الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وخشية الإطالة في هذا البحث، ولما سيأتي من زيادة بيان -إن شاء الله- نكتفي بما أوردناه هنا في نكاح المتعة وفي غيره.
وهذا ما وعدنا بذِكْرِه مجملًا لتفاسير شاملة تناولت آيات الأحكام. أما ما وعدنا بذِكْرِه مفصلًا أو ببعض التفصيل، فهي دراسة تفاسير تناولت آيات الأحكام خاصة ولم تتناول سواها، وهنا مكان الوفاء بالوعد.
تفاسير آيات الأحكام:
وهذا النوع من التفسير -كما أشرت سابقًا- لم يؤلَّف فيه الكثير؛ بل هي مؤلفات معدودة، حصلت منها على ما يأتي:
1-
نيل المرام في تفسير آيات الأحكام، تأليف: السيد محمد صديق حسن، وبين يدي طبعة 1399هـ، في مجلد واحد صفحاته تقريبًا 570، وبتحقيق وتعليق: علي السيد صبح المدني.
2-
روائع البيان تفسير آيات الأحكام، تأليف: محمد علي الصابوني.
3-
تفسير آيات الأحكام، أشرف على طَبْعِه وتنقيحه: محمد علي السايس.
4-
تفسير آيات الأحكام، تأليف: مناع القطان.
5-
قبس من التفسير الفقهي، الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد.
6-
دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، للدكتور كمال جودة أبو المعاطي.
وسنعرض لها آحادًا بشيء من التفصيل، وعلى هذا الترتيب السالف:
أولًا: نيل المرام في تفسير آيات الأحكام
أولًا: المؤلف1
هو أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي.
ولد في "بريلي" ثم رحل صغيرًا إلى قنوج، وتعلم بـ"دلهي" في الهند، وانتهى به الترحال في "بهوبال"؛ حيث تزوج ملكتها، عُرف بكثرة الكتابة فكان يكتب في اليوم الواحد عند كراريس، ومن مؤلفاته:
الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة، والدين الخالص، والعبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة، وفتح البيان في مقاصد القرآن في عشرة مجلدات، وغير ذلك، وقد بلغت مؤلفاته نيِّفًا وستين مصنفًا بالعربية والفارسية والهندية.
ولد سنة 1248، وتُوفي سنة 1307.
ثانيًا: التفسير
تناول -رحمه الله تعالى- في تفسيره الآيات التي يَحتاج إلى معرفتها كلُّ راغب في معرفة الأحكام الشرعية القرآنية، ويرى أنها مائتا آية أو قريب من ذلك، ولم يصح عنده القول بأنها خمسمائة آية، قال: "وإن عدلنا عند وجعلنا الآية كل جملة مفيدة يصح أن تسمى كلامًا في عُرْف النحاة كانت أكثر من خمسمائة آية
1 اقتبستُ الترجمة من ترجمته المنشورة في مقدمة تفسيره هذا.
وهذا القرآن مَن شك فيه فليعد"1.
ثم بيَّن -رحمه الله تعالى- أنه لم يستقصِ في تفسيره هذا نوعين من آيات الأحكام:
أحدهما: ما مدلوله بالضرورة؛ كقوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} للأمان من جهله إلا أن تشتمل الآية من ذلك على ما لا يُعلم بالضرورة؛ بل بالاستدلال، فأذكرها لأجل القسم الاستدلالي منها؛ كآية الوضوء والتيمم.
وثانيهما: ما اختلف المجتهدون في صحة الاحتجاج به على أمر معين، وليس بقاطع الدلالة ولا واضحها، فإنه لا يجب على مَن لا يعتقد فيه دلالة أن يعرفه؛ إذ لا ثمرة لإيجاب معرفة الاستدلال به، وذلك كالاستدلال على تحريم لحوم الخيل بقوله تعالى:{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة} 2، وهذا لا تجب معرفته إلا على مَن يحتج به مِن المجتهدين؛ إذ لا سبيل إلى حصر كل ما يظن أو يجوز فيه استنباط الأحكام من خفي معانيه، ولا طريق إلى ذلك إلا عدم الوجدان، وهي من أضعف الطرق عند علماء البرهان"3.
ثم بعد أن بيَّن ما لا يريد ذكره وضَّح ما يقصد ذكره بقوله: "وليس القصد إلا ذكر ما يدل على الأحكام دلالة واضحة؛ لتكون عناية طالب الأحكام به أكثر، وإلا فليس يحسن من طالب العلم أن يهمل النظر في جميع كتاب الله تعالى مقدمًا للعناية فيه، شاملًا للطائف معانيه، مستنبطًا للأحكام والآداب من ظواهره وخوافيه؛ فإنه الأمان من الضلال والعبود الأعظم في جميع الأحوال"4.
ثم أوجز منهجه فيما تناوله من هذه الآيات لقوله: "وهأنا أُفسر تلك الآيات المشار إليها بتفسير وجيز جامع لما له وعليه، ولم آخذ فيها من الأقوال
1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13.
2 سورة النحل: من الآية 8.
3 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14.
4 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14.
المختلفة إلا الأرجح، ومن الدلائل المتنوعة إلا الأصح الأصرح، ولعمري لا يوجد قَطُّ تفسير موجز بهذا النمط"1.
نماذج من تفسيره:
والأمثلة على التزامه المنهج الذي رسمه لنفسه آنفًا كثيرة، نقتبس منها بعض الأبحاث التي وقع فيها خلاف بين أهل السنة ومَن عداهم؛ حتى يتضح منها انتماؤه، فمن ذلك:
غسل الرجلين في الوضوء:
قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 2، فجاء تفسيهر لها بقوله: قرأ نافع بنصب أرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر، فقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين؛ لأنها معطوفة على الوجوه والأيدي، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء.
والفصل بالمسموح بين المغسولات يفيد وجوب الترتيب في تطهير هذه الأعضاء، وعليه الشافعي.
وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الأرجل؛ لأنها معطوفة على الرءوس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وهو مروي عن ابن عباس. قال داود الظاهري:"يجب الجمع بين الأمرين على اقتضاء القراءتين".
وقال ابن العربي: "اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت مَنْ رَدَّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الجر".
ثم قال رحمه الله تعالى: ولكن قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة مِن فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط.
1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14.
2 سورة المائدة: من الآية 6.
وثبت عنه أنه قال: "ويل للأعقاب من النار"، وهو في الصحيحين وغيرهما؛ فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزئ مسحهما؛ لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ، فلو كان مجزئًا لما قال:"ويل للأعقاب من النار".
وقد ثبت أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلًا توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر؛ فقال له:"ارجع فأحسن وضوءك"1 2.
الخمس من الغنائم:
وذلك من قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 3. فقال -رحمه الله تعالى- في بيانها: قال القرطبي: "اتفقوا على أن المراد بالغنيمة في هذه الآية مالُ الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر"، قال: "ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص؛ ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع".
ثم قال: وقد حكى الإجماع جماعةٌ من أهل العلم عن أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي.
والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة من الغانمين وكيفيتها كثيرة جدًّا، قال القرطبي:"ولم يقل أحدٌ -فيما أعلم- إن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَال} الآية، ناسخ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية؛ بل قال الجمهور: إن قوله: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله"4.
1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص314، 315.
2 صحيح مسلم: كتاب الطهارة ج1 ص215.
4 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص378، 379.
أما بيانه لكيفية قسمة الخمس فقال فيه: قد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة:
الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة؛ فيجعل السدس للكعبة وهو الذي لله، والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث لذوي القربى، والرابع لليتامى، والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل.
القول الثاني: قال أبو العالية والربيع: إنها تُقسَّم -أي: الغنيمة- على خمسة، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله، فما قبضه من شيء جعله للكعبة، ويقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول من بعده في الآية.
القول الثالث: عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: إن الخمس لنا، فقيل له: إن الله يقول: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} ؟ فقال: يتامانا وماسكيننا وأبناء سبينا.
القول الرابع: قول الشافعي: إن الخمس يقسم على خمسة، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد، يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأصناف الأربعة المذكورة في الآية.
القول الخامس: قول أبي حنيفة: إنه يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه، قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، ورُوي نحو هذا عن الشافعي.
القول السادس: قول مالك: إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطي منه الغزاة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، قال القرطبي:"وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا"، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم"، فإنه لم يقسمه أخماسًا ولا أثلاثًا؛ وإنما ذَكَرَ ما في الآية مَنْ ذَكَرَ على وجه التنبيه عليهم؛ لأنهم مِن أهم مَن يدفع إليه.
قال الزجاج محتجًّا لهذا القول: "قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} 1، وجائز بالإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك"2.
أما سهم "ذي القربى" فقال عنه: "اختلف أهل العلم: هل ثبت وبقي سهمهم اليوم أم سقط بوفاته صلى الله عليه وسلم، وصار الكل مصروفًا إلى الثلاثة الباقية؟ فذهب الجمهور -ومنهم مالك والشافعي- إلى الثبوت واستواء الفقراء والأغنياء للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال أبو حنيفة وأهل الرأي بسقوط ذلك، والتفصيل يُطلب من مواطنه"3.
نكاح المتعة:
والآية مثار البحث هذا هي قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4، وقد بحثها -رحمه الله تعالى- بحثًا شافيًا كافيًا فقال:
وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية؛ فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فيما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي فآتوهن أجورهن؛ أي: مهورهن.
وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، ويؤيد ذلك قراءة أُبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير:"فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن"، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، كما صح ذلك من حديث علي عليه السلام قال:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر"، وهو في الصحيحين5 وغيرهما.
1 سورة البقرة: من الآية 215.
2 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص380، 381.
3 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص382.
4 سورة النساء: من الآية 24.
5 البخاري: كتاب المغازي ج5 ص78، صحيح مسلم: كتاب النكاح ج2 ص1027.
وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: "يأيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا".
وفي لفظ لمسلم: أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ، وقال سعيد بن جبير: نستختها آية الميراث؛ إذ المتعة لا ميراث فيها.
وقال القاسم بن محمد وعائشة: تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} 1، وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا مما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المتمتع بها كذلك.
وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة، وأنها باقية لم تنسخ، ورُوي عنه أنه رجع عن ذلك عندما بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض، ولا اعتبار بأقوالهم، وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة، وتقوية ما قاله المجوزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه.
وقد طول الشوكاني رحمه الله البحث، ودفع الشبهة الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحه للمنتقى فليرجع إليه، وأشرنا إليه في مسك الختام شرح بلوغ المرام2.
