الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صفات الممدوح
…
وربما كانت طبيعة موقفه من ممدوحه، مما ساعده على هذا الانتقال المفاجئ، فلم يكن في حاجة إلى ناقة يرحل عليها، أو يصور أشواقه إلى ممدوحه، فيجعل ذلك حلقة الوصل في البيت نهاية المقدمة وبداية الموضوع1. أو أن إعجاب الشاعر بممدوحه، وتأثره بحسن صنيعه أمليا عليه الانتقال إلى ذكر الغرض مباشرة دون تمهيد؛ لأن نفسه قد حميت بذكر مناقبه، فقطع ما كان فيه، واستأنف مقطعًا جديدًا يشتمل على المدح وهو الغرض الرئيسي من أغراض القصيدة.
وقد رأيناه ينتقل من الغزل إلى مدح هرم مباشرة ودون تمهيد في غير هذه القصيدة، فبينما هو يتحدث عن الديار، وما حل بأهلها من البلى، نتيجة لعبث الزمان بها، إذ به يعدل عن ذلك فجأة، ويدخل في مديح هرم ،يقول2:
لعب الزمان بها وغيرها
…
بعدى سوافي المور والقطر
قفرًا بمندفع النحائت من
…
ضفوى أولات الضال والسدر
1 طالع في القصيدة الأموية د/ عبد الله التطاوي: صـ 21، ط غريب، سنة 1981.
2 شرح الديوان: صـ 87، 88.
ثم يقول بعد ذلك مباشرة:
دع ذا وعد القول في هرم
…
خير الكهول وسيد الحضر
ولم يخلع زهير على ممدوحه صفات غير مألوفة، بل مدحه بما هو شائع عندهم من صفات المديح، فإذا كان الجاهليون يعتزون بأنسابهم، ويفخرون بها، فإن زهيرا لم يخرج عن ذلك، إذ جعل ممدوحه يفوق قيسًا كلها في أصالة الحسب وصفاء النسب:
بل اذكرن خير قيس كلها حسبًا
…
وخيرها نائلًا وخيرها خلقا
وكثيرًا ما يكرر هذه الصفة في مدحه، لأنها كانت مناط الفخر عندهم يقول في مدح بني سنان:1
أقول للقوم والإنفاس قد بلغت
…
دون اللها غير أن لم ينقص العدد
سيروا إلى خير قيس كلها حسبًا
…
ومنتهى من يريد المجد أو يفد
كذلك يمدحه بالفروسية والمهارة في قيادة الخيل، والإيغال بها في أقصى البلاد، ثم أخذ في وصف هذه الخيل قبل المعركة وبعدها، وهو وصف ينطق بالجهد الذي بذلته الخيل حتى وصلت إلى ساحة القتال، لطول المسافة وبعد الشقة، كما يشهد بالأداء الرائع في أثناء التلاحم مما يدل على أصالة الخيل وحسن إعدادها، ولقد تغير بها الحال فلقد كانت عظيمة الأبدان، علاها اللحم وكساها
1 شرح ديوان زهير: صـ 281.
الشحم، فإذا بها بعد الغزو قد ذابت شحومها، وتقوست ظهورها، وقام الهزال منها مقام القيود، وأغنى الضعف عن اللجم والأرسان، وألقت الحوامل أجنتها لغير تمام.
ثم يعود ثانية إلى وصفه بالشجاعة ملحًّا على هذا الوصف، فهو يصول ويجول ويبز الأقران عند اللقاء، وكأنه في شجاعته ليث، بل هو أقوى منه وأشد ضراوة، يصدق في حملته إذا فشل الليث وعز عليه الثبات.
ليث بعثَّرَ يصطاد الرجال إذا
…
ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
وليس هذا الوصف خاصًا به وحده، بل تشركه فيه عشيرته، فتراهم في أتون المعارك أسودًا، كما أنهم لا يرهبون الموت ولا يخشون أحدًا، يقول عنهم حين يمتطون الخيل1:
عليها أسود ضاريات لبوسهم
…
سوابغ بيض لا يخرِّقها النبل
وهو دائمًا متفوق على أقرانه، يكيل لهم الصاع صاعين.
وزهير في محده لهرم -ولعل هذه طبيعة فيه- يلح على الصفات فيكررها وينميها، لأنه يريد أن يصل بها إلى ذروة الكمال، وكأنها توفرت له بصورة لم تتحقق لغيره، ويظهر ذلك بوضوح حين يمدحه بالهيبة وحسن الطلعة، أو حين يصفه بالسماحة والندى يقول:
أغر أبيض فياض يفكك عن
…
أيدي العناة وعن أعناقها الربقا
1 شرح ديوان زهير: صـ 103.
فهو يأتي بالوصف ومرادفه، أغر، أبيض، دون أن يخشى مللًا، وحين يتناول جانب الشجاعة يقول: إنه يفكك الأغلال عن الأيدي والأعناق وكان يكفي أحدهما.
