قال: "والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله؛ ليعرف الجاني من غيره

ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تُسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس؛ أي: يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإحياء على حد قوله تعالى:{مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [5: 32]، وقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، فالإحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين، ثم قال:{وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات"2.

وبهذا يكون الشيخ محمد عبده وتلميذه صَرَفَا معنى الآية عن أن تكون قصة واقعة أحيا الله فيها القتيل {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} ليكون آية للناس {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} صرفا هذه الآيات عن هذا المعنى إلى أنها وردت لبيان حكم كان في بني إسرائيل، فعلوا هذا ليوافق ما جاء عن أهل الكتاب "والإسرائيليات".

هذه بعض مواطن وقوعهم فيما حذروا منه، فوقعوا في مثله أو أسوأ منه، وقد ترددت في اعتبار هذا من أسس منهجهم ما داموا لم يلتزموا، لولا أني رأيت أن القول الصريح مقدَّم على الفعل في الاستدلال، فأقوالهم صريحة في رفض الإسرائيليات؛ فاعتبرته كذلك وإن لم يلتزموه.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.

2 المرجع السابق: ج1 ص351.

ص: 765

‌الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع

وتظهر أبعاد هذا الأساس لدى رجال المدرسة في قول الأستاذ الإمام محمد عبده: "وأريد أن يكون القرآن أصلًا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلًا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون"1.

ويؤكد هذا التأصيل تلميذُه السيد رشيد رضا بقوله: "إن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين، وأن حكم الله يُلتمس فيه أولًا، فإن وُجد فيه يؤخذ وعليه يعول ولا يحتاج معه إلى مأخذ آخر، وإن لم يوجد التُمس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا حين أرسله إلى اليمن، وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين"2.

وأيد هذا الشيخ محمود شلتوت قائلًا: "إن مصادر التشريع في الإسلام ثلاثة: القرآن والسنة والرأي، وهي في المصدرية على هذا الترتيب، فما وجد في القرآن أخذ منه ولا يطلب له مصدر سواه، وما لم يوجد فيه بحث عنه فيما صحت روايته وثبت وروده عن الرسول صلى الله عليه وسلم"3.

ومع هذه النصوص نصوص أخرى تميز المراد من النصوص الأولى وتظهره؛ ذلكم أن تلك النصوص السالفة قابلة لهذا وذاك، قابلة لمن يجعل القرآن هو المصدر الأول ولا يقبل معه ما يبين مجمله ولا يخصص عمومه، وقابلة لمن جعل القرآن هو المصدر الأول من غير رد لما صح من السنة، والذي يظهر أن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية كثيرًا ما يميلون إلى المراد الأول؛ فينكرون من صحيح السنة ما لا يوافق تفسيرهم لآية في القرآن الكريم، وكأن التفسير الذي مالوا إليه قد قامت أركانه، وصحت قوائمه، وتبوأ منزلة هي أقوى درجة من صحيح السنة، فردوا هذا الأخير لأجل فَهْمِهم الخاطئ.

فهذا الإمام محمد عبده ينكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر

1 فاتحة الكتاب: محمد عبده ص46.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص120.

3 الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت ص469.

ص: 766

فيقول: "والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد ما يثبته وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصوله إلى المشركين وأعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا؛ فإذن هو ليس بمسحور قطعًا.

وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون"1، إلى أن قال: "وعلى أي حال، فلنا -بل علينا- أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل".

وقد كفانا مؤنة الرد على الأستاذ الإمام الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- حيث قال: "وهذا الحديث الذي يرده الأستاذ الإمام رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الصحيحة، وليس من وراء صحته ما يخل بمقام النبوة؛ فإن السحر الذي أُصيب به النبي عليه الصلاة والسلام كان من قبيل الأمراض التي تَعْرِضُ للبدن بدون أن تؤثر على شيء من العقل"2، وقال:"ثم إن الحديث روايه البخاري وغيره من كتب الصحيح؛ ولكن الأستاذ الإمام -ومَن على طريقته- لا يفرقون بين رواية البخاري وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخاري، كما أنه لو صح في نظرهم فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن، وهذا في نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنة، التي هي بالنسبة للكتاب بمنزلة الْمُبَيِّن من الْمُبَيَّن، وقد قالوا: إن البيان يلتصق بالمبيَّن"3.

وخذ مثلًا لذلك -آخر- تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي لقوله

1 تفسير جزء عم: محمد عبده ص180، 181.

2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص240، 241.

3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص241.

ص: 767

تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، قال الشيخ المراغي مكتفيًا بالقرآن دون السنة:"وما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة فهو إما مؤقت وإما للكراهة فقط، ومن الأول تحريم الحُمُر الأهلية، فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر"، ومن الثاني ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"1.

لكن الشيخ المراغي جعل تحريم غير هذه الأربعة إما مؤقتًا وإما للكراهة، ولم يتحدث عما ورد بلفظ التحريم من غير علة عارضة تقيده بزمان أو مكان، وقد كفاه مؤنة هذا الصنف الأستاذ محمد رشيد رضا حيث قال:"وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى2 لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس مراد من رد تلك الأحاديث بآية الأنعام من الصحابة وغيرهم أنه لا يقبل تحريم ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن منصوصًا في القرآن؛ بل معناه أنه لا يمكن أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا جاء نص القرآن المؤكد بحله، واعتبر هذا بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسُئِلَ عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خبيثة من الخبائث"، فقال ابن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال. اهـ. فقوله "إن كان"

1 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج8 ص58.

2 جرأة غريبة من الشيخ محمد رشيد رضا على رد الأحاديث، وبكل سهولة يزعم بصيغة العموم:"وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى"، وهل يصلح هذا لرد الأحاديث بدون تتبع؟!!

ص: 768

مشعر بشكه فيه، وأنه إن فرض أنه قال وجب قبوله؛ لأن الله أمر بإتباعه؛ ولكن بمعنى أنه خبيث غير محرم كالثوم والبصل على أن الحديث ضعيف"1.

وهذا الذي قاله محمد رشيد رضا غريب منه، فهل خفي عليه -ولا أظنه- أن قول ابن عمر رضي الله عنهما: "إن كان

إلخ" رجوع منه رضي الله عنه عن فَهْمِه إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وغريب منه أيضًا أن يجهل -ولا أظنه كذلك- حُكْم الخبائث في الإسلام؛ فيكفي أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه خبيثة من الخبائث؛ لنعرف من القرآن أنه عليه الصلاة والسلام يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث.

ليس لي أن أذكر أمثلة أكثر من هذا فهي كثيرة في تفاسيرهم، وفيما ذكرت ما يكفي للمراد إن شاء الله تعالى.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص163.

ص: 769

‌الأساس الثامن: الشمول في القرآن الكريم

وهو أمر مسلَّم؛ إذ الشمول فيه فرع عن الشمول في الرسالة الإسلامية عامة، فهي ليست لأمة دون الأمم، ولا لطائفة دون طائفة، ولا لزمن دون زمن {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1؛ ولذا جاء القرآن الكريم أيضًا -وهو كتاب هذه الرسالة- شاملًا {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} 3.

أدرك هذا رجال المدرسة العقلية الاجتماعية فالتزموه في تفسيرهم، فقال أستاذهم الإمام محمد عبده: "إن القرآن هادٍ ومرشد إلى يوم القيامة، وإن معانيه عامة وشاملة، فلا يعد ويوعد ويعظ ويرشد أشخاصًا مخصوصين؛ وإنما نيط وعده

1 سورة الأعراف: من الآية 158.

2 سورة الأنعام: من الآية 19.

3 سورة يوسف: من الآية 104.

ص: 769

ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التي توجد في الأمم والشعوب"1.

وقال تلميذه من بعده: "فإن كان مات مَن كانوا سبب النزول فالقرآن حتى لا يموت ينطق حُكْمَه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان"2.

ولعلنا ندرك من هذا النص الأخير أنهم يحرصون كثيرًا على عدم تخصيص الآيات ذوات سبب النزول بالسبب؛ بل يلتزمون القول بالشمول في غالب ذلك.

خذ مثلًا لذلك ما قاله الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير الأتقى والأشقى من قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} 3 الآية، قال:"وبتفسير الأتقى والأشقى على النحو الذي سمعته تبطل تلك الإشكالات التي أوردها المفسرون في الحصر، وما أشكل عليهم إلا تقييدهم بالعادة في استعمال ألفاظ: كذب وتولى، وتحكيمهم عاداتهم واصطلاحاتهم التي وضعوها من عند أنفسهم لأنفسهم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ثم إنهم يوردون ههنا أسبابًا للنزول، وأن الآيات نزلت في سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه اشترى من أرقاء المسلمين ضعفاء وأعتقهم من ماله لا يبتغي في ذلك إلا وجه الله، ورووا غير ذلك، وقالوا: إن الأشقى هو أمية بن خلف، وقيل غير ذلك، ومتى وجد شيء من ذلك في الصحيح لم يمنعنا من التصديق به مانع؛ ولكن معنى الآيات لا يزال عامًّا -كما رأيت- والله أعلم"4.

ومن ذلك تفسير الشيخ محمد رشيد رضا لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 5؛ حيث قال: "وهذه الآيات

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص179.

2 المرجع السابق: ج1 ص153.

3 سورة الليل: الآيات 14-17.

4 تفسير جزء عم: محمد عبده ص106.

5 سورة البقرة: الاية 8.

ص: 770

التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال الفرقة الرابعة، وهي فرقة من الناس توجد في كل آنٍ وفي كل عصر، وليست الآيات -كما قيل- في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل؛ ولذلك قال تعالى في بيان حالهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، ولم يقل عنهم: إنهم يقولون مع ذلك: "وآمنا بك يا محمد"، وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كل هذه العناية ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس"1.

ومثلًا آخر تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي للمغضوب عليهم والضالين، وذلك في سورة الفاتحة:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2.

فقد ورد في السنة تخصيص هذا العموم بأن المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى؛ لكن الشيخ المراغي يميل إلى العموم فيقول في تفسيرها: "والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده؛ فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريًّا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة؛ تقليدًا لما ورثوه عن الآباء والأجداد، والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق"3.

ومثل ذلك تفسير الشيخ عبد القادر المغربي لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} 4، والخطاب في قوله:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ} وإن كان موجهًا إلى الفريقين: المصدقين والمكذبين، كان سببه صادرًا عن المكذبين وهم المشركون، فإنهم كانوا يوصي بعضهم بعضًا بألا يجهروا ما يدور بينهم؛ لئلا يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم"5.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص149.

2 سورة الفاتحة: من الآية 7.

3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص37.

4 سورة الملك: من الآية 13.

5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص7، 8.

ص: 771

وهذا أخيرًا مثل من تفسير الشيخ محمد مصطفى المراغي على هذا النحو في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، فقد ذكر سبب نزول الآية، ثم قال:"يصح أن يكون هذا أو غيره سبب نزول الآية؛ لكن الآية عامة تشمل كل خيانة الله ورسوله"2.

ولعل فيما ذكرنا من أمثلة ما فيه الكفاية لتقريره أساسًا من أسس التفسير لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية.

ونحن حين نقول بالشمول في القرآن والعموم في الرسالة الإسلامية فلا يعني إطلاق ذلك؛ فلا شك أن في القرآن آيات خاصة جاءت الأدلة على خصوصها؛ فلا ينبغي أن يطلق العموم في القرآن على هذا النحو، خاصة إذا أورد التخصيص للآية في السنة النبوية المطهرة.

ولو كان منهجنا في الدراسة مناقشة المذاهب والآراء مناقشة واسعة؛ لتتبعنا هنا ما ذكرنا وغيره مما لم نذكر من تفاسيرهم، وذكرنا مواقع التطرف ومواقع الاعتدال في كلٍّ.

1 سورة الأنفال: الآية 27.

2 الدروس الدينية لعام 1357: محمد مصطفى المراغي ص29.

ص: 772

‌الأساس التاسع: التحذير من الإطناب

فيما ورد مبهمًا في القرآن الكريم، والحديث عن هذا الأساس مرتبط بالحديث عن الأساس السادس؛ وهو تحذيرهم من الإسرائيليات، فكلاهما إعراض عن الحديث عن شيء من غير دليل صحيح وسند مقبول.

وهذا الأساس من الوضوح لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية بمكان؛ فقد رفعوا أصواتهم، وكرروا نداءاتهم، ودعوا إلى تنقية التفاسير مما عَلَقَ بها من أحاديث وضعها القصاص والوضاعون في بيان مبهم في القرآن الكريم؛ ليدعموا به معتقدًا زائفًا أو دعوة باطلة، أو لغرض دنيوي، أو لطلب مكانة ومنزلة بين العامة؛ فلجئوا إلى ذلك الأسلوب الهجين.

ص: 772

وأول ما يواجه القارئ للقرآن الكريم مما استأثر الله تعالى بعلمه ما يسمى بـ"فواتح السور"، وقد بيَّن الشيخ محمود شلتوت ما هو خير للناس في فَهْم هذه الفواتح، فقال:"ولعل من الخير للناس أن يوفروا على أنفسهم عناء البحث في معاني هذه الحروف وأسرار ترتيبها واختيارها على هذا النحو، وأن يكفوا عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه ولم يكلفهم الله به، ولم يربط به شيئًا من أحكامه أو تكاليفه"1.

ومن أشهر المبهمات أيضًا والتي توقف عندها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم قال لنفسه: "إن هذا لهو التكلف يا عمر"؛ ذلكم هو "أبًّا" من قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 2، وقد أعرض الأستاذ الإمام محمد عبده عن الخوض في ذلك عند تفسيرها فقال:"فالمطلوب منك في هذه الآيات هو أن تعلم أن الله يمن عليك بنعم أسداها إليك في نفسك وتقويم حياتك، وجعلها متاعًا لك ولأنعامك، فإذا جاء في سردها لفظ لم تفهمه لم يكن من جد المؤمن أن ينقطع لطلب هذا المعنى بعد فَهْم المراد من ذِكْرِه؛ بل الواجب على أهل الجد والعزيمة أن يعتبروا بتعداد النعم، وأن يجعلوا معظم همهم الشكر والعمل، هكذا كان شأن الصحابة رضي الله عنهم ثم خلف من بعدهم خلف وقفوا عند الألفاظ، وجعلوها شغلًا شاغلًا، لا يهمهم إلا التشدق بتصريفها وتأويلها وتحميلها ما لا تحتمله، وقد تركوا قلوبهم خالية من الفكر والذكر، وأعضاءهم معطلة عن العمل الصالح والشكر"3.

وكما توقف عن القول في معنى "أبًّا" توقف عن القول فيما لا علم له به؛ فتوقف عن القول بالحافظين من قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِين} 4؛ فأعلن إيمانه بذلك إجمالًا، ولم يبحث عمَّا وراء ما ورد في النصوص

1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص61.

2 سورة عبس: الآية 31.

3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص21.

4 سورة الانفطار: الآيتين 10، 11.

ص: 773

الصحيحة فقال: "ومن الغيب الذي يجب علينا الإيمان به ما أنبأنا به في كتابه من أن علينا حفظة يكتبون أعمالنا حسنات وسيئات؛ ولكن ليس علينا أن نبحث عن حقيقة هؤلاء، ومن أي شيء خُلقوا، وما هو عملهم في حفظهم وكتابتهم، هل عندهم أوراق وأقلام ومداد كالمعهود عندنا -وهو ما يبعد فَهْمه- أو هناك ألوح تُرسم فيها الأعمال؟ وهل الحروف والصور التي تُرسم هي على نحو ما نعهد، أو إنما هي أرواح تتجلى لها الأعمال؛ فتبقى فيها بقاء المداد في القرطاس إلى أن يبعث الله الناس؟ كل ذلك لا نكلف العلم به؛ وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، وتفويض الأمر في معناه إلى الله، والذي يجب علينا اعتقاده من جهة ما يدخل في عملنا هو أن أعمالنا تُحفظ وتُحصى، لا يضيع منها نقير ولا قطمير"1.

ونحو هذا تفسير تلميذه الشيخ محمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 2؛ حيث قال: "والآية تدل بظاهرها على أن الجنة مخلوقة الآن؛ لأن الفعل الماضي يُفهم هذا؛ غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} 3، فلا يدل على خلقها الآن، والبحث في هذا لا فائدة له ولا طائل تحته"4.

وفي تفسير قوله تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} 5 يقول: "وهل هذا الصوت صوت جهنم نفسها؛ بمعنى: أن المواد التي تلتهب فيها يُسمع لها هذا الصوت، أو هو صوت أهلها الذين ألقوا ويلقون فيها؟ لم يكلفنا الشرع تعيين أحد الأمرين، كما لم يكلفنا أن نعرف جهنم والجنة وسائر شئون عالَم الغيب معرفة كُنْه وتحديد؛ وإنما كل ما على المؤمن أن يعتقد أنه تعالى أعدَّ دارًا للأشرار تُسعر فيها النار وتفور، ويُسمع لها صوت على المعنى الذي يريده سبحانه

1 جزء عم: محمد عبده ص36.

2 سورة آل عمران: الآية 132.

3 سورة الزمر: من الآية 68.

4 الدروس الدينية لعام 1356هـ: محمد مصطفى المراغي ص21.

5 سورة الملك: الآية 7.

ص: 774

وتعالى، أما ما وراء ذلك من اعتقاد أن مواد جهنم وعناصرها وطبائعها وغليانها وحسيسها من جنس ما نعرفه في الدنيا أو لا، فهذا مما لم نكلفه رحمة بنا؛ إذ القصد أن يؤدي علمنا بالنار إلى الخشية والازدجار، وهذا يحصل بمجرد ما قصه الله علينا من أمرها، وأن الداخل إليها يشعر من الألم بأقصى ما يعهده في دار الدنيا"1.

وعودة إلى أستاذ هذه المدرسة وإمامها الشيخ محمد عبده، نذكر له توقفه عن الإطناب في شأن الميزان يوم القيامة؛ وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة} 2، قال:"ومن عجيب ما قاله بعض المفسرين: "إنه ميزان بلسان وكفتين كأطباق السماوات والأرض، ولا يعلم ماهيته إلا الله"!!، فماذا بقي من ماهيته بعد لسانه وكفتيه حتى يفوض العلم فيه إلى الله؟! والكلام فيه جرأة على غيب الله بغير نص صريح متواتر عن المعصوم، ولم يرد في الكتاب إلا كلمة الميزان، وقدر ما يمكننا أن نفهم منها لننتفع بما نعتقد وما عدا ذلك فعلمه إلى الله سبحانه

وعليك أيها المؤمن المطمئن إلى ما يخبر الله به أن تؤمن أن الله يزن الأعمال، ويميز لكل عمل مقداره، ولا تسل: كيف يزن؟ ولا كيف يقدر؟ فهو أعلم بغيبه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون"3.

هذه بعض الأمثلة على توقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية عن الإطناب فيما أبهمه القرآن الكريم مما لا طائل في معرفته.

1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص7.

2 سورة القارعة: الآيتين 6، 7.

3 جزء عم: محمد عبده ص145، 146.