نكاح المشركات والكتابيات:
وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، فقال رحمه الله تعالى: "في هذه الآية النهي عن نكاح المشركات وتزوجهن. قيل: المراد
1 سورة المؤمنون: الآيتين 5، 6.
2 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص198، 199.
3 سورة البقرة: من الآية 221.
بالمشركات الوثنيات، وقيل: إنها تعم الكتابيات؛ لأن أهل الكتاب مشركون، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 1، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية؛ فقالت طائفة: إن الله حرَّم نكاح المشركات فيها، والكتابيات من الجملة ثم جاءت آية المائدة2 فخصت الكتابيات من هذا العموم، وهذا محكي عن ابن عباس ومالك وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي، وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات -وهذا أحد قولي الشافعي- وبه قال جماعة من أهل العلم، ويجاب عن قولهم: إن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أول ما نزل، وسورة المائدة من آخر ما نزل، والقول الأول هو الراجح"3.
قطع يد السارق:
وذلك في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 4، قال رحمه الله في تحديد موضع القطع:
"والقطع معناه الإبانة والإزالة وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين اثنتين، وقد بينت السُّنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ، وقال قوم: يقطع من المرفق، وقال الخوارج: من المنكب"5.
وبعد:
هذه أمثلة من تفسيره -رحمه الله تعالى- لآيات الأحكام، ومنها يتضح عدم تأويله لأيٍّ منها بما تقول به بعض الفرق؛ كالشيعة والخوارج ونحوهم؛ بل
1 سورة التوبة: من الآية 30.
3 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص82، 83.
4 سورة المائدة: من الآية 38.
5 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص427.
التزم أقوالَ علماء أهل السنة والجماعة؛ بل لم يخرج فيها عن المذاهب الأربعة من غير تعصب لأحدها.
وسبق أن ذكرنا بيانه -رحمه الله تعالى- أنه لم يتناول في تفسيره إلا الآيات الصريحة في الدلالة على الأحكام الفقهية؛ بل وترك من هذا النوع الأخير ما هو متفق عليه أو معلوم بالضرورة؛ كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
وهو بحق كتاب في آيات الأحكام، جَمَعَ فيه صاحبه نفائس الأقوال بعبارة قصيرة؛ فحق له أن يكون من أصول
المراجع في ذلك.
ثانيًا: روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن
أولًا: المؤلف 1:
هو الأستاذ محمد علي بن جميل الصابوني، ولد في مدينة حلب عام 1928م.
تحصيله العلمي: تخرج من الثانوية الشرعية، وهي آخر مراحله الدراسية في سوريا، وأكمل دراسته في الأزهر؛ فنال الشهادة العالية "الليسانس" سنة 1952م، ونال شهادة الماجستير في تخصص القضاء الشرعي سنة 1954م، وكان موفدًا من جهة وزارة الأوقاف السورية لإتمام الدراسة العليا.
أعماله: اشتغل بالتدريس ثماني سنوات في الثانويات العامة بحلب، ثم انتدب للتدريس بمكة المكرمة في كلية الشريعة، وقد أمضى في التدريس بالكلية ما يزيد على عشرين عامًا.
مؤلفاته: له عدة مؤلفات هي:
1-
من كنوز السنة "دراسات أدبية ولغوية من الحديث الشريف".
2-
المواريث في الشريعة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة.
3-
النبوة والأنبياء.
1 هذه الترجمة أرسلها المؤلف إلى الأستاذ محمد بن عبد العزيز السديس، ونشرها في كتابه الدراسات القرآنية المعاصرة: ص269، 270، وقد أضفت إليها ما جَدَّ من مؤلفات ونحوها.
4-
روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن.
5-
شبهات وأباطيل حول تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.
6-
مختصر تفسير ابن كثير في ثلاثة مجلدات.
7-
صفوة التفاسير في ثلاثة مجلدات.
8-
التبيان في علوم القرآن.
ثانيًا: الكتاب:
هو: روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن، جاء وصفه على الغلاف بأنه:"تفسير خاص لآيات الأحكام، مستمد من أوثق مصادر التفسير القديمة والحديثة بأسلوب مبتكر وطريقة جديدة، مع عرض شامل لأدلة الفقهاء، وبيان الحكمة التشريعية".
ويقع هذا التفسير في مجلدين متوسطي الحجم، تبلغ صفحات المجلد الأول 631 صفحة "بدون فهارسه"، والمجلد الثاني كذلك يقع في 619 صفحة، وانتهى المؤلف منه في غرة رجب سنة 1391هـ.
وصدرت طبعته الأولى في نفس العام، والطبعة الثانية سنة 1397هـ.
طريقته في التفسير:
وقد وضح الشيخ طريقته في التفسير بقوله: "جمعت فيه الآيات الكريمة -آيات الأحكام خاصة- على شكل محاضرات علمية جامعة تجمع بين القديم في رصانته، والحديث في سهولته، وسلكتُ في هذه المحاضرات طريقة ربما تكون جديدة ميسرة؛ وهي أنني عمدت إلى التنظيم الدقيق مع التحري العميق؛ فتناولت الآيات التي كتبت عنها من عشرة وجوه، على الشكل الآتي:
أولًا: التحليل اللفظي مع الاستشهاد بأقوال المفسرين وعلماء اللغة.
ثانيًا: المعنى الإجمالي للآيات الكريمة بشكل مقتضب.
ثالثًا: سبب النزول إن كان للآيات الكريمة سبب.
رابعًا: وجه الارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة.
خامسًا: البحث عن وجوه القرآءات المتواترة.
سادسًا: البحث عن وجوه الإعراب بإيجاز.
سابعًا: لطائف التفسير، وتشمل:"الأسرار والنكات البلاغية والدقائق العلمية".
ثامنًا: الأحكام الشرعية وأدلة الفقهاء، مع الترجيح بين الأدلة.
تاسعًا: ما ترشد إليه الآيات الكريمة بالاختصار.
عاشرًا: خاتمة البحث، وتشمل:"حكمة التشريع" لآيات الأحكام المذكورة"1.
ثم وبتواضع العلماء أنكر أن يكون ما جاء في هذا الكتاب بجُهْده فحسب؛ بل هو خلاصة نتاج أدمغة فطاحل العلماء، ثم شبه نفسه بقوله:"وما مثلي إلا كمثل إنسان رأى جواهر ولآلئ ودررًا ثمينة مبعثرة هنا وهناك؛ فجمعها ونظمها في عقد واحد، أو كمثل شخص دخل حديقة غنَّاء، فيها أحاسن الأثمار والورود والأزهار ما يدهش الأبصار، فامتدت يده برفق إليها؛ فجعلها في باقة واحدة، ووضعها في كأس؛ فكانت بهجة للقلب وفتنة للعين"1.
وقال: "وما كنت أسطر شيئًا حتى أقرأ ما يزيد على خمسة عشر مرجعًا من أمهات المراجع في التفسير عدا عن مراجع اللغة والحديث، ثم أكتب هذه المحاضرات مع التنبيه إلى المصادر التي نقلت عنها بكل دقة وأمانة"1.
وسنذكر أمثلة من تفسيره لأحكام خاصة، ثم نذكر بعدها ما رأينا من ملاحظات.
1 روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن: محمد علي الصابوني ج1 ص11، 12.
نماذج من تفسيره:
خمس الغنائم:
وقد بسط العلماء أحكام الغنائم، وكيفية تقسيم الخمس منها، مستندين إلى هذه الآية. وقد وضح الشيخ الصابوني هذه الأحكام بالوجوه التي أشار إليها آنفًا، فقال تحت عنوان:"التحليل اللفظي":
"غنمتم: الغنيمة ما أُخذ من الكفار قهرًا بطريقة القتال والغلبة، أما ما أُخذ منهم بغير حرب أو قتال فهو "فيء" -كما مر سابقًا1- قال الشاعر:
وقد طوفت في الآفاق حتى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
خمسه: بضم الميم وإسكانها لغتان، وقد قُرئ بهما، والخمس أن يقسم الشيء إلى خمسة أجزاء، ثم يؤخذ جزء واحد منه، والواجب الشرعي أن تخمس الغنائم فيصرف الخمس فيما ذكره الله، ويوزع الباقي -وهو أربعة أخماس- بين الغانمين، قال القرطبي: لما بيَّن الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي دلَّ ذلك على أنه ملك للغانمين.
لذي القربى: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم "بنو هاشم، وبنو المطلب" على الصحيح من الأقوال، كما سيأتي إن شاء الله.
اليتامى: هم أولاد المسلمين الذين هلك آباؤهم في سن الصغر قبل البلوغ؛ لأنه لا يتم بعد البلوغ.
المساكين: هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
ابن السبيل: هو المنقطع في سفره مع شدة حاجته؛ وإنما قيل: "ابن السبيل" لأنه لما انقطع في سفره أصبح الطريق كأنه أب له"1
…
إلخ.
1 المرجع السابق: ج1 ص600، 601.
وقال تحت عنوان: "المعنى الإجمالي":
"يقول الله جل ثناؤه ما معناه: اعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين -أيًّا كان قليلًا أو كثيرًا- حق ثابت لكم. وحكمه: أن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ فاقسموه خمسة أقسام، واجعلوا خمسه لله يُنفق في مصالح الدين وإقامة الشعائر وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا الرسول صلى الله عليه وسلم منه كفايته لنفسه ولنسائه، ثم أعطوا منه ذي القربى من أهله وعشيرته، ثم المحتاجين من سائر المسلمين؛ وهم اليتامى والمساكن وابن السبيل، ثم بيَّن سبحانه وتعالى أن هذا هو مقضتى الإيمان، وهو الإذعان والخضوع لأوامره وأحكامه، وعدم الخلاف والنزاع فيما بينهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي قسم فأعطى كل ذي حق حقه، كما راعى مصالح العباد جميعًا، فما على المؤمنين إلا الرضا والتسليم لحكم الله العلي الكبير"1.
ومن بيانه في المعنى الإجمالي هذا يظهر أنه يرجح القول: إن الغنائم توزع إلى خمسة أقسام، وأن الخمس يوزع إلى ستة أسهم: لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكن وابن السبيل، خلافًا لمن قال: إن سهم الله سبحانه وتعالى وسهم رسوله واحد، ثم ذكر -وفقه الله تعالى- لطائف تحت عنوان:"لطائف التفسير".
