الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(68) مسند جعفر بن أبي طالب
(1)
وهو حديث الهجرة إلى النَّجاشيّ.
(1235)
حدّثنا أحمد قال: حدّثنا يعقوب قال: حدّثنا أبي عن محمد بن إسحق قال: حدّثني محمد بن مسلم بن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أمِّ سلمة زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت:
لما نَزَلْنا أرضَ الحبشة جاورْنا بها خيرَ جارٍ: النَّجاشيّ، أمِنّا على ديننا، وعبَدْنا اللَّه لا نُؤذَى ولا نسمعُ شيئًا نكرهُه. فلمّا بلغ ذلك قُريشًا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشيّ فينا رجلين جَلْدَين (2)، وأن يُهدوا للنجاشيّ هدايا ممّا يُسْتَطْرَفُ من مَتاع مكّة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدَمُ (3)، فجمعوا له أَدَمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بِطريقًا إلّا أهدَوا له هديّة، ثم بعثوا بذلك مع عبد اللَّه بن أبي ربيعة المخزوميّ وعمرو بن العاص، وأمروهما أمرَهم، وقالوا لهما: ادفَعوا إلى كلّ بطريق هديّته قبلَ أن تُكَلِّموا النجاشيَّ فيهم، ثم قدّموا للنجاشيّ هداياه، ثم سَلُوه أن يُسْلِمَهم إليكم قبل أن يُكلِّمَهم.
قال: فخرَجا فقَدِما على النجاشيّ ونحن عندَه بخير دار وخير جار، فلم يبقَ من بطارقته بِطريقٌ إلا دَفَعا إليه هديَّته قبل أنْ يُكَلِّما النجاشيّ، ثم قالا لكلّ بِطريق: إنّه قد صَبَأ (4) إلى بلد الملك منا غلمانٌ سفهاءُ، فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مُبْتَدَع لا نعرفُه نحن ولا أنتم، قد بَعَثَنا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم لِيَرُدُّوهم إليهم، فإذا كلَّمْنا الملك فيهم فأشِيروا عليه بأن يُسلِمَهم إلينا ولا يُكَلِّمَهم، فإن قومهم أعلى بهم عينًا وأعلمُ بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم إنّهما قرّبا هداياهم إلى النجاشيّ
(1) الطبقات 4/ 24، ومعرفة الصحابة 2/ 51، والآحاد 1/ 275، والاستيعاب 1/ 211، وتهذيب الكمال 1/ 464، والسير 1/ 206، والإصابة 1/ 239.
(2)
الجلد: القويّ.
(3)
الأَدم: الجلد.
(4)
صبا: مال. وصبأ: خرج من دين قومه.
فقبلها منهما، ثم كلّماه فقالا له: أيّها الملك، إنه قد صَبَأَ إلى بلدك منّا غلمان سفهاءُ فارقوا دينَ قومِهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لِتَرُدَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلمُ بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيءٌ أبغضَ إلى عبد اللَّه ابن أبي ربيعة وعمرو بن العاص أن يسمع النجاشيُّ كلامهم. فقالت بطارقتُه حولَه: صدقوا أيّها الملك، قومُهم وأعلى بهم عينًا، وأعلمُ بما عابوا عليهم، فأسْلِمْهم إليهما فلْيَرُدّاهم إلى بلادهم وقومهم. قال: فغضب النجاشيّ ثم قال: لاها ايم اللَّه إذًا، لا أُسْلِمُهم إليهما، ولا أُكادُ، أقوامًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني علي مَنْ سواي حتى أدعوَهم فأسألَهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمْتُهم إليهما وردَدْتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك مَنَعْتُهم منهما وأحسنْتُ جِوارَهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللَّه فدعاهم، فلمّا جاءهم رسولُه اجتمعوا ثم قال بعضهم: ما تقولون للرجل إذا جِئْتموه؟ قالوا: نقول واللَّه ما عَلِمنا وما أمرَنا به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، كائنٌ في ذلك ما هو كائن. فلمّا جاؤوه وقد دعا النجاشيّ أساقِفتَه، فنشروا مصاحفهم حوله. سألَهم فقال: ما هذا الذي فارقْتُم فيه قومَكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحدٍ من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلَّمَه جعفرُ بن أبي طالب، فقال له:
أيُّها الملك، كُنّا قومًا أهلَ جاهليّة، نعبدُ الأصنامَ، ونأكلُ المَيتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطعُ الأرحام، ونُسيء الجِوارَ، يأكلُ القويّ منّا الضعيفَ، فكُنّا على ذلك حتى بعثَ اللَّهُ عز وجل رسولًا منّا نعرِفُ نسبَه وصِدقَه وأمانته وعفافَه، فدعانا إلى اللَّهِ لنُوَحِّدَه ونعبُدَه، ونخلعَ ما كُنا نعبُدُ وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرَّحِمِ، وحُسن الجوار، وكفٍّ عن المحارم والدّماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزُّور، وأكل مال اليتيمَ، وقذف المُحْصَنة. وأمرَنا أن نعبدَ اللَّهَ لا نُشركُ به شيئًا، وأمرَنا بالصّلاة والزّكاة والصّيام -قالت: فعدَّدَ عليه أُمورَ الإسلام- فصدَّقْناه وآمنا به واتَّبَعْناه على ما جاء به، فعبدْنا اللَّهَ وحده ولم نشرك به شيئًا، وحرَّمْنا ما حرَّم علينا، وأحْلَلْنا ما أحلَّ لنا. فعدا علينا قومُنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا لِيَرُدُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه عز وجل، وأن نستحلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث، قهرونا وظلمونا وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا.