ص: 775

‌الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي

‌مدخل

الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي

وبلغت منزلة هذا الأساس ودرجتُه عند رجال المدرسة العقلية الاجتماعية أن أصبح كالأساس الثالث -تحكيم العقل- صفة من صفاتهم التي بها يُعرفون وإليها يُنسبون؛ حتى أضيف إلى اسم المدرسة؛ فعرفت بالمدرسة العقلية الاجتماعية.

ص: 775

ذلكم أن رجال المدرسة وهم يواجهون أو يعاصرون يقظة العالم الإسلامي الذي انبهرت طائفة منه بمعالم الحضارة الغربية اتجهوا كغيرهم من المصلحين إلى تلمس السبيل الأمثل لإصلاح المجتمع الإسلامي وَفْقَ أحكام الشريعة الإسلامية؛ بحيث تسبق هذه الأمة أمة الغرب أو تلحق بها مع التزامها لمبادئ دينها.

وهي مهمة غير ميسرة تحف بها العقبات، وتحيط بها المتاهات، وتزيغ بها الأهواء، وتلتبس بها السبل، فإن أحاط صاحبها نفسه بنور القرآن الكريم، ولم يَحِدْ عن نوره يَمْنَةً أو يَسْرَةً لم يزل على جادة الحق حتى ينجو وينجِّي، وإلا هلك وأهلك.

لا عجب أن يكون القرآن الكريم هو النبراس في دياجير الظلام؛ فقد وصفه منزله -عز شأنه- بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1.

ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو الهداية {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 2.

ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو النور؛ فقد أنزله الله كذلك {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} 3.

والتاريخ شاهد للقرآن بهذا؛ فليتأمل المتأمل في تاريخ المسلمين، وينظر إلى تلك الروح التي سرت في جسد الأمة الإسلامية في القرن الأول ما إن أشرقت أول شعاعة لهذا القرآن الكريم من غار حراء إلا والقلوب تأوي إليه والأفئدة تهفو إليه، وإذا بالفرد قد أصبح جماعة، وإذا بالجماعة قد أصبحت أمة، وإذا بالأمة قد أصبحت أممًا حتى خاطب حاكمها سحابة في عِنَانِ السماء: أيتها السحابة أمطري حيث شئت، فإن خراجك سيأتي إليَّ.

1 سورة إبراهيم: الآية الأولى.

2 سورة الإسراء: من الآية 9.

3 سورة النساء: من الآية 174.

ص: 776

كانت هذه الأمة أمة مستذلة قبل أن يسري فيها نور القرآن، كانت تقول:"للبيت رب يحميه"، وما إن أشرق فيها نوره حتى صارت جنود مَن يحميه؛ بل لم تقف موقف الحماية؛ فهبت لتاج كسرى الوثني تلقيه، ولتاج قيصر الرومي تحطمه وترميه؛ حتى لا يقف حاجزًا لهذا النور، فليس هو لأمة دون أمة ولا لأرض دون أرض؛ إذًا فليفسح له السبيل، وليفتح له الطريق؛ حتى تشرق الأرض بنور ربها، وهكذا كان.

أشرق النور وانجلت الظلمات فصار الناس يرون الحق والسبيل السوي فيسلكونه، ويرون الباطل وطريق الضلال فيجتنبونه، نعموا بالعدل، وما أدراك ما هو؛ فقد بسطه نبي هذه الأمة، وما زالت كلمته تجلجل "والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"، وبسطه خلفه مَن بعده حتى قال خليفتهم: والله لو عثرت شاة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لَمْ أمهد لها الطريق، قال ذلك في منتهى إدرك المسئولية على عاتقه.

ونعموا بالأمن فلا يضيع دم أحد هدرًا، حتى ولو اشترك أهل صنعاء في قتله، ولا يضيع مال حتى تقطع يد لنصف دينار منه، ولا يضيع شرف حتى يجلد صاحب كلمة تخدشه، أو ترجم نفس تنتهكه، أو تقطع أيدي وأرجل اعتدت عليها، ولن يُهدر سن ولا عين ولا جرح ولا شَعَرَة حتى يقاد لصاحبها ويقتص.

أي أمن هذا؟! وأي سلام؟! إنه أمن الإيمان، وسلامة الإسلام، الذي عجزت وتعجز أن تدانيه آية قوانين مستحدَثة، وآية أنظمة وضعية.

إذًا، فلا عجب أن يكون ذلكم الكتاب الكريم شاملًا لصلاح الدنيا وسعادة الاخرة، ولا عجب أبدًا أن يكون ملاذ المصلحين ودستور الحاكمين ومنار المهتدين، إليه يأوي أولئك يستمدون منه قواعد الإصلاح الاجتماعي وأسسه، وإليه يأوي هؤلاء الحاكمون يستمدون منه أصول الحكم الإسلامي، وإرساء قواعد الدولة الإسلامية، ويأوي إليه المهتدون ينعمون بفييء ظلاله وأمن جواره.

ص: 777

كنت أقول: إن التاريخ شاهد على ما ذكرنا، وإنه شاهد -لا أشك في شهادته- أن الأمة الإسلامية تقوى بتمسكها به، وتضعف بتركها له أو إعراضها عنه.

سادت الدولة الإسلامية أرجاء واسعة من الأرض، بسطت عليها سلطتها، وأرست دعائم حُكْمها العادل، ثم ضعف تمكسها بالقرآن الكريم وأحكامه؛ فما لبثت أن بدأت تتهاوَى وتسقط الواحدة تلو الأخرى؛ حتى أصبحت غثاء كغثاء السيل، وحتى تداعت عليها الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها.

حتى أفاق العالم الإسلامي من نومته، واستيقظ من غفلته؛ فإذا به مكبلًا مقيدًا يبغي الفكاك، شمرت طائفة من العلماء عن سواعدها داعية إلى سبيل السلامة وما فيه النجاة، والتفتوا إلى القرآن الكريم يرسلون أنواره في زوايا الظلمات؛ حتى يكشفوا ما فيه هلاكهم فيحذروه، وما في نجاتهم فيسلكوه.

أرسلوا هذا النور القرآني إلى عادات باطلة صارت عقائد راسخة، وإلى عقائد أصيلة أصبحت في عالم النسيان، نبهوا المسلمين إلى عدوهم الحقيقي ليحذروه، ودعوهم إلى الإسلام وتحكيم مبادئه وترسيخ أصوله.

وكان من هؤلاء رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، الذين شاء الله أن يعيشوا -أو كثير- منهم تلك الفترة؛ فقاموا حسب طاقتهم وجُهْدهم بهذه المهمة؛ فخاضوا في شتى القضايا، وبسطوا كثيرًا من الإصلاحات، وكان لهم شأن البشر حسنات وكان لهم غيرها.

اتجهوا إلى تفسير القرآن الكريم يطبقونه على مجتمعهم، فإن جاء ذكر عمل محمود أشادوا به ودعوا إلى امتثاله، وإن جاء ذكر عمل مذموم شنئوه وحذروا الناس منه؛ فكان هذا -وهو كذلك- هو المدخل الصحيح للمصلح الاجتماعي.

كانت القضايا الاجتماعية لا تكاد تحد ولا تعد، بدءًا من الحكومة الإسلامية والقواعد التي تقوم عليها، ومرورًا بالوَحْدَة الإسلامية والحرية الفردية والحرية السياسية وحرية العقيدة، ثم إصلاح العقائد من الخرافات والأوهام التي ألصقت بها إلصاقًا، ثم إصلاح التعليم وما أدراك ما التعليم! ثم إصلاح الاقتصاد عامة، ونشر الاقتصاد الإسلامي خاصة، ثم القضية التي يسمونها قضية

ص: 778

المرأة، ما لها وما عليها، ما تطلبه وما يطلب منها، شغلت الناس حينًا من الدهر وما زالت، ثم قضايا التربية الإسلامية والالتزام بمبادئه التهذيبية كالأمانة والصدق والصبر، مما يهذب النفس الإسلامية، ويصبغها بمثله ومبادئه، ثم قضايا الخمر والزنا والسرقة، وبيان آثارها وأضرارها في المجتمع.

ولا أظن القلم سيتوقف من قريب إن ذهبت أُعدِّد -مجرد تَعداد- القضايا الاجتماعية في تلك الفترة، حتى إنه لا يخلو تفسير آية من آيات القرآن الكريم من ألف مدخل ومدخل إلى قضية من تلكم القضايا.

وقد جد رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في أن يلتزموا عند تفسير كل آية ما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي، ويتخذوا منها مدخلًا إلى الإصلاح؛ حتى وُصف أستاذ هذه المدرسة ضمن أوصافه بـ"المصلح الاجتماعي".

وليس علينا ونحن نعرض هنا التزامهم لهذا الجانب في التفسير أن نعرض لكل الجوانب الإصلاحية ولا لأكثرها؛ فلنعرض إذًا لبعض جوانب الإصلاح الاجتماعي مما يُثبت سلوكهم إياه وعملهم به؛ حتى صار أساسًا من أسس تفسيرهم؛ بل صفة تطلق عليهم.

ص: 779

‌الحريَّة:

وحين نطلق -نحن المسلمين- لفظ الحرية فإنا لا نعني بها ذلك المفهوم الغربي؛ بمعنى التجرد من الدين والمبادئ؛ بل التحرر

من سلطان ورجال الكنيسة في العصور الوسطى، ومن سلطان الإقطاعيين والفكر الأجوف والتقليد الأعمى، فتلك الحرية نتاج فكر لا وجود له في الإسلام، وبالتبع فليست تلك الحرية من مقاصد الإسلام.

فلقد بوأ الإسلام الحرية منزلة لا تدعوها إلى الهجوم عليه؛ لأنها نابعة منه وقائمة عليه، فكيف تثور الحرية على قاعدتها الراسخة، تشعبت الحرية في الإسلام، ورسخت فيه عروقها؛ فصارت ماءه الذي تشربه، وهواءه الذي تتنفسه، خذ من تلك الشعب إن شئت:

ص: 779

الحرية في العقيدة:

فقد أعلنها الإسلام صريحة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1، قال الشيخ محمد عبده في تفسيرها:" {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يُكره أحدًا من أهله على الخروج منه؛ وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة، نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدي بمثله عليه، إذًا أمرنا أن ندعوا إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار؛ أي: أنه ليس من جوهره ومقاصده؛ وإنما هو سياج له وجنة، فهو أمر سياسي لازم له للضرورة"2.

وزاد الأستاذ محمد رشيد رضا وضوحًا بقوله: "ولكن قد يرد علينا أننا قد أمرنا بالقتال"، ثم يجيب على هذا بقوله: "إن الإكراه ممنوع، وإن العمدة في دعوة الدين بيانه حتى يتبين الرشد من الغي، وإن الناس مخيرون بعد ذلك في قبوله وتركه، شرع القتال لتأمين الدعوة ولكف شر الكافرين عن المؤمنين؛ لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه كما كان يفعلون في مكة جهرًا؛ ولذلك قال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 4.

ومما يتصل بحرية العقيدة حرية الجدل الديني ما دام جدالًا بالتي هي أحسن، فقد قال الأستاذ محمد فريد وجدي في تفسير قوله تعالى:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} 5: "ولا تجادلوا أهل

1 سورة البقرة: من الآية 256.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص37.

3 سورة البقرة: من الآية 193.

4 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص39.

5 سورة العنكبوت: من الآية 46.

ص: 780

الكتاب إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال؛ كمقابلة خشونتهم باللين، وشغبهم بالنصح، إلا الذين ظلموا منهم بالإفراط في الاعتداء"1.

وحرية من العبودية لغير الله:

فالأصل في الإنسان حريته من العبودية إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا يذكِّرنا بقول عمر رضي الله عنه مستنكرًا:"ومتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ".

ولذلك حث الإسلام على العتق وتحرير الأرقاء، قال الشيخ محمد عبده في تفسيره قوله تعالى:{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ} 2: "وفك الرقبة عتقها أو المعاونة عليه، وقد ورد في فضل العتق ما بلغ معناه حد التواتر، فضلًا عما ورد في الكتاب، وهو يرشد إلى ميل الإسلام إلى الحرية وجفوته للأَسْرِ والعبودية"3.

حرية سياسية:

فشرع الشورى، قال السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 4: "وشاورهم في الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية؛ أي: دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة -غزوة أحد- وأن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابًا؛ لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم "المشاورة"، فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر، قال الأستاذ الإمام:

1 المصحف المفسر: محمد فريد وجدي ص537.

2 سورة البلد: الآيات 11-13.

3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص89.

4 سورة آل عمران: من الآية 159.

ص: 781

ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير، وإذا كان المستشارون كثارًا كثر النزاع وتشعب الرأي، ولهذه الصعوبة والوعورة أَمَرَ الله تعالى نبيه أن يقرر سُنة المشاورة في هذه الأمة بالعمل؛ فكان يستشير أصحابه بغاية اللطف، ويصغى إلى كل قول، ويرجع عن رأيه إلى رأيهم"1.

ويعلل عدم وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة ونظامًا للشورى بحِكَم وأسباب؛ منها:

أ- أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان.

ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينًا، وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين.

ج- ومنها أنه لو وضع تلك القواعد من نفسه عليه الصلاة والسلام لكان غير عامل بالشورى، وذلك محال في حقه؛ لأنه معصوم من مخالفة أمر الله، ولو وضعها بمشاورة مَن معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم، كما فعل في الخروج إلى أُحُد، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفًا لرأيه صلى الله عليه وسلم، أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم2.

كانت تلكم بعض جوانب الحرية في الإسلام، نبه إليها رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، ودعوا إلى إصلاح الأوضاع الاجتماعية على ضوئها.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص199، 200.

2 المرجع السابق: ج4 ص201، 202.

ص: 782

‌التحذير من البدع والمنكرات في العقائد:

وهذا السبيل في الإصلاح منتشر في تفاسيرهم وبكثرة، كيف لا وقد كانت العقائد الإسلامية في عصرهم يشوبها كثير من البدع والخرافات التي ابتدعها المبتدعون ما أنزل الله بها من سلطان.

انتشر بين المسلمين تقديس الأولياء، والتمسح بعتباتهم، ولزوم المقابر، ودعاء الأموات، والذبح لغير الله، بله العقائد المنحرفة والملل الملحدة.

وحذر رجال المدرسة الاجتماعية المسلمين مما وقع فيه أكثرهم من البدع والمنكرات؛ كتقديس الأولياء، والذبح عند قبورهم، ودعائهم لهم، واستغاثتهم واستعانتهم بهم، ففي قوله تعالى:{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} 1 قال السيد رشيد: "إن الصالحين المصلحين في الأرض هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من الهلاك ما داموا يطاعون فيها بحسب سنة الله، وقد فهم الوعاظ والفقهاء من خلفنا الجاهل خلاف ما كان يفهمه السلف الصالح من بركة الصالحين المتقدمين، وحفظ الله الأمم بهم؛ فظنوا أن المراد بهم الذين يكثرون من الصيام والقيام وقراءة الأوراد والأحزاب. كلا، إن من أصحاب الأوراد من يقوم ليلة بورد من تشريع مبتدع هو به عاصٍ لله تعالى؛ لعبادته بغير ما شرعه، فكان مما قال فيهم:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} 2؛ أي: بهلاكهم.

وفي الحديث: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" 3، كم من مصلٍّ هو مصداق لحديث:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعْدًا" 4، وكذا كان دراويش مهدي السودان وأمثالهم من المسلمين الجاهلين لهداية القرآن، فنكل بهم الإفرنج بمساعدة الفاسقين من المسلمين واستولوا على بلادهم، وقد علمنا من أخبار المهدي أنه كان على علم وبصيرة في صلاحه؛ ولكن قواده لم يكونوا بعده مثله، وصلاح دراويشه لا بصيرة فيه ولا علم"5.

1 سورة هود: من الآية 116.

2 سورة الشورى: من الآية 21.

3 قال محمد رشيد رضا معلقًا: "رواه ابن ماجه بهذا اللفظ، وأحمد والحاكم بتقديم وتأخير".

4 قال محمد رشيد رضا معلقًا: "رواه أحمد في الزهد عن ابن مسعود موقوفًا، وابن جرير عنه مرفوعًا".

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج12 ص244، 245.

ص: 783

وهذا الشيخ أحمد مصطفى المراغي يستدل بقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} 1 على "أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يُوجب على المؤمن أن يفكر طويلًا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف أن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه وقوارعه الشديدة وزواجره التي تخر لها الجبال سجدًا"2.

وأكد هذا الشيخ محمد عبده بتفسيره الآية نفسها بقوله: "نقرأ هذا التشديد والوعيد، ونسمعه من القارئين، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالتهم؛ حتى أنك ترى الذين يشكون في هذه البدع والأهواء، ويعترفون ببعدها عن الدين، يجارون أهلها عليها، ويمازجونهم فيها، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا: ماذا نعمل؟ ما في اليد حيلة، العامة عمى، آخر زمان.

وأمثال هذه الكلمات هو جيوش الباطل، تؤيده وتمكنه في الأرض؛ حتى يحل بأهله البلاء، ويكون من الهالكين"3.

وقد علق الأستاذ محمد رشيد رضا على تفسير أستاذه هذا بقوله: "وأعجب من هذا الذي ذكره الإمام أنك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والأهواء ينكرون على منكرها، ويسفهون رأيه، ويعدونه عابثًا أو مجنونًا؛ إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف، ويدعون مع ذلك أنهم على شيء من العلم والدين.

وأعجب من هذا الأعجب أن منهم مَن يرى أن إزالة هذه المنكرات والبدع ومقاومة هذه الأهواء والفتن جناية على الدين، ويحتج على هذا بأن العامة تحسبها من الدين، فإذا أنكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كله لا بها خاصة!! وبأنها لا تخلوا من خير يقارنها؛ كالذكر الذي يكون في المواسم

1 سورة البقرة: من الآية 145.

2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج2 ص12.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص18، 19.

ص: 784

والاحتفالات التي تُسمي بالموالد، وكلها بدع ومنكرات، حتى إن الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع!!

والسبب الصحيح في هذا كله هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعًا ومنكرات عليها؛ إنهم إنما سكتوا بالثمن {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} 1، وهم مع ذلك يظهرون التعجب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن، وما كانوا أشد منهم جحودًا، ولا أقوى جمودًا!

هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم، وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه، ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء، وكيف يفتونهم ويؤلفون الكتب لهم، ويخترعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة، وألزموها كتبهم -لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم؛ فسلط الله عليهم مَن لم يكن له عليهم سبيل"2.

وفي تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 3 يتحدث الأستاذ عبد القادر المغربي عن نشأة الوثنية، ثم يقول:"مَن تأمل ما قلناه في مناشئ ظهور الوثنية في البشر، فهم السر في كون الدين الإسلامي يحرم إقامة الصور ونصب التماثيل وتشييد القبور وتجصيصها على رمم العظماء، وفي حديث علي رضي الله عنه: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: "لا تدع صنمًا إلا طمسته ولا قبرًا إلا سويته" 4، فإن الوثنيين كانوا يتخذون من مواثل القبور والأصنام ذكرى لرجالهم الصالحين، وليست ذكراهم لهم ذكرى عظة واعتبار؛ وإنما هي ذكرى استمداد أسرار واقتباس أنوار واستغراق واستحضار واسترزاق واستمطار والتماس منافع واستكفاء أضرار؛

1 سورة التوبة: من الآية 9.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص19.

3 سورة نوح: الآية 23.

4 رواه أحمد ومسلم وأبو داود؛ ولكن بلفظ: "ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".

