الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتفكر والتذكر والتدبر؛ ولهذا فإنا نرى القرآن الكريم يحث أحيانًا كثيرة على نتاج العقل؛ إذ هو المراد وهو المقصود؛ ولذلك نرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: "فالعقل لا يُسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم؛ بل إنما يُسمى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم؛ ولهذا قال أهل النار:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1، وقال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 3.
لا أريد أن أقول: إن هذا هو العقل بكل إطلاقاته، فلا ماشحة في الاصطلاح؛ ولكن أريد أن أقول: هذا ما أحسبه المراد بالعقل في القرآن الكريم، وهذا هو العقل الذي يخاطبه ويوجه إليه أوامره كتابُ الله، ومن حُرِمَ منه فقد حُرِمَ، أما من حُرِمَ الأول -أعني: الغريزي- فهو غير مكلف، وبالتبع غير مخاطب، جعلنا الله وإياكم ممن يسمعون كلامه فيعقلونه.
1 سورة الملك: من الآية 10.
2 سورة الحج: من الآية 46.
3 رسالة في العقل والروح: لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية ج2 ص34.
مكانة العقل في الإسلام:
وللعقل بعد هذا في الإسلام منزلة كبيرة ودرجة رفيعة، يتبوأ فيها ويتفيأ ظلالها، فليس ثمة عقيدة تحترم العقل الإنساني وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية، وليس ثمة كتاب خاطب العقل وغالَى بقيمته وكرامته ككتاب الإسلام، ونظرة إلى آيات القرآن الكريم تلقى عبارات {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} {لِقَوْمٍ يَفْقَهُون} تتكرر عشرات المرات، مؤكدة المنهج القرآني الفريد في الاقتناع العقلي للإيمان، كل هذا يؤكد ما للعقل من منزلة كبرى في الإسلام.
وإذا ما ذهبت تلتمس مظاهر أخرى عديدة لتكريم الإسلام للعقل برزت لك جوانب مشرقة؛ أذكر منها:
أولًا: قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي: وتظهر سمات ذلك بأساليب شتى؛ مثل:
1-
الدعوة إلى التفكر والتدبر في كتابه {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1، ثم يستثير العقل الإنساني متحديًا له أن يأتي بمثل هذه القرآن، حتى إذا ما عجز سلَّم مقتنعًا بأنه من عند الله {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} 2، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 3.
ودعا العقل إلى التدبر في مخلوقات الله {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} 4، ثم يستثيره مرة أخرى أن يجد خللًا في شيء منها حتى إذا ما عجز زاد تسليمًا واقتناعًا {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير} 5.
ودعاه إلى التدبر في تشريعاته، ففيها عبرة وفيها إعجاز {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 6.
ودعاه إلى التدبر والنظر في أحوال الأمة الماضية وعاقبة معاصيهم التي أصروا عليها {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 7، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ
1 سورة ص: آية 29.
2 سورة هود: آية 13.
3 سورة الطور: آية 34.
4 سورة الروم: آية 8.
5 سورة الملك: آية 3، 4.
6 سورة البقرة: آية 179.
7 سورة الأنعام: آية 11.
وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين} 1.
ودعاه إلى التدبر والنظر والتأمل في هذه الحياة الدنيا ونعيمها الزائل {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} 2.
هذه بعض مظاهر التأمل التي دعا القرآنُ العقلَ إليها، وهو حين يدعوه إلى ذلك لا يريد منه أن يقف عند حدود التأمل والنظر، فليس ذلك بمراد لذاته؛ وإنما ليعبر منه إلى ثمرته وفائدته؛ فيقوِّم به عقيدته، ويرسي أركانها، ويثبت قواعدها ثباتًا لا تزعزعه هبات؛ بل رياح الشهوات؛ وحينئذ يكون الفلاح، وحينئذ يكون الإيمان الحق؛ ذلكم هو المراد وهو الهدف؛ لكنه ليس هو نهاية المطاف.
ثانيًا: وحين يصل القرآنُ بالعقل إلى هذه الدرجة فإنه لا يدعه هملًا؛ بل وجه طاقته إلى هدف آخر أوسع رُقعة وأعظم نتيجة؛ تلكم هي مراقبة الحياة الاجتماعية مراقبة إصلاح وتوجيه لما فيه فلاحها وسعادتها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3.
وليست هذه المهمة لإصلاح المجتمع مسئولية المجتمع كله فحسب؛ بل هي مسئولية كل فرد فيه، فلا قيمة للصلاح إذا اقتصر على إصلاح الذات ولم يتسع لإصلاح الآخرين مع القدرة على ذلك {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 4، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 5.
1 سورة الأنعام: آية 6.
2 سورة الكهف: آية 45.
3 سورة آل عمران: آية 104.
4 سورة الأنفال: آية 25.
5 سورة المائدة: الآيتين 78، 79.