نذكر منها قوله: "اللطيفة الأولى: التنكير في قوله تعالى: {مِنْ شَيْءٍ} يفيد التقليل؛ أي: أي شيء كان، سواء كان هذا الشيء قليلًا أو كثيرًا، عظيمًا أو حقيرًا، حتى الخيط والمخيط "الإبرة".
اللطيفة الثانية: ذكر الله تعالى في القسمة في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} لتعليمنا التبرك بذكر اسم الله المعظم، واستفتاح الأمور باسمه تعالى، ولا يقصد منه أن الخمس يقسم على ستة؛ منها:"الله" فإن الله الدنيا والآخرة، والله هو الغني الحميد، أو يراد منه إنفاقه في سبيل الله؛ فيكون الكلام على حذف مضاف"1.
ومما ذكرنا في المعنى الإجمالي علمنا أن المؤلف قسَّم الخمس إلى ستة أسهم،
1 المرجع السابق: ج1 ص601، 602.
عَدَّ منها سهم الله سبحانه وتعالى، وذكر أنه يُنفق في مصالح الدين وإقامة الشعائر وعمارة الكعبة وكسوتها، فهو إذًا يؤيد أن الكلام على حذف مضاف، وليس ذكر اسمه تعالى لمجرد التبرك.
ثم ذكر -وفقه الله تعالى- عددًا من الأحكام المستفادة من الآية تحت عنوان: "الأحكام الشرعية".
نذكر منها: الحكم الثاني: كيف يوزع الخمس بين الغانمين؟ وجاء فيه قوله: "ذكرت الآية الكريمة أن خمس الغنائم يُوزع لمن سماهم الله عز وجل في كتابه العزيز، وهم ستة: "الله، الرسول، ذو القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل"، وسكتت عن الباقي؛ فدل ذلك على أنه يوزع على الغانمين.
سهم الله:
أما سهم الله عز وجل، فقد اختلف المفسرون فيه على قولين:
أ- أنه يصرف على الكعبة؛ لأن قوله: "الله" أي: لبيت الله، فهو على حذف مضاف.
ب- وقال الجمهور: إن قوله "الله" استفتاح كلام يقصد به التبرك، فلله الدنيا والآخرة، وهو المالك لكل ما في السماوات والأرض.
وعلى هذا الرأي يكون الخمس بين خمسة: "الرسول، ذي القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل".
سهم الرسول:
أما سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه حق له صلى الله عليه وسلم، يأخذه من الغنيمة ويضعه حيث شاء لأهل بيته أو في مصالح المسلمين، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم".
وقال آخرون: إن لفظ "الرسول" في الآية استفتاح كلام، كما قالوا في قوله:"لله"، وإن الخمس يقسم على أربعة أسهم:"ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل".
سهم ذي القربى:
والمراد قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اختُلف في "ذي القربى" على ثلاثة أقوال:
1-
قيل: إنهم قريش جميعًا.
2-
وقيل: إنهم بنو هاشم فقط.
3-
وقيل: إنهم بنو هاشم وبنو المطلب، هذا هو الرأي الصحيح والراجح، ومما يدل عليه ما رواه البخاري عن "مطعم بن جبير" من -بني نوفل- قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان -من بني عبد شمس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام"، فدل الحديث على أن المراد بذي القربى "بنو المطلب وبنو هاشم".
ويرى بعضهم أن القرابة لا يعطون إلا أن يكونوا فقراء، وهذا الحكم ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم ولذي قرباه في حياته، وأما بعد وفاته فإنه يرجع إلى بيت مال المسلمين.
قال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة: "اليتامى، والمساكين، وابن السبيل"؛ لأنه قد ارتفع سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع سهم أقربائه بموته، وهذا منقول عن الشافعي أيضًا، قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، ويُصرف في مصالح المسلمين.
سهم اليتامى:
وهذا السهم يُصرف على أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم وهم في سن الصغر، وأما بعد البلوغ فيزول عنهم وصف اليتيم.
سهم المساكين:
وهم أهل الفاقة والحاجة من ضعفاء المسلمين، الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا، ويحتاجون إلى مواساة ومساعدة.
سهم ابن السبيل:
وهو الغريب الذي انقطع في سفره، فإنه يُعطَى من الخمس حتى ولو كان غنيًّا في بلده؛ ذلك لأننا نعتبر حالته التي هو عليها الآن.
مذهب المالكية:
وقد خالف المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعًا، ورأوا أن الخمس -خمس الغنيمة- يُجعل في بيت المال يُنفق منه على ما ذُكر في الآية وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام من المصلحة، وقالوا: إن ذكر هذه الأصناف في الآية الكريمة إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل التمليك، وهو من باب إطلاق "الخاص وأريد به العام"1، ثم ساق أدلة هذا القول وعقَّب عليه بقوله:"وهذا الرأي للمالكية سديد ووجيه"1.
هذا غالب ما قاله في الغنائم والخمس؛ وإنما أطلت فيما نقلت حتى أعطي صورة لطريقته في تناول الآية من جوانب عدة، ثم لما في تفسيره من بيان واضح، وسأختصر -إن شاء الله- ما سأذكره من أمثلة لتفسيره بعد.
نكاح المتعة:
وشبهة مَن أباحه قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 2، وتحت عنوان:"الأحكام الشرعية" رد الشيخ الصابوني على مَن أباح نكاح المتعة، ووضح الحكم الصحيح، وذلك في الحكم الخامس منها، فقال:
"الحكم الخامس: حكم المتعة وآراء الفقهاء فيها
وقد أجمع العلماء وفقهاء الأمصار قاطبة على حرمة "نكاح المتعة"، لم يخالف فيه إلا الروافض والشيعة، وقولهم مردود؛ لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويخالف إجماع علماء المسلمين والأئمة المجتهدين.
1 المرجع السابق: ج1 ص604-607.
2 سورة النساء: من الآية 24.
وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة، ثم نُسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم، وما رُوي عن ابن عباس من القول بحلها؛ فقد ثبت رجوعه عنه، كما أخرج الترمذي عنه رضي الله عنه أنه قال:"إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم؛ فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت الآية الكريمة: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 1، فكل فرج سواهما فهو حرام"2.
فقد ثبت رجوعه عن قوله، وهو الصحيح، وحكي أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار؛ فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان وقال فيها الشعراء، قال:"وما قالوا؟ " قلت: قالوا:
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه
…
يا صاح هو لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة
…
تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: "سبحان الله ما بهذا أفتيت؟! وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير، ولا تحل إلا للمضطر".
ومن هنا قال الحازمي: "إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم؛ وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حمى حرَّمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد".
ثم ذكر الأدلة الشرعية والعقلية على تحريم المتعة؛ ذكر منها خمسة أدلة ثم ختمها بقول الخطابي: "تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى "علي" رضي الله عنه فقد صح عنه أنها نُسخت، ونقل البيهقي عن "جعفر بن محمد" أنه سُئل عن المتعة فقال: هي الزنا بعينه، فبَطَلَ بذلك كل مزاعم الشيعة"3.
1 سورةالمؤمنون: من الآية 6، والمعارج: من الآية 30.
2 رواه الترمذي: كتاب النكاح ج3 ص430.
3 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج1 ص457-459.
الحجاب:
وقد أفاض في الحديث -جزاء الله خيرًا - عن حجاب المرأة المسلمة وأجاد، ولئن كان لا يتسنى لنا أن نشم كل الورود التي قطفها كما قال في مقدمة تفسيره، فإنه أيضًا لا يسعنا إلا أن نقف عند بعضها وقفة تُبهج النفس وتمتع النظر وتشنف الأسماع بسامي المعاني وقويم العبارات.
وكان مما قال في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} 1 الآية.
قال تحت عنوان: "الأحكام الشرعية"، وتحت الحكم الثاني:
وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل: فجميع بدنها عورة على الصحيح، وهو مذهب "الشافعية والحنابلة"، وقد نص
الإمام أحمد رحمه الله على ذلك فقال: وكل شيء من المرأة عورة حتى الظفر، وذهب "مالك وأبو حنيفة" إلى أن بدن المرأة كله عورة ما عدا "الوجه والكفين"، ولكل أدلة سنوضحها بإيجاز إن شاء الله تعالى.
أدلة المالكية والأحناف:
استدل المالكية والأحناف على أن "الوجه والكفين" ليسا بعورة بما يلي:
أولًا: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد استثنت الآية ما ظهر منها؛ أي: ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره وهو الوجه والكفان. وقد نُقِلَ هذا عن بعض الصحابة والتابعين؛ فقد قال "سعيد بن جبير" في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الوجه والكف. وقال "عطاء": الكفان والوجه، وروي مثله عن الضحاك.
1 سورة النور: الآيتين 30، 31.
ثانيًا: واستدلوا بحديث عائشة ونصه: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق؛ فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها:"يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه.
ثالثًا: وقالوا: مما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة أن المرأة تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وتكشفهما أيضًا في الإحرام، فلو كانا من العورة لما أُبيح لها كشفها؛ لأن ستر العورة واجب لا تصح صلاة الإنسان إذا كان مكشوف العورة.
أدلة الشافعية والحنابلة:
1-
استدل الشافعية والحنابلة على أن الوجه والكفين عورة بالكتاب والسنة والمعقول:
أولًا: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فقد حرمت الآية الكريمة إبداء الزينة، والزينة على قسمين: خِلْقِية ومكتسبة، والوجه من الزينة الخِلْقِية؛ بل هو أصل الجمال ومصدر الفتنة والإغراء، وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خِلْقَتِها؛ كالثياب والحلي والكحل والخضاب. والآية الكريمة منعت المرأة من إبداء الزينة مطلقًا، وحرمت عليها أن تكشف شيئًا من أعضائها أمام الرجال أو تظهر زينتها أمامهم، وتأولوا قوله تعالى:{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إن المراد ما ظهر بدون قصد ولا عمد؛ مثل: أن يكشف الريح عن نحرها أو ساقها أو شيء من جسدها، ويصبح معنى الآية على هذا التأويل: ولا يبدين زينتهن أبدًا، وهن مؤاخذات على إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها بنفسه، وانكشف بغير قصد ولا عمد، فلسن مؤاخذات عليه؛ فيكون الوجه والكف من الزينة التي يحرم إبداؤها.
ثانيًا: وأما السنة، فما ورد من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على حرمة النظر؛ منها:
أ- حديث جرير بن عبد الله: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: "اصرف نظرك"1.
ب- حديث علي: "يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأُولَى وليست لك الآخرة"2.