ص: 785

فَسَدَّ دين الإسلام الذريعة بتحريم هذه المواثل؛ خشية أن تسترهب ضعفاء العقول وتستهويهم، ومن مزالق الوثنية تقربهم وتدنيهم، فلله الإسلام فما أعدله فيما شرع وحكم، وما أوضح نهجه فيما خط لنا من الهداية ورسم"1.

وفي قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2 الآية، يقول السيد رشيد رضا: "فإذا قيل لهم: إن أصله الغلو في الصالحين -ولا سيما الميتين منهم- واعتقاد تصرفهم في الكون، ودعاؤهم في طلب النفع ودفع الضَّر، وأن مثله أو منه ما كان يُحكى عن مسلمي بخارى: إن شاه نقشبند هو الحامي لها؛ فلن تستطيع الدولة الروسية الاستيلاء عليها، وما كان يُحكى من مسلمي المغرب الأقصى من حماية مولاي إدريس لفاس وسائر المغرب أن تستولي عليها فرنسا أنكروا على القائل أن هذا كذلك، وقالوا: إنما هو توسل بجاه الأولياء عند الله، وليس من المنكر أن يدفعوها بكرامتهم؛ فكرامة الأموات ثابتة كالأحياء.

وقد بينا لهم جهلهم هذا بتبدل الأسماء ومخالفتهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح من الأمة في فتوحاتهم وتأسيس ملكهم وحفظه، وخصصنا أخواننا أهل المغرب الأقصى بالإنذار منذ أنشئ المنار، وأرشدناهم إلى تنظيم قواتهم الدفاعية العسكرية، وطلب الضباط له من الدولة العثمانية، وإلى العلوم والفنون المرشدة إلى القوة والثروة والنظام، وإلا ذهبت بلادهم من أيديهم قطعًا، فقال المغوون لهم من أهل الطرائق القدد بلسان حالهم أو مقالهم: إن صاحب المنار معتزلي منكر لكرامات الأولياء، وما هو بمعتزلي ولا أشعري؛ بل هو قرآني سني.

وها هي ذي فرانسا استولت على بلادهم كما أنذرهم، وظهر أن أكبر مشايخ الطريق نفوذًا ودعوى للكرامات بالباطل كالتجانية كانوا وما زالوا من خدمة فرانسا ومساعديها على فتح البلاد واستعباد أهلها، أو إخراجهم من دين الإسلام إلى الإلحاد أو النصرانية، من حيث يدرون أو لا يدرون.

1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص62.

2 سورة هود: من الآية 101.

ص: 786

يجهل أمثال هؤلاء وغيرهم من الذين يظنون أن الشرك بالله تعالى خاص بعبادة الأصنام والأوثان، إن أصل هذا الشرك هو الغلو في تعظيم الصالحين، والتبرك أو التوسل بأشخاصهم؛ لإبطال سنن الله.

وأكبر مصائب الإسلام أن افتتان المسلمين بالصالحين الذين اتبعوا فيه سنن مَن قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد كان سببًا لإلحاد فريق كبير من الذين يتعلمون علوم العصر، ومنها سنن الخلق والاجتماع ومروقهم من الدين باعتقادهم أن الإسلام دين خرافي هو الذي أضاع ملك المسلمين"1.

وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 2 يجمل لنا السيد رشيد رضا تفسير أستاذه محمد عبده فيقول: "ثم ذكر أن هذا الشرك قد فشا في المسلمين اليوم، وأورد شواهد على ذلك عن المعتقدين الغالين في البدوي "شيخ العرب" والدسوقي وغيرهما لا تحتمل التأويل، وبيَّن أن الذين يؤولون لأمثال هؤلاء إنما يتكلفون الاعتذار لهم لزحزحتهم عن شرك جلي واضح إلى شرك أقل منه جلاء ووضوحًا؛ ولكنه شرك ظاهر على كل حال، وليس هو من الشرك الخفي الذي وردت الأحاديث بالاستعاذة منه، الذي لا يكاد يَسْلَمُ منه إلا الصديقون"3.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج12 ص246، 247.

2 سورة النساء: من الآية 36.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص83.

ص: 787

‌الجانب التهذيبي:

وعُنِيَ أربابُ المدرسة ببيان الفضيلة ودعوة المجتمع إليها والرذيلة وتحذير المجتمع منها، ففي تفسير قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1 يطنب الأستاذ رشيد رضا في بيان حُكْم الصلاة في الإسلام، ثم يقول بعد هذا: "أرأيت هذه الآيات العزيزة والأحاديث الناطقة بالعزيمة، قد

1 سورة البقرة: الآية 238.

ص: 787

نال التأويل منها نيله في الزمن الماضي، وأعرض جماهير المسلمين عنها في الزمن الحاضر؛ حتى كثر التاركون الغافلون والمارقون، وقل عدد المصلين الساهين، وندر المصلون المحافظون؛ ذلك أن الإسلام عند هؤلاء المسلمين الذين يصفون أنفسهم بالمتمدنين قد خرج عن كونه عقيدة دينية إلى كونه جنسية سياسية، آية الاستمساك به والمحافظ عليه والدفاع عنه مدح كبراء حكامه، وإن كانوا لا يقيمون حدوده، ولا ينفذون أحكامه؛ بل رفعوا أنفسهم إلى مرتبة التشريع العام، واستبدال القوانين الوضعية بما نزل الله من الأحكام.

ماذا كان من أثر ترك الصلاة والتهاون بالدين في المدن والقرى والمزارع؟ كان من أثره في المدن فشو الفواحش والمنكرات، تجد حانات الخمر ومواخير الفجور والرقص وبيوت القمار غاصة بخاصة الناس وعامتهم، حتى في ليالي رمضان ليالي الذكر والقرآن، وعَبَدَ الناس المال، لا يبالون أجاء من حرام أم من حلال، وانقبضت الأيدي عن أعمال الخير، وانبسطت في أفعال الشر، وزال التعاطف والتراحم، وقلت الثقة من أفراد الأمة بعضهم ببعض؛ فلا يكاد يثق المسلم إلا بالأجنبي، وغير ذلك من فساد الأخلاق وقبح الفعال في الأفراد، وأكبر من ذلك انحلال الروابط الملية؛ بل تقطع أكثرها.

المحافظ على هذه الصلاة الفضلى ينتهي عن الفحشاء والمنكر.

المحافظ على هذه الصلاة لا يمنع الماعون.

المحافظ على هذه الصلاة لا يخلف ولا يلوي في حق غيره عليه.

المحافظ على هذه الصلاة لا يضيع حقوق أهله وعياله، ولا حقوق أقاربه وجيرانه، ولا حقوق معامليه وإخوانه.

المحافظ على هذه الصلاة يُعظِّم الحق وأهله، ويحتقر الباطل وجنده.

المحافظ على هذه الصلاة لا تجزعه النوائب، ولا تفل غرار عزمه المصائب، ولا تبطره النعم، ولا تقطع رجاءه النقم"1.

ويحث الإمام محمد عبده على خُلُق الصبر في تفسير قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص440-443، بتلخيص.

ص: 788

وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} 1 بقوله: "والصبر خُلُق من أمهات الأخلاق؛ بل مساك كل خلق، قالوا في فضل الصبر: إنه ذُكر في القرآن نحو سبعين مرة، وليس لنا فائدة كبرى في تحديد العدد؛ ولكن جاء في الكتاب العزيز ذكر الصبر ومدح أهله وتبشيرهم بالفوز والفلاح، والصبر مَلَكَةٌ في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله، والرضا بما يكره في سبيل الحق، وهو خُلُق يتعلق به؛ بل يتوقف عليه كمال كل خُلُق، وما أتى الناس من شيء ما أتوا من فقد الصبر أو ضعفه"2.

وعن الخصام والرِّشوة يقول السيد رشيد: "وكم من ثروة نفدت، وبيوت خربت، ونفوس أهينت، وجماعة فرقت، وما كان لذلك من سبب إلا الخصام والإدلاء بالمال إلى الحكام، ولو تأدب هؤلاء الناس بآداب الكتاب الذي ينتسبون إليه لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم، ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ويحل فيهم التراحم والتلاحم محل التزاحم والتلاحم"3.

وفي بيان أحوال الأمم المقهورة يفسر السيد رشيد رضا قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} 4 "ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو ونكل بها يفسد بأسها ويغلب عليها الجبن والمهابة، فإذا أراد الله تعالى إحياءها بعد موتها ينفخ رُوح الشجاعة والإقدام في خيارها -وهم الأقلون- فيعملون ما لا يعمله الأكثرون، قال الأستاذ الإمام: وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف، قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها، وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها، على حد قول لشاعر:

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعان وحده والنزالا

1 سورة العصر: من الآية 3.

2 تفسير سورة العصر: محمد عبده ص23، 24.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص201.

4 سورة البقرة: من الآية 246.

ص: 789

ثم إذا توافرت الشروط يضعفون ويجبنون ويزعمون أنها غير كافية؛ ليعذروا أنفسهم، وما هم بمعذورين"1.

وفي ذم بخس الناس أشياءهم يقول السيد رشيد في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 2: "وهذه النقيصة فاشية بين الأمم والشعوب في هذا العصر؛ فنجد بعضهم يذم بعضًا وينكر فضله كالأفراد، وترى التجار في عواصم أوربا يغالون من الأسعار للغرباء ما يرخصون لأهل البلاد، وترى بعض الغرباء يستحلون من نهب أموال المصريين بضروب الحيل والتلبيس ما لا يستحلون مثله في معاملة أبناء جلدتهم، وأما المصريون وأمثالهم من الشرقيين كما قال الشاعر:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

ويا ليتهم يعاملون أنفسهم ومَن تجمعهم معهم أقوى المقومات هذه المعاملة؛ بل يكثر منهم مَن يبخسون أبناء قومهم وملتهم أشياءهم، ويهضمون حقوقهم، ويعظمون الأجنبي ويعطونه فوق حقه؛ وإنما استذلهم للأجانب حُكَّامهم، فَهُم في جملتهم مبخوسون لا باخسون، ومظلومون لا ظالمون، وهم على ذلك مذمومون لا محمودون، ومكفورون لا مشكورون"3.

ويتحدث الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 4 الآية، عن حكمهما، ثم عن مضار كل منهما، وذكر مضار الخمر الصحية بإفساد المعدة، وفقد شهوة الطعام، ومرض الكبد والكُلَى والسل؛ حتى قال أحد الأطباء: اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات، ثم

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص474.

2 سورة الأعراف: من الآية 85.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص526.

4 سورة البقرة: من الآية 219.

ص: 790

يتحدث عن مضارها العقلية ومضارها المالية، ثم عن مضارها في المجتمع، ووقوع النزاع والخصام بين بعض السكارَى، وبينهم وبين مَن يعاشرهم لأدنى بادرة تصدر من واحد منهم، ويتحدث عن مضارها النفسية من إفشاء الأسرار، ولا سيما إذا كان متصلًا بالحكومات وسياسة الدول وشئونها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس في نجاحهم في مهامهم التي ندبوا إليها، ويتحدث عن مضارها الدينية، وينتقل إلى ذكر مضار الميسر من أنه يُورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله، ويفسد الأخلاق، ويخرب البيوت بغتة.

ويقول: "وإذا استمر انتشار الخمر والزنا في هذه البلاد -ولا سيما الخمور التي تباع للفقراء، فهي مواد سامة محرقة "سبيرتو" يضاف إليها قليل من الماء والسكر- فليس بالبعيد أن تنقرض الأمة بعد جيلين أو أكثر كما انقرض هنود أمريكا، لا يبقى منهم إلا بعض الأجراء والخدم، فالسكر والزنا مقراضان يقرضان الأمم، وقد شاع حديثًا في مصر ما هو أفتك بالأمة من الخمور، وأقتل لها؛ وهو بعض السموم التي تستعمل حقنًا تحت الجلد أو شمًّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهرويين"1.

والحديث عن الأخلاق في الإسلام حديث عن الأخلاق في أسمى معانيها، وما ذكرنا إلا أمثلة قليلة لبعض الجوانب الأخلاقية التي تناولوها في تفاسيرهم لإصلاح المجتمع.

1 تفسير المراغي ج2 ص140-144.

ص: 791

‌الإصلاح الاقتصادي:

وحاول رجال هذه المدرسة إصلاح الاقتصاد في البلاد حسبما فهموه من نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة؛ فكان لهم صولات وجولات على مستوى الدولة بين الساسة والقادة، وعلى مستوى العامة بين الفلاحين والعمال، وفيما أودعوه في كتبهم من بيان لمزايا الشريعة الإسلامية في إدارة الأموال والطريق السليمة لذلك، وقارنوا بين نظرة الإسلام والسياسة المالية عند اليهود والنصارى

ص: 791

والشيوعية والرأسمالية، وبيَّنوا أن منهج الإسلام هو منهج السلام.

"والحق أن الإسلام هو الدين الوسط الجامع بين مصالح الرُّوح والجسد للسيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة، فهو وسط بين اليهودية المالية الدنيوية والنصرانية الروحية الزهدية، وأن من مقاصده الإصلاحية في الاجتماع البشري هداية الناس إلى العدل والفضل في أمر المال؛ ليكتفي الناس شر طغيان الأغنياء وذلة الفقراء، ونصوص القرآن والسنة في هذا هي الغاية القصوى في الإصلاح، وهي هادمة لمزاعم هؤلاء المفتاتين على الإسلام بالجهل والهوى.

غلا عباد المال من اليهود والإفرنج في جمعه واستغلاله واستعباد الألوف وألوف الألوف من العمال الفقراء به بجعله دولة بينهم، وغلا خصومهم من الاشتراكيين في مقاومتهم ومحاولة جعل الناس فيه شرعًا وجعله بينهم حقًّا شائعًا، فانتهى هذا الغلو بالشيوعية الروسية في عصرنا أن استعبدت أكثر من مائة ألف من البشر، تسخرهم في تنفيذ مذهبها كالأنعام والدواب.

ولا منقذ للأمم من هذه الفتنة وعواقبها إلا بدين الإسلام -أعني: بالتدين به والعمل بأحكامه المالية وغيرها- ولا يمكن التزامها بالعمل إلا بإذعان الدين، وقد بدأ عقلاء الإفرنج يشعرون بالحاجة إلى دين معقول يصلح بالتزامه فساد هذه المدينة المادية، ولن يجدوا حاجتهم إلا في دين القرآن وسنة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وأخشى ألا يهتدوا إليه إلا بعد البطشة الكبرى والطامة العظمى؛ وهي حرب التدمير المنتظرة من تنازع البلشفية والرأسمالية، وإنني أذكر هنا أهم أصول الإصلاح الإسلامي في المسألة المالية التي تبتدر فكري وتبدهه فأقول

"1.

ثم ذكر السيد رشيد رضا ما يراه من الأصول الإسلامية لإصلاح المسألة المالية، فعد منها إقرار الملكية الشخصية، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الربا والقمار، ومنع جعل المال دولة بين الأغنياء، والحجر على السفهاء في أموالهم حتى لا يضيعوها، وفرض الزكاة، وفرض نفقة الزوجية والقرابة وإيجاب

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص29-31.

ص: 792

كفاية المضطر من كل جنس ودين، وجعل بذل المال كفارة لبعض الذنوب، وندب صدقات التطوع والترغيب فيها، وذم الإسراف والتبذير والبخل والشح وإباحة الزينة بشرط اجتناب الإسراف، ومدح القصد والاعتدال في النفقة على النفس والعيال، ثم قال بعد هذا:"أرأيت أمة من الأمم تقيم هذه الأركان ويوجد فيها فقر مدقع أو غرم موجع أو شقاء مفظع؟ "1.

وقال في موضع آخر: "فماذا جرى لنا -نحن المسلمين- بعد هذه الوصايا والحكم حتى صرنا أشد الأمم إسرافًا وتبذيرًا، وإضاعة للأموال وجهلًا لطرق الاقتصاد فيها وتثميرها، وإقامة مصالح الأمة بها في هذا الزمن الذي لم يسبق له نظير في أزمنة التاريخ؛ من حيث توقف قيام مصالح الأمم ومرافقها وعظمة شأنها على المال؛ حتى إن الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد التي ليس في أيديها مال كثير قد صارت مستذلة ومستعبدة للأمم الغنية بالبراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد"2.

ثم يُرجع السبب في ذلك إلى أولئك "الذين لبَّسوا علينا بلباس الصالحين؛ فنفثوا في الأمة سموم المبالغة في التزهيد، والحث على إنفاق جمع ما تصل إليه اليد؛ وإنما كان يريد أكثرهم إنفاق كسب الكاسبين عليهم، وهم كسالَى لا يكسبون لزعمهم أنهم بحب الله مشغولون"2.

وجهود رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في إصلاح أحوال البلاد الإسلامية الاقتصادية لا تُنكر، إلا أنه مع هذا وقع منهم ما نرفضه ولا نقره منهم؛ فكان لهم رأي في الربا المحرم، وأن المراد به ما كان أضعافًا مضاعفة، وقد بيَّنا -فيما سبق- ما ذهب إليه الأستاذ الإمام محمد عبده في ذلك، ودعوته إلى إباحة الربا للضرورة الاقتصادية، وزعمه أن تحريم الربا كان السبب في انتقال أموال المسلمين إلى الأجانب بأرباح فاحشة3.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص29-31.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص382، 383.

3 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص944، وانظر آخر الأساس الرابع من هذا البحث.

ص: 793

‌قضية المرأة:

أحسب أن المرأة مركز الدائرة في المجتمع؛ ذلكم أنها الأم وهي البنت وهي الأخت وهي الزوجة وهي المربية والمعلمة.

وأحسب أنها في كل قاعدة تقف عليها لا تخلو من جواذب تجذب إليها جذبًا الرجل والشاب والطفل، فلا عجب إذًا أن يكون لها تأثير قوي في المجتمع، إن صلحت أصلحت، وإن فسدت أفسدت؛ ولذا حث الإسلام على الظفر بذات الدين، وأنها خير متاع الدنيا.

ولهذا أيضًا جنَّد الاستعمار جنودَه لإفساد المرأة فيما يُسمى بتحريرها، وتبنَّى وأربابه هذه القضية، وانخدعت بدعوته طائفة، وتبنت فكرته أخرى، وحاربتها البقية الباقية وقليل ما هم.

وعاصر رجال المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة فترة طويلة هذه المرحلة، وعاشوا بين متقابلين؛ أولهما: واقع المرأة عامة في تلك الفترة التي طغى عليها الجهل والخرافات، وتخلت عن كثير مما أعطاها الإسلام لا رغبة وإنما إما جهلًا وإما مكرهة، وثانيهما: الدعوات المتطرفة التي أعطتها أكثر من حقها، وجرتها إلى متاهات لا تقوى جبلتها على خوضها ولا تدرك أبعادها، تهلك إن سلكتها، وتضيع إن تبعتها.

وجاء المصلحون يريدون الإصلاح والتوفيق، منهم من ثبت لم تهزه الأعاصير ولم يجرفه الطوفان، ومنهم من لم يخلُ بين حين وآخر من رأي غير سديد، وقول غير حكيم، ومدخل غير سوي، أولجه إياه حرصه على أن يقبض بكلتا يديه كلا الفريقين؛ فلم يستطع دركًا، ولم يستطيع ثباتًا.