ثالثًا: والقرآن حين يدعو إلى الإيمان ينعى على المقلدين الذين لا يُعملون عقولهم، ويتبعون نظريات واهية وآراء زائفة، لا لشيء إلا لأنهم ألفوا آباءهم عليها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 1، وحذر من هذا السلوك، وأن يتبع الإنسان ما ليس له به علم {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 2.
رابعًا: وكرَّمه ودعاه إلى العلم، وطلبه وقرن سبحانه ذِكْرَ أولي العلم بذِكْرِه عز وجل وذِكْرِ ملائكته {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3.
وجعل العلم مشاعًا؛ لأنه غذاء العقل، ولعن أولئك الذين يحتكرونه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 4.
خامسًا: وكرَّمه فأسند إليه استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع.
سادسًا: وتوَّج تكريمه له بالأمر بالمحافظة عليه، وتحريم كل ما يغطي فعله وأثره، فضلًا عما يزيله؛ فحرم شرب الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 5، وجعل فيه الدية كاملة على مَن تسبب في إزالته عن آخره6.
1 سورة البقرة: الآية 170.
2 سورة الإسراء: الآية 36.
3 سورة آل عمران: الآية 18.
4 سورة البقرة: الآيتين 159، 160.
5 سورة المائدة: من الآية 90.
6 انظر: المغني: لابن قدامة ج8 ص37.
لكن الإسلام مع هذا التكريم كله وهذا الاهتمام حَدَّ للعقل حدودًا، هي كل ما يستطيع تبيينه، وحذره من الولوج فيما لا يستطيع إدراكه؛ خشية عليه، وحرصًا على سلامته حتى لا يضل، وكيف له وهو المخلوق أن يدرك ذات الخالق؟! بل أنَّى له أن يدرك كل المخلوقات؟! فليؤمن بما استطاع إدراكه، وليبني على ما أدرك ما لم يدرك، وما أعظمها من شفقة حين قال عليه الصلاة والسلام:"لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خَلَقَ الله الخَلْق فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا؛ فليقل: آمنت بالله"1.
وما أعظمه من توجيه {يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 2، صرف الجواب عن ماهيتها؛ لأنه ليس من شئون العقل ولا من مداركه.
توجيه وشفقه هما التوجيه السديد حتى لا يتيه العقل فيما ليس من دركه، وليس من طاقته، وهما لا شك تكريم وأي تكريم.
ولذا، كذا الصحابة رضي الله عنهم لا يخوضون فيما لا يستطيعون دركه ومعرفته؛ فهذا عمر رضي الله عنه يقرأ على المنبر:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 3، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبُّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر4.
وليس هذا من عمر بالتسليم الأعمى -كما يعبر عنه- أو بمطلق التقليد؛ بل هو وقوف منه عند حد المعرفة، وإعراض عما زاد عنها مما هو تكلف، فهو وغيره يعرف أن "أبًّا" نبت يخرج من الأرض؛ بدليل سياق الآيات {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا} 4 الآيات.
1 رواه مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص119.
2 سورة الإسراء: من الآية 85.
3 سورة عبس: الآية 31.
4 مجموع فتاوى ابن تيمية ج13 ص372.
والأمثلة على وقوف السلف عند حدود المعرفة الواجبة وتَرْك التكلف فيما بعد ذلك كثيرة.
وعلى هذا مضى المسلمون في العصر الأول من الإسلام، عرفوا ما للعقل فدرسوه، وما ليس له فاجتنبوه؛ بل اجتنبوا مَن عُرف بالأهواء والسؤال عن المتشابه، فهذا "صبيغ بن عسل" جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قَدِمَ مصر؛ فبعث عمرو بن العاص به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه قال: أين الرجل؟ أبصر لا يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الوجيعة، فأتى به؛ فقال عمر: سبيل محدثة؛ فضربه وأعاده إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: ألا يجالسه أحد من المسلمين، قال أبو عثمان النهدي: فلو جاءنا ونحن مائة لتفرقنا عنه1.
ثم لم تزل هذه الأمور تتسع حتى تكلم معبد بن خالد الجهني في القَدَر، فقال:"لا قَدَر والأمر أُنُف"2، وقد أخذ عن معبد هذا غيلان الدمشقي3 -الذي نشره بين المسلمين، وقُتل من أجله- وقد أنكر عليهم مذهبهم هذا مَن كانه حيًّا من الصحابة؛ كعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني4.
وأساس مذهب القدرية إنكار القدر، وأن للإنسان الحرية المطلقة في أفعاله، لا سلطان لأحد على إرادته.
وفي مقابل هؤلاء نشأت فرقة أخرى تقول بأن الإنسان مجبور على الفعل، لا اختيار له ولا قدرة؛ كالريشة في الهواء، وتعددت الفِرَق بعد هذا وافترقت.
1 تهذيب تاريخ ابن عساكر: هذَّبه عبد القادر بن أحمد الدومي المعروف بابن بدران ج6 ص385.
2 تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: لابن عساكر الدمشقي ص10.
3 تهذيب التهذيب: ابن حجر ج1 ص236.
4 الفَرْق بين الفِرَق: عبد القاهر البغدادي ص15.