وحين يمدحه بالكرم يركز على حقيقة هامة، هي أن هذه الصفة صارت فيه سجية وطبيعة جبل عليها، بحيث لا يستطيع أن يتحول عن ذلك أو يحيد عنه، وتدفعه هذه الطبيعة أن يعطي في اليسر وفي العسر، ويجود وإن ضره الجود:
من يلق يومًا على علاته هرمًا
…
يلق السماحة منه والندى خلقا
وهو في عطائه يبذل عن طيب خاطر ورضًا نفس، فلا يكدر عطاياه بتعدادها، ولذلك حرص زهير وهو يمدحه أن يتبع وصف العطاء بعدم المنِّ:
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا
…
يعطي بذلك ممنونًا ولا نزقا
والنزق الذي يعطي عن حدة وحماس دون تروٍ، ثم لا يلبث أن يفتر فيكف عن العطاء.
وكانت العرب ترى أن من يكدر نعمته بالمن ويحقرها بتعدادها لئيم يستحق الذم، ويستوجب الهجاء، كما قال عمرو بن مالك بن ضبيعة يذم بني عمرو؛ لأنهم يعيرون الناس بعطاياهم1:
يمنون إن أعطوا ويبخل بعضهم
…
ويسحب عجزًا سكته إن تجملا
1 معجم الشعراء للمرزباني: صـ 19.
والنابغة الذبياني في مدحه للغساسنة طمعًا في نوالهم، لا يهمه مقدار الهدية بقدر ما تهمه ألا تكدر بمن ولا تذكير حين يقول:
على لعمرو نعمة بعد نعمة
…
لوالده ليست بذات عقارب
ولم يلجأ زهير إلى تشبيه ممدوحه بالبحر في كرمه أو السحاب في عطائه، أو يذكر لنا أن يده مبسوطة للعافين، وإنما جعل أقدام السائلين التي لم تتوقف في ذهابها وإيابها إلى بيته ترسم طرقًا متعددة من كل صوب وفج، وإنها طرق وليست طريقًا واحدًا حين يقول:
قد جعل المبتغون الخير في هرم
…
والسائلين إلى أبوابه طرقا
وبذلك لم يسلم زهير للأنماط السالفة ولم يحذ حذو سابقيه، بل حاول أن يفلت من أسرها، ليعبر عن تجاربه الشخصية، وما اختلج في صدره، واعتمل في داخله من مشاعر وأحاسيس تجاه الممدوح، وربما كان يحس في قرارة نفسه أنه مهما بالغ في مديحه فلن يفي بحقه، وهذا لا يمنع أنه كان يحذو حذو سابقيه في بعض أنماط مدائحه كالمدح بعلو النسب والشجاعة كما تقدم.
على أن هرمًا في نبله وسماحته، وما اتصف به من صفات المجد، يقتدي بآباء له كرام سبقوه على الدرب ويرجو اللحاق بهم:
وما كان من خير أتوه فإنما
…
توارثه آباء آبائهم قبل
ويقول زهير عن والد هرم1:
ينمي إلى ميراث والده
…
كل امرئ لأرومة ينمي
وبهذا استحق هرم أن يكون على رأس قيس كلها، وصدق فيه قوله:
بل اذكرن خير قيس كلها حسبًا
…
وخيرها نائلًا وخيرها خلقا
والناس ليسوا سواء في قدرتهم على البيان والإفصاح عما في صدورهم، فبعضهم يعجز عن الإدلاء بحجته ويصاب بالعي، وتخونه الكلمة في المواقف الحاسمة، أما ممدوحه فيتسنم ذروة الفصاحة، ويدلي بالرأي المؤيد بالحجة والبرهان، يقول عنه:
هذا وليس كمن يعيا بحجته
…
يوم الندي إذا ما ناطق نطقا
على أن زهيرًا لم يكن يبغي من وراء مدحه جزاءًا أو ثوابًا، وإذا كان قد نال شيئًا من ذلك، فإنه لم يكن يطلبه، بل يستحي منه، يدل ذلك ما رواه أبو الفرج الإصفهاني: وبلغني أن هرمًا كان قد حلف ألا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدًا أو لدة أو فرسًا، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال:
عموا صباحًا غير هرم وخيركم استثنيت2
وهكذا أحب زهير هرمًا لدرجة الهيام به والإعجاب الشديد بخصاله، وظهر ذلك جليًا في مديحه له، وقد لاحظ القدماء ذلك، فقدروى ابن قتيبة قول أبي عبيدة: من فضل زهيرًا على جميع الشعراء؛ فلأنه أمدح القوم وأشدهم أسر شعر3
1 شرح الديوان: صـ 385.
2 الأغاني: جـ 305/10.
3 الشعر والشعراء: جـ 144/1.