تناول رجال المدرسة الاجتماعية آيات من القرآن الكريم، حاولوا أن يصلحوا على ضوئها، وأن يبثوا من خلال تفسيرها ما يرون فيه إصلاحًا لأوضاع المرأة.

قال السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ

ص: 794

مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} 1: "أقول: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية، وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة، إلا ما استثني منها؛ ككونها لا تباشر الحرب بنفسها؛ بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداوة الجرحى"2.

ثم يقول: "فأين هذا من حال نسائنا اليوم ومن اعتقاد جمهورنا فيما ينبغي أن يكن عليه؟ لا علم لهن بحقائق الدين، ولا بما بيننا وبين غيرنا من الخلاف والوفاق، ولا مشاركة للرجال في عمل من الأعمال الدينية ولا الاجتماعية، فهل فرض الإسلام على نساء الأغنياء -لا سيما في المدن- ألا يعرفن غير التطرس والتطرز والتورن3، وعلى نساء الفقراء -لا سيما القرى والبوادي- أن يكن كالأُتُن الحاملة والبقر العاملة؟ وهل حرم على هؤلاء وأولئك علم الدنيا والدين، والاشتراك في شيء من شئون العالمين؟ كلا، بل فسق الرجال عن أمر ربهم؛ فوضعوا النساء في هذا الموضع بحكم قوتهم؛ فصغرت نفوسهن، وهزلت آدابهن، وضعفت ديانتهن، ونحفت إنسانيتهن، وصرن كالدواجن في البيوت أو السوائم في الصحراء.

لبث المسلمون على هذا الجهل الفاضح أحقابًا حتى قام فيهم اليوم مَن يعيرهم باحتقار النساء واستعبادهن، ويطالبونهم بتحريرهن ومشاركتهن في العلم والآدب وشئون الحياة، منهم مَن يطالب بهذا اتباعًا لهدى الإسلام وما جاء به من الإصلاح، ومنهم مَن يطالب به تقليدًا لمدينة أوربا، وقد استحسنت الدعوة الأولى بالقول دون العمل، وأجيبت الدعوة الأخرى بالعمل على ذم الأكثرين لها بالقول، فأنشأ المسلمون يعلِّمون بناتهم القراءة والكتابة، وبعض اللغات الأوربية والعزف بآلات اللهو، وبعض أعمال اليد كالخياطة والتطريز؛ ولكن هذا التعليم لا يصحبه شيء من التربية الدينية

1 سورة آل عمران: الآية 61.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص323.

3 التطرس: التنوق في الطعام والشراب؛ أي: تحري الأطيب منهما، والتطرز في اللباس: توخي الفاخر النفيس منه، والتورن: المبالغة في التطيب والتنعم، تعليق: السيد رشيد رضا.

ص: 795

ولا من إصلاح الأخلاق والعادات؛ بل هو من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي تجهل عاقبته"1.

وفي قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 2 قال الشيخ أحمد مصطفى المراغي: "إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة، واعترف لها بالكرامة، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم؛ فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل، وبعضها يعدها غير أهل للتكاليف الدينية؛ إذ زعموا أنه ليس لها رُوح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السباقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيًّا على أساس صحيح، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميز الرجل عن المرأة. نعم، إن المسلمين قصروا في تعليم النساء وتربيتهن؛ ولكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه"3.

وقال الأستاذ محمد فريد وجدي: "ومما اختص به الإسلام الذهاب في احترام الحقوق الطبيعية للمرأة إلى حدود لم تدر في خيال مشرع مدني إلى اليوم، فالإسلام لم يكلف المرأة وهي زوجة بأي حق تؤديه للرجل غير حفظ عِرْضِه وطاعته في المعروف، باعتبار أنه الرئيس الطبيعي للأسرة.

والمرأة المسلمة لا تفقد بزواجها شيئًا من استقلالها المالي؛ فتظل على حريتها في التصرف بمالها وأملاكها. هذا الحق لم تنله المراة الغربية إلى اليوم، فإنها بزواجها تقع -من ناحية تصرفاتها الاقتصادية- تحت وصاية زوجها4.

ويرد الشيخ محمود شلتوت على خصوم الإسلام الذين اتخذوا التفاوت بين نصيبي الذكر والأنثى هكذا مطعنا على الإسلام من جهة أن فيه إهدارًا لحق

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص323، 324.

2 سورة آل عمران: من الآية 195.

3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج4 ص166.

4 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص175.

ص: 796

بنوة الأنثى المساوية تمامًا في نسبتها إلى المورث لبنوة الذكر، وقالوا: إن هذا من فروع هضم الإسلام حق المرأة، وهي إنسان كالرجل، وفاتهم أن الذكر تتعدد مطالبه، وتكثر تبعاته في الحياة، فهو ينفق على نفسه وعلى زوجه وعلى أبنائه، ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوجها، أما الأنثى فإنها لا تدفع مهرًا، ويلزم زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها، وهذا باب يتضح منه أن نصيب الأنثى في الوضع الإسلامي أعظم وأكثر من نصيب الذكر1.

وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 2 يقول الشيخ محمود شلتوت: "ومن هنا أخذ الفقهاء أن الشريفة مقدَّمة في الزواج على غير الشريفة، وأن حسنة السمعة مقدمة على سيئتها، وفي هذا إيحاء قوي للنساء بأن يعملن جُهْدهن على تحسين سمعتهن، وتحليهن بالأخلاق الفاضلة التي ترغب فيهن الأزواج، ولقد كان لما اتخذته الفتاة لنفسها أو مكنها ولي أمرها من حرية واسعة في هذه الأيام نصيب كبير فيما نرى من أزمة الزواج وإعراض الشباب عنه لما يعلمون عن الفتاة من أخلاق جعلت الزواج في نظرهم بابًا من أبواب الشقاء، فعلى الفتاة وعلى ولي أمرها أن يتدبرا الأمر، فإن عليهما وحدهما تقع تبعة هذه المشلكة، وعليهما أن يعملا على حلها إن أرادا الخير والسعادة"3.

فإن كنت قد أطلت -وما أظني إلا وقد فعلت- فإنه يشفع لي أن الموضوع هنا بحر واسع، يزخر بالعديد من الأبحاث التي لا يكاد الباحث يفاضل بينها فيقدم أحدها أو يؤخر غيره.

ومع هذا، فإني أعترف بأني قد اختصرت المقال هنا اختصارًا أرجو ألا يكون مخلًّا بالبحث.

1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص172.

2 سورة النساء: من الآية 25.

3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص172.

ص: 797

ذلكم أن من القضايا التي ألمحنا إليها ما يحتاج بنفسه لمن أراد التفصيل فيه إلى بحث مستقل. خذ مثلًا المرأة وقضيتها، من أي النواحي أتيتها وجدت الأبحاث حبلى بما دار حولها، إن شئت فمن ناحية المساواة بينها وبين الرجل، وإن شئت فمن ناحية حقوقها في الإسلام، وإن شئت فمن ناحية تعدد الزوجات، وإن شئت فمن الطلاق، وإن شئت فمن جهة عملها ومجالاته، وإن شئت فمن ناحية التعليم، وإن شئت فمن ناحية الحجاب والسفور والاختلاط، وإن شئت.... وإن شئت

إذًا، فلا عتب إذا ما أطلت الحديث عن هذا لأساس لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، ولا عتب إذ ما اختصرت فيه أبحاثه حتى نذكر أنواعًا من الإصلاح الاجتماعي.

لكن الذي أجزم به كل الجزم أن المدرسة العقلية الاجتماعية قد تناولت كثيرًا من القضايا الاجتماعية، وبذلت وسعها في نشر ما تعتقد فيه صلاح المجتمع.

وقد أصابت الحق في جوانب وأخطأته في أخرى، ونحن هنا نعرض المنهج عرضًا ولا ننقده نقدًا، وإذًا لو فعلنا لاحتاج هذا الأساس وحده لرسالة مستقلة، ولعل لنا في ذلك عذرًا أو بعض عذر.

وبعد:

هذه أبرز الأسس التي يقوم عليها منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير.

ولعلنا بعد هذا نعرض أهم مؤلفات رجال المدرسة في التفسير، ثم نختار بعضها كنموذج لتفاسيرهم بعد أن عرضنا منهجهم جميعًا فيه.

ص: 798

‌أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

‌مدخل

أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير:

وقد خلَّف رجال المدرسة عددًا لا بأس به من المؤلفات في التفسير.

ويدرك المتأمل في مؤلفاتهم في التفسير بروز ظواهر في تأليفها؛ أولها: أن

بعضهم -كالأستاذ محمد عبده ومحمد مصطفى المراغي وابن باديس- لم يقصدوا التأليف قصدًا، ويكفي أن الأستاذ محمد رشيد رضا قد كابد حتى وافق شيخُه محمد عبده على تفسير القرآن، ونشر تلميذه محمد رشيد رضا له.

أما الشيخ محمد مصطفى المراغي، فقد كان تفسيره دروسًا دينية يلقيها في شهر رمضان أمام الملك فاروق الأول في المسجد.

وأما الشيخ عبد الحميد بن باديس، فإن تفسيره هو تلك الافتتاحيات التي كان ينشرها الشيخ في مجلة الشهاب في الجزائر، جمعها من بعده بعض تلاميذه.

والظاهرة الثانية: أنه لم يكمل التفسير من رجال المدرسة إلا الشيخ أحمد مصطفى المراغي في 10 مجلدات، والأستاذ محمد فريد وجدي في مجلد واحد.

وثالثة الظواهر: أن غالبهم لم يقصد تأليف تفسير شامل للقرآن، فقد كانوا يختارون آيات معينة، أو سورًا محدودة، أو جزءًا خاصًّا للتفسير، فلم يبدأ أحد منهم القرآن من أوله إلا الشيخ محمد عبده ولم يتمه، وأحمد مصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي وأتماه، ومحمود شلتوت ولم يتمه.

ومع بدو هذه الظواهر في تلكم المؤلفات إلا أنها لاقت صدى واسعًا بين المسلمين، وبغض النظر عمَّا لهذه التفاسير وما عليها إلا أنها لاقت منزلة عند أرباب الثقافة في العصر الحديث.

وسنذكر هنا أهم مؤلفاتهم إجمالًا، ثم نفرد بعضها بدراسة خاصة أوسع كنموذج لمؤلفاتهم في التفسير بعد أن تناولنا منهجهم فيه.

1-

تفسير القرآن الحكيم، المعروف بـ"تفسير المنار". تأليف: السيد محمد رشيد رضا، وسنفرد الحديث عنه إن شاء الله.

2-

تفسير جزء عم. للأستاذ الإمام محمد عبده، عدد صفحاته 185، وقد طُبع عدة طبعات؛ أولها في القاهرة سنة 1322.

3 تفسير سورة العصر. للأستاذ الإمام محمد عبده، عدد صفحاته 92 القطع الصغير، أما تفسير السورة فيخصه 54 صفحة، وأما باقيه فدرس

ص: 799

عام في العلم الإسلامي والتعليم، وقد طُبع أيضًا هذا التفسير عدة طبعات؛ أولها سنة 1321.

وهذا التفسير وليد اقتراح بعض العلماء في الجزائر على الأستاذ الإمام أيام كان عندهم أن يقرأ لهم درسًا عامًّا، يستفيدون منه ويتحقق به تلقيهم عنه؛ ففسر لهم سورة العصر، ثم نشرته مجلة المنار، ثم طبع مستقلًّا.

4-

فاتحة الكتاب. للأستاذ الإمام محمد عبده، وعدد صفحاته 47 القطع الكبير، وطبع بالقاهرة سنة 1319، ثم طبع الطبعة الثانية سنة 1382 بالقاهرة، وهي مفردة من تفسير المنار.

5-

تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن "العصر، الكوثر، الكافرون، الإخلاص، المعوذتين". تأليف: السيد محمد رشيد رضا، وعدد صفحاته 237، أما تفسير الفاتحة فمن تفسير المنار، وأما تفسير سورة العصر فهو للأستاذ محمد عبده الذي أشرنا إليه، وطُبع ضمن هذا التفسير خمس آثارات للأستاذ الإمام في التوسل والتوحيد ومشكلات التفسير، محاضرة في العلم والتعليم، وصدرت الطبعة الثانية من دار المنار سنة 1367.

6-

الدروس الدينية لسنة 1357. للأستاذ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وعدد صفحاته 31، ويحتوي على درسين ألقاهما الشيخ المراغي أمام الملك فاروق الأول:

أولهما: في المسجد الزينبي وهو تفسير لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} الآيات، إلى قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية.

وثانيهما: في مسجد البوصيري بالإسكندرية أمام الملك أيضًا، وفي تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} إلى آخر الآية 29 من سورة الأنفال، وقد طبع هذا التفسير بمطبعة الأزهر.

ص: 800

7-

الدروس الدينية لسنة 1361. له أيضًا، وعدد صفحاته 28، ويحتوي على ثلاثة دروس:

الدرس الأول: تفسير قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} إلخ سورة الأنعام.

الدرس الثاني: في تفسير قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، إلى قوله تعالى:{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [الآيات 199-203، الأعراف] .

الدرس الثالث: تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون} ، إلى قوله تعالى:{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الآيات 30-36، فصلت] .

وطبع أيضًا بمطبعة الأزهر.

8-

تفسير سورة الحجرات. له أيضًا، وذلك في ثلاثة دروس ألقاها الشيخ محمد المراغي شيخ الجامع الأزهر في شهر رمضان سنة 1358 أمام الملك فاروق الأول، وطبع بمطبعة الأزهر، ويقع في 30 صفحة.

9-

الدروس الدينية لسنة 1356. له أيضًا، ويحتوي على أربعة دروس:

أولها: قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [الآية 177، البقرة] .

ثانيها: قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الآيتان 13، 14، الشورى] .

رابعها: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم} [الآيات 151-153، الأنعام] .

ص: 801

10-

تفسير جزء تبارك. الأستاذ عبد القادر المغربي. وطبع في المطبعة الأميرية سنة 1366، وقام بالتعليق عليها بتكليف من وزارة التربية والتعليم بالقاهرة الأستاذ علي محمد حسب الله، وراجع التفسير الشيخ عطية صقر من علماء المراقبة العامة للثقافة بالأزهر، ويقع هذا التفسير في حوالي 136 صفحة من القطع الكبير، وسيأتي إن شاء الله الحديث عنه.

11-

تفسير القرآن الكريم "الأجزاء العشرة الأولى". تأليف: الشيخ محمود شلتوت، وطبع عدة مرات بين يدي الطبعة السادسة سنة 1394، الناشر دار الشروق، ويقع في 659 صفحة.

12-

المصحف المفسر. للأستاذ محمد فريد وجدي، وهو تفسير مختصر كامل للقرآن الكريم في مجلد واحد كبير الحجم تبلغ صفحاته 827 صفحة، وجاء التفسير مكتوبًا على هامش القرآن الكريم.

13-

تفسير المراغي. تأليف: الشيخ أحمد مصطفى المراغي، وهو تفسير كامل للقرآن الكريم، ويقع في عشرة مجلدات، وطبع أيضًا عدة طبعات، وبين يدي الطبعة الثالثة سنة 1394.

14-

تفسير جزء عم. تأليف: محمد المبارك عبد الله، مطبعة: محمد علي صبيح، عدد صفحاته 222 من الحجم الكبير.

15-

تفسير ابن باديس "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير". وهو دروس في التفسير، ألقاها الإمام عبد الحميد بن باديس في مجلد واحد، عدد صفحاته 724، بين يدي الطبعة الثانية، دار الفكر.

ص: 802

‌أولا: تفسير القرآن الكريم المشهور "بتفسير المنار

"

‌أولا: المؤلف

أولًا: تفسير القرآن الحكيم المشهور بـ"تفسير المنار"

أولًا: المؤلف

هو محمد رشيد بن علي بن رضا بن محمد شمس الدين بن السيد بهاء الدين، ولد يوم الأربعاء 27 جمادى الأولى 1282 في قرية قلمون جنوب طرابلس الشام، والتحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية فيها، وبعد إغلاقها لم تنقطع صلته بمنشئها أستاذه حسين الجسر، والتحق بالمدارس الدينية حتى نال الشهادة العالمية.

وقد تأثر الأستاذ محمد رشيد رضا بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وبمجلة العروة الوثقى التي كان يصدرها من باريس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

وقد اتصل السيد رشيد بشيخه محمد عبده حينما كان الأخير منفيًّا عن مصر؛ فالتقى به مرتين في طرابلس كان نتيجتها إعجاب السيد رشيد بالإمام محمد عبده ورغبته في الاتصال به.

وقد كان ذلك الاتصال بعد وصول محمد رشيد رضا إلى القاهرة يوم السبت 23 رجب 1315؛ حيث زاره غداة وصوله في ضحوة الأحد، فكان أول حديث بينهما عن إصلاح الأزهر، وكان أول اقتراح له عليه أن يكتب تفسيرًا للقرآن ينفخ فيه من روحه التي وجد روحها ونورها في مقالات العروة الوثقى، فلم يوافق الإمام على الكتابة؛ فاقترح عليه رشيد أن يقرأ درسًا في التفسير، وأكثر

ص: 803

عليه القول حتى وافق وبدأ الدرس في غرة المحرم سنة 1317، وانتهى منه في منتصف المحرم سنة 1323 عند تفسير قوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [الآية 125، النساء] .

فواصل التفسير من بعده تلميذه محمد رشيد رضا حتى الآية 101 من سورة يوسف؛ حيث أتم تفسير سورة يوسف من بعده الأستاذ بهجت البيطار.

وكان من أغراض السيد رشيد التي دفعته إلى الانتقال من الشام إلى مصر رغبته في إنشاء صحيفة؛ فصدر العدد الأول من مجلة المنار في 22 شوال سنة 1315، واستمرت في الصدور حتى الجزء الثاني من المجلد الخامس والثلاثين في 29 ربيع الثاني 1354.

وقد جعل السيد رشيد رضا مجلته منبرًا للإصلاح؛ فكتب بها، واستكتب علماء العصر وأدباءه، وحذَّر من البدع والخرافات، ودعا إلى إصلاح التعليم، ودعا الناس إلى إنشاء المدارس بأنفسهم؛ لأن المدارس الحكومية في عهده خاضعة للاستعمار مع انتشار المدارس التنصيرية.

وكان ينشر في مجلته تفسير أستاذه الإمام محمد عبده قبل أن يطبعه في كتاب خاص.

وكان له نشاط في الدعوة؛ حيث أنشأ مدرسة لتخريج الدعاة وإرسالهم إلى أطراف العالم الإسلامي، وكانت تعطي الطالب شهادة مرشد بعد ثلاث سنوات تؤهله للدعوة بين المسلمين، وإذا ما واصل ثلاث سنوات أخرى أصبح داعيًا لغير المسلمين للدخول في الإسلام، وكان لهذه المدرسة أثر كبير في إعداد الدعاة.

أما السياسة، فكان أستاذه محمد عبده ينهاه عن الخوض فيها ويحذره، ولما تُوفي الأستاذ دخل السيد رشيد ميدان السياسة جهارًا؛ فنقد الدولة العثمانية، وأنشأ مع العثمانيين المقيمين في القاهرة "جمعية الشورى العثمانية" وتولى رئاستها، وبدأت ترسل منشوراتها السرية إلى سائر أرجاء البلاد العثمانية؛ فأقلق مضاجع

ص: 804

السلطة، إلى أن وقع الانقلاب العثماني، وكان رشيد من الساعين إلى هذا الانقلاب بالخفاء1.

