الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ز)
مظاهر أخرى للصمود
غاراته في جوف الليل مع شدة البرد وفخره بالتعرض
وليلة نحس يَصْطلي القوسَ ربُها
…
وأَقْطُعَه اللاتي بِها يتنبل
دَعَسْتُ على غَطْشَ وبَغْشَ وَصُحْبَتِي
…
سُعَارٌ وَإرزيز وَوَجْرٌ وَأَفْكَلُ
فأيمتُ نِسْوَانًا وَأَيْتَمْتُ الِّدَةَ
…
وعُدْتُ كَمَا أبدأتُ والليلُ أَلْيَلُ
وَأَصْبَحَ عنِّي بِالْغُمَيْصَاءِ جَالسًا
…
فَرِيْقَانِ مَسْئُولٌ وآخرُ يسأل
فَقَالوا لَقَد هَرَّت بِلَبل كِلَابُنَا
…
فَقُلْنَا أَذئبٌ عَسَّ أَمْ عَسَّ فُرْعُلُ
فَلَمْ تَكُ إِلَّا نَبْأَةٌ ثُمَّ هَوَّمَتْ
…
فَقُلْنَا قَطَاةٌ رَيْعَ أمْ رَبْعَ أَجْدَلُ
فَإِنْ يَكُ مِنْ جِنٍ لأَبْرَحَ طَارِقًا
…
وَإِنْ يَكُ إِنْسًا مَا كَهَا الإِنْسُ تَفْعَلُ
وَيَوْمٌ مِنَ الشِّعْرَى يَذُوبُ لُوَابُه
…
أَفَاعِيْهِ فِي رَمْضَائِهِ تَتَمَلْمَلُ
نَصَبْتُ لَهُ وَجْهِي وَلا كِنَّ دُونَهُ
…
وَلا سِتْرَ إِلَّا الأَتْحَمِيُّ الْمُرَعْبَلُ
وَضَافٍ إِذَا هَبَّتْ لَهُ الرِّيْحُ طَيَّرَتْ
…
لَبَائِدَ عَنْ أَعْطَافِهِ مَا تَرَجَّلُ
بَعيدٌ بِمَس الدُهْنِ والْفَلْي عَهْدُه
…
لَهُ عَبْسٌ عَافٍ مِنَ الْغُسْلِ مُحْولُ
64 اللغة:
54 النحس: ضد السعد، ومنه قوله تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} 1 والنحس شدة البرد وهو المراد هنا، وإصطلاء النار: الاستدفاء بها، ويصطلي القوس: يوقدها ليستفء بها من شدة البرد، ربها: صاحبها الأقطع: جمع قطع بكسر القاف وهو نصل عريض السهم، قال ساعدة بن جؤية:
1 سورة فصلت آية 16
وشقت ما قاطيع الرماة فؤاده
…
إذا يسمع الصوت المغرد يصلد
55 دعست: سرت أطأ الأرض بشدة، الغَطْش: بفتح فسكون: ظلام حالك، ومنه قوله تعالى:{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} 1 البغش: المطر الخفيف، وفي الحديث عن أبي المليح الهذلي عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر، فأصابنا بغش من مطر
…
"وفي رواية" فاصابنا بغيش تصغير بغش.
السُعار: بضم السين شدة الجوع وأصله حر النار، فاستعير لشدة الجوع، قال تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} 2، الأرزيز: البرد الشديد، الوجر: الخوف، الأفكل: الرعدة والارتعاش، وفي حديث عائشة: فأخذني أفكل فارتعدت من شدة الغيرة.
56 أيمت: الأيم: من لازوج لها من النساء، وكذا من لازوج له من الرجال، وأيمت المرأه جعلتها تفقد زوجها بمعنى أن يقتل زوجها، قال تعالى:{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} 3، وأيتمهم: جعلتهم يتامى، واليتم من الإنسان من فقد أباه حتى يبلغ فإذا بلغ زال عنه اسم اليتيم، والجمع أيتام ويتامى، ويتمه، ولا يقال:
1 سورة النازعات الآية 29
2 سورة القمر الآية 47
3 سورة النور الآية 32
لمن فقد الأم يتيم، ولكنه منقطع، واليتم في البهائم يكون من قبل الأم، والدة: أولاد، وأبدأت: بدأت، وليل أَلْيَل: شديد الظلام.
57 الغميصاء: اسم المكان الذي أغار عليه بنجد، جالسًا: قد يكون معناه، قاصدًا بلاد الجن وهي نجد.
58 هرت الكلاب: نبحت والهرير أضعف من النباح، والعسس: حراس الأمن بالليل، والفرعل: بضم الفاء والعين ولد الضبع، والأنثى فرعلة، وفي المثل: أغزل من فرعل، وهو من الغزل والمراودة.
59 النبأة: الصوت الضعيف، هومت: نامت يعني الكلاب، القطاة: نوع من الطير، ريع: أفزع من الروع وهو الخوف، الأجدل: الصقر.
60 البَرح: الشدة والقوة، وأبرح تفضيل بمعنى أشد وأعظم، والطارق: القادم بالليل، والهاء في ماكها إما ضمير مؤنث أو اسم إشارة هذا، أي ما مثل فعلته، أو ما مثل هذا الذي فعله.
61 يوم من الشعرى: الشعرى: كوكب في الجوزاء يظهر في ليالي الحر الشديد، أي: يوم من أيام الحر التي يطلع فيها الشعرى، اللواب: اللعاب وهو ما تراه في شدة الحر مثل خيوط العنكبوت في الفضاء وذلك حين يكون الحر مصحوبًا برطوبة. الأفاعي: جمع الأفعى وهي الحية، والرمض: حرارة الشمس على سطح الأرض،
وأرض رمضاء أصابها الرمض وهو شدة الحر، تتململ: تتحرك وتضطرب.