ج- حديث الخثعمية الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه، وكان رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه؛ فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر
…
"3، الحديث في حجة الوداع.
فجميع هذه النصوص تفيد حرمة النظر إلى الأجنبية، ولا شك أن الوجه مما لا يجوز النظر إليه؛ فهو إذًا عورة4.
قلت: هذا ما رأيت ذكره من الأدلة التي أوردها، ثم رجح رأي الشافعية والحنابلة، وردَّ على ما ذكر من أدلة المالكية والحنفية، ثم قال بعد ذلك:
"أقول: الأئمة الذين قالوا بأن "الوجه والكفين" ليسا بعورة اشترطوا بألا يكون عليهما شيء من الزينة، وألا يكون هناك فتنة، أما ما يضعه النساء في زماننا من الأصباغ والمساحيق على وجوههن وأكفهن بقصد التجميل، ويظهرن به أمام الرجال في الطرقات؛ فلا شك في تحريمه عند جميع الأئمة، ثم إن قول بعضهم: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، ليس معناه أنه يجب كشفهما أو أنه سنة وسترهما بدعة، فإن ذلك ما لا يقول به مسلم؛ وإنما معناه أنه لا حرج في كشفهما عند
1 مسلم: الآداب ج3 ص1699، أحمد ج4 ص358، سنن أبي داود: كتاب النكاح ج2 ص246، وسنن الترمذي: كتاب الأدب ج 5 ص101.
2 مسند أحمد ج5 ص351، وسنن أبي داود: كتاب النكاح ج2 ص246، والترمذي: الأدب ج5 ص101، والدارمي: الرقاق ج2 ص298.
3 صحيح البخاري: كتاب الحج ج2 ص140، مسلم: كتاب الحج ج2 ص973.
4 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج2 ص154-156.
الضرورة، وبشرط أمن الفتنة. أما في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه أعوان الشيطان، وانتشر فيه الفسق والفجور، فلا يقول أحد بجواز كشفه، لا من العلماء ولا من العقلاء؛ إذ مَن يرى هذا الداء والوباء الذي فشا في الأمة -وخاصة بين النساء بتقليدهن لنساء الأجانب- فإنه يقطع بحرمة كشف الوجه؛ لأن الفتنة مؤكدة والفساد محقق، ودعاة السوء منتشرون، ولا نجد المجتمع الراقي المهذب الذي يتمسك بالآداب الفاضلة، ويستمع لمثل قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصرف بصرك"، فالاحتياط في مثل هذا العصر والزمان واجب، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم"1.
هذا ما قاله -وفقه الله- هنا، وقال مثله أو أحسن منه تحت عنوان: بدعة كشف الوجه، وجعله خاتمة لهذا البحث، وقال مثل هذا في سورة الأحزاب، وكله حري به أن يقرأ ويدرك، كيف لا وهي فتنة ترقب الشباب، وكيف لا وهم عماد الأمة ومستقبلها.
قطع يد السارق:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} 1، قال في بيان موضع قطع اليد:
"دل قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} على وجوب قطع اليد في السرقة، وقد أجمع الفقهاء على أن اليد التي تُقطع هي "اليمنى"؛ لقراءة بن مسعود: "فاقطعوا أيمانهما".
ثم اختلفوا: من أين تقطع اليد؟ فقال فقهاء الأمصار: تقطع من المفصل -مفصل الكف- لا من المرفق ولا من المنكب، وقال الخوارج: تقطع إلى المنكب، وقال قوم: تُقطع الأصابع فقط.
1 المرجع السابق ج2 ص157، 158.
2 سورة المائدة: الآية 38.
حجة الجمهور ما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من الرسغ، وكذلك ثبت عن "علي" و"عمر بن الخطاب" أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ؛ فكان هو المعول عليه"1.
وقال في حكمة هذا التشريع: "وأعداء الإنسانية يستعظمون قتل القاتل وقطع يد السارق، ويزعمون أن هؤلاء المجرمين ينبغي أن يحظوا بعطف المجتمع؛ لأنهم مرضى بمرض نفساني، وأن هذه العقوبات الصارمة لا تليق بمجتمع متحضر يسعى لحياة سعيدة كريمة، إنهم يرحمون المجرم من المجتمع ولا يرحمون المجتمع من المجرم الأثيم الذي سلب الناس أمنهم واستقرارهم وأقلق مضاجعهم، وجعلهم مهددين بين كل لحظة ولحظة في الأنفس والأموال والأرواح.
وقد كان من أثر هذه النظريات التي لا تستند إلى عقل ولا إلى منطق سليم أن أصبح في كثير من البلاد "عصابات" للقتل وسفك الدماء وسلب الأموال، وزادت الجرائم واختل الأمن وفسد المجتمع، وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرومين وقطاع الطريق.
والعجيب أن هؤلاء الغربيين الذين يرون في الحدود الإسلامية شدة وقسوة لا تليق بعصرنا المتحضر، والذين يدعون إلى إلغاء عقوبة "القتل والزنا وقطع يد السارق"
…
إلخ، هم أنفسهم يفعلون ما تشيب له الرءوس، وتنخلع لهوله الأفئدة، فالحروب الهجمية التي يثيرونها، والأعمال الوحشية التي يقومون بها؛ من: قتل الأبرياء، والاعتداء على الأطفال والنساء، وتهديم المنازل على مَن فيها، لا تعتبر في نظرهم وحشية، ولقد أحسن الشاعر حين صور منطق هؤلاء الغربيين بقوله:
قتل امرئ في غابة
…
جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن
…
مسألة فيها نظر
1 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج1 ص555، 556.
نعم، إن الإسلام شرع عقوبة قطع يد السارق، وهي عقوبة صارمة؛ ولكنه أمن الناس على أموالهم وأرواحهم، وهذه اليد الخائنة التي قُطعت إنما هي عضو أشل تأصل فيها الداء والمرض، وليس من المصلحة أن نتركها حتى يسري المرض إلى جميع الجسد؛ ولكن الرحمة أن نبرتها ليسلم سائر البدن، ويد واحدة تُقطع كفيلة بردع المجرمين، وكف عدوانهم، وتأمين الأمن والاستقرار للمجتمع.
فأين تشريع هؤلاء من تشريع الحكيم العليم، الذي صان به النفوس والأموال والأرواح!! "1.
هذا ما قاله -وفقه الله- في هذا الحد الشرعي، وأحب أن أهمس في أذنه -ومثله خبير بهذا- أن أولئك القوم ما نقموا هذه الحدود لبشاعتها بزعمهم، وما نقموها لوحشيتها كما يدعون؛ وإنما نقموها لأنهم ينقمون أصلها؛ أعني: الدين الإسلامي كله، وفي التاريخ المعاصر شواهد على ما أقول كثيرة، إن أردت أن أذكر منها شاهدًا واحدًا ذكرت موقف الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أم المكائد والمشاكل في العصر الحديث؛ من باكستان الإسلامية، ما أن فكرت أو اتجهت باكستان لصناعة القنبلة الذرية؛ حتى وضعت أمامها العراقيل والعقبات، وحتى صاحت في آذان جنودها: احذروا القنبلة الذرية الإسلامية، لم ترفع هذه الصيحة وهذا النداء وهذه السمة ضد القنبلة النصرانية، ولا ضد القنبلة الشيوعية ولا اليهودية، ولا حتى الهندوسية؛ ولكن قد كانت الدولة المعنية تحمل الصبغة الإسلامية، فإن لجنة الشئون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي توقف آية مساعدة عسكرية أو تكنولوجية لباكستان ما لم يلتزم الرئيس الأمريكي، بأن لا تجوز باكستان سلاحًا نوويًّا أو تسعى لحيازة مثل هذه الأسلحة2.
لا أقصد من هذا أن أقول: لا تردوا على شبهاتهم في الحدود ونحوها؛ لأن عداءهم أكبر من ذلك؛ ولكني قصدت القول: لا تطمعوا منهم باعتراف، ولا تمنوا أنفسكم به، وصدق الله العظيم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 3.
1 المرجع السابق ج1 ص557، 558.
2 جريدة الرياض، العدد 5764 يوم الأربعاء 2/ 7/ 1404هـ ص21.
3 سورة الصف: من الآية 8.
وبعد:
هذه أمثلة لتفسير الشيح محمد علي الصابوني لآيات الأحكام في القرآن الكريم، التي التزم فيها منهجه الذي بيَّنه وذكرناه في مقدمة تفسيره وفي مقدمة حديثنا عنه.
وقد اتسم تفسيره لها بمزية قد لا تجدها في كثير من التفاسير مثل تفسيره؛ فقد حَرَصَ على ألا يورد الأحكام جافة من غير أن يدعو إلى تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، أو إزالة ما أصابها من دنس أصحاب الشبهات والشهوات، فقَلَّ أن يتناول حكمًا شرعيًّا إلا وبيَّن محاسنه ومزاياه، وردَّ ما يلصق به من لدن خصومه؛ كتشريع تعدد الزوجات، والحجاب الذي أوردنا بعض ما قال فيه وأبدع، وردَّ على دعاة الاختلاط وأصحاب الصور والتماثيل، وألجم الناقمين على الحدود الإسلامية وقطع كيدهم.
وإن كان لي من ملاحظات -إن صحت تسميتها بذلك- فهي أنه وفقه الله لم يتناول كثيرًا من آيات الأحكام وبعضها هام جدًّا، ولم يتناول كذلك آيات الميراث في سورة النساء، ونحو ذلك.
وأذكر منها أيضًا أنه تناول آيات القرآن على شكل محاضرات، ولو تناولها على طريقة السلف بأن يورد السورة ثم الآيات التي يريد دراستها مرتبة، ويشير إليها في الفهارس على هذا النحو لكان أفضل، لا أفضل هذه الطريقة لكونها طريقة السلف فحسب؛ ولكن لكونها أيسر على الباحث في حصوله على مراده.
وأذكر منها أيضًا ضرورة التوسع في بعض الأبحاث، والاختصار في بعضها، والأطناب المحبب في حكم التشريع، التي يذكرها لبعض الأحكام الشرعية، خاصة أنه قلَّ أن تجد تفسيرًا يعتني بها على هذا النحو.
هذا ما أردت بيانه، واللهَ أسألُ أن ينفع به وبتفسيره، إنه سميع مجيب.
ثالثًا: تفسير آيات الأحكام
أولًا: المؤلف
العجيب أن هذا الكتاب القيِّم لا يُعرف له مؤلف، وكثير من طلبة العلم يعده للشيخ محمد علي السايس، وبين يدي طبعة صدرت سنة 1356-1937م خالية من اسم مؤلفها، وطبعة أخرى بين يدي صدرت سنة 1373 كتب على غلافها: أشرف على تنقيحها وتصحيحها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد على السايس، ولعل هذا هو ما جعل الكتاب إلى الشيخ.