أما التأليف، فقد كان فيه من المكثرين، فإضافة إلى نشاطه الكبير في الصحافة فقد كان مهتمًّا بالتأليف، ومن أشهر مؤلفاته:

1-

تاريخ الأستاذ الإمام، في ثلاثة مجلدات، وهو أوسع ترجمة للإمام محمد عبده؛ بل أوسع ترجمة لرجل واحد في العصر الحديث فيما أعلم.

2-

نداء للجنس اللطيف.

3-

الوحي المحمدي.

4-

المنار والأزهر.

5-

الوَحْدَة الإسلامية.

6-

ذكرى المولد النبوي.

7-

الخلافة.

8-

الوهابيون والحجاز.

9-

السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة.

10-

مناسك الحج.

11-

تفسير المنار، وهو موضوع حديثنا هنا.

12-

الربا والمعاملات في الإسلام.

13-

شبهات النصارى وحجج الإسلام.

14-

تفسير الفاتحة وستة سور من خواتيم القرآن.

15-

إنجيل برنابا.

16-

المسلمون والقبط.

17-

فتاوى السيد رشيد رضا.

18-

ترجمة القرآن.

1 مجلة المنار: مجلد 4 ص43.

ص: 805

هذه أهم مؤلفات السيد رشيد رضا، وله غيرها من المؤلفات كثير، زد على هذا المقالات والرسائل التي لا تقل عن هذه المؤلفات قيمة وحجمًا.

وقد اشتهر السيد محمد رشيد رضا -خاصة بعد وفاة الأستاذ محمد عبده- بميله إلى التفسير بالمأثور، والاهتمام بكتب السلف وطبعها في مطبعة المنار؛ حتى أثار عليه ذلك الخصوم، وحتى سموه بـ"الوهابي"، وقد بذل جُهْدًا كبيرًا في الدفاع عن عقيدة السلف المتمثلة في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب مقالات عديدة في الدفاع عنها؛ بل تجاوز ذلك إلى التأليف؛ فأفردها بما سبق ذكره من المؤلفات عن الوهابيين كما يسميهم خصومهم.

وفاته:

تُوفي السيد رشيد رضا يوم الخميس 23 جمادى الأولى سنة 1354، وتُوفي وهو يقرأ القرآن في السيارة قبل وصوله إلى مصر الجديدة عائدًا من السويس مودعًا الأمير سعود بن عبد العزيز، ودُفن في قرافة المجاورين بجوار أستاذه محمد عبده.

ص: 806

ثانيًا: التفسير

تفسير القرآن الحكيم "تفسير المنار".

قلنا: إن السيد محمد رشيد رضا قد استطاع أن يقنع أستاذه محمد عبده بأن يُلقي دروسًا في تفسير القرآن الكريم، وأنه قد ابتدأ هذه الدروس في غرة المحرم سنة 1317، وكان رشيد رضا يبادر بكتابة تفسير أستاذه ثم نشره في مجلة المنار التي يصدرها محمد رشيد رضا نفسه؛ ولهذا فقد عُرف هذا التفسير بتفسير المنار.

ثم بدا له أن ينشره بطبعة مستقلة؛ فبدأ بطبع الجزء الثاني منه، وعلل ذلك بأن الجزء الأول منه كان مختصرًا ولم يلتزم فيه ما التزمه فيما بعده من تفسير جميع عبارات الآيات وذكر نصوصها ممزوجة فيها؛ فاقترح على أستاذه أي يعيد النظر فيه، ويزيد ما يسنح له من زيادة أو إيضاح ففعل، وزاد هو أيضًا زيادات أخرى1.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص16.

ص: 806

وقد صدر هذا التفسير في اثني عشر مجلدًا متوسطة الحجم، وقد وصل فيه التفسير إلى نهاية الآية 52 من سورة يوسف، وكان السيد رشيد رضا قد تُوفي عند تفسير الآية 101 من السورة نفسها.

وجاء من بعده الأستاذ محمد بهجت البيطار، فضم تفسير السورة بعضه إلى بعض وأكمل تفسيرها، وأصدر ذلك كله في كتيب واحد باسم السيد محمد رشيد رضا وعنوانه:"تفسير سورة يوسف عليه السلام"، وصدرت طبعته الأولى سنة 1355، وتبلغ صفحاته 157 صفحة.

نماذج من التفسير:

وأيها نذكر؟ وأيها ندع؟ والتفسير مليء بالأمثلة في موضوعات شتى، منها ما هو محمود، ومنها ما هو سواه، ونحن حين نورد ما نورد من أمثلة لا نقصد الأخير قصدًا، ولا ما قبله عمدًا؛ فليس حمد تفسيرهم ولا ذمه مرادنا؛ وإنما هو العرض، فإن كان غالبه من هذا أو ذاك فما قصدناه؛ وإنما اخترنا مواضيع حرصنا على تنوعها، وأوردنا فيها أمثلة حرصنا على بيانها

فمن ذلك:

أولًا: الخوارق والمعجزات:

وأمر الخوارق قديم، وما يزال الحديث عنها بين مثبت ومنكر، وبين مثبت لحجيتها ومنكر لها.

ولا شك أن المعجزات حجة للرجل، لا ينكر هذا إلا خاضع لهوى أو جاهل؛ ولذلك توعَّد الله سبحانه مَن يكفر بعدها بالعذاب الشديد، فحين طلب الحواريون من عيسى عليه السلام أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء أحس عليه السلام بعاقبتها فقال:{اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وحين أصروا قال الله:{إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} 1.

ولأنها حجة وصفها موسى عليه السلام بأنها {شَيْءٍ مُبِين} حين أراد

1 انظر: سورة المائدة: الآية 112-115.

ص: 807

أن يظهر حجته عند فرعون وقومه، فقال لفرعون:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 1.

ولكن المعجزة تلك أمر خارق للعادة، وأمر كهذا يصيب العقل بالدهشة، ويوقفه عند حد لا يستطيع معه اكتناه سرها ومعرفة حقائقها ودقائقها؛ مما يوقف صاحبها عند حد مفترق طرق، إما أن يعرف قصور العقل عن دركها، وأن هذا أمر خارج عن قدرة البشر؛ فيبحث عن منشئه حتى يصل إلى الإيمان بالله تعالى، وإما أن يبقى مصرًّا على أن العقل خُلق ليعرف، وأنه قادر على أن يعرف، لا يعجزه شيء، وما عجز عنه فليس لقصور فيه؛ بل فيما عجز عن دركه؛ إما لعدم ثبوته أو بتأويله بما لا يكون به خارقًا للعادة؛ وبالتبع ليس مدهشًا للعقل.

قالت طائفة بذاك، وقالت طائفة بذا، والتمست كل ما ترى لها به متعلقًا لتأويل أو إنكار أو تقليل من شأنها.

بل عَدَّ السيد رشيد رضا -عفا الله عنه- مجرد ذكر القرآن الكريم لمعجزات الأنبياء السابقين سببًا لإعراض العلماء والعقلاء "!! " عن الدين الإسلامي والدخول فيه "!! " ولولا رواية القرآن لذلك لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأوسع؛ حيث يقول:"ولولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى عليهما السلام لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأسرع؛ لأن أساسه قد بُنِيَ على العقل والعلم، وموافقة الفطرة البشرية، وتزكية أنفس الأفراد، وترقية مصالح الاجتماع"2.

ثم وصف هذه المعجزات وغيرها بقوله: "وأما تلك العجائب الكونية، فهي مثار شبهات وتأويلات كثيرة في روايتها وفي صحتها وفي دلالتها، وأمثال هذه

1 سورة الشعراء: 30-33.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص155، والوحي المحمدي له ص62.

ص: 808

الأمور تقع من أناس كثيرين في كل زمان، والمنقول منها عن صوفية الهنود المسلمين أكثر من المنقول عن العهدين العتيق والجديد وعن مناقب القديسين، وهي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر"1.

ثم انظر حتى يتضح لك مذهبه إلى قوله: "وقد كان أكثر مَن آمن بتلك الآيات إنما خضعت أعناقهم واستخذت أنفسهم لما لا يعقلون له سببًا "!! " وقد انطوت الفطرة على أن كل ما لا يُعرف له سبب فالآتي به مظهر للخالق سبحانه، إن لم يكن هو الخالق نفسه، وكان أضعاف أضعافهم يخضع مثل هذا الخضوع نفسه للسحرة والمشعوذين والدجالين، ولا يزالون كذلك"2.

وخذ عبارة أوضح في زعمه أن العقل لا يخضع للمعجزات، قال:"وإن الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها؛ لأن البشر قد بدءوا يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع مَن تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون؛ بل لا يكمل ارتقاؤهم واستعداداهم بذلك؛ بل هو من موانعه"3.

وحتى نجلو حقيقة رأيه، فهو يجيز وقوع المعجزة عقلًا، ويجب الإيمان بها على ظاهرها4؛ ولكنها خاصة بما قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما في عصره عليه الصلاة والسلام "فانتهى بذلك زمن المعجزات، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد؛ فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان، وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال، كما كان في سن الطفولية "النوعية"؛ بل أرشده الله تعالى بالوحي الأخير "القرآن" إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي"4.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص155، والوحي المحمدي له ص62.

2 المرجع السابق: ج11 ص160؛ والوحي المحمدي له ص71.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص159، والوحي المحمدي له ص69.

4 المرجع السابق: ج1 ص314، 315.

ص: 809

هذا مجمل رأيه في المعجزات، وآن الأوان لذكر بعضها آحادًا وموقفه منها.

معجزات محمد صلى الله عليه وسلم:

أما معجزاته عليه الصلاة والسلام فقد أجمل الأستاذ رشيد رضا رأيه فيها، وأراحنا من تتبع أقواله عند كل واحدة منها؛ وذلك حين دافع عن كتاب "حياة محمد" للأستاذ حسين هيكل، وجاء في دفاعه عنه:"أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات، وقد حررتها في كتابي الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاويها في الفصل الثاني وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس، بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالذات، ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؛ لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى "!! " وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل، وبينت سبب هذا الافتتان، والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره"1.

إحياء الموتى:

ومع أنه يعترف بجواز وقوع المعجزة عقلًا، ويخص ذلك بما قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه مع هذا كثيرًا ما يؤول المعجزات للأنبياء السابقين بما لا تكون به معجزة، أو بما لا تكون به أمرًا خارقًا؛ ومن ذلكم قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} إلى قوله سبحانه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} 2.

وخلاصة قصة هذه الآيات أنه كان في بني إسرائيل رجل غني، وليس له ولد، وكان له قريب وارث فقتله ليرثه، ثم ألقاه في الطريق، وطالب قومه بإخراج

1 مجلة المنار: مجلد 34 ج10 ص793 في 3 مايو 1935م.

2 سورة البقرة: الآيات 67-73.

ص: 810

قاتله، فاحتكموا إلى موسى عليه السلام فأمرهم أن يذبحوا بقرة -كما ورد في القرآن- ثم ذبحوها، وأمرهم موسى أن يضربوه ببعضها فضربوا فقام وأخبر بقاتله ثم مات؛ فكانت حياته آية لموسى عليه السلام وحجة على المعاد.

لكن الشيخ رشيد رضا حمل القصة -تبعًا لأستاذه الإمام محمد عبده- على أنها نوع من التشريع الذي كان موجودًا في زمن بني إسرائيل؛ لأجل الوصول إلى معرفة القاتل المجهول في هذه الحادثة وأمثالها، لا على أنها وردت في حادث معين فيه معجزة لموسى عليه السلام ودليلهم في هذا ما ورد في التوراة؛ حيث قال الأستاذ الإمام:"على أن هذا الحكم منصوص في التوراة، وهو أنه إذا قتل قتيل لم يُعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان، ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون: إن أيدينا لم تسفك هذا الدم، اغفر لشعبك إسرائيل، ويتمون دعوات يبرأ بها مَن يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء، فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة، أو كانت هي السبب فيه، وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه، وأظهره الله تعالى"1.

وأيده بهذا الرأي السيد محمد رشيد رضا بقوله: "وأقول: إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سِفْر تثنية الاشتراع"2، ثم ساق السيد رشيد نصه وقال بعده:"والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وُجد القتيل قرب بلد ولم يُعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية"3.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351.

ص: 811

وكدت أجد تأويلًا لهذه النصوص بأنهما لا ينكران الحادثة؛ وإنما أثبتا أنه الحكم الشرعي عند بني إسرائيل، ولعله من بقايا تلك القصة أو الحادثة. كدت ألتمس لهما هذا لولا أن الأستاذ رشيد طبق الحكم المزعوم على الآية نفسها، فأخرجها من كونها السبب في الحكم إلى كونها الحكم نفسه؛ حيث قال:"ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك؛ بسبب الخلاف في قتل تلك النفس؛ أي يحييها بمثل هذه الأحكام" إلى أن قال: " {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات، فهو كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 1، وأكثر ما يستعمل مثل هذا التعبير في آيات الله في خَلْقه الدالة على صدق رسله"2.

ومن هذا يظهر أنهما يقولان بأن الآيات مسوقة لبيان حكم شرعي، لا لبيان حادث تاريخي؛ هو معجزة لموسى عليه السلام وقد رد عليهما ردًّا حميدًا في هذا المقام الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله تعالى- حيث قال: "إن كلمة {اضْرِبُوه} واضحة في أن يُضرب المقتول ببعض البقرة المذبوحة، وليس في الكلام إشارة تتعلق بالقاتل الخفي، ولا إشارة إلى غسل أيدي أهل الحي من دماء البقرة، وقوله تعالى:{كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} يدل على أن الإحياء المشبه به -وهو الإحياء في هذا المقام- إحياء حقيقي بعد موت تسلب فيه الروح، وليس إحياءً حكميًّا يحصل بمعرفة القاتل والاقتصاص منه حتى يكون بمثابة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} كما يريد الشيخان، ولو كان الأمر كما يقرران لما صح تقرير إحياء الموتى للبعث والجزاء بهذا النوع من الإحياء الحكمي المجازي، ولو أن قائلًا قال: إن الله يحيي النفوس الجاهلة بالعلم، وكذلك يحيي الموتى من قبورهم؛ لَمَا كان مثل هذا التشبه والقياس سائغًا، وإن قوله تعالى:{وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} لواضح في الإراءة البصرية للآيات الكونية، لا في الإراءة العقلية للأحكام الشريعة؛ حتى

1 سورة النساء: من الآية 105.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351.

ص: 812

يكون من قبيل {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ، وإن قوله بعد ذلك:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ليدل على أنهم رأوا حالة مادية من شأنها أن تؤثر في النفوس، ومن شأن القلوب أن ترق لها، وأن تتجرد من القسوة والعناد عندها، ومع ذلك لقد قسوا واشتدت قسوتهم، وكانت قلوبهم كالحجارة أو أشد، وكل هذا لا يتفق، وما يريده الشيخان من حمل الآية على المعنى التشريعي فهذا الحمل تأويل منهما؛ لكنه تأويل لا تساعد عليه اللغة، وما هو المعهود من كلام العرب"1.

وقد التمس الشيخ شلتوت لهما عذرًا -وما هو بعذر- حيث قال: "والذي حمل الأستاذ الإمام على هذا -فيما نظن- هو رغبته في التخلص من الاعتراض الذي ذكره بعض المستشرقين، مع وجود النص التشريعي الذي أشار إليه الشيخ بمعناه، ونقله الشيخ رشيد بنصه"2.

قلت: ولا أحسب هذا بعذر لهما -عفا الله عنهما- وليتعظ الأحياء من بعدهما.

من معجزات عيسى عليه السلام:

قال الله سبحانه وتعالى مثبتًا معجزة لعيسى عليه السلام أظهرها سبحانه على يديه: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} 3، وقال سبحانه مثبتًا وقوع هذه المعجزة منه عليه السلام بعد إمكانها:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} 4 الآية.

1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص44، 45.

2 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص43، 44.

3 سورة آل عمران: الآيتين 48، 49.

4 سورة المائدة: من الآية 110.

ص: 813

فثبت بنص القرآن الكريم وقوع هذه المعجزة لعيسى عليه السلام وحصولها منه، ويرى الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد في تفسير آية آل عمران أن هذا يدل على إمكان وقوعها لعيسى عليه السلام ولا يدل على وقوعها من غير رجوع إلى آية المائدة، وهما -أيضًا- لا يستندان في نفيهما الوقوع إلى نص من الكتاب أو السنة؛ وإنما إلى عدم تناقل النصارى لهذا "!! " خاصة في الأناجيل القانونية عندهم، أما الأناجيل غير القانونية التي ورد فيها الأخبار بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وكون عيسى عليه السلام يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ونحو ذلك، فلا قيمة لهذه الأناجيل!! وإنما المستند إلى تلك التي لم يرد فيها شيء من ذلك.

ولندع الشيخ عبده يوضح لنا ذلك؛ حيث يقول في تفسير آية آل عمران: "وغاية ما يُفهم منها أن الله تعالى جعل فيه هذا السر؛ ولكن لم يقل: إنه خلق بالفعل، ولم يرد عن المعصوم أن شيئًا من ذلك وقع1.

ثم يقول: "فإن قصارى ما تدل عليه العبارة أنه خص بذلك، وأمر بأن يحتج به، والحكمة في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقامة الحجة على منكري نبوته كما تقدم، وأما وقوع ذلك كله أو بعضه بالفعل فهو يتوقف على نقل يحتج به في مثل ذلك"1.

ويوضح لنا تلميذه النقل الذي يحتج به في مثل ذلك فيقول: "هذا ما قاله الأستاذ الإمام، ومن الغريب أن ابن جرير يروي عن ابن إسحاق "أن عيسى -صلوات الله عليه- جلس يومًا مع غلمان من الكتاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطير فنفخ فيه، ثم قال: كن طائرًا بإذن الله؛ فخرج يطير بين كفيه"، فكأنه اتخذ آية الله على رسالته ألعوبة للصبيان، والحاصل: أنه ليس عندنا نقل صحيح بوقوع خلق الطير؛ بل ولا عند النصارى الذي يتناقلون وقوع سائر الآيات المذكورة في الآية، إلا ما في إنجيل الصبا أو الطفولة من نحو ما قال ابن إسحاق، وهو من الأناجيل غير القانونية عندهم، ولعل آية سورة

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص211.

ص: 814

المائدة أدنى إلى الدلالة على الوقوع من هذه الآية؛ وهي {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ.....} 1 الآية، فإن جعل ذلك كله متعلق النعمة يؤذن بوقوعه إلا أن يقال: إن جعل هذه الآيات مما يجري على يديه عند طلبه، والحاجة إلى تحديه به من أجل النعم وأعظمها؛ ولكن هذا خلاف الظاهر"2.

الحمل بعيسى عليه السلام:

ووردت النصوص القرآنية التي تحدثت عن الحمل بعيسى عليه السلام في سورتي آل عمران ومريم وغيرهما؛ ففي الأولى قال تعالى على لسان مريم- عليها السلام حين بشرها الله بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 3، وقال تعالى في سورة مريم:{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} 4.

