الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولها: الهزيمة الداخلية
…
إلخ.
ثانيها: سوء فَهْم طبيعة القرآن ووظيفته
…
إلخ.
ثالثها: التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن
…
إلخ.
فإذا كان رحمه الله وصف تعليق الآيات القرآنية بالحقائق العلمية بأنه خطأ منهجي، ومجرد محاولة التعليق للإشارات القرآنية بالنظريات والفروض العلمية بأنه خطأ منهجي أيضًا، وذكر فيه زيادة ما ذكر
…
فأين التأييد أو القبول عنده للتفسير العلمي؟
فإن قلت: إنه أيد الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها.
قلت: إن هذا لا يعد قبولًا للتفسير العلمي كتفسير؛ وإنما وهذا ما فهمته أن تذكر كشواهد لتوسيع المدلول، وفرق بين هذا وذاك، ويذكرني موقفه منه بموقف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- من الإسرائيليات؛ حيث ذكر أنها تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد1.
1 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص366.
الرأي المختار:
قبل أن أذكر الرأي الذي أميل إليه يجب أن أذكر حقيقة قد كنت أظنها لا تخفى إلى أن رأيت أحد الباحثين يقع في خلافها.
تلكم هي التفريق بين "التفسير العلمي" و"الإعجاز العلمي".
أما أولهما فهو مثار البحث والمناقشة، وأما ثانيهما فأحسبه أمرًا مسلمًا لا جدال فيه ولا إشكال.
ذلكم أن كتابًا أُنزل قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن، وعرض لكثير من مظاهر هذا الوجود الكونية؛ كخلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وسوق
السحب وتراكمه، ونزول المطر، وجريان الشمس والقمر، وتحدث عن الكواكب والنجوم والشهب وأطوار الجنين والنبات والبحار، وغير ذلك كثير، ومع ذلك كله لم يسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا بحد ذاته يعتبر إعجازًا علميًّا للقرآن.
هذه النتيجة المتولدة عن أن القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية، لم أرَ بين علماء المسلمين من أنكرها، لا في القديم ولا في الحديث، وكل ما يثار من ضجة وما يسطر في الصحف ما هو إلا عن التفسير العلمي لا عن الإعجاز العلمي.
فالإعجاز العلمي قاعدة صُلْبة يقف عليها المسلمون جميعًا بكل ثقة وكل أمن؛ لكن طائفة منهم قالت: ما دام الإعجاز العلمي متحققًا في القرآن وثابتًا فما علينا أن نطبقه بين آياته واحدة واحدة، وبين الحقائق العلمية واحدة واحدة.
وامتنعت طائفة أخرى عن تطبيقه لا خوفًا عليه من النقض، وليس خشية على حقائقه؛ ولكن لعدم الثقة في مداركنا نحن البشر؛ فقد نحسب نظرية علمية حقيقة علمية، فما تلبث قليلًا إلا وتتقوض بعد رسوخ وتتزعزع بعد ثبوت ولات حين مناص نقع في الحرج الشديد؛ فيكذب القرآن وهو الصادق فتكون البلية، فالعيب والنقص في مداركنا وليس في حقائق القرآن.
إذًا فالمسلمون جميعًا يقولون بالإعجاز العلمي للقرآن؛ ولكنهم يختلفون في التفسير العلمي. هذا ما أحببت الإشارة إليه وبيانه، وكنت أظن هذا من الوضوح بما لا يخفى حتى رأيت أحد الباحثين يعقد مبحثًا في رسالته، ويقسم العلماء إلى قسمين: الأول القائلين بالإعجاز العلمي للقرآن، والثاني المانعين من القول بالإعجاز العلمي، وساق نصوصًا لهؤلاء يرفضون بها التفسير العلمي، وحَسِبَهم ينكرون بها الإعجاز العلمي.
وإذا ما اتضح هذا، وحق لي أن أقول بعده الرأي الذي أميل إليه في التفسير العلمي؛ فإني أقول رأيًا ما فطرته ولا ابتدعته، وقاله قبلي كثيرون.
ذلكم أن الحق فيما أرى وسط بين مذهبين:
فلا رفض ولا إنكار للتفسير العلمي يمنع من:
1-
إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية إثبات التوافق بين حقائقه النهائية القاطعة، وبين ما يثبت من الحقائق العلمية التي لا يقبل ثبوتها أيَّ نوع من الشك.
2-
دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين الدين والعلم.
3-
استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق ببيان إعجازه العلمي لهم.
4-
الحث على الانتفاع بقوى الكون ومواهبه.
5-
امتلاء النفس إيمانًا بعظمة الله وقدرته حينما يقف الإنسان في تفسير كلام الله على خواص الأشياء ودقائق المخلوقات حسبما تصورها علوم الكون1، وحينما يرى الحقائق القرآنية ثابتة وصامدة تتكسر تحت أقدامها "النظريات" العلمية، وتعانقها بسلام "الحقائق" العلمية.
لا رفض يمنع هذا، ولا تسليم مطلقًا للتفسير العلمي؛ لأن:
1-
إعجاز القرآن ثابت، وهي غني عن أن يُسلك في بيانه هذا المسلك المتكلَّف الذي قد يذهب بالإعجاز، وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم2.
2-
أن الدعوة القرآنية إلى النظر في الكون والعلوم هي دعوة لعامة الناس وخاصتهم إلى موضع العبرة والعظة؛ ليهتدي الناس بها إلى خالقها وموجدها، وليس إلى بيان دقائقها وكشف علومها.
3-
أنه مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعاصرين؛ لأن عملية "التوفيق" تفترض غالبًا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان
1 مناهل العرفان في علوم القرآن: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص568، 569.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص159.
ولا عداء، أو يظن أنهما متلاقيان ولا لقاء؛ أعني: أنه لا ينبغي أن يحالف النجاح بصورة حتمية كل عملية من عمليات "التوفيق"1.
4-
أن تناول القرآن بهذا المنهج وبذلك المدى يضطر المفسر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص القرآني الكريم؛ لأنه يحس بالضرورة متابعة العلم في مجالاته المختلفة، مع أن كثيرًا من حقائق العلم مؤقتة ومتغيرة، ولا تظهر كلها دَفْعَة واحدة؛ بل تنكشف يومًا بعد يوم؛ وحينئذ يكون التعجل في تلمس المطابقة بين القرآن والعلم تعجلًا غير مشروع2.
5-
أن ما يكشف من العلوم إنما هو نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق؛ ومن ثم فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جيدة لمجموعة الملاحظات القديمة3؛ ومن ثم فلا يصح أن نعلق الحقائق القرآنية النهائية بمثل تلك النظريات حتى لا نقف محرجين عند ثبوت بطلان تلك النظرية.
أقول: لا رفض للتفسير العلمي مطلقًا ولا تأييد وتسليم له مطلقين؛ بل جمع بين حقيقتين: حقيقة قرآنية ثابتة بالنص الذي لا يقبل الشك، وحقيقة علمية ثابتة بالتجربة والمشاهدة القطعيين؛ ومن هنا كان المسلمون كلهم متفقين -كما أسلفنا- على أن القرآن الكريم لم ولن يصادم حقيقة علمية؛ وإنما يقع التصادم عندما ندعي حقيقة علمية في الكون وهي ليست حقيقة علمية، أو ندعي حقيقة قرآنية وهي ليست حقيقة قرآنية4.
1 معالم الشريعة الإسلامية: صبحي الصالح ص290.
2 الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت الشرقاوي ص443.
3 في ظلال القرآن: سيد قطب ج2 ص97.
4 معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي ص47.