بقي أن نقول: إن الصحيح أنها نسبة تنقيح وتصحيح وليست جمعًا وتأليفًا؛ ولهذه النسبة نكتب تعريفًا للشيخ محمد على السايس.
المنقح المصحح 1:
ولد في مدينة مطوبس التابعة لمحافظة كفر الشيخ إحدى محافظات الوجه البحري لمصر في يوم 16 أغسطس 1899 ميلادية "1319 هجرية"، وتُوفي عن عمر 77 عامًا في فجر يوم الأربعاء الموافق 24 نوفمبر 1976م "أول ذي الحجة 1396هـ" حفظ القرآن كله في سن التاسعة، والتحق بالأزهر، وتدرج فيه حتى حصل على عالمية الأزهر في سن 28، وعُين في مدينة أسيوط، ثم نقل إلى كلية
1 زودني بهذه الترجمة ابنه الدكتور سامي محمد علي السايس، الذي يعمل أستاذًا مساعدًا في مركز العلوم والرياضيات بالرياض، وقد حَرَصْتُ على أن أنشر هذه الترجمة كاملة -رغم طولها نسبيًّا- لأني لم أجد أحدًا ترجم له من قبل.
أصول الدين مدرِّسًا، وتدرج في الرقي حتى أصبح عميدًا لكلية أصول الدين، ثم عميدًا لكلية الشريعة سنة 1957م.
نال الشهادة العالمية "عودلت بالدكتوراه" 1927م الموافق ذي القعدة 1345هـ، ثم نال تخصص القضاء الشرعي "إبريل 1932م" الموافق ذي الحجة 1350هـ، ثم عضوية جماعة كبار العلماء "1950م"، وبعد أن أُلغيت الجماعة نال عضوية مجمع البحوث الإسلامية في 5/ 7/ 1961م، وكان عضوًا في المجلس الأعلى للأزهر من 18/ 2/ 1954 حتي تُوفي، وكانت تجدد له 8 كل ثلاثة أعوام.
وعُين عميدًا لكلية أصول الدين سنة 1954م لمدة ثلاث سنوات، فعميدًا لكلية الشريعة الإسلامية سنة 1957م لمدة سنتين؛ حيث أحيل على المعاش في 1/ 3/ 1959 قبل السن القانونية؛ وذلك لمعارضته لتغيير نظام التعليم في الأزهر.
وعُين أمينًا لمجمع البحوث الإسلامية، ثم أحيل على المعاش في السن القانونية في 16/ 8/ 1964 بعد بلوغه 65 سنة.
أهم مؤلفاته "تاريخ التشريع الإسلامي"، وبقية المؤلفات خاصة بمناهج الدراسة في كلية الشريعة، ومن بحوثه "تحديد أوائل الشهور العربية".
أشرف وناقش عددًا كبيرًا من الرسائل العلمية، ومن أصحاب تلك الرسائل الشيخ محمد حسين الذهبي، ومنهم الدكتور يوسف القرضاوي.
وكانت له جلسات علمية مع بعض المشايخ بقاعة محمد عبده في الأزهر؛ مثل: الشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ
محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد دراز، وغيرهم.
وحصل على عدد من الأوسمة؛ منها: الوسام الملكي في عهد الملك فاروق، ووسام الشرف لجمهورية مصر في الطبقة الأولى في عهد الثورة.
وتُوفي عقب مناقشته لإحدى رسائل الدكتوراه بثلاث ساعات، رحمه الله رحمة واسعة.
ثانيًا: تفسير آيات الأحكام:
قلت آنفًا: إن بين يدي طبعة صدرت سنة 1356، وعليها ما يدل على صدورها عن الجامع الأزهر -كلية الشريعة الإسلامية- وجاء عنوانها:"مذكرة في تفسير آيات الأحكام"، ثم صدرت طبعة أخرى بعد ذلك سنة 1373 حُذف منها كلمة "مذكرة في" وبقي الاسم "تفسير آيات الأحكام"، وأضيف إليها اسم مَن أشرف على التنقيح والتصحيح.
وأحسب أن هذه المذكرة وضعها أحد المشايخ لتلاميذه في الأزهر، ثم تناوبتها أيدي المشايخ من بعده بالحذف والإضافة والتنقيح والتغيير ونحو ذلك؛ فلم ينسبها أحد لنفسه؛ فبقيت مجهولة المؤلف.
كما أن هناك فارقًا بين الطبعتين المذكورتين: أن الأولى تزيد على الأخيرة بتفسير آيات الأحكام في سورتي العنكبوت والروم، بينما حذف من الأخيرة.
وسأعتمد في الإشارة إلى النقول هنا على الطبعة الأخيرة المنقحة المصححة، والله الهادي.
نماذج من تفسيره:
فرض الرجلين في الوضوء:
قال في ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1: "قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب معطوف على وجوهكم؛ فيجب غسل الأرجل إلى الكعبين، يؤيد ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته، فكان الحكم مجمَعًا عليه. وأما قراءة الجر، فمحمولة على الجوار، كما في قوله في سورة هود: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} بجر "أليم" لمجاورة "يوم" المجرورة، وفائدة الجر للجوار هنا في قوله: "وأرجلكم" التنبيه على أنه ينبغي الاقتصاد في صب الماء على الأرجل، وخص الأرجل بذلك لأنها مظنة
1 سورة المائدة: من الآية 6.
الإسراف لما يعلق بها من الأدران"1.
خمس الغنائم:
والنص الوارد في ذلك -كما مر بنا- قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 2 الآية.
قال المؤلف: "هذه الآية بيَّنت أن غنائم الحرب تخمس؛ فيجعل خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس الباقية بيَّنت السنة أنها تُقسم على الجيش، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان، على اختلاف في الروايات".
وقال: "وقد ذكرت الآية أن الخمس لستة:
أولهما: الله عز وجل، وقد اختلف المفسرون فيه على قولين:
1-
أن قوله: {لِلَّهِ خُمُسَهُ} مفتاح كلام لم يقصد به أن الخمس يقسم على ستة منها الله -لله الدنيا والآخرة- بل يقسم الخمس على خمسة: للرسول ولذي القربى
…
إلخ، ويكون الغرض من ذكر الله تعليمنا التبرك بذكره، وافتتاح الأمور باسمه، أو يكون معناه أن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله، ثم بيَّن تلك الوجوه فقال: للرسول ولذي القربى فأجمل أولًا ثم فصل.
2-
أن المراد لبيت الله، فسهمُ الله يصرف في الكعبة، نقل عن أبي العالية، والظاهر القول الأول لإجماع الحجة عليه.
ثانيها: رسول الله، وقد ذكر بعضهم أنه افتتاح كلام كما قالوه في "الله"، والغنيمة تقسم على أربعة، وقال الأكثرون: إن الغنيمة تُقسم على خمسة؛ أولها: سهم الرسول يضعه حيث رأى.
1 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج2 ص173.
2 سورة الأنفال: من الآية 41.
ثالثها: ذو القربى، والمراد بها قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اخْتُلف في ذوي القربى؛ فقيل: هم قرابة رسول الله من بني هاشم، وقيل: هم قريش كلها، وقيل: هم بنو هاشم وبنو المطلب، وهو الراجح.
رابعها: اليتامى؛ وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم.
خامسها: المساكين؛ وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
سادسها: ابن السبيل؛ وهو المجتاز سفرًا قد انقطع به.
وقد خالفت المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعها، ورأوا أن خمس الغنيمة يُجعل في بيت المال، ينفق منه على من ذُكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام، وكأنهم رأوا أن ذكر هذه الأصناف على سبيل المثال، وهو من باب الخاص أُريد به العام، وأصحاب الأقوال المتقدمة رأوا أنه من باب الخاص أُريد به الخاص"1.
نكاح المتعة:
قال في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} 2. قال إنها "أمر بإتيان الأزواج مهورهن، وأجاز الحط بعد الاتفاق برضا الزوجين؛ وعلى ذلك تكون الآية نزلت في النكاح المتعارف.
وقيل: نزلت في المتعة؛ وهي أن يستأجر الرجلُ المرأةَ بمال معلوم إلى أجل معين، وكان الرجل ينكح امرأة وقتًا معلومًا ليلة أو ليلتين أو أسبوعًا، بثبوت أو غير ثبوت، ويقضي منها وطرًا ثم يتركها.
واتفق العلماء على أنها كانت جائزة، ثم اختلفوا؛ فذهب الجمهور إلى أنها نُسخت، وذهب ابن عباس إلى أنها لم تُنسخ، وهناك رواية عنه أنها نسخت، ورُوي أنه رجع عن القول بها قبل موته.
1 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج3 ص6-8.
2 سورة النساء: من الآية 24.
والراجح أن الآية ليست في المتعة؛ لأن الله ذكر المحرمات في النكاح المتعارف، ثم ذكر أنه أحل ما رواء ذلكم؛ أي: في هذا النكاح نفسه.
والراجح أن حكم المتعة الثابت بالسنة قد نُسخ؛ لما أخرجه مالك عن علي أن الرسول صلى الله عليه وسلم: نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية.
وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام، مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول:"يأيها الناس، إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِّ سبيلها، لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا".
ورُوي عن عمر: لا أُوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة1، ويدل على تحريم المتعة قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 2، والمستمتَع بها ليست ملك يمين بالاتفاق، وليست زوجة لانتفاء خصائص الزوجية عنها؛ لأنها لا ترثه ولا يلحق به ولدها"2.
نكاح الكتابيات:
ذكر المؤلف في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 4 الآية، أنه "قد اختلف العلماء في هذه الآية؛ فذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يعم كل مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم يُنسخ أو يخص منها شيء؛ فيكن جميعًا قد حرم على المسلم زواجهن.
1 مصنف ابن أبي شيبة ج4 ص293، وسنن ابن ماجه: أبواب النكاح ج1 ص605.
2 سورة المؤمنون: من الآية 6.
3 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج2 ص76، 77.
4 سورة البقرة: من الآية 221.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات مَن لا كتاب لهن من المجوس والعرب دون الكتابيات، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات عام في جميع مَن ذكرنا، إلا أنه نُسخ بقوله:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1.