ولا شك أن حمل المرأة من غير أن يمسها بشر أمر خارق للعادة، آمن المسلمون به من غير تفصيل لكيفية نشوء الحمل؛ لأنه من الأمور الغيبية التي لا تثبت إلا بالوحي، ولم ينص الوحي على كيفيته؛ فتوقف السلف في ذلك، وأسندوا علمه إلى الله سبحانه وتعالى.

وقد حاول السيد رشيد رضا تقريب حمل مريم بعيسى عليهما السلام إلى الأذهان بما تكون به هذه الواقعة أمرًا عاديًّا لا إعجاز فيه، وليس فيه آية للناس، وهذا تفسير باطل نرفضه، فكيف إذا كان تأويله بما هو بعيد عن الحقائق متأثرًا بنظريات علمية ثبت بطلانها وزيفها؛ حيث يقول: "وأقول: اعلم أن الكافرين

1 سورة المائدة: الآية 110.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص211، 212.

3 سورة آل عمران: الآية 47.

4 سورة مريم: الآيتين 20، 21.

ص: 815

بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودًا على العادات، وذهولًا عن كيفية ابتداء خَلْق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين؛ ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد، وهم في كل يوم يرون من شئون الكون ما لم يكن معتادًا من قبل؛ فمنه ما يعرفون له سببًا ويعبرون عنه بالاكتشاف والاختراع، ومنه ما لا يعرفون له سببًا ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة.

ونحن -معاشر المؤمنين- نقول: إن تلك الأشياء المعبَّر عنها بالفلتات إما أن يكون لها سبب خفي؛ وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة، فلا ينكروا كل ما يخالفها لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه، ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك، وإما أن تكون قد وُجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب؛ وحينئذ يجب بأن يعترفوا بأن الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوبًا عقليًّا مطردًا، وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئًا ما ويعده مستحيلًا؛ لأنه لا يعرف له سببًا.

ولعل أبناء العصور السابقة كانوا أقرب إلى أن يعذروا بإنكار غير المألوف من أبناء هذا العصر الذي ظهر فيه من أعمال الناس، ما لو حدث به عقلاء الغابرين لعدوه من خرافات الدجالين، ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متفقين على إمكان التولد الذاتي؛ أي: تولد الحيوان من غير حيوان أو من الجماد، وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم، وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزًا فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز وأقرب إلى الحصول، نعم، إنه خلاف الأصل، وإن كونه جائزًا لا يقتضي وقوعه بالفعل، ونحن نستدل بوقوعه بالفعل بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه1.

إلا أن تعدي السيد رشيد رضا حدود التفسير وتجاوزه لمنهج السلف يظهر في محاولته تقريب هذه الواقعة إلى السنن المعروفة في نظام الكائنات؛ وذلك بصرفها عن أن تكون خارقة وآية للناس إلى أن تكون غير ذلك؛ حيث يقول: "ويمكن تقريب هذه الآية الإلهية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين:

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص308، 309.

ص: 816

"أحدهما": أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب، ويستحوذ على المجموع العصبي، يُحدث في عالم المادة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد، فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا، وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض، فولد له اعتقاده تلك الجراثيم الحية وصار مريضًا، وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه فشربه معتقدًا أنه سُم ناقع فمات مسمومًا به، والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول: إن مريم لما بُشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدًا بمحض قدرته وهي على ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالًا فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ، وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متممًا لهذا التأثير.

"الوجه الثاني": وهو أقرب إلى الحق وإن كان أخفى وأدق، وبيانه يتوقف على مقدمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح؛ وهي أن المخلوقات قسمان: أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه فيه من النمو والحركة والتوالد الذي يكون فيه من النمو أو يكون النمو منه، فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء، والهواء روح؛ ولذلك كان من أسمائه إذا تحرك الريح، وأصلها رِوح -بكسر الراء- ولأجل الكسر قلبت الواو ياء لتناسبه، والماء الذي منه كل شيء حي مركب من روحين لطيفين، وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطًا بين الكثيف واللطيف؛ ولكنه أقرب إلى الثاني، والكهربائية من الأرواح، وناهيك بفعلها في الأشباح.

فهذه الموجودات اللطيفة التي سميناها أرواحًا هي التي تحدث معظم التغيُّر الذي نشاهده في الكون؛ حتى إننا قد رأينا في هذا العصر من أسرارها ما لم يكن يخطر على بال أحد من قدماء فلاسفتنا، ويعتقد علماؤنا اليوم أن ما سيظهر منها في المستقبل أَجَلُّ وأعظم، فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنها تدرك وتريد، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم".

ثم قال: "إذا تمهد هذا فنقول: إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات

ص: 817

قد أرسل روحًا من عنده إلى مريم، فتمثل لها بشرًا ونفخ فيها؛ فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها؛ فحملت بعيسى عليه السلام وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا؟ الله أعلم"1.

ولا شك أن التأويل الأول بأن مريم عليها السلام اعتقدت اعتقادًا قويًّا فَعَلَ في رحمها فِعْلَ التلقيح، وأن تأثير الاعتقاد القوي أثبتته التجارب الكثيرة تأويل باطل؛ بل هو مفتاح لطريق سهل للبغايا الفاسدات، وليزعمن إذا وقع منهن الحمل أنهن لم يرتكبن جريمة الزنا؛ وإنما وقع منهن هذا الاعتقاد! وما الذي بأيدينا حتى نثبت كذبهن إذا جعلنا هذا الاعتقاد سبيلًا للحمل؟!

بل وأي فضل اختصت به مريم وابنها عليها السلام بهذا الحمل؟! وأي أمر عجب جعله الله آية للناس إذا كانت التجارب في هذا كثيرة؟! ألا فليُعلم بطلان هذا التأويل وانحرافه.

نقول هذا مع أن الشيخ رشيد رضا وصف الوجه الثاني بأنه أقرب إلى الحق؛ ولكنه لم يكتفِ به؛ فكان حقًّا علينا بيانه.

رَفْعُ عيسى عليه السلام إلى الله سبحانه وتعالى:

قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 2.

وجاء نفي قتله عليه السلام والإخبار برفعه إلى الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3.

لذا فإن المسلمين -خلافًا للنصارى- يعتقدون بأن عيسى عليه السلام لم يُقتل ولم يُصلب؛ بل رفعه الله إليه.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص309، 310.

2 سورة آل عمران: الآية 55.

3 سورة النساء: الآيتين 157، 158.

ص: 818

فقد نفى الله سبحانه وتعالى في الآية الثانية قَتْلَ عيسى عليه السلام وأثبت في الآية الأولى وفاته.

فهل يعني هذا إثبات الوفاة بدون قتل ولا صلب، أو أن المراد بالوفاة في الآية الأولى معنى آخر؟ ثم ما المراد بالرفع في الآيتين؟ هل المراد به رفع جسمه عليه السلام أو رفع مكانته وتشريفه؟ وهل يُفهم هذا الأخير من الآيتين؟ وما الذي أوجب صرف الوفاة عن معناها المتبادر إلى معنى آخر؟ وما الذي أوجب صرف الرفع عند الفريق الآخر عن معناه الحسي إلى معناه المعنوي؟

كل هذا ما يرد في هاتين الآيتين من التساؤل، وكله يرجع إلى الخلاف في المراد بكلمتي الوفاة والرفع، فلنذكر المراد بهما ومعناهما عند السلف.

قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- في تفسيره:

"ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الوفاة" التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هي وفاة نوم، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني منيمك ورافعك في نومك".

ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إلي، قالوا: ومعنى "الوفاة" القبض، كما يقال: توقيت من فلان ما لي عليه؛ بمعنى: قبضته واستوفيته، قالوا: فمعنى قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذك إليَّ ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك".

ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاة موت".

وقال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليَّ، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا".

وقال: "هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم".

قال أبو جعفر1: وأَوْلَى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول مَن قال: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليَّ؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض

1 يعني: الطبري نفسه.

ص: 819

مدة ذكرها -اختلفت الرواية في مبلغها- ثم يموت، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه" 1.

ومعنى هذا أن الطبري يقول بأن عيسى عليه السلام لم يمت ولم يُقتل ولم يُصلب؛ وإنما قبضه الله إليه حيًّا، ورفعه إليه كذلك، وقد تواترت الأخبار بنزوله بعد هذا إلى الأرض

إلخ.

فهو يستند في تفسيره -رحمه الله تعالى- لهذه الآية إلى القرآن الكريم، وإلى السنة المتواترة، وإلى دلالة اللغة العربية ومفهومها، ولا يميل في تفسيره إلى هوى في نفسه أو مداهنة لغيره، وقال بهذا التفسير علماء السلف كلهم واتفقوا عليه، واستدلوا بالأدلة والحجج القوية والبراهين الساطعة، ولم يقل أحد منهم: إن عيسى رفع ميتًا، حتى الذين فسروا الوفاة بالموت فإنهم ذكروا أنه مات ثلاث ساعات -وقيل في رواية أخرى: سبع ساعات- ثم أحياه الله، وفي مثل هذا القول ضعف2.

واستند السلف في تفسيرهم هذا إلى ما يدل عليه القرآن الكريم والسنة المتواترة.

فمن القرآن قوله تعالى عن بني إسرائيل: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3.

فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم ما قتلوه وما صلبوه، وأخبر بأنه سبحانه رَفَعَ عيسى عليه السلام إليه.

ومما لا شك فيه أن هدف بني إسرائيل هو "وفاة" عيسى عليه السلام وهذا متحقق بقتلهم وصلبهم له أو موته، ولا فائدة في نفي القتل والصلب وحصول الموت؛ فتعين انتفاء الثلاثة: القتل والصلب والموت، وإثبات رفعه عليه الصلاة والسلام إلى الله سبحانه وتعالى.

1 تفسير الطبري ج6 ص455-458.

2 فتح القدير للشوكاني ج1 ص345.

3 سورة النساء: الآيتين 157، 158.

ص: 820

وتأويل التوفي في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 1 بما لا يدل على الموت؛ بل يدل على معنى آخر تبقى معه الحياة، وتدل عليه اللغة العربية؛ كالنوم الذي يسمى بالوفاة في اللغة، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} 2، أو القبض، أو الاستيفاء، ونحو ذلك مما ذكرنا آنفًا.

وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر؛ لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة؛ لما صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم من نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال3.

فقد تواتر في السنة النبوية الشريفة نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، وممن حكى التواتر هذا ابن جرير الطبري4 -كما نقلنا عنه آنفًا- والشوكاني في تفسيره5، وابن كثير6، وابن حجر العسقلاني7، وابن عطية الغرناطي الأندلسي في تفسيره8.

وأبو الوليد بن رشد9، والسفاريني10، والكتاني11، والشيخ محمد شفيع12

1 سورة آل عمران: الآية 55.

2 سورة الأنعام: من الآية 60.

3 فتح القدير ج1 ص344.

4 تفسير الطبري ج6 ص458.

5 فتح القدير ج1 ص353.

6 تفسير ابن كثير ج1 ص615-621، ج4 ص143.

7 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج6 ص493، 494.

8 البحر المحيط: لأبي حيان الأندلسي الغرناطي ج2 ص473.

9 إكمال إكمال المعلم "شرح صحيح مسلم" لأبي عبد الله محمد بن خليفة الوشتاني الأبي ج1 ص265.

10 لوامع الأنواع البهية: محمد بن أحمد السفاريني ج2 ص94، 95.

11 نظم المتناثر من الحديث المتواتر: لأبي عبد الله محمد الكتاني ص147.

12 مقدمة التصريح بما تواتر في نزول المسيح: كتبها الشيخ محمد شفيع ص56.

ص: 821

والشيح مصطفى صبري1، وأبو حيان الأندلسي في تفسيره2، والكوثري 3، 4.

وقد مهد السيد رشيد رضا لإنكار رفع عيسى عليه السلام بالتشكيك في الأحاديث، ليس في صحتها؛ ولكن بأسلوب آخر هو أخطر وأكثر انحرافًا عن جادة الحق والصواب، فحينما التمس شيخنه محمد عبده مخرجًا من هذه الأحاديث بقوله: "ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي؛ لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يُؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.

وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس"5.

حينما قال هذا عقب عليه تلميذه السيد رشيد بقوله: "هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح؛ ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه، ولأهل هذه اتلأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نُقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث، والناقل للمعنى ينقل ما فهمه"5؟!

وإنما قلت: إن هذا التأويل من السيد رشيد رضا أخطر وأكثر انحرافًا ممن ينكر التواتر؛ لأن مَن أنكر التواتر إذا صح عنده التواتر عمل به واعتقد، أما مَن زعم أن هذه الأحاديث نُقلت بالمعنى فالتأويل الباطل هو مصيرها في كل ما خالف معتقده ورأيه، سواء كان الدليل متواترًا أو دونه، وحجته أنها رُويت بالمعنى.

وإذا ما جئنا إلى تفسير آية آل عمران السابقة وجدنا السيد رشيد رضا يقول في تفسيرها: "والتوفي في اللغة: أخذ الشيء وافيًا تامًّا، ومن ثم استتعمل بمعنى

1 موقف العقل والعلم والعالم: مصطفى صبري ج4 ص247.

2 النهر الماد من البحر: لأبي حيان الأندلسي ج2 ص473، بهامش تفسير البحر المحيط.

3 نظرة عابرة في مزاعم مَن ينكر نزول عيسى عليه السلام: محمد زاهد الكوثري ص36.

4 استفدت في نقل هذه الإشارات لحكاية التواتر من تحقيق شيخنا عبد الفتاح أبو غدة لكتاب التصريح بما تواتر في نزول المسيح ص62-65.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص317.

ص: 822

الإماتة، قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 1، وقال:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 2، فالمتبادر3 في الآية: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي، كما قال في إدريس عليه السلام:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 5.

ثم قال: "هذا ما يفهمه القارئ الخالي الذهن من الروايات6 والأقوال؛ لأنه هو المتبادر من العبارة، وقد أيدناه بالشواهد من الآيات؛ ولكن المفسرين7 قد حوَّلوا الكلام عن ظاهره؛ لينطبق على ما أعطتهم الروايات من كون عيسى رفع إلى السماء بجسده، وهاك ما قاله الأستاذ الإمام في ذلك".

ثم نقل تأويل الشيخ عبده لهذه الآية بقوله: "يقول بعض المفسرين: {إِنِّي مُتَوَفِّيك} أي: منومك، وبعضهم: إني قابضك من الأرض بروحك وجسدك، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} بيان لهذا التوفي، وبعضهم: إني أنجيك من هؤلاء المعتدين؛ فلا يتمكنون من قتلك، وأميتك حتف أنفك، ثم أرفعك إليَّ. ونسب هذا القول إلى الجمهور، وقال: للعلماء ههنا طريقتان؛ أحدهما: وهي المشهورة أنه رفع حيًّا بجسمه وروحه، وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا، ثم يتوفاه الله تعالى، ولهم في حياته الثانية على الأرض كلام طويل معروف، وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفته القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبًا، أقول: وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع؛ إذ الرفع هو الأهم لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعة المكان "قال"والطريقة الثانية: أن الآية على ظاهرها

1 سورة الزمر: من الآية 42.

2 سورة السجدة: الآية 11.

3 أهمل السيد رشيد المعاني الأخرى للوفاة الواردة في القرآن؛ فقد وردت بمعناها الأصلي الذي أشار إليه وهو أخذ الشيء وافيًا تامًّا {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل: 111] ووردت بمعنى النوم {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] ولم يذكر السيد إلا معنى الموت، ثم قال: المتبادر

إلخ.

4 سورة مريم: الآية 57.

5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص316.

6 مما يشترط في مفسر القرآن ألا يكون ذهنه خاليًا من الروايات، فكيف بالمتواتر؟!

7 لم يستثنِ أحدًا منهم، وهو اعتراف منه بإحداثهم لما ذهبوا إليه، وشذوذهم فيه.

ص: 823

وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر وهو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح، ولا بدع في إطلاق الخطاب على شخص وإرادة روحه؛ فإن الروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار، فإنه يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي "قال" ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان:

أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي؛ لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يُؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.

وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس، وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم، والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شُرعت لأجله، فالمسيح عليه السلام لم يأتِ لليهود بشريعة جديدة؛ ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى عليه السلام ويوقفهم على فقهها والمراد منها، ويأمرهم بمراعاته وبما يجذيهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب، ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها؛ بل وألفاظ من كتب فيها معبرًا عن رأيه وفهمه، وكان ذلك مزهقًا لروحها ذاهبًا بحكمتها كان لَا بُدَّ لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة ورُوح الدين وأدبه الحقيقي، وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق، وعدو الدين في كل زمان، فزمان عيسى -على هذا التأويل- هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر"1.

والسيد رشيد استند في صرف لفظ الرفع عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي إلى ما حسبه من النصوص مساويًا لقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 3؛ فاستدل بقوله تعالى:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 4، ونحو ذلك.

1 تفسير المنار ج3 ص317.

2 سورة آل عمران: من الآية 55.

3 سورة النساء: من الآية 58.

4 سورة مريم: من الآية 57.

ص: 824

وهذا خطأ ولا شك؛ ذلكم أن رَفْعَ عيسى عليه السلام اقترن به الجار والمجرور "إليَّ" و"إليه"، ومرجع الضمير فيهما إلى الله سبحانه وتعالى، فالآيتان صريحتان في رفع عيسى عليه السلام إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يرد فيما ذكروه من آيات الرفع الأخرى وما لم يذكروه اقتران الرفع بالجار والمجرور "إليه".

ونستعيد تلك الآيات للتأكد: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 9، وغير ذلك من الآيات.

ولم يقترن أي منها بـ"إلي" أو "إليه"، وحينما يقترن منها شيء بهذا فإن المعنى -ولا شك- يختلف، وإلا لكانت الزيادة عبثًا يتنزه القرآن عنه، ولم يكن اقترانها خاصًّا برفع عيسى؛ فقد وردت في آية أخرى، قال سبحانه:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 10، وهذا -ولا شك- يعطي الرفع قوة خاصة، ومزية خاصة؛ بأن الرفع إليه سبحانه وتعالى لا إلى سواه وهو في السماء.

فوجب حمل الرَّفْعِ لعيسى عليه السلام على أنه رُفِعَ إلى الله سبحانه

1 سورة مريم: من الآية 57.

2 سورة الشرح: الآية 4.

3 سورة المجادلة: من الآية 11.

4 سورة النور: من الآية 36.

5 سورة الأنعام: من الآية 83، وسورة يوسف: من الآية 76.

6 سورة البقرة: الآية 253.

7 سورة الأعراف: الآية 176.

8 سورة الأنعام: الآية 165.

9 سورة الزخرف: الآية 33.

10 سورة فاطر: من الآية 10.

ص: 825

وتعالى في السماء، وكيف وقد اقترن بهذا الرفع ما يؤيده مما تواتر في سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وهي المفسرة للقرآن التي لا يصح تناوله بالتفسير مجردًا منها.

ثم لو كان المراد من قوله تعالى: {مُتَوَفِّيك} مميتك، ومن قوله:{رَافِعُك} رافع روحك -كما زعموا- "كان القول الثاني مستغنى عنه؛ لأن رفع روح عيسى عليه السلام بعد موته إلى ربه -وهو نبي جليل من أنبياء الله- معلوم لا حاجة إلى ذكره1؛ فكان الإخبار برفع رُوحه بعد الإخبار بموته زيادة ينتزه عنها القرآن الكريم.

