المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فقد نزل معه أنصار، ونازله خصوم، وما زالت المعركة الفكرية - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ٢

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير

- ‌الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: فقه أهل السنة والجماعة

- ‌مدخل

- ‌تفاسير آيات الأحكام:

- ‌ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنى عشرية

- ‌فرض الرجلين في الوضوء

- ‌صلاة الجمعة:

- ‌خمس الغنائم:

- ‌نكاح المتعة:

- ‌نكاح المشركات والكتابيات:

- ‌الحجاب:

- ‌إرث الأنبياء:

- ‌قطع يد السارق:

- ‌ثالثا: فقه الأباضي

- ‌مدخل

- ‌مسح الرجلين:

- ‌نكاح الكتابيات:

- ‌الإصباح على جنابة:

- ‌الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌التفسير بالمأثور في القرن الرابع عشر الهجري:

- ‌أولا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن

- ‌مدخل

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌ثانيا: الموجز في تفسير القرآن الكريم

- ‌منهجه في التفسير

- ‌أمثلة من تفسيره:

- ‌الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌تعريفه:

- ‌موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌رأي المؤيدين:

- ‌رأي المعارضين:

- ‌موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي

- ‌مدخل

- ‌أقوال المؤيدين:

- ‌أقوال المعارضين:

- ‌الرأي المختار:

- ‌أهم المؤلفات

- ‌نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:

- ‌أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي

- ‌أولا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم

- ‌ثانيًا: كشف الأسرار النورانية القرآنية

- ‌ثالثًا: الكون والإعجاز العلمي للقرآن

- ‌رابع: مع الطب في القرآن الكريم

- ‌خامسًا: الإعجاز العددي للقرآن الكريم

- ‌رأيي في هذه المؤلفات:

- ‌الباب الثالث: منهج المدرسة الاجتماعية الحديثة في التفسير

- ‌تمهيد

- ‌المراد به:

- ‌العقل في القرآن:

- ‌مكانة العقل في الإسلام:

- ‌نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة:

- ‌منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌الأساس الأول: الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم

- ‌الأساس الثاني: الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية

- ‌الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير

- ‌الأساس الرابع: إنكار التقليد وذمه والتحذير منه

- ‌الأساس الخامس: التقليل من شأن التفسير بالمأثور

- ‌الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات

- ‌الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع

- ‌الأساس الثامن: الشمول في القرآن الكريم

- ‌الأساس التاسع: التحذير من الإطناب

- ‌الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌الحريَّة:

- ‌التحذير من البدع والمنكرات في العقائد:

- ‌الجانب التهذيبي:

- ‌الإصلاح الاقتصادي:

- ‌قضية المرأة:

- ‌أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير

- ‌مدخل

- ‌أولا: تفسير القرآن الكريم المشهور "بتفسير المنار

- ‌أولا: المؤلف

- ‌ثانيا: التفسير

- ‌ثانيًا: تفسير جزء تبارك

- ‌أولًا: المؤلف

- ‌ثانيًا: التفسير

- ‌رأيي في هذا المنهج:

الفصل: فقد نزل معه أنصار، ونازله خصوم، وما زالت المعركة الفكرية

فقد نزل معه أنصار، ونازله خصوم، وما زالت المعركة الفكرية قائمة لم تهدأ لها ثائرة، ولم تقعد لها قائمة، ولم تطفأ لها نار.

وما دام حديثنا هنا محصورًا في العصر الحديث، فإنه لا يسعنا ونحن ندخل معركة طال عمرها، وسد الأفق غبارها، إلا وأن يكون لدينا علم ومعرفة بما قاله السابقون من الأنصار والخصوم؛ حتى نبدأ الطريق من أوله، ونأتي البيوت من أبوابها.

وبما أن الإمام الغزالي من أوائل المتكلمين في ذلك، وهو أيضًا من المؤيدين والمروجين لهذا اللون من التفسير؛ فإنا نبدأ بذكر آراء المؤيدين وبرأيه هو قبلهم.

ص: 551

‌رأي المؤيدين:

ونذكر من هؤلاء المؤيدين لهذا التفسير العلمي عددًا من العلماء المسلمين، الذين أظهروا تأييدهم له وأعلنوه، وكانوا من أوائل مطبقيه على نصوص القرآن الكريم؛ ومن هؤلاء:

الإمام الغزالي:

وقد بسط القول في هذا في كتابيه: إحياء علوم الدين، وجواهر القرآن، فقد عقد في أولهما الباب الرابع من كتاب آداب تلاوة القرآن في:"فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل"، دلل فيه على أن القرآن يشتمل على مجامع العلوم كلها، فقال مثلًا:"اعلم أن مَن زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه؛ ولكنه مخطئ في الحكم برد الخَلْق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه؛ بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا للأرباب الفهم، قال علي رضي الله عنه: "إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن"، فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للقرآن ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا"1.