ثم ذكر المؤلف سبب الخلاف، وأنه فرع عن التفريق بين الكافر والمشرك، ثم علق على ما رُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرَّق بين طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وزوجته اليهودية، وبين حذيفة بن اليمان وزوجته النصرانية، فقال:"ورحم الله عمر بن الخطاب؛ فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين -نسائهم ورجالهم- ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة؛ فإن كثيرًا من الشباب المسلمين في مصر رغبوا عن زواج المحصنات المسلمات إلى زواج الكتابيات الأجنبيات"2.
قطع يد السارق:
ونص على ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، قال المؤلف: "واليد تُطلق على العضو المخصوص إلى المنكب؛ وعلى هذا العضو إلى مفصل الكف، كما في قوله تعالى لموسى عليه السلام:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} 4، والمراد ما كان إلى مفصل الكف، ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول ولا بين فقهاء الأمصار في أن قطع يد السارق يكون إلى مفصل الكف، لا إلى المرفق، ولا إلى المنكب، وقال الخوارج: تُقطع إلى المنكب، وقال قوم: تُقطع الأصابع فقط.
حجة الجمهور ما رواه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من
1 سورة المائدة: من الآية 5.
2 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج1 ص127، 128.
3 سورة المائدة: من الآية 38.
4 سورة النمل: من الآية 12.
الرسغ، وما رُوي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ، فكان هو المعول عليه"1.
رأيي في هذا التفسير:
وإن كان لي من ملاحظات على هذا التفسير، فهي ملاحظات بعضها أشرت إليه في التفاسير التي قبله، وبعضها خاص به.
أما الأول منها، فكونه مؤلَّفًا لطلاب يلتزم فيه المؤلف بالمنهج المقرر عليهم؛ فيؤدي به هذا الالتزام إلى الاختصار،
لا أقصد الاختصار المحمود؛ بل الاختصار القاصر الذي يجعل صاحبه يعرض عن بيان بعض الأحكام جملة، وعن بيان أدلة بعض الآراء الأخرى أحيانًا، أو ترجيح رأي لم تستوفَ أدلة ترجيحه، ونحو ذلك.
أما الثاني فملاحظة خاصة، وأحسبها ترجع إلى تعاقب المؤلفين على هذا التفسير أو تعددهم؛ وهي ذلك الاضطراب في بعض العبارات والأخطاء اللغوية في بعضها. والله الموفق.
1 تفسير آيات الأحكام: محمد علي السايس ج2 ص191.
رابعًا: تفسير آيات الأحكام
أولًا: المؤلف 1
هو أبو محمد مناع خليل القطان.
مولده: وُلد في شهر أكتوبر 1925م في قرية "شنشور" مركز أشمون من محافظة المنوفية.
حياته العلمية: بدأ حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم في كُتَّاب القرية، والتحق بمدرستها الابتدائية، ثم التحق في شبين الكوم بالمعهد الديني، ومن أبرز مشايخه في تلك الفترة: الشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد المتعال سيف النصر، والشيخ علي شلبي، ثم التحق بكلية أصول الدين، وتخرج سنة 1951م مع إجازة التدريس، ومن أساتذته في هذه الفترة: محمد زيدان، والدكتور محمد البهي، والدكتور محمد يوسف موسى.
أعماله: أُعير للتدريس في المملكة العربية السعودية سنة 1953، للتدريس بالمعاهد العلمية إلى سنة 1958م، ثم انتقل للتدريس في كلية الشريعة بالرياض سنة 1378، وشارك في التدريس بالمعهد العالي للقضاء منذ افتتاحه سنة 1378، وعُين مديرًا للمعهد سنة 1392.
ثم أُسندت إليه إدارة الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1399، نال درجة الأستاذية، وأشرف على أكثر من 30 رسالة
1 انظر ترجمة فضيلته في:
1-
الدراسات القرآنية المعاصرة: محمد بن عبد العزيز السديس ص165، 166.
2 -
علماء ومفكرون عرفتهم: محمد المجذوب ص425-437.
دكتوراه، كما أشرف على ما يزيد على ثمانين رسالة ماجستير، وقام بفحص الإنتاج العلمي لأساتذة بعض الجامعات للترقية إلى درجة أستاذ مشارك وأستاذ داخل المملكة وخارجها، وناقش كثيرًا من الرسائل العلمية؛ ومنها هذه الرسالة التي بين يديك.
مؤلفاته: له عدد من المؤلفات؛ منها:
1-
مباحث في علوم القرآن.
2-
تفسير آيات الأحكام.
3-
نظام الأسرة في الإسلام.
4-
التشريع والفقه في الإسلام تاريخًا ومنهجًا.
5-
نظرية التملك في الإسلام.
6-
الثقافة الإسلامية.
7-
الدعوة إلى الإسلام.
8-
الحديث والثقافة الإسلامية.
ثانيًا: التفسير:
تفسير آيات الأحكام: ويقع في جزأين: الأول منهما يحوي مقرر السنة الثالثة في كلية الشريعة بالرياض، وعدد صفحاته 187، والثاني يحوي مقرر السنة الرابعة فيها، وعدد صفحاته 220 بدون الفهارس.
وصدرت الطبعة الأولى من التفسير عن المكتب الإسلامي سنة 1384.
طريقته في التفسير:
ذكر المؤلف في مقدمته الحامل له على تأليف هذا التفسير فقال: "وقد حملني على كتابته -حين عهد إليَّ بتدريس مادة التفسير بكلية الشريعة بالرياض- رغبة الطلاب في تدوين الدرس وإملائه؛ حتى يتوفر عليهم الجُهْد في البحث بأمهات الكتب، وإني إذ أتسجيب لرغبتهم أوصيهم بالاعتماد على المراجع، والتدريب على منهج المفسرين؛ فذلك سبيل العلم".
إذًا فهو من التفاسير التي أُلفت لفئة معينة أولًا، وعلى حسب منهج مرسوم سلفًا لا يزيد عنه ولا ينقص منه ثانيًا؛ لذا فقد بدأ في التفسير من سورة الأنعام، وانتهى بسورة الأحزاب.
والمؤلف يذكر الآية التي يريد تفسيرها، ثم يذكر بعدها سبب نزولها إن كان له سبب، ثم أحيانًا يذكر صلة الآية بما قبلها تحت عنوان الربط حينًا، وتحت عنوان مكان هذه الآيات من السورة حينًا آخر، وتحت عنوان صلة الآية بما قبلها حينًا ثالثًا، ثم المفردات والإعراب، ويذكر فيه القراءات إن كان في الآية قراءات، ثم بعد ذلك إن كان بين العلماء اختلاف في تفسير الآية عقد عنوان "الأحكام"، وإن لم يكن بينهم خلاف جعل العنوان "ما يستفاد من الآيات"، ويختم بعض الآيات ببيان حكمة التشريع.
هذه هي عناصر تفسيره لآيات الأحكام، قد تجتمع في آية -وهو قليل- وقد لا تجتمع على ما أشرنا إليه.
وهو في كل هذا يلتزم عقيدة أهل السنة والجماعة في آيات العقائد إن عرضت له، ويلتزم المذاهب الصحيحة في آيات الأحكام، مُعرضًا عن المذاهب الباطلة، منتقدًا لها.
نماذج من تفسيره:
غاية الجهاد في الإسلام:
يرى الشيخ مناع أن غاية القتال في الإسلام ألا يوجد شرك يدفع المسلمين إلى البلاء والشدة، وحتى لا يفتن مسلم عن دينه بضروب الإلحاد والفساد، ودليله لهذا قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 1.
فقال في حديثه عن الأحكام في الآية: "حددت الآية غاية القتال في الإسلام؛ وهي زوال الأديان الباطلة جميعًا من
1 سورة الأنفال: الآيتين 39، 40.
العالَم؛ حتى لا يبقى شرك، ويكون التوحيد خالصًا لله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، وفي الصحيحين:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل" 1، ومقتضى ذلك: قتال مَن امتنع عن الدخول في الإسلام، أما ترك قتال مَن يؤدي الجزية؛ فلتخصيص أهل الكتاب من العموم في الآية والحديث؛ حيث إن المراد التعبير عن إعلاء كلمة الله، وإذعان المخالفين، والغرض من دفع أو ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، فالمعنى المقصود: الأمر بالقتال حتى يُسلموا، أو يلتزموا ما يؤدي بهم إلى الإسلام؛ وبهذا يتبين أن القتال بأي دافع آخر -كالوطنية والقومية- ليس قتالًا في سبيل الله"2.
وأكد الشيخ مناع -وفقه الله- هذا المفهوم عند حديثه عن حكمة التشريع في هذه الآية؛ حيث رَدَّ على طائفة من المسلمين بقوله: "وهذه الآية ترد على هؤلاء الذين يتملقون خصوم الإسلام، بتحريف الكلم عن مواضعه في رد دعوى انتصار الإسلام بالسيف؛ حيث يقولون بحرية الأديان، مستدلين بما جاء في صدر الإسلام؛ مثل قوله تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: 256] وتظهر حكمة مشروعية القتال في الإسلام إذا عرفنا أنه ضرورة اجتماعية لإقامة الحق وإعلاء الدين، وإلا لتغلب أهل الشر والفساد {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] وما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفك الدماء، وما كان
1 صحيح البخاري: كتاب الإيمان ج1 ص11، 12، صحيح مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص52.
2 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص66، قلت: رَدَّ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الجزية على أهل بعض بلاد الروم؛ لما عجز عن الدفاع عنهم، وقوله:"ما كان لنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم" يدل على أن أخذها مقابل حمايتهم، ونشر الأمن في بلادهم، وما يلزم ذلك من مؤنة، فلا يصح القول بأن أخذها لاضطرارهم إلى الإسلام، وإلا لكان هناك ما هو أنجع من وسائل الاضطرار.
انتشار دينه على أشلاء أعدائه؛ ولكنه رحمة الله المسداة لإنقاذ الإنسانية من أوضار الشرك والشقاء، وبلمسها الشافي لعلاج أمراضها؛ حتى يحقق لها السعادة والأمن والرخاء تحت لواء شريعة الله، فلا ضير على الإسلام أن يجبر1 الكفار على الدخول فيه؛ لأنه يقدم لهم السعادة في الدنيا، والثواب في الآخرة، كما لا ضير على طبيب أن يجبر مريضًا على تناول الدواء؛ لأنه يقدم له ما فيه علاجه وعافيته"2.
خمس الغنائم:
في الحكم الخامس من الأحكام التي ذكرها في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 3 الآية، قسم الشيخ مناع أقوال العلماء في خمس الغنائم فقال: "اختُلف في كيفية تقسيم الخمس؛ فقال بعضهم:
1-
يقسم الخمس على ستة لظاهر الآية؛ فالسدس الأول لله ويجعل للكعبة، وورد عن أبي العالية أثر ضعيف في ذلك.