62 نصب له وجهي: تعرضت له بوجهي وأقمته في مواجهته، الكن بكسر الكاف الستر، الاتحمى: الثوب الممزق، وهو ضرب من البرود، قال عوف بن عطية:
كميتا كحاشية الاتحمى
…
لم يرع الصنع فيها عوارا
63 الضافي الطويل السابغ يعني شعره، اللبائد: جمع لبيدة وهي ما تدلى من الشعر على الكتفين في تجمع وتلاصق، العطف بكسر العين هو الجانب، ترجل: تسرح وتمشط.
64-
بعيد: منذ زمن طويل يعني شعره، والفلى: التفلية وهي تنقية الرأس من القمل، العبس: بفتح العين والباء: ما تعلق باذناب الإبل والغنم من الروث والبعر فجف عليها، عاف: كثير وهو وصف للعبس، محول: أي أتى عليه الحول من الغسل من آتى عليه الحول ولم يغسل.
التحليل:
وفي هذه المجموعة من الأبيات نلتقي بالشنفرى في إحدى غاراته الليلية، وفي جانب من بطولته التي ظهرت على مسرح الشتاء القارس فهو يخرج في ليلة شديدة البرد يصنع فيها ما لا يستطيع غيره أن يصنعه، فالليلة لا يطاق بردها في بحيث يقسر صاحب القوس أن يشغلها ويصطلي بها، وصاحب القوس أشد حرصا عليها؛ لأنها وسيلته للدفاع عن نفسه ومع ذلك فهو يوقدها ليستدفئ عليها، ويحطم سهامه التي يرمي بها ويجازف بفقد أهم ما يحتاج إليه، أما هو فإنه يخرج ويتحدى الطبيعة في تلك الليلة الليلاء الشديدة الإظلام التي يهطل مطرها لا يصحبه فيها إلا ما يزيده ضنى وهلاكا وهو الجوع الشديد الذي يشبه النار المحرقة، والبرد القارس الذي يرعد الفرائص، والخوف والرعدة من الصقيع يسري في جسمه، ومع ذلك فهو لا يخشى شيئا ولا يرهب عدوا، بل يمضي إلى غاراته محققا ما اعتزم عليه ثم يعود سالما، مخلفا وراءه آثار غارته من رجال لقوا مصرعهم فأصبحت نساؤهم أيامى وأولادهم يتامى، وقد حقق ذلك في وقت وجيز فلقد عاد كما بدا والليل أليل ومازال الظلام دامسا، وحين أصبح الصباح فتح القوم عيونهم على الحقيقة وأصبحوا يتساءلون في دهشة من الذي أغار عليهم يتعجبون من سرعة الغارة، والآثار التي ترتبت عليها وتمخضت عنها وقالوا: لقد سمعنا في الليل كلابا تنبح، فقلنا: هل طاف بالحي ذئب أم طاف بالحمى ضبع
واشتد الجدل بين القوم وطال الحوار وعقدت الدهشة ألسنتهم، ثم قالوا: إن صوت الكلاب لم يستمر وإنما كان ضعيفا ثم نامت الكلاب بعد أن عوت صوت واحد لعلها قطاة روعت أو أصوات صقر مفزع فأحست الكلاب ذلك ثم سكتت، فالشاعر هنا يصف خفته وسرعته ومهارته.
ثم يعود إلى ما تخيله من حديث القوم عنه بعد غارته المفاجئة والتي تركت القوم في حيرة وتعجب من أمرهم، فقد تعودوا أن يقوم بالغارة عدد كبير، أما أن تكون بهذه الصورة ثم تترك هذه الآثار السيئة فذلك مالم يتعودوه وما يدعو إلى الدهشة، ترى هل هذا الطارق من الجن؟ إن كان كذلك فما أشده من مغير فقد بالغ في سوء صنيعه، وقد يكون من الإنس ولكن الإنس لا تستطيع أن تفعل فعله؛ فقد تركهم في دهشة بين أن يكون جنيا أو إنسيا، على أن أفعال الشنفرى أشبه بأفعال الجن ذلك ما خامر القوم، وربما وقع في أذهانهم أن الأمر قد يستمر على هذه الصورة، ولئن استمر في تلك الأفعال الخارقة، فهذا من شأنه أن يصيب القوم بالهلع والفزع.
ويفخر الشنفرى بتعرضه للحر الشديد الذي يشوي الوجوه والأجسام من الإنسان والحيوان فيقول: قد يمر به يوم من أيام الحر الشديد التي تطلع في الشعرى، وتنتشر آثار الحرارة في الفضاء حتى لا تكاد الأفاعي تستقر على رمضائه مع أنها نشأت في هذه البيئة وتعودت عليها، كنت أنا أنصب وجهي وأواجه هذا الحر ولفح الشمس
لا يسترني عنها ستر ولا وقاية سوى برد ممزق وثوب تخلله الخروق والثقوب.
فوجهه لا يستره إلا ثوب بال ولا يتظلل بشيء إلا بشعر رأسه المتكاثف الذي تلبد من طول إهمال تنظيفه، فإذا هبت الرياح لا تفرقه بل تظل لبائده متماسكة وتطيره لبدا لبدا فشعره قد بعد بالدهن والفلي، فتراكمت عليه الأوساخ والأقذار حتى أصبح له مثل العبس الذي يعلق بأذناب الإبل والغنم إذ يمضي عليه الحول دون أن يغسل أو ينظف.