هذه بعض الأمثلة على موقف السيد رشيد رضا في تفسيره -تفسير المنار- من المعجزات والخوارق التي أخبر الله بها عن أنبيائه السابقين في القرآن الكريم.

وهو في موقفه هذا يشارك رجال المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة موقفهم من المعجزات، وهو أمر خطير زَلَّ فيه رجال المدرسة، نسأل الله لنا ولهم السلاة من مواقع الزلل.

مسألة الخلود في النار:

وإضافة إلى موقف السيد رشيد السابق من المعجزات، فله موقف آخر في مسألة خلود مرتكب الكبيرة.

برز ذلك عنه تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2: "وقد أَوَّلَ الخلودَ المفسرون لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا تُوجب الخلود في النار، فقال أكثرهم: إن المراد: ومن عاد إلى تحليل الربا

1 موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، مصطفى صبري ج4 ص178.

2 سورة البقرة: من الآية 275.

ص: 826

واستباحته اعتقادًا، ورده بعضهم بأن الكلام في أكل الربا، وما ذكر عنهم من جمعه كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم؛ فهو ليس بمعنى استباحة المحرم، فإذا كان الوعيد قاصرًا على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل، والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء، يجب إرجاع كل قول في الدين إليه، ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قَتْلِ العمد، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال.

ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار؛ انتصارًا لأصحابه الأشاعرة، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث، أما نحن فنقول: ما كل ما يُسمى إيمانًا يعصم صاحبه من الخلود في النار، الإيمان إيمانان: إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه ومجاراة أهله، ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه، وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان، متمكنة في العقل بالبرهان، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال؛ بحيث يكون صاحبها خاضعًا لسلطانها في كل حال، إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان، وليس الربا من المعاصي التي تُنسى، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والنظرة، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه -بإذن الله- من الخلود في سخط الله؛ ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدًا إيثارًا لحب المال واللذة على دين الله وما فيه من الحكم والمصالح.

وأما الإيمان الأول فهو صوري فقط، فلا قيمة له عند الله تعالى؛ لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال؛ ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما ورد في الحديث، والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله تعالى كثيرة جدًّا، وهو مذهب السلف الصالح وإن جهله كثير ممن يدعون اتباع السنة؛ حتى جرَّءوا الناس على هدم الدين؛ بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن

ص: 827

لم يعمل به؛ حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال: إنني لا أنكر أنني آكل الربا؛ ولكنني مسلم أعترف بأنه حرام، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد، وبأنه يرضى أن يكون محاربًا لله ولرسوله، وظالمًا لنفسه وللناس، كما سيأتي في آية أخرى، فهل يعترف بالملزوم، أم ينكر الوعيد المنصوص، فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ نعوذ بالله من الخذلان"1.

ولا شك أيضًا أنه جَانَبَ الصواب في هذا؛ لأن النصوص الكثيرة دلت على أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار؛ وإنما يخلد المشركون دونهم، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2، وقال سبحانه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3.

وقد وردت أحاديث كثيرة في السنة في بيان عدم خلود أصحاب الكبائر في النار ما داموا غير مشركين، وأنهم يخرجون منها؛ قال الإمام الشوكاني:"والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة"4، وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:"وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه يخرج مَن النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان" "5.

ولهذا أَوَّلَ السلف الخلود في الآية السالفة بأحد تأويلين:

أولهما: أن المعنى: ومَن عاد إلى القول بأن البيع مثل الربا فقد استحل ما حرم الله فيكفر فيستحق الخلود.

وثانيهما: تأويل الخلود بطول المكث.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص98، 99.

2 سورة النساء: الآية 48، وأيضًا الآية 116.

3 سورة الزمر: الآية 53.

4 فتح القدير: الشوكاني ج1 ص296.

5 تفسير ابن كثير ج1 ص572.

ص: 828

وليس هذا مقام تقرير ذلك؛ وإنما بيان مخالفته لرأي السلف وموافقته للمدرسة العقلية القديمة المعتزلة في خلود أصحاب الكبائر، والله الهادي.

أصل الإنسان:

لا شك أن أصل الإنسان من الأمور الغيبية التي لا سبيل إلى معرفتها والقطع بها إلا عن طريق الوحي.

والوحي عندنا -نحن المسلمين- لا يخرج عن آية شريفة أو سُنة صحيحة، وما سواهما فضَرْبٌ من خيال.

والآيات على خلق الإنسان من طين متعددة بأساليب شتى؛ نذكر هنا بعضها:

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} 1.

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون} 2.

وقال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} 3.

1 سورة الحجر: الآيات 26-31.

2 سورة المؤمنون: الآيات 12-16.

3 سورة السجدة: الآيتين 7-8.

ص: 829

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1، وقال سبحانه:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.

وهذه الآيات وغيرها تنص نصًّا على خَلْق آدم أبي البشر من تراب، ثم تناسل ذريته من بعد من ماء مهين؛ ذلكم مجمل معتقد السلف.

ثم ظهرت على مسرح النظريات العلمية نظرية اعترف أصحابها أنها نظرية وأَبَى آخرون إلا أن يعدوها حقيقة علمية؛ تلكم ما يعرف بـ"نظرية داروين"، فذهبوا للاستدلال لها كل مذهب، ووقف آخرون حائرون بين الدين الذي يعتقدون والنظرية التي يستمعون.

أحسب أنه عَزَّ عليهم أن يقع تصادم بين الدين والعلم؛ بل ما حسبوه علمًا ثابتًا؛ فأخطئوا الطريق، وظنوا أن سبيل التوفيق تأويل الآيات القرآنية تأويلًا يوافق هذه النظرية؛ فلا يكون تصادم ولا يكون تناقض.

اخطئوا الطريق مرتين، مرة حين حسبوها حقيقة علمية مع أن صاحبها "داروين" نفسه لم يجزم بها؛ حيث قال:"اسمح لي أن أضيف إلى هذا بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان أصل الأنواع"3.

ومرة حين عمدوا إلى الآيات الصريحة يؤولونها ويصرفونها عن معانيها لا لشيء إلا لأنها لم توافق تلكم النظرية.

والشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لم يرفضا هذه النظرية، والحق أيضًا أنهما لم يعلنا قبولها؛ لكنهما فسرا الآيات القرآنية بما يفتح الباب على مصراعيه لمن يريد أن يقول بها، وأنكرا مصادمة القرآن لها.

خذ مثلًا تفسير الشيخ محمد عبده لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ

1 سورة النساء: من الآية الأولى.

2 سور آل عمران: الآية 59.

3 على أطلال المذهب المادي: محمد فريد وجدي ج1 ص102.

ص: 830

الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1: "ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين مَن يقول: إن كل نداء مثل هذا يُراد به أهل مكة أو قريش، فإذا صح هنا جاز أن يفهم منه بنو قريش أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة يعرب أو قحطان، وإذا قلنا: إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام -أي: لجميع الأمم- فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده، فالذين يعتقدون أن جميع البشر من سلالة آدم يفهمون أن المراد بالنفس الواحدة آدم، والذين يعتقدون أن لكل صنف من البشر أبًا يحملون النفس على ما يعتقدون

والقرينة على أنه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} بالتنكير، وكان المناسب على هذا الوجه أن يقول: وبث منهما جميع الرجال والنساء، وكيف ينص على نفس معهودة والخطاب عام لجميع الشعوب، وهذا العهد ليس معروفًا عند جميعهم؟!

فمن الناس مَن لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما، وهذا النسب المشهور عند ذرية نوح مثلًا، وهو مأخوذ عن العبرانيين، فإنهم هم الذين جعلوا للبشر تاريخًا متصلًا بآدم وحددوا له زمنًا قريبًا، وأهل الصين ينسبون البشر إلى أب آخر، ويذهبون بتاريخه إلى زمن أبعد من الزمن الذي ذهب إليه العبرانيون، والعلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبارنيين، ونحن المسلمين لا نكلف تصديق تاريخ اليهود وإن عزوه إلى موسى عليه السلام؛ فإنه لا ثقة عندنابأنه من التوراة، وأنه بقي كما جاء به موسى"2.

وبهذا أكد الشيخ أن آدم ليس أبًا البشر كلهم؛ وإنما قلت: "أكد"؛ لأنه:

1-

استدل بأن الآية لا تدل "بالنص ولا بالظاهر" على ذلك.

2-

وأنه لو كان آدم أبًا البشر كلهم لما قال: {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} ؛ بل قال: جميع الرجال والنساء.

1 سورة النساء: من الآية الأولى.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص323، 324.

ص: 831

3-

وأن مِن الناس مَن لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما.

4-

أن العلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبرانيين باعتقادهم أن آدم أبو البشر.

وبهذا أضاء الشيخ عبده النور الأخضر لمن يريد أن يقول بنظرية داروين بأن يجعل تطبيقها على آباء البشر الآخرين عدا آدم عليه السلام.

فإن ذهبت تعترض على هذا القول وتقول: ورد في القرآن الكريم الخطاب: {يَا بَنِي آدَمَ} 1، وورد في قوله صلى الله عليه وسلم:"كلكم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب" 2، وما رواه أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يأيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى"3.

إذا ما قلت هذا أجابك الشيخ محمد عبده: "وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} لا ينافي هذا، ولا يعد نصًّا قاطعًا في كون جميع البشر من أبنائه؛ إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم. وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس فسدوا فيها وسفكوا الدماء، وأقول زيادة في الإيضاح: إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم، فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها؛ بل من المسألة المسلمة عندهم "!! " وهي أن آدم أبو البشر"4.

وأيَّد هذا الرأي السيد رشيد رضا بروايات واهية لو لم تكن حجة له لشنع

1 انظر مثلًا: الآيات 26، 27، 31، 35، 172 من سورة آل عمران، و70 من الإسراء، و60 من يس.

2 رواه البزار عن حذيفة بن اليمان.

3 رواه أحمد في مسنده ج5 ص411.

4 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص324، 325.

ص: 832

على قائليها ورواتها؛ حيث قال: "وقد نُقل عن الإمامية والصوفية أنه كان قبل آدم -المشهور عند أهل الكتاب وعندنا- آدمون كثيرون. قال في روح المعاني: ذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرًا طويلًا نقل فيه: أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم، بين كل آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابًا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام، وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضًا: أنه قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرًا غيركم؛ بل والله لقد خلق ألف ألف آدم، أنتم في آخر أولئك الآدميين"، ثم قال:"ثم نقل عن زين العرب القول بكفر مَن يقول بتعدد آدم، وهذا من جرأته وجرأة أمثاله الذين يتهجمون على تكفير المسلمين لِأَوْهَى الشبهات"1.

وأظهر السيد رشيد رضا الدافع له لسلوك هذا التفسير بقوله: "وليت شعري ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت عنده بأن البشر من عدة أصول؟ هل يقولون إن أراد أن يكون مسلمًا وتعذر عليه ترك يقينه في المسألة: إنه لا يصح إيمانه ولا يقبل إسلامه، وإن أيقن بأن القرآن كلام الله وأنه لا نص فيه يعارض يقينه"2.

ولهذا فسر الشيخ رشيد رضا المراد بالنفس بقوله: "هذا، وإن المتبادر من لفظ النفس بصرف النظر عن الروايات والتقاليد المسلمات أنها هي الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان هو هذا الكائن الممتاز على غيره من الكائنات؛ أي: خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة، ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بُدئت بآدم -كما دل عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين- أو بدئت بغيره وانقرضوا -كما قاله بعض الشيعة والصوفية- أو بدئت بعدة أصول انبث منها عدة أصناف -كما عليه بعض الباحثين- ولا بين أن تكون هذه الأصول أو الأصل مما ارتقى عن بعض الحيوانات، أو خلق مستقلًّا على ما عليه الخلاف بين الناس في

1 المرجع السابق: ج4 ص325، 326.

2 المرجع السابق: ج4 ص327.

ص: 833

هذا العصر"1.

ثم قال: "على كل حال، وكل قول يصح أن جميع الناس هم من نفس واحدة هي الإنسانية التي كانوا بها ناسًا، وهي التي يتفق الذين يدعون إلى خير الناس وبرهم ودفع الأذى عنهم على كونها هي الحقيقة الجامعة لهم، فتراهم على اختلافهم في أصل الإنسان يقولون عن جميع الأجناس والأصناف: إنهم إخواننا في الإنسانية، فيعدون الإنسانية مناط الوَحْدَة وداعية الألفة والتعاطف بين البشر، سواء اعتقدوا أن أباهم آدم عليه السلام أو القرد أو غير ذلك"1.

وبهذا يكون الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا فَتَحَا الباب على مصراعيه لمن اراد أن يقول بنظرية داروين، ولعل هذا يفسر تلك العبارات الكثيرة للشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد التي تتحدث عن تطور الإنسان، وأنه نشأ أول ما نشأ ساذجًا سذاجة لا يبلغ بها تناول الشئون الرفيعة والمعاني العالية والمعارف السامية، وأن العناية الإلهية صارت بالإنسان كما سارت به في أفراده، فكما ينشأ الفرد قاصرًا في جميع قواه، ضعيفًا في جميع أعضائه، كذلك نشأت الجمعية البشرية على ضرب من السذاجة2 السالفة الذكر، ونحو ذلك من العبارات والتأويلات، وللقارئ أن يجعل ذلك في ذهنه حتى يجس به مسار تفسيرهم على ضوء هذه النظرية، والله الهادي.

الملائكة:

الإيمان بالملائكة من أركان الإيمان، قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 3، وقال سبحانه:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 4، وقال

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص327.

2 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص291، 292، ورسالة التوحيد: للأستاذ محمد عبده ص166-169، وتفسير المنار أيضًا ج1 ص315.

3 سورة البقرة: من الآية 285.

4 سورة البقرة: من الآية 177.

ص: 834

سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} 1.

والسلف يؤمنون بهذا، ويصفون الملائكة بما وصفهم الله به في كتابه وسنة رسوله، لا يزيدون على ذلك؛ لأنه من أمور الغيب.

فيصفونهم بأنهم عباد مكرمون2، وأنهم يسبحون بحمد ربهم3، وأنهم بأمره يعملون4، وأن لهم أجنحة مثنى وثلاث ورباع5، وأنهم قادرون على التشكُّل والظهور بمظهر البشر6، وأن منهم مَن هو موكل بالوحي7، وموكل بالصُّور8، وموكل بالموت9، وموكل بحفظ العبد10، وموكل بكتابة أعماله11، ومنهم خزنة جهنم12، ومنهم خزنة الجنة13، ومنهم المبشِّرون للمؤمنين عند موتهم14، ومنهم حملة العرش15، ذلكم مجمل اعتقاد السلف في الملائكة، لا يثبتون شيئًا إلا من طريق الوحي، ويفوضون علم ما سواه إلى الله سبحانه وتعالى.

وقد ذكر الشيخ محمد عبده في تفسير المنار قولين للعلماء، قال عن أولهما:

1 سورة النساء: من الآية 136.

2 سورة الأنبياء: الآية 26.

3 سورة الشورى: الآية 5.

4 سورة الأنبياء: الآية 26.

5 سورة فاطر: الآية الأولى.

6 سورة الذاريات: الآية 25، ومريم: الآية 17.

7 سورة الشعراء: الآيات 193-195، والنحل:102.

8 سورة الزمر: الآية 68.

9 سورة السجدة: الآية 11.

10 سورة الرعد: الآية 11، وسورة الأنعام: الآية 6.

11 سورة الإنفطار: الآيات 10، 11، 12.

12 سورة الزخرف: الآية 77.

13 سورة الزمر: الآية 73.

14 سورة فصلت: الآية 30، والأنبياء: الآية 103.

15 سورة غافر: الآية 7، وسورة الحاقة: الآية 17.

ص: 835

"أما الملائكة فيقول السلف فيهم أنهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم، فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك؛ ولكننا نقول: إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور؛ إذ لو كانت كذلك لرأيناها، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالِم الجسمانية كالنبات والبحار، فإننا نستدل بذلك على أن الكون عالَمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا؛ بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به".

أما الرأي الثاني في الملائكة فقد ذكره الأستاذ الإمام محمد عبده ناقلًا في أول الأمر وحاكيًا؛ لكنه لم يلبث أن أيده وحبذه ودافع عنه؛ بل زعم أنه لا فرق بينه وبين رأي السلف؛ حيث قال عن هذا الرأي: "وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فَهْم معنى الملائكة؛ وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال؛ من إنماء نبات، وخلقة حيوان، وحفظ إنسان، وغير ذلك وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة؛ وهي أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة؛ فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام الخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهي، سمي في لسان الشرع ملَكًا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوة الطبيعية، إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة.

والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملَكًا، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبعيية أو ناموسًا طبيعيًّا؛ لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة، والعاقل مَن لا تحجبه الأسماء عن المسميات"1.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص267، 268.

ص: 836

ثم انجلى موقفه ورأيه أكثر عندما لم يستبعد أن تكون الملائكة هي تلك النوازع التي نحس بها عندما نتردد بين فعل شيء أو تركه، وهذا لعمري جُرأة على علم الغيب، قال:"يشعر كل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره، عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعًا؛ كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدفع، واحد يقول: افعل، وآخر يقول: لا تفعل؛ حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا ونسميه قوة وفكرًا -وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كُنهه، وروح لا تكنته حقيقتها- لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملَكًا "أو يسمي أسبابه ملائكة" أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع"1.

ثم بعد أن قرر هذا التأويل المنحرف للملائكة انتقل إلى تطبيق هذا في آيات القرآن، ولم يستبعد في تفسيره لها ما ذكره آنفًا؛ حيث قال في تفسير قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 2، قال: "فإذا صح الجري على هذا التفسير فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض، ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصًا بنوع من أنواع المخلوقات، لا يتعداه، ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به، خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعدًا للتصرف بجميع هذه القوى وتسخيرها في عمارة الأرض، وعبر عن تسخير هذه القوى له بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حد له، والتصرف الذي لم يعطَ لغيره خليفة الله في الأرض؛ لأنه أكمل الموجودات في هذه الأرض، واستثنى من هذه القوى قوة واحدة عبر عنها بإبليس، وهي القوة التي تعارض في

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص268.

2 سورة البقرة: الآية 34.

ص: 837

إتباع الحق، وتصد عن عمل الخير، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته؛ فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خُلق مستعدًّا للوصول إليها"1.

وقد التمس السيد رشيد عذرًا لشيخه الأستاذ محمد عبده بـ"أن غرض الأستاذ من هذا التأويل -الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة- إقناع منكري الملائكة بوجودهم بتعبير مألوف عندهم تقبله عقولهم، وقد اهتدى به كثيرون، وضل به آخرون؛ فأنكروا عليه، وزعموا أنه جعل الملائكة قوى لا تعقل"2.

والحق أن الشيخ محمد عبده قد أقنع -فعلًا- منكري الملائكة بتعبير مألوف عندهم؛ لكن ليس بوجودهم؛ وإنما بوجود قوى لم يكونوا ينكرونها من قبل، وليست هي مثار الجدل، وما زالت القضية جارية؛ فصار كمن أراد أن يقنع منكر وجود زيد في الدار فلج به في الجدل حتى أقنعه بوجود عمرو -الذي لم ينكره من قبل- وسماه زيدًا! وما هو بزيد المراد.