2-
وزعم بعض أهل البيت أن الخمس كله لهم دون غيرهم، وهذا زعم باطل.
3-
وقال كثير من أهل العلم: يُقسم الخمس على خمسة، وسهم الله وسهم رسوله واحد، يُصرف في مصالح المسلمين، وذُكر اسم الله في الآية استفتاح كلام للتعظيم، وبهذا قال أحمد والشافعي وأبو حنيفة، إلا أنهم اختلفوا في سهم رسول الله وسهم ذوي القربى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشهور: أن سهم الرسول باقٍ للإمام.
1 نص القرآن الكريم على أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} فلا ينبغي أن نقول: إنه لا ضير أن يجبر الكفار على الدخول فيه، وأحب أن أشير إلى وجوب التفريق بين الإجبار على الدخول في الدين، والإكراه على إقامة نظام
إسلامي يظلل البشرية كلها، فالأول محظور بنص القرآن، والثاني واجب بنصوص الجهاد.
2 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص66، 67.
3 سورة الأنفال: من الآية 41.
4-
وقال جماعة: إن خمس الغنيمة موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، والمراد بذكر الله في الآية بيان أن الخمس يُصرف في وجوه القُرَب إلى الله، وتخصيص الوجوه المذكورة للتنبيه على فَضْلِها، وهو قول مالك، وأيده ابن تيمية وقال: عليه أكثر السلف، وهو أصح الأقوال"1.
الدولة دين وسياسة:
وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} 2.
أنكر الشيخ مناع -وفقه الله- على أولئك الذين فصلوا بين الدين والسياسة، فعدَّ من الأحكام لهذه الآية أن "فيها جمع سلطة النبوة والحكم وسياسة الأمور وحماية الدولة في الشريعة، فكيف يسوغ للمارقين عن شريعة الإسلام فصل الدين عن الدولة مع عموم رسالة الإسلام وكمالها؟! "3.
ثم قال في المعنى الإجمالي لهذه الآية: "وبهذا جمع الله في سلطة داود الدين والدولة، أو النبوة والحكم، وقد عرف الناس في تاريخ الحضارة الغربية ثورتها على الكنيسة ورجالها؛ لأسباب ليست في طبيعة الإسلام وحضارته، ويأبى ببغاواتنا المستغربون إلا أن ينهجوا نهج أساتذتهم؛ فيقفوا من الإسلام ورجاله موقف أولئك من الكنيسة ورجالها؛ حتى فصلوا بين الدولة والدولة، وعزلوا الإسلام عن تنظيم حياة المجتمع، وسياسة شئون الأمة؛ فأصبحت الشريعة المحمدية في معظم ديار الإسلام طقوسًا تعبدية، يؤديها مَن يشاء في المنزل أو المسجد، أفلا ينظر هؤلاء إلى داود في نبوته وحكمه، وقد كانت رسالته قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعشرات القرون؛ ليأخذوا من ذلك العظة والعبرة؟! "4.
1 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص71.
2 سورة الأنبياء: الآية 87.
3 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص9.
4 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص10.
حجاب المرأة:
في قوله تعالى مخاطبًا نساء المؤمنين: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1، قال الشيخ مناع: "والذي يدل عليه سياق الآية النهي عن إبداء الزينة إلا ما كان ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه، أو ظهر بدون قصد، فيما لا بد منه للمرأة من حركة أو إصلاح شأن أو هبوب ريح أو نحو ذلك، مما تدعو إليه الضرورة؛ لأن قوله تعالى:{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يفيد أنه ظهر بنفسه من غير قصد، وهذا بخلاف ما يتعمد الإنسان إظهاره.
وعلى هذا، فلا يصح أن يرجع الخلاف في وجوب ستر الوجه والكفين أو عدم وجوب ذلك إلى الآية؛ وإنما يرجع غلى اختلاف الأدلة من السنة؛ فيستدل مَن يرى عدم الوجوب بحديث خطبة العيد؛ حيث يقول الراوي: فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين2، وبحديث المرأة الخثعمية في الحج التي جاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أردف خلفه الفضل بن عباس، فأخذ يلتفت إليها وتنظر إليه، والرسول يحول وجهه من الشق الآخر، وبعدم وجوب ستر ذلك في الصلاة والحج.
واستدل مَن يرى وجوب ستر الوجه والكفين بقول عائشة في حديث الإفك حين استيقظت على استرجاع صفوان: فخمرت وجهي بجلبابي، وبقولها: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا جازونا أسدلت إحادنا جلبابها من رأسها على وجهها، والنهي عن انتقاب المرأة المحرمة ولبس القفاز دليل على أن النقاب والقفاز كانا معروفَيْنِ في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن.
وفَرْقٌ بين لباس الصلاة والحجاب، فالمرأة لا يجوز لها أن تصلي مكشوفة الرأس، ولو كانت في بيتها لا يراها أحد، وفي غير الصلاة يجوز لها ذلك؛ فالحجاب شيء آخر فوق
1 سورة النور: من الآية 31.
2 صحيح مسلم: كتاب العيدين ج2 ص603، مسند الإمام أحمد ج3 ص318، سنن الدارمي: العيدين ج1 ص377، والنسائي: العيدين ج3 ص186.
زينة الصلاة، وإن سَمَّى ذلك الفقهاء "باب ستر العورة في الصلاة".
هذا، وقد اتفق الجميع على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه عند خوف الفتنة أو كثرة الفُساق، ونحن في عصر تفنن فيه النساء في تزيين وجوههن وأيديهن بأنواع من الزينة والأصبغة، وضَعُفَ الإيمان، وكثر الفساد، وأُهدرت الفضيلة، وعمت الفتنة؛ فلا ينبغي لمسلم أن يشك في وجوب ستر الوجه والكفين قطعًا لدابر الشر، ولو وقف الأمر عند الوجه والكفين في المجتمعات السافرة لهان الخطب؛ بل كشفت المرأة باسم المدينة
…
والحرية في ديار الإسلام عن الساق والفخذ والرأس والصدر والظهر، وأظهرت تفاصيل ما سترته من جسدها بما يثير الفتنة، ويجعل العري أهون شرًّا منه"1.
وبعد:
هذه بعض الأمثلة من تفسير آيات الأحكام عند الشيخ مناع القطان؛ وإنما لم نذكر بعض الأحكام الأخرى التي وقع الخلاف فيها بين أهل السنة ومَن عداهم؛ لكون المؤلف لم يتناولها في تفسيره؛ إذ بدأ تفسيره -كما أشرنا- من سورة الأنعام وانتهى بسورة الأحزاب؛ فلم يكن شاملًا لسور القرآن، ولم يكن لأحكام السورة كلها متقصيًا، وهي -كما قلنا- فيمن سبقه ضريبة الالتزام بالمنهج الدراسي؛ إذ الكتاب مؤلَّف لطائفة من الطلاب، وليس تفسيرًا شاملًا، وفيما ذكرنا كفاية -إن شاء الله- للدلالة على اتجاه المؤلف، جزاه الله خيرًا، وأجزل له الأجر والمثوبة.
1- تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص101، 102.
خامسًا: قبس من التفسير الفقهي
أولًا: المؤلف
هو: الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد، ولم أعثر له على ترجمة.
ثانيًا: التفسير
هو قبس من التفسير الفقهي "بحوث في بعض آيات القرآن الكريم"، ومن عنوان الكتاب "قبس" و"بعض آيات" يتضح أن مادة الكتاب ما هي إلا بحوث فقهية في بعض آيات الأحكام في القرآن الكريم.
وإذا ما ألقينا نظرة على هذا التفسير وجدنا عدد صفحاته تبلغ 208 صفحة كَمًّا، وخمسة دروس -أو إن شئت
فقل: تفسير خمس آيات- كيفًا، والكتاب يُذَكرني بتفسير الجصاص وابن العربي والقرطبي في توسعهم في تفسير آيات الأحكام؛ حتى كادت تختلط بكتب الفقه، وأحسبه لو فسر آيات الأحكام كلها لجاء تفسيره هذا لا يقل عنها حجمًا أيضًا.
وقد وضح الدكتور الشافعي في مقدمة تفسيره هذا منهجه في التفسير بقوله: "ولما كان من الخطأ الذي يقع فيه البعض أن يقدم على بحث مسألة من المسائل، أو تقرير حكم من الأحكام، وفي ذهنه ترجيح مسبَق لبعض الآراء على بعضها الآخر، أو لديه حافز يغريه بالعمل على نصر فريق على آخر، ربما كان هذا الحافز ولاءه لمذهب من المذاهب أو حاكم من الحكام.
فإنني سوف أعمل ما وسعني من جُهْدٍ لتجنب هذا الخطأ، وسأعرض في تناولي لبعض آيات الأحكام بعض معاني مفرداتها من الناحية اللغوية والعربية
"كذا" بقدر ما يتصح بها المعنى، ثم أُجمل المعنى العام للآية الكريمة، وأربطها بما يسبقها، مع ذكر سبب نزولها إن
وجد.
وبعد ذلك أعرض لما تشتمل عليه من أحكام في مسألة أو مسائل على حسب ما يقتضيه المقام، وسأذكر -إن شاء الله- المسألة والآراء فيها، وأدلة كل رأي، والمناقشات التي وردت عليها، ثم إن بدا لي ترجيح بعضها فعلت، وإلا فحسبي أنني ذكرت الأدلة ومناقشاتها من مصادرها المختلفة، ثم صغتها في عبارة سهلة ميسرة، وترتيب حَسَنٍ، يعطي فكرة شاملة للموضوع كله"1.
وقسم تفسيره إلى خمسة دروس، تناول في كل درس آية من آيات الأحكام، هن -حسب ورودها عنده- كما يلي:
الدرس الأول: في الحج
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} 2، وجاء في 52 صفحة.
الدرس الثاني: المحافظة على أموال السفهاء واليتامى
تفسير قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} 3، وجاء في 50 صفحة.
الدرس الثالث: القتل الخطأ وما يتعلق به من أحكام
تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} 4 الآية، وجاء تفسيرها في 53 صفحة.
الدرس الرابع: بعض أحكام القتل العمد:
1 قبس من التفسير الفقهي: الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد ص4.
2 سورة آل عمران: الآيتين 96، 97.
3 سورة النساء: الآيتين 5، 6.
4 سورة النساء: من الآية 92.
تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1، وجاء تفسيرها في 24 صفحة.