خرجْنا إلى بلدك، واخْتَرناك على مَنْ سواك، ورَغِبْنا في جوارك، ورجَونا ألّا نُظْلَمَ عندك أيُّها الملك.
فقالت: قال له النجاشيُّ: هل معك ممّا جاء به عن اللَّه شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشيُّ: فاقْرَأْه عليّ. قالت: فقرأَ عليه صَدْرًا من (كهيعص)، قالت: فبكى -واللَّه- النجاشيُّ حتى أخْضَلَ لحيتَه، وبكَتْ أساقفتُه حتى أخضلوا مصاحفَهم حين سمعوا ما تُلِي عليهم. ثم قال النجاشي: إنّ هذا -والذي جاء به موسى- ليخرجُ من مشكاةٍ واحدةٍ، انطلقوا، فواللَّه لا أُسْلِمُهم إليكم أبدًا ولا أُكاد.
قالت أمِّ سلمة: فلمّا خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: واللَّه لآتينّه غدًا أعيبُهم عندَه بما (1) أسْتَأْصِلُ به خضراءَهم. قالت: فقال له عبد اللَّه بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرّجلين فينا: لا تفعلْ، فإنَّ لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا. قال: واللَّه لأُخْبِرَنّه أنّهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبدٌ. قال: ثم غدا عليه الغدَ فقال له: أيُّها الملك، إنّهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرْسِل إليهم فسَلْهُم عمّا يقولون فيه. قالت: فأرسلَ إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينزلْ بنا مثلُها، فاجتمع القومُ، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألَكم عنه؟ قالوا: نقول واللَّه فيه ما قال اللَّهُ عز وجل، وما جاءَ به نبيُّنا، كائنٌ في ذلك ما هو كائن. فلمّا دخلوا عليه قال لهم: ما يقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: يقولون فيه الذي جاء به نبيُّنا، هو عبدُ اللَّه ورسوله وروحه، وكَلِمتُه ألقاها إلى مريمَ العذراءِ البتول. فضرب النجاشيُّ يدَه إلى الأرض، فأخذَ منها عودًا فقال: ما عدا عيسى ابنُ مريم ما قلتَ هذا العودَ. فتناخَرَت بطارقتُه حولَه حين قال ما قال، فقال: وإن نَخَرْتُم واللَّه، اذهبوا أنتم سُيومٌ بأرضي -والسُّيوم: الآمِنون- مَن سبَّكم غُرِّم، ثم من سبَّكم غُرِّم، ثم من سبّكم غُرِّم، ما أُحِبُّ إلى أن لي دَبْرًا ذهبًا وإنّي آذيتَ رجلًا منكم - والدَّبْر بلغة الحبشة: الجَبَل. رُدُّوا عليهما هداياهما فلا حاجةَ لي بها، فواللَّه ما أخَذَ اللَّه منّي الرّشوةَ حين ردَّ عليّ مُلكي فآخذَ الرِّشوة فيه، وما أطاعَ النّاسَ فِيَّ فأطيعهم فيه.
قالت: فخرجا من عنده مقبوحَين، مردودًا عليهما ما جاءا به. وأقمْنا عنده بخير دارٍ مع خير جار.
(1) أثبت في المسند: "لأنبئنّه غدًا عيبهم عنده ثم. . . ".
قالت: فواللَّه إنّا على ذلك إذ نزل به - يعني من يُنازعه في مُلكه. قالت: فواللَّه ما عَلِمْنا حُزنًا قطُّ كان أشدّ من حزنٍ حَزِنّاه عند ذلك، تَخَوُّفًا أن يظهر ذلك على النجاشيّ، فيأتي رجلٌ لا يعرف من حقّنا ما كان النجاشيّ يعرف منه.
قالت: فسار النجاشيّ وبينهما عَرض النيل، فقال أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من رجلٌ يخرج حتى يحضُرَ وقعةَ القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزُّبير: أنا. قالت وكان من أحدثِ القومِ سِنًّا، فنفخوا له قِربةً فجعلَها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها مُلتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرَهم. قالت: ودعَونا اللَّه للنجاشيّ بالظُّهور على عدوّه والتَّمكين له في بلاده - فاستوسقَ (1) له أمر الحبشة، فكنّا عنده في خير منزلٍ حتى قَدِمْنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بمكّة (2).
* * * *
(1) استوسق: اجتمع.
(2)
المسند 3/ 263 (1740)، والمعجم الكبير 2/ 109 - 111 (1478، 1479) وحسّن محقّق المسند إسناده، لأن فيه ابن إسحق. قال الهيثمي في المجمع 6/ 27 - وجعله عن أمِّ سلمة: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحق، وقد صرّح بالسماع.
ولم يذكر الإمام أحمد لجعفر غير هذا الحديث، وأعاده 5/ 290. وقد جُعل الحديث في الأطراف والإتحاف في مسند أمّ سلمة. وجعله ابن كثير في الجامع 3/ 94 في مسند جعفر.