وكان الشيخ في غنى عن كل هذا لو فَوَّض حقيقتها إلى الله سبحانه، واكتفى بالنصوص الواردة في ذلك وقال: آمنا به كل من عند ربنا؛ لكنه لا يرتضي هذا الموقف؛ بل يعده قصورًا عند قائله؛ حيث يقول: "فإن لم تجد في نفسك استعدادًا لقبول أشعة هذه الحقائق، وكنت ممن يؤمن بالغيب، ويفوض في إدراك الحقيقة ويقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فلا ترمِ طلاب العرفان بالريب ما داموا يصدقون بالكتاب الذي آمنت به، ويؤمنون بالرسول الذي صدقت برسالته، وهم في إيمانهم أعلى منك كعبًا، وأرضى منك بربهم نفسًا"3.

وليس لنا أن نقول إلا أن آمنا به كل من عند ربنا، وأمرهم إلى الله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الجن:

وشأن الجن كشأن الملائكة؛ من حيث الاعتقاد بوجودهم وصفاتهم، كلاهما

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص269.

2 المرجع السابق: ج1 ص270.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص273.

ص: 838

أمر غيبي، وقد دل القرآن الكريم على وجود الجن {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1.

وذكر من صفاتهم أنهم خلقوا من نار2، وأن الله أرسل إليهم رسلًا3، وأن منهم مؤمن ومنهم كافر4، وأن منهم شياطين5، وأن الله يعاقب العصاة منهم بالنار6، وأن الله أعطاهم قوة لا توجد في الإنس7، وأن قدرتهم ناقصة8، وأنهم لا يعلمون الغيب9، وأنهم يتزوجون10 ويتناسلون11، وأنهم يروننا من حيث لا نراهم12.

ذلكم مجمل عقيدة السلف في أمر الجن، لا يصفونهم بأكثر مما وصفهم به القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ لأنهم من أمور الغيب التي لا يصح القول فيه إلا بالوحي.

وقد أثبت الشيخ رشيد رضا وآمن بوجود الجن؛ لكنه تأول وجودهم بأمر آخر لم يقل به أحد من السلف، وليس له من دليل إلا الاحتمال، وما هو بدليل.

فقال السيد رشيد رضا: "وقد كان غير المسلمين يعدون من هذا القبيل

1 سورة الذاريات: الآية 56.

2 سورة الحجر: الآية 27، والرحمن:15.

3 سورة الأنعام: الآية 130.

4 سورة الجن: الآيتين 12، 15.

5 سورة الناس.

6 سورة هود: الآية 119.

7 سورة النمل: الآيتين 38، 39.

8 سورة الرحمن: الآية 33.

9 سورة الجن: الآية 7، 10.

10 سورة الرحمن: الآية 74.

11 سورة الكهف: الآية 50.

12 سورة الأعراف: الآية 27.

ص: 839

-أي: من قبيل الخرافات- حديث أبي موسى: "الطاعون وخز أعدائكم من الجن، وهو لكم شهادة" رواه الحاكم وصححه، ثم صاروا بعد اكتشاف باشلس الطاعون يتعجبون منه بصدق كلمة "الجن" على ميكروب الطاعون كغيره، وقد ورد أن الجن أنواع؛ منها ما هو من الحشرات، وحشائش الأرض"1.

وشبه فعل جنة الشياطين في النفوس البشرية بفعل الجنة في الأجساد فقال: "وفعل جنة الشياطين في أنفس الشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في أجسادهم وفي غيرها من أجسام الأحياء، وتؤثر فيها من حيث لا ترى فتتقى"2.

وبعبارة أصرح مما ذكرنا صرح في موضع آخر: "وقد قلنا في المنار غير مرة: إنه يصح أن يقال: إن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة -وتسمى بالميكروبات- يصح أن تكون نوعًا من الجن، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض، قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن"3.

وكان بودنا أن يتوقف الشيخ رشيد رضا -رحمه الله تعالى- عن الخوض في أن الميكروبات نوع من الجن من غير حجة إلا حجة الاحتمال الخالي من الدليل الشرعي الذي يعتمد عليه في مثل هذا، وما نحسبه فعل هذا إلا حرصًا على تقريبها إلى الأذهان، وقد أخطأ الطريق في هذا، فعفا الله عنا وعنه.

بعض الأحكام الفقهية:

ذكرنا أن من الأسس التي يقوم عليها منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير إنكار التقليد وذمه والتحذير منه، وقد كان الأستاذ محمد رشيد رضا من المتمسكين بهذا الأساس؛ بل ومن المتعصبين له، وبادر إلى تطبيقه

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص319.

2 المرجع السابق: ج8 ص364.

3 المرجع السابق: ج3 ص96.

ص: 840

بنفسه في تفسير القرآن الكريم، وقد أدى به اجتهاده هذا إلى أقوال وآراء جديدة في بابها أو آراء خاطئة، نذكر من ذلك مثالين لا نزيد عليهما خوف الإطالة:

أولًا: التيمم: قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} 1.

وبالتأمل في الآية تلحظ أنها نصت على أربع حالات وشرط واحد ثم حكم واحد أيضًا، أما الحالات الأربع فهي:

إن كنتم:

1-

مرضى.

2-

أو على سفر.

3-

أو جاء أحد منكم من الغائط.

4 أو لامستم النساء.

والشرط: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} .

والحكم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} .

وقد أجمع المسلمون على جواز التيمم عند فَقْدِ الماء أو الخوف من التلف ونحوه عند استعمال الماء للمريض والمقيم والسليم والمسافر؛ وإنما نص على المرض لأنه مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب2؛ ولذلك قال مالك رحمه الله تعالى:"ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارًا بالأغلب فيمن لم يجد الماء بخلاف الحاضر، فإن الغالب وجوده؛ فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه"2.

ذلكم مجمل ما اتفقوا عليه، واستدلوا بأدلة كثيرة من السنة ليس هذا موضع إيرادها.

ولكن السيد رشيد رضا خالف جميع الفقهاء في هذا، وجاء برأي لم يسبق

1 سورة النساء: الآية 43.

2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج1 ص471.

ص: 841

إليه، وتعجب من غفلة جماهير الفقهاء عن تفسيره هذا، وبدأ أول ما بدأ فجعل الحالات ثلاثًا بدلًا من أربع؛ فعدها إن كنتم:

1-

مرضى.

2-

أو على سفر.

3-

أو لم تجدوا ماء.

حيث قال: "أي: ففي هذه الحالات المرض والسفر وفقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل تيمموا صعيدًا طيبًا"1.

وبَنَى على هذا التقسيم أن كل حالة من هذه الحالات الثلاث -المرض والسفر وفقد الماء- هي عذر بحد ذاتها لإباحة التيمم.

وهو بهذا يقلد شيخه الأستاذ محمد عبده الذي فسر الآية بقوله: "المعنى: أن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حدثًا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء؛ فعلى كل هؤلاء التيمم فقط، هذا ما يفهمه القارئ من الآية نفسها إذا لم يكلف نفسه حملها على مذهب من وراء القرآن يجعلها بالتكلف حجة له منطبقة عليه"2.

ولا شك أن الذي يفهمه القارئ من الآية ليس ما ذكره الأستاذ الإمام هذا إذا لم يستند إلى بيان السنة لها؛ ذلكم أن الذي يُفهم من ظاهر الآية أن التيمم مشروع للمريض والمسافر ولمن جاء من الغائط ولمن لامس النساء بشرط فقد الماء، وهذا هو ما يدل عليه ظاهر الآية إذا لم نبينه بالسنة؛ ولذلك فلا عجب أن يطالع الشيخ محمد عبده خمسة وعشرين تفسيرًا ولا يجد فيها رأيه هذا!! حيث يقول: "وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيرًا فلم أجد فيها غناء فيها ولا رأيت قولًا فيها يسلم من التكلف، ثم رجعت إلى المصحف وحده3

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119.

3 لا أظنه يجهل أن الرسول صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الأخذ بـ"المصحف وحده".

ص: 842

فوجدت المعنى واضحًا جليًّا، فالقرآن أفصح الكلام وأبلغه وأظهره، وهو لا يحتاج عند مَن يعرف العربية -مفرداتها وأساليبها- إلى تكلفات فنون النحو1 وغيره من فنون اللغة عند حافظي أحكامها من الكتب مع عدم تحصيل مَلَكَةِ البلاغة"2.

وقد أراد السيد رشيد رضا أن يؤيد ما ذهب إليه شيخه محمد عبده بأسلوب جديد في التأييد؛ فجعل ما فهمه من الآية أمرًا مسلمًا واضحًا عنده وعند خصومه، وإنما منعهم من القول به مخالفة المذاهب المعروفة لا عدم اقتناعهم بما قاله هو وأستاذه، فقال: "سيقول أدعياء العلم من المقلدين: نعم، إن الاية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم؛ ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين، ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها إليه.

ولنا أن نقول لمثل هؤلاء -وإن كان المقلد لا يحاج؛ لأنه لا علم له-: وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلًا مشكلًا؟ وأي الأمرين أَوْلَى بالترجيح: الطعن ببلاغة القرآن وبيانه لحمله على كلام الفقهاء، أم تجويز الخطأ على الفقهاء؛ لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التي منها قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر في رمضان؟ فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء -وهما دون الصلاة- والصيام في نظر الدين؟ أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه أسباب السفر في قطارات السكك الحديدية والبواخر؟ أفلا يتصور المنصف أن المشقة فيها أشد على المسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها؟ هل يقول منصف: إن صلاة الظهر أو العصر أربعًا في السفر أسهل من الغسل أو الوضوء فيه؟ 3 السفر

1 ولكنه يحتاج إلى معرفة السنة؛ فهي البيان الصحيح للقرآن الكريم.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119.

3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119.

ص: 843

مظنة المشقة، يشق فيه غالبًا كل ما يؤتى في حضر بسهولة، وأشق ما يشق فيه الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرًا مستغنى عنه.

وأضرب لهم مثلًا هذا الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، فإن الماء فيها كثير دائمًا، في كل باخرة منها حمامات؛ أي: بيوت مخصوصة للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد؛ ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يسافرون بالدرجة الأولى والثانية، وهؤلاء الأغنياء منهم مَن يصيبه دوار شديد يتعذر عليه معه الاغتسال، أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر، فإن كانت هذه السفن التي يوجد فيها من الماء المعد للاستحمام ما لم يكن يوجد مثله في بيت أحد من أهل المدينة زمن التنزيل يشق فيه الاغتسال أو يتعذر، فما قولك في الاغتسال في قطارات سكك الحديد أو قوافل الجمال والبغال؟ "1.

ولا شك أن هذه مغالطة من الشيخ محمد رشيد رضا؛ ذلكم أنه جعل السفر هو المبيح للتيمم لمن أصابه الدوار الشديد الذي يتعذر معه الاغتسال، ومصدر المغالطة أنه تجاهل -ولا أظنه يجهل - أن الدوار الشديد مرض أباح لصاحبه التيمم إذا كان استعمال الماء يزيده مشقة أو ضررًا، فالعذر هنا المرض وليس السفر، ومن المجمع عليه عند الفقهاء أن المرض من مبيحات التيمم ولو مع وجود الماء إذا كان يلحقه ضرر باستعماله الماء، أما المسافر الذي يجد الماء ولا يضره استعماله، فليس له أن يتيمم؛ ولهذا فلا يصح له أن يستدل بالمسافر المريض بالدوار الشديد الذي يضره استعمال الماء على إباحة التيمم لمجرد السفر.

ومن العجيب أن الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لم يستندا في تفسيرهما هذا إلى سُنة نبوية؛ وإنما إلى الرأي المجرد من الدليل؛ بل والأسوأ من هذا أن السيد رشيد رضا وصف سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء بأنها منقولة بالمعنى "!! " وأنها لا تنهض دليلًا، وأن مفهومها مفهوم مخالفة، وأنه غير معتبر عند الجمهور "!! " مع اعترافه أن الجمهور قالوا بخلاف رأيه.

ولذلك فلا عجب أن يغفل "جماهير الفقهاء" عن هذا المفهوم؛ ولكن السيد رشيد رضا يعجب من هذا فيقول:

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص120، 121.

ص: 844

"ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأَوْلَى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام، واحتمال ربط قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} بعيد؛ بل ممنوع ألبتة -كما تقدم- على أنهم لا يقولون به في المرض؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه؛ فيكون ذكرهم لغوًا يتنزه عنه القرآن.

ونقول: إن ذكر المسافرين كذلك؛ فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع، فلولا أن السفر سبب الرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة؛ ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك.

رووا "أنها نزلت في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انقطع فيها عقد لعائشة؛ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؛ فنزلت الآية، فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن حضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر" رواه الستة، وفي رواية:"يرحمكِ الله تعالى يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجًا".

فهذه الرواية -وهي من واقع الأحوال- لا حكم لها في تغيير مدلول الآية، ولا تُنافي جعل الرخصة أوسع من الحال التي كانت سببًا لها، ألا ترى أنها شملت المرض، ولم يذكر في هذه الواقعة أنه كان فيها مرضى شق عليهم استعمال الماء على تقدير وجوده، وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدًا للماء، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم فيها خاصًّا بفاقدي الماء دون غيرهم، ومثلها سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء، التي هي عمدة الفقهاء على أنها منقولة بالمعنى، وهي وقائع أحوال مجملة لا تنهض دليلًا، ومفهومها مفهوم مخالفة، وهو غير معتبر عند الجمهور، ولا سيما في معارضة منطوق الآية"1.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص121، 122.

ص: 845

إلا أنه لا يقول به في ربا الفضل؛ بل ينكر على ابن حجر قوله: "إن ما ورد من الوعيد على الربا شامل لجميع أنواعه". ويعد السيد رشيد قول ابن حجر خطأ؛ فإن منها عنده -أي: عند ابن حجر- بيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير، أو بيع كيل من التمر الجيد بكيل وحفنة من التمر الرديء، مع تراضي المتبايعين وحاجة كل منهما إلى أخذه، ومثل هذا لا يدخل في نهي القرآن، ولا في وعيده، ولا يصح أن يُقاس عليه، كما لا يصح أن يقال: إن خلوة الرجل بامرأة لا يشتهيها ولا تشتهيه كالزنا في حرمته ووعيده1.

بل تجاوز هذا حين قامت البلاد المصرية وقعدت في أيامه لمسألة الربا، واقترح كثيرون إنشاء بنك الإسلامي؛ فكان العلاج الذي قدمه من وجهين:

"أما الأول: فيوجه إلى فريق المقلدين، وهم أكثر المسلمين في هذا العصر، فيقال لهم: إن في مذاهبكم التي تتقلدونها مخرجًا من هذه الضرورة التي تدعونها، وذلك بالحيلة "!! " التي أجازها الإمام الشافعي، الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر أهل هذا الفطر، والإمام أبو حنيفة، الذي يتحاكمون على مذهبه كافة، ومثلهم في ذلك أهل المملكة العثمانية التي أنشئت فيها مصارف "بنوك" الزراعة بأمر السلطان، وهي تقرض بالربا المعتدل "!! " مع إجراء حيلة المبايعة التي يسمونها المبايعة الشرعية.

وأما الثاني: فيوجه إلى أهل البصيرة في الدين، الذين يتبعون الدليل ويتحرون مقاصد الشرع، فلا يبيحون لأنفسهم الخروج عنها بحيلة ولا تأويل، فيقال لهم: إن الإسلام كله مبني على قاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر الثابتة بنص قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2: 185]، وقوله:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [5: 6] .

وإن المحرمات في الإسلام قسمان:

الأول: ما حرم لذاته لما فيه من الضرر، وهو لا يباح إلا لضرورة، ومنه

1 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص126.

ص: 847

ربا النسيئة المتفق على تحريمه، وهو ما لا تظهر الضرورة إلى أكله؛ أي: إلى أن يقرض الإنسان غيره فيأكل ماله أضعافًا مضاعفة، كما تظهر في أكل الميتة وشرب الخمر احيانًا.

والثاني: ما هو محرم لغيره كربا الفضل المحرم؛ لئلا يكون ذريعة وسببًا لربا النسيئة، وهو يباح للضرورة؛ بل وللحاجة"1.

والطريف أنك لا تجد فرقًا بين ما حرم لذاته وما حرم لغيره إلا الاختلاف في لفظ الحكم، فهو يقول عن الأول:"لا يباح إلا لضرورة"، وقال عن الثاني:"يباح للضرورة والحاجة"، فأي فرق صار بينهما إذًا؟ وعلى أي أساس ساق هذا التقسيم؟ لا أظنه ساقه إلى هذا المأزق إلا ضعف الحجة في مواجهة الدليل الصحيح.

وليس بوسعي أن أذكر الحجج والأدلة الصحيحة في هذا المقام؛ حتى لا يتحول حديثنا إلى بحث فقهي؛ وإنما أكتفي بهذا، ولعل فيه بيانًا أو بعضه لمنهجه، رحمه الله تعالى وتجاوز عنا وعنه في التفسير.

وبعد:

هذه أمثلة لتفسير المنار حاولت فيها التنوع والشمول، ولم أحاول التعمق والتفصيل، لعله يظهر صورة واضحة لمنهجه الذي سلكه.

1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص129، 130.

ص: 848

‌ثانيا: التفسير

ومع أنه يكتب بقلمه أن الحديث يقول: "ليسوا على ماء وليس معهم ماء" مع هذا فإنه يقول: "وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدًا للماء"، ويصف هذه الرواية بأنها من وقائع الأحوال لا حكم لها في تغيير مدلول الآية؟!! ولا أظن الشيخ رشيد ينكر أن السنة تبين مدلول الآية، وتبقى علامة استفهام معلقة ومعها التعجب في عبارته السالفة، دَعْ عنك بعد هذا عباراته الأخرى التي لا أظنها تخفى أو يخفى جوابها.

وبهذا يظهر ما أدى به اجتهاده الذي دعا إليه، وهو بهذا التأويل ونحوه يجعلنا أكثر حرصًا على توفر شروط الاجتهاد والدعوة إلى تطبيقها، عفا الله عنا وعنه وسائر المسلمين.

حكم الربا:

وحكمه في الإسلام معلوم لا يخفى كالخمر يحرم قليله وكثيرة، وليس هذا المقام مقام بسط الأدلة والبراهين.

لكن السيد رشيد رضا يرى أن الربا المحرم هو ما كان فاحشًا؛ ففسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 بقوله: "والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهود عند المخاطبين عند نزولها لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة محرم"2.

والربا كما هو معلوم ينقسم إلى قسمين: ربا الفضل، وربا النسيئة. ويرى الأستاذ رشيد أن ربا الفضل إنما حرم لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة المحرم لذاته، تمامًا كالنظر إلى الأجنبية بشهوة، أو لمس يديها كذلك، أو الخلوة بها ولو مع عدم الشهوة؛ لأن هذه الأشياء ليست محرمة لذاتها؛ بل لسد الذريعة؛ لئلا تكون وسيلة إلى الزنا المحرم لذاته3.

ومع أنه يعلم أن النظر إلى الأجنبية ولمسها والخلوة بها محرم، ولا ينكر هذا،

1 سورة آل عمران: الآية 130.

2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص123.

3 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص126.

ص: 746