الدرس الخامس: قصر الصلاة في السفر:
هذه هي الدروس الخمسة، وهذه هي الآيات الخمس أو تزيد، وكما أنه لا يسعنا أن نورد مثالًا كاملًا لتفسير آية فإنه لا يسعنا إلا أن نورد عرضًا لتفسير درس من دروسه؛ حتى نرى عمق الأبحاث الفقهية فيه، والتي قد لا تجدها في كبير كتب الفقه، ومثال ذلك:
الدرس الثاني: المحافظة على أموال السفهاء واليتامى:
ذكر أولًا نص الآية، ثم صلتها بما قبلها، ثم معاني المفردات، ثم المعنى العام للنص الكريم، وكل هذه الأبحاث التفسيرية حقًّا لم تتجاوز تسع صفحات، أما البقية فعقد بحثًا عنوانه:"بعض المطالب التي يتضح من خلالها ما في النص الكريم من أحكام"، ومن هذه المطالب:
المطلب الأول: في الحجر على السفيه:
بيَّن فيه معنى الحجر لغةً واصطلاحًا، ومعنى السفه كذلك، ثم آراء العلماء في الحجر على السفيه، وبسط أدلة كل قول من الكتاب والسنة، ثم بحث في مَن يضرب الحجر على السفيه.
المطلب الثاني: في تصرفات السفيه:
تحدث عن تصرفاته قبل الحجر عليه، ثم بعد الحجر عليه، وقسم الأخير
1 سورة النساء: الآية 93.
2 سورة النساء: من الآية 101.
إلى تصرفات فيما ليس بمال، وتصرف بما كان ماليًّا، وتصرف بما يُفضي إلى المالية، وبحث كل نوع على حدة.
والمطلب الثالث: الإنفاق على السفهاء
وفصَّل القول فيه، وذكر أقوال العلماء وأدلتهم.
المطلب الرابع: كيفية اختبار اليتامى، وشروط دفع أموالهم إليهم؛ فتحدث أولًا عن كيفية اختبارهم، ثم ثانيًا عن شروط دفع المال إلى اليتيم، فذكر أقوال العلماء في الشرط الأول "بلوغ النكاح"، وفصَّل القول فيه، ثم في الشرط الثاني "إيناس الرشد"، ثم ذكر الخلاف في شرط ثالث.
ثم تحدث عن تصرف المرأة في مالها، وذكر آراء العلماء وأدلتهم، ثم عن الإشهاد على الدفع، ثم تحذير للأولياء.
المطلب الخامس: ما يحل للأولياء من مال اليتامى
ذكر فيه أقوال العلماء في المخاطَب بهذه الآية: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية، وأدلة كل قوم، ثم عقد بحثًا عنوانه: التكييف الفقهي لما يأكله الولي، والقول بأنه أجره، ثم بحث ما وُجِّهَ لهذا الرأي من نقد، ثم القول بأنه قرض، ثم القول بأنه رزق للأولياء، ثم استنتاج.
ومن هذا العرض للأبحاث التي تناولها عند تفسير الآية السالفة يتضح لنا مدى تعمقه في الأبحاث الفقهية؛ حتى يحسبه القارئ كتابًا في الفقه، قدَّم صاحبه لكل درس فيه بآية وبعض تفسير لها.
ومعذرة إذا كان عرضي لهذا التفسير من دون ذكر أمثلة، فما تركت ذلك إلا خشية الإطالة، وفيما عرضت بيان لمنهجه، وفيه الكفاية والسداد إن شاء الله.
سادسًا: دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام
أولًا: المؤلف:
هو: الدكتور كمال جودة أبو المعاطي.
مدرس الفقه المقارن، بكلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، وهو أيضًا لم أجد له ترجمة.
ثانيًا: التفسير:
دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، صدرت الطبعة التي بين يدي سنة 1400، وعدد الصفحات 181 صفحة بدون الفهارس.
لخص المؤلف طريقته فيه بقوله: "فهذه دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، وقد حاولت في هذه الدراسات تفسير الآيات المختارة بما قاله علماء التفسير القدامى منهم والمحدثون، مرجحًا ما رأيته جديرًا بالترجيح، ومضعفًا ما كان جديرًا بالتضعيف.
كما حاولت المحافظة على الأسلوب العلمي الرصين والممتاز لأعلام المفسرين، موضحًا ما يحتاج إلى توضيح، وقد نسقت ذلك كله في صورة ميسرة تُوفر على الدارس الكثير من العناء والجَهْد"1.
وهذا التفسير قريب من سابقه؛ فقد قسمه مؤلفه إلى أربعة أبواب، تناول في
1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: الدكتور كمال جودة أبو المعاطي ص3.
الباب الأول أربع آيات من سورة الأنفال، وفي الباب الثاني ثماني آيات من سورة التوبة، وفي الباب الثالث مثلها من سورة النحل، وفي الباب الرابع آيتين من سورة الإسراء، وآية من سورة الكهف.
ومن هذا يظهر أنه غير شامل لسور القرآن؛ بل ولا لآيات الأحكام في السور التي تناولها؛ وإنما قصد صاحبه فيه الاختصار.
والمؤلف يقدِّم أحيانًا تمهيدًا للسورة التي يتناول آيات الأحكام منها، ثم يتناول الآية الأولى تحت عنوان الفصل الأول، أما الأبحاث التي يعقدها تحت هذه الفصول عادة فهي: مبحث في توضيح بعض المفردات، ومبحث في أسباب النزول، ومبحث فيما يُستنبط من الآية، وأحيانًا يربط الآية بما قبلها، وأحيانًا يُجْمِلُ معنى الآية، وعدة أبحاث في دراسات فقهية للآية التي يتناولها.
مثال من تفسيره:
وهذه بعض الأمثلة من تفسيره:
خمس الغنائم:
وذلك في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 1 الآية.
قال: "المبحث الأول: في توضيح بعض المفرادات:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} والغنيمة في اللغة: ما ينال الرجل أو الجماعة بسعي، والمغنم والغنيمة بمعنى واحد، يقال: غنم القوم غنمًا ومغنمًا.
واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: {غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيَّناه؛ ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع
…
"2.
1 سورة الأنفال: من الآية 41.
2 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص20.
المبحث الثاني: في كيفية قسمة الغنائم: وقال فيه: "اعلم أن هذه الآية يقتضي أن يُؤخذ خمسها، وفي كيفية قسمة ذلك الخمس قولان:
الأول: وهو المشهور أن ذلك الخمس يخمس؛ فسهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب، دون بني شمس وبني نوفل
…
وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعند الشافعي رحمه الله أنه يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله يُصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين؛ كعدة الغزاة من الكراع والسلاح، وسهم لذوي القربى -أغنيائهم وفقرائهم- يُقسَّم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للفِرَق الثلاثة؛ وهم: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقال أبو حنيفة: إنه بعد وفاة الرسول عليه السلام سهمه ساقط بسبب موته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة بسائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم، فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل، وقال مالك: الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام، إن رأى قسمته على هؤلاء فعل، وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض فله ذلك.
واعلم أن ظاهر الآية مطابق لقول الشافعي رحمه الله وصريح فيه، لا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفصل أقوى منها، وكيف وقد قال في آخر الآية {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّه} ؟ يعني: إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة لم يحصل الإيمان بالله.
القول الثاني: وهو قول أبي العالية أن خمس الغنيمة يقسم على ستة أقسام؛ فواحد منها لله، وواحد لرسول الله، والثالث لذوي القربى، والثلاثة الباقية لليتامى والمساكن وابن السبيل، والدليل عليه أنه تعالى جعل خمس الغنيمة لله ثم للطوائف الخمسة
…
"1.
1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص22، 23.
المبحث الثالث:
تناول فيه هذه الآية من حيث إنها منسوخة أو محكمة، ورجح أن الآية محكمة غير منسوخة
المبحث الرابع: في الباقي من الغنيمة بعد الخمس
قال فيه: "لما بيَّن الله عز وجل حكم الخمس، وسكت عن الأربعة الأخماس، دل ذلك على أنها ملك للغانمين
…
وذلك ما لا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، على ما حكاه ابن العربي في "أحكامه" وغيره1.
المبحث الخامس:
وفيه معنى الآية الإجمالي، وذكر أيضًا ما يستفاد منها
فقال في المعنى الإجمالي: "واعلموا -أيها المسلمون- إن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه أن يقسم خمسة أخماس: خمس منها لله وللرسول ولقرابة النبي واليتامى؛ وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين؛ وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل؛ وهو المنقطع في سفره المباح، والمخصص من خمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته والإمام بعد وفاته، وباقي الخمس يصرف للمذكورين، وأما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة التي سكتت عنها الآية، فهي للمقتالين، فاعلموا ذلك، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقًّا، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد، ويوم الفرقان الذي فرقنا فيه بين الكفر والإيمان، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر، والله عظيم القدرة على كل شيء، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم، وخذل الكافرين مع كثرتهم"2.
وبهذا انتهى تفسيره للآية.
والمؤلف كثير النقل عن: الرازي والقرطبي وابن العربي وأبي السعود،
1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص25.
2 المرجع السابق ص26، 27.
والكتاب بحاجة لتوسعة بعض الأبحاث وتنقيح بعضها، وإصلاح بعض جُمَلِه من حيث اللغة، وحبذا لو قام صاحبه بتفسير بقية آيات الأحكام، نفع الله به.
وبعد:
هذه هي المؤلفات في تفسير آيات الأحكام عند أهل السنة والجماعة، والتي اطلعت عليها.
وقد أجملت ما لاحظته عليها في أول هذا الفصل بما لا أرى موجبًا لإعادته.
بقي أن أقول هنا ما قلته عن تفسير أهل السنة والجماعة لآيات العقائد، فكما قلت هناك: إن الحاجة ماسة لتأليف تفسير يُعْنَى بآيات العقائد، ويرد فيه على شبهات الخصوم وتأويلات الباطنية الباطلة؛ فإن الحاجة هنا أيضًا لا تقل عنها درجة في كتابة تفسير لا يلتزم منهجًا مدرسيًّا يقيد صاحبه؛ بل ينظر في مجتمعه فيفسر آياته بما يبرز علاجها لأمراضه، وينظر أخرى فينفي عنها التأويلات الزائفة للفِرَق الضالة، وينظر ثالثة فينشر أريجها بين المسلمين، داعيًا إلى امتثالها، ودفع وإزالة ما يعوق تطبيقها في المجتمعات الإسلامية كافة
…
وإنا لمنتظرون.