1 سئل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن حديث: "للقرآن باطن، وللباطن باطن إلى سبعة أبطن"، فقال:"أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلقة، التي لم يروها أحدٌ من أهل العلم، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث؛ ولكن يُروَى عن الحسن البصري موقوفًا أو مرسلًا "أن لكل آية ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا". مجموع الفتاوى: لابن تيمية ج13 ص231، 232، وانظر ما كتبته عن الظاهر والباطن في منهج أهل السنة والجماعة.

ص: 551

ويُروى أيضًا عن ابن مسعود موقوفًا عليه، وهو من علماء التفسير، فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع؟ وقال علي -كرم الله وجهه-:"لو شئت لأوقرت سبعين بعيرًا من تفسير فاتحة الكتاب"، فما معناه وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار، وقال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهًا، وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فَهْم، وما بقي من فهمها أكثر، وقال آخرون: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف؛ إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع، وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم" عشرين مرة1، لا يكون إلا لتدبره باطن معانيها، وإلا فترجمتها وتفسرها ظاهر لا يحتاج مثله إلى تكرير، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"؛ وذلك لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر.

وبالجملة، فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها، والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فَهْم القرآن، ومجرد ظاهر التفسير لا يشير إلى ذلك؛ بل كل ما أشكل فيه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات، ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفَهْم بدركها"2.

ثم زاد ذلك بيانًا وتفصيلًا في كتابه جواهر القرآن، وقد اختصر حديثه هذا الأستاذ أمين الخولي3، واختصره أحسن منه الشيخ محمد حسين الذهبي،

1 رواه أبو ذر الهروي في معجمه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف. "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" للحافظ زين الدين العراقي، ضمن إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج1 ص289.

2 إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي ج1 ص296.

3 التفسير معالم حياته، منهجه اليوم: أمين الخولي ص20، 21.

ص: 552

فقال رحمه الله تعالى: "ثم إننا نتصفح كتابه "جواهر القرآن" الذي ألفه بعد الأحياء كما يظهر لنا من مقدمته؛ فنجده يزيد هذا الذي قرره في الإحياء بيانًا وتفصيلًا؛ فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها، وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها لا نطيل بذكرها، ويكفي أن نقول: إنه قسم علوم القرآن إلى قسمين:

أولًا: علم الصدف والقشر، وجعل من مشتملاته: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف، وعلم التفسير الظاهر.

والثاني: علم اللباب، وجعل من مشتملاته: علم قصص الأولين، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر، والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك.

ثم يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن؛ فيذكر علم الطب والنجوم وهيئة العالَم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه وعلم السحر وعلم الطلسمات وغير ذلك.

ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالَم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها؛ بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحية التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود واندرست الآن؛ فلن يوجد في هذه الأمصار على بسيط الأرض مَن يعرفها، وعلوم أخرى ليس في قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، والإمكان في حق الملَك محدود إلى غاية في الكمال، بالإضافة كما أنه في حق البهيمة محدود إلى غاية في النقصان1؛ وإنما الله سبحانه هو الذي لا يتناهى العلم في حقه".

ثم يقول بعد ذلك: "ثم هذه العلوم -ما عددناها وما لم نعدها- ليست

1 فيما نقله الشيخ الذهبي -رحمه الله تعالى- هنا سقط "سبق نظر" أصلحتُه من مرجعه.

ص: 553

أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادًا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى -وهو بحر الأفعال1- مثلًا الشفاء والمرض؛ كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 2، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله؛ إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه.

ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان} 3، وقال:{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} 4، وقال:{وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} 5، وقال:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} 6، وقال:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7.

ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما، وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا مَن عرف هيئات تركيب السماوات والأرض، وهو علم برأسه، ولا يعرف كمال معنى قوله:{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 8 إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها، وهي من علوم الأولين والآخرين، وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين.

وكذلك لا يعرف كمال

1 إن كان الضمير "هو" يرجع إلى لفظ الجلالة فإن "بحر الأفعال" ليست من أسمائه، ولا من صفاته عند السلف.

2 سورة الشعراء: من الآية 80.

3 سورة الرحمن: من الآية 5.

4 سورة يونس: من الآية 5.

5 سورة القيامة: الآيتين 8، 9.

6 سورة الحج: من الآية 61.

7 سورة يس: من الآية 38.

8 سورة الانفطار: الآيات 6، 7، 8.

ص: 554

معنى قوله: {سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 1 ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غاضمة يغفل عن طلبها أكثر الخَلْق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالِم بها، ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا تمكن الإشارة إلا إلى مجامعها

فتفكر في القرآن، والتمس غرائبه؛ لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين وجملة أوائله"2.

هذه بعض نصوص الإمام الغزالي، وإذا ما تأمل متأمل فيها وجد في نصوصه نحو قوله:"وفي القرآن إشارة إلى مجامعها"، "ففي القرآن إليه رموز وعلامات ودلالات عليه"، "ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة من القرآن"، وأخيرًا قوله:"وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين".

وللمتأمل أن يسأل عن موقف الغزالي؛ إذ إن هذه النصوص الدالة على أن في القرآن رموز

وعلامات

ودلالات وأوائل

ومجامع العلوم لا تدل دلالة كاملة على موقف صاحبها، وإن كانت صريحة في تأييد التفسير العلمي، إلا أنها تقصر عن تحديد مدى هذا التأييد، ولا يهمنا الأمر بقدر ما يهمنا أن هذه النصوص للإمام الغزالي -وهي من أقدم النصوص التي بين أيدينا من هذا النوع- تدل على أن قائلها قد وضع الأسس النظرية للتفسير العلمي، وبعبارة أخرى أصرح وأوضح: إن الغزالي روَّج للتفسير العلمي، ومهد السبيل لمن أراد سلوكه وإن كان هو لم يسكله؛ لكن جاء مِن بعده وقريب منه مَن التزم هذا النوع التزامًا بلغت درجته فيه أن قيل عن تفسيره فيه كل شيء إلا التفسير، ذلكم هو الفخر الرازي.

رأي الفخر الرازي "ت 606هـ":

والرازي نفسه يحس أنه مكثر من هذا النوع من التفسير؛ فيفترض اعتراضًا ويرد عليه؛ فيقول في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

1 سورة الحجر: من الآية 29.

2 جواهر القرآن: لأبي حامد الغزالي ص30.

ص: 555

وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 1 الآية: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله تعالى من علم الهيئة والنجوم وذلك ع، لى خلاف المعتاد؛ فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله عز وجل حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه:

الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزًا لما ملأ الله كتابه منها.

والثاني: أن تعالى قال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 2، فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها، ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها، وكيف خلق كل واحد منها.

والثالث: أنه تعالى قال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3، فبيَّن أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس.

الرابع: أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض، فقال:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} 4، ولو كان ذلك ممنوعًا منه لما فعل.

الخامس: أن مَن صنف كتابًا شريفًا مشتملًا على دقائق العلوم العقلية والنقلية؛ بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق، فالمعتقدون في شرفه وفضيلته

1 من سورة الأعراف: من الآية 54.

2 سورة ق: الآية 6.

3 سورة غافر: الآية 57.

4 سورة آل عمران: الآية 191.

ص: 556

فريقان؛ منهم مَن يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين، ومنهم مَن وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال، إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى، وأيضًا فكل مَن كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل"1.

ولذلك فإن الرازي وقد أبدى رأيه في التفسير العلمي، فإنه أكثر من تطبيقه في تفسيره، وتناول شتى العلوم والمعارف مما يبوئه درجة متقدمة في صفوف مؤيدي التفسير العلمي؛ بل بين متطرفي أنصاره.

رأي الزركشي "ت 794هـ":

ومن المؤيدين أيضًا الإمام بدرالدين الزركشي، متأثرًا -فيما يبدو لي- بموقف الإمام الغزالي؛ لاتحاد الأدلة وبعض العبارات؛ فقد أورد الزركشي بعض الأقوال التي أوردها الغزالي؛ كقول بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فَهْم، وما بقي من فهمها أكثر، وقول آخر: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ لكل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة؛ إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع

ثم عقب الزركشي عن هذه الأقوال وغيرها بقوله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله، فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالًا رحبًا، ومتسعًا بالغًا، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل، والسماع لا بُدَّ منه في ظاهر التفسير؛ ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تُفهم إلا باستماع فنون كثيرة

"2.

بل إن الإمام الزركشي -رحمه الله تعالى- عقد فصلًا خاصًّا عنونه بقوله: "في القرآن علم الأولين والآخرين"، وقال فيه: "وفي القرآن علم الأولين

1 التفسير الكبير: الفخر الرازي ج14 ص121.

2 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص154، 155.

ص: 557

والآخرين، وما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهمه الله تعالى

"1.

رأي السيوطي "ت 911هـ":

وذهب الإمام السيوطي إلى نحو ما ذهب إليه الإمامان: الغزالي والزركشي، وزاد على أدلتهما أدلة أخرى، وقد

أفرد النوع الخامس والستين من أنواع علوم القرآن في العلوم المستنبطة من القرآن، ودلل لذلك بقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وقال سبحانه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 3، وقال صلى الله عليه وسلم:"ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين، وقال البيهقي: يعني أصول العلم4.

وقال أيضًا: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل، إلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السماوات والأرض، وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى، وبدء الخلق، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة، وعيون أخبار الأمم السالفة، إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات"5.

رأي ابن أبي الفضل المرسي:

وأورد السيوطي -رحمه الله تعالى- لتأييد مذهبه نصًّا طويلًا لابن أبي الفضل المرسي، قال فيه عن القرآن الكريم:"قد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل؛ مثل: الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك"6.

1 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص181.

2 سورة الأنعام: من الآية 38.

3 سورة النحل: من الآية 89.

4 الإتقان في علوم القرآن: للإمام السيوطي ج2 ص125، 126.

5 المرجع السابق: ج2 ص129.

6 الاتقان: الإمام السيوطي ج2 ص127